دروس في بناء المجلس الحسيني

دروس في بناء المجلس الحسيني 0%

دروس في بناء المجلس الحسيني مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 158

  • البداية
  • السابق
  • 158 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18917 / تحميل: 2176
الحجم الحجم الحجم
دروس في بناء المجلس الحسيني

دروس في بناء المجلس الحسيني

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

عزيزك الحسين وهو يودّع طفله الصغير عبد الله الذي كان له من العمر ستة أشهر يودّعه وبناتك المفجوعات في الخيام ينظرن إليه باكيات نادبات (فإذا أدرك الخطيب أن الجو تهيأ للبكاء، وأن العواطف الحزينة قد أُذكيت وأن الدمع على وشك النزول من العيون، وصل إلى الصاعق الذي يفجّر ذلك، بإيراده مفردة المصيبة، لاحظ هنا اختلاط التخلّص بالمصيبة واندماجهما بشكل فني رقيق وانسيابي).

نعم خرج الحسين بطفله إلى القوم، وينقل بعض أرباب المقاتل عن حميد بن مسلم قوله: إن الحسين عوّدنا أنه إذا أراد أن يخرج للوعظ والخطابة برز على ناقة له، وإذا أراد أن يبرز للقتال برز على فرس له.ولكن هذه المرة خرج الحسين ماشياً على قدميه وتحت ردائه شيء يظلله من حرارة الشمس.

يقول حميد بن مسلم: فحققنا النظر إليه وإذا به طفله الرضيع

(إلى الآن كان الخطيب يعرض هذه المفردة المؤلمة بنبرات صوت هادئة وحزينة وتصويرية، ثم لا بد أن يفجّر البكاء والحزن بالشعر الرثائي بكل ألوانه التي يراها مناسبة لهذه المهمة).

ودعا الأقوام يا لله من خطب فظيع

نبئوني أنا المذنب أم هذا الرضيع

لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع

لا يكن شافعكم خصماً لكم في النشأتين

فناداهم الحسين: "يا قوم قتلتم أخوتي فصبرت، قتلتم أبناء عمومتي فصبرت، قتلتم أصحابي فصبرت، ولم يبق عندي إلا طفلي الرضيع

١٢١

هذا، والله قد جفّ ثدي أمّه من اللبن، خذوه واسقوه بأيديكم ماءً".

فاختلف القوم، وبكى بعضهم فقال عمر بن سعد لحرملة بن كاهل: أقطع نزاع القوم، أرمه بسهم من كنانتك.يقول حرمله: كان الطفل مغطىً ببرقع فجاءت ريح وأزاحت البرقع وإذا برقبة الطفل على عضد أبيه الحسين كأنها إبريق فضة فرميته بسهم ذبحته من الوريد إلى الوريد.

يقول الإمام الباقرعليه‌السلام : "لما أحس طفل جدي الحسين بحرارة السهم، أخرج يديه من القماط وجعل يرفرف على صدر أبيه الحسين كالطير المذبوح.وضع الحسين يده تحت منحر الطفل حتى امتلئت دماً ثم رمى بها إلى السماء":

تلكه الحسين دم الطفل بيده

أشحاله اليقتل بحضنه أوليده

شاله وترس كفه من وريده

ذبّه للسما وللكاع ما خرّ

ثم أن الحسين لم يرجع به إلى أمه الرباب فالأم لا تقوى أن ترى طفلها مذبوحاً ولكن رجع به إلى خيمة عمته زينب، فصرخت: واولداه وا ابن أخيّاه.

ما حال عمته وحال شجونها

من نار أحشاها وماء جفونها

لما رأت خطفته كف منونها

همّت تغسّله بماء عيونها

فتكفلت عنه الدماء بغسله

١٢٢

(وبعد هذا التخميس قد يجد الخطيب أن المجالس ما زال بحاجة إلى إشباع فيأتي ببيت أبو ذية من الشعر الشعبي):

عيوني تسحب العبرة بالمهاد

على الناموا على الغبرة بلا أمهاد

طفلهم مالحك يمهد بالإمهاد

وحزّت ركبته سهام المنية

(فإذا أراد الخطيب إنهاء المجلس فلا بد أن يأتي ببيت يُعرف ببيت التخلّص أي يتخلّص به من المجلس، أي ينهيه، أو ربما بيتين أو أكثر بل ربما تخميس، ولكن المهم أن يقرأ الشطر الأول من البيت الأخير بإحدى طرق النعي، بينما يترك الشطر الثاني وبذا يتم المجلس).

ومنعطف أهوى لتقبيل طفله

فقبّل منه قبله السهم منحرا

(لا يقرأ هذا الشطر)

وبذا وصلنا إلى نهاية درسنا هذا.

١٢٣

الدرس السابع عشر:

فقرة المصيبة ٢

في الدرس السابق سلّطنا الضوء على فقرة (المصيبة) وعقدنا مقارنة بين ما يذكر أثناء القصيدة في مقدمة المجلس وبين هذه الفقرة في نهاية المجلس الحسيني.

إن فقرة المصيبة، فقرة أساسية في هيكلية المنبر الحسيني، لا بل تعتبر الفقرة الأهم في بعض مساحات المنبر الحسيني، لا سيما المجالس البيتية ومجالس القرى والمجالس الشعبية العامة، وهي المجالس التي لها حضور واسع في العديد من الساحات.

كما أنها الفقرة التي تميّز خطيباً عن آخر من خطباء المنبر الحسيني.وتميز خطباء المنبر الحسيني عن بقية المحاضرين والخطباء والمتحدثين، حيث تخلو محاضراتهم منها.

إن نجاح الخطيب الحسيني بهذه الفقرة منوط بعدة أسباب، منها:

أ- الاطلاع الكامل والتفصيلي على مفردات واقعة كربلاء في جوانبها الحزينة والمؤلمة حيث يتم إنهاء المجلس بإحداها.وهذا يوفر لدى خطيب المنبر الحسيني خيارات عديدة كما أنها تكسب مجلسه

١٢٤

جاذبية خاصة، من خلال تنوع المصائب التي ينهي بها مجالسه.

إذ أن من المؤاخذات الفنية على بعض الخطباء أنه ينهي مجالسهُ بمفردات معينة لا يتجاوزها إلى غيرها، فيصاب مجلسه بالرتابة ويغيب جانب الإثارة والتنوع فيه.

إن كتب المقاتل هي المادة الأساسية لهذه المفردات التي تعتمد في نهايات المجالس.

ب- حفظ الأبيات الشعرية القويّة والمؤثرة من نوعية الفصيح والشعبي، والتي تعتبر المادة الأساسية لفقرة المصيبة، فبعد أن يوضح الخطيب مفردة من مفردات المصائب فعليه أن يؤيد ذلك ويعمّقه بأبيات النعي المنتقاة.ولهذا ينبغي على الخطيب اقتناء دواوين الشعر التي عالجت هذا الجانب من الشعر الفصيح والشعر الشعبي.وقد سبق الإشارة إلى ذلك سابقاً.

ج- التمكّن من إنشاد أبيات الشعر الرثائي بنوعيه، والسيطرة على طرقه وأطواره وتدريب الحنجرة على حسن إخراجها.لأن حفظ الأبيات الشعرية بحد ذاتها لا يعتبر ذا أثر إذا لم تُقرأ بصوت شجي، وتُنشد بطور حزين، يأخذ مأخذه من مشاعر الناس وتأجيج عواطفهم واستدرار دموعهم.ولهذا فالخطيب بحاجة إلى الاستماع المرهف لطرق النعي والانسجام معها كي نصل إلى مستوى التمكّن والسيطرة، ثم الإبداع في هذا المجال المهم في عالم الخطابة الحسينية.

د- كما سبق أن ذكرنا في فقرة (التخلّص) أن على الطالب متابعة شيوغ الخطباء وأساتذة المنبر الحسيني ودراسة أساليبهم الفنيّة،

١٢٥

فكذلك الأمر هنا بالنسبة لفقرة (المصيبة) من حيث إختيارهم للقطع الشعرية المناسبة مع كل مصيبة، أو الأطوار المستخدمة في إنشادها وقراءتها، أو من حيث وصف المصيبة وتقريبها إلى النفوس كي يتم التفاعل معها.

إن الناحية الفنية في الخطابة الحسينية بحاجة إلى متابعة أساتذة هذا الفن الخاص من الخطابة.

ويمكن للخطيب المبتدئ متابعة مشاهير الخطباء في فقرة المصيبة عبر أشرطة التسجيل المرئية والمسموعة.

ه- إن تراكم الخبرات والإستمرار في قراءة المجالس ومتابعة القراءة في مختلف المناسبات ومع مختلف المستويات والظروف، من شأنها تنامي قدرة الخطيب في إجادته لفقرة المصيبة.إذن علينا التجربة ثم التجربة والقراءة بعد القراءة.

إن فقرة المصيبة تبرز بشكل مهم في مجالس عاشوراء ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام .وإذا تعددت المجالس في كل مناسبة، فعلى الخطيب تهيأة عدة مصائب وتوزيعها على هذه المجالس.

فعلى سبيل المثال، لو كان عند الخطيب ثلاثة مجالس في ليلة العباسعليه‌السلام ، وهي الليلة السابعة من المحرم، فيمكن للخطيب أن يجعل المصيبة الأولى تنتهي بضرب رأسهعليه‌السلام بالعمود، والمصيبة الثانية تنتهي بوصول الحسينعليه‌السلام إلى مصرعهعليه‌السلام ، بينما تنتهي المصيبة الثالثة برجوع الحسينعليه‌السلام إلى المخيم وبكاء النساء لمصرع العباسعليه‌السلام .وهذا يتطلب من الخطيب مزيداً من حفظ الأشعار

١٢٦

المناسبة لكل مصيبة وما يناسبها من وصف وشرح وإذكاء العواطف الحزينة.ويزداد هذا التقسيم في المجالس المتقاربة حيث يكون الحضور متكرراً في هذه المجالس.

إن فقرة (المصيبة) في أكثر المجالس تكون من اختيار الخطيب وبما يراه مناسباً.

إلا في مجالس عاشوراء والوفيات كما ذكرنا.يضاف إلى ذلك المجالس التي تعقد في تأبين الموتى في ما يعرف بالفواتح أو الأسابيع أو الأربعين والسنوية.حيث على الخطيب إذا دعي إلى مجلس تأبين أن يعرف من هو المتوفى هل هو رجل فلا بد أن يختم المجلس بمصائب الحسينعليه‌السلام أو هو امرأة فيختم المجلس بمصيبة السيدة الزهراءعليها‌السلام أو هو شاب فيختم المجلس بمصيبة علي الأكبر أو القاسم بن الحسنعليهما‌السلام , وإن كان طفلاً فيختم المجلس بعبد الله الرضيع وهكذا.

إن حسن اختيار المصيبة المناسبة مع نوعية المجلس من أسباب نجاح الخطيب وانسجام المجلس وتكامله محتوىً وشكلاً.

إن الحديث عن فقرة المصيبة حديث طويل ومتنوع ومتعددة الأبعاد، مع اختلاف المجالس وتنوعها وتنوع مناسباتها ومستويات حضّارها وأمور كثيرة تأتي تباعاً إلى خبرة الخطيب بل يزداد خبرة مع تقادم عمره الخطابي.

٦- فقرة الدعاء

وهي آخر فقرة من فقرات المنبر الحسيني، وهي فقرة خفيفة لا

١٢٧

لا تحتاج إلى جهد لا من حيث المعلومة ولا من حيث الأسلوب، حيث يختم الخطيب مجلسه بالدعاء إلى الله تعالى بالمغفرة والرحمة وشفاء المرضى والفرج للمؤمنين ثم يدعى للمؤسسين والحاضرين ويختم الدعاء بطلب قراءة الفاتحة لأرواح المؤمنين والمؤمنات.وتسمح ظروف بعض البلدان بذكر الشهداء أو المجاهدين، في حين لا تسمح ظروف بلدان أخرى لهذا الدعاء، فعلى الخطيب مراعاة ذلك.

ومع استمرار المجالس يختار الخطيب دعاءً معيناً يدأب عليه، بل ربّما عرف به، والآن نجد أن لكل خطيب مقطوعات من الدعاء اختارها يختم بها مجلسه.

وبانتهاء فقرة (الدعاء)، يكون المنبر الحسيني قد استوفى كل فقراته، وبهذا نأمل أن نكون قد وفقنا لبيان الخطوات المتتابعة التي تشكل القواعد العامة لهذا النحو الخاص من أنحاء الخطابة الدينية وهي الخطابة الحسينية.

واستكمالاً لموضوعنا حول الخطابة الحسينية، وبعد أن بيّنا مواصفات المنبر الحسيني وخصائصه، سنتوقف عند مواصفات خطيب المنبر الحسيني التي ينبغي توافرها فيه، وعلى أساسها يمكن أن يُحكم على استيفائه بالشرائط التي تشكل القاعدة الصحيحة لتكامل خطيب المنبر الحسيني.

١٢٨

الدرس الثامن عشر:

أوصاف خطيب المنبر الحسيني(١)

استكمالاً لدروسنا الماضية، نطرح اليوم درساً حول المواصفات التي يفترض توافرها في الخطيب الحسيني حيث يعتبر خطيب المنبر الحسيني، هو قطب الرحى، في تلك التجمعات الضخمة، والمحافل الكبيرة، فهو العامل الأول، الذي يؤدي إلى نجاح المآتم الحسينيّة.فبقدر إجادة خطيب المنبر الحسيني لمهمّته، وتمكّنه من إشباع بحثه، ومحاضرته، علميّاً وعاطفياً.يتقرر مقدار حضور الناس إليه أو انكفاؤهم عنه.

ولهذا، فإنه لابُدَّ من توافر شروط، ومؤهّلات، في مَن يريد اعتلاء أعواد المنبر الحسيني، وهي قد تكون من الكثرة والتنوع، مما يجعل مصادقيها في الخطباء قليلة.

وقديماً قال المناطقة: إن الشيء كلما كثرت شروطُه عزّ وجودُه.

إن هذه الأوصاف، والمؤهلات، قد تتغير من بيئة لأخرى، ومن مستوى ثقافي وعلمي لثانٍ، حسب نوعية الحاضرين، وما ينتظره روّاد المجالس من أبحاث ومحاضرات، أو بما يستطيعه خطب المنبر الحسيني، من إشباع الجانب العاطفي، وإثارة كوامن الحزن لواقعة

____________________

١- الدرس مأخوذ من كتاب (المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وأفاق المستقبل) للمصنّف.

١٢٩

كربلاء.ويمكن لنا أن نصنّف المواصفات والمؤهلات هذه إلى ثلاثة أصناف؛ يشترك فيها الخطيب الحسيني مع العلماء والمثقّفين والمحاضرين في بعضها، ويختصّ في بعضها الآخر، والمؤهّلات هي:

١- المؤهلات العلميّة والثقافية

على كل خطيب، في أي شأن من الشوؤن، أن يكون ذا اطلاع ودراية بالموضوع، أو البحث الذي يريد طرحه.وبقدر ما كان هذا الخطيب، أو المحاضر، ملمّاً بأطراف الموضوع، وامتداداته، وشواهده، تكون محاضرته أدق، وأنجح، وبالتالي أكثر فائدة.وهذا الأمر يشترك فيه خطيب المنبر الحسيني، مع كل خطيب أو متحدّث.إلا أن الاختلاف هو في طبيعة المحاضرات وموضوع البحث لكل خطيب.ولهذا فإن خطيب المنبر الحسيني، يشترك عموماً، مع كل خطيب أو محاضر، من علماء المسلمين وخطبائهم ومحاضريهم، وبشكل واضح، إلّا في بعض هذه الموارد التي تمليها طبيعة المنبر الحسيني.وأهم هذه المؤهلات هي:

أ- دراسة تخصصية في العلوم الإسلامية: بما يصطلح عليه بـ "الدراسات الحوزويّة".من مقدمات، كعلوم العربية المتنوعة والمنطق، والتفسير، والحديث، ثم الفقه وعلم الأصول.وكلما تقدّم خطيب المنبر الحسيني، في الدراسات الإسلامية، كلما كان أقدرَ على الطرح الإسلامي الأصيل، وأكثر إحاطة بالمسائل ذات الأبعاد الفقهية، أو التفسيريّة التي يتعرض لها في محاضراته.

وهذه النقطة، في غاية الأهمية، لا من حيث التعمّق، في فهم المسألة الفقهيّة، وأسلوب طرحها منبرياً فقط، بل أنها تسهمُ في عملية اندماج

١٣٠

خطيب المنبر الحسيني، في أجواء طلاّب الحوزة العلّمية.فقد كان مألوفاً - سابقاً - أن يعتلي المنبر، من لا حظ له في الدراسات الدينيّة، خاصة في المآتم التي تهتم بحسن صوت الخطيب، مما أنتج وجوداً غير مرتبط بالحوزة العلمية، وطبيعتها، وانعكس بالتالي على نظرتها إلى خطيب المنبر الحسيني.

نعم، قد لا يصل خطيب المنبر الحسيني، في متابعته للدروس الحوزويّة، إلى مستوى التخصّص الذي يصل إليهِ طلاّبُ العلوم الدينية المتفرغون لهذه الدروس، ولكن لا بد من دراسة حوزوية على قدر مهم من التتبّع.إن هذه النقطة تميّز خطيب المنبر الحسيني، عن المحاضر المسلم والمثقف المسلم، اللذين قد يكتفيان بمعلومات فقهيّة وأصوليّة عامّة، بينما ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أن ينال حظاً كبيراً من الدراسات الإسلاميّة التخصصيّة.

ب- ثقافة تاريخيّة مركّزة: لما كان خطيب المنبر الحسيني، يولي المسائل التاريخيّة، فيما يتعلّق بتاريخ الإسلام والمسلمين، بل ودراسة التاريخ قبل الإسلام، وفي الحضارات الأخرى، كل هذا من جهة، وبما يخص سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسير أهل بيتهعليهم‌السلام ، والصحابة، والتابعين من جهة أخرى.إضافة إلى مزيد عناية بأدق التفاصيل، لكل ما يتعلّق بسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، منذ ولادته وحتى استشهاده، وبما جرى على أهل بيته بعد ذلك من جهة ثالثة.كل ذلك يحتم على خطيب المنبر الحسيني، أن يولي المسائل والأبحاث، والدراسات

١٣١

التاريخيّة، اهتماماً بالغاً ودقيقاً.

ونظرة ولو سريعة، على مكتبات خطباء المنبر الحسيني الخاصّة، تكشف ضخامة الجانب التاريخي في ثقافتهم، وخاصة فيما يتعلق بواقعة كربلاء.

وقد انعكس اهتمام خطباء المنبر الحسيني بالتاريخ، وأحداثه على ثقافة الإنسان الشيعي، بحيث غدا مطّلعاً على أدق التفاصيل التاريخية، التي قد لا تتأتى إلا لأهل الاختصاص والتتبّع.مما كان يدهش الكثيرين.يقول أحد الكتّاب الإسلاميين "ولم استطع أن أخفي دهشتي من أولئك الذين يحملون التاريخ على أكتافهم أبداً".

ج- ثقافة إسلاميّة عامّة: بعد أن اتسعت المساحة التي راح المنبر الحسيني يعالجها، ولم يعد مقتصراً على إنشاد الشعر الرثائي، أو الوقوف عند بعض الأحداث التاريخية المحدّدة.وأخذ الجمهور يتطلّع إلى خطيب المنبر الحسيني، كمحاضر ذي ثقافة واسعة وعميقة، هذا الأمر الذي حتّم على خطباء المنبر الحسيني، أن يولوا اهتماماً كبيراً، بكل ما يتعلّق بجوانب الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي.

ولذا أخذ خطيب المنبر الحسيني الناجح، بتناول كل نتاجات المثقفين، والكتّاب والمفكرين الإسلاميين.

مع متابعة الدوريّات والإصدارات الإسلاميّة العامّة.فتجد خطباء المنبر الحسيني، ذوي علاقات أكيدة مع المكتبات ودور النشر ونتاجات المؤلّفين.

وهناك اهتمام خاص، بكل المؤلفات التي تناولت ثورة الإمام

١٣٢

الحسين وأبعادها وآثارها بالدراسة والتحليل والمتابعة.

د- إلمام جيّد بالثقافة التربويّة، والاجتماعية، والنفسية، والسياسية، وعموم الثقافة الموسوعيّة: إن تنوع الأبحاث، والمحاضرات التي يوليها المنبر الحسيني اهتمامه، حتّمت على خطيبه، أن يكون ذا إلمام، في جملة تخصصات، وثقافات تعينه على أداء مهمته، وقوة محاضرته، وكبير انشداد الجمهور إليه.

فالخطيب الحسيني، لا يكتفي بالثقافة الإسلاميّة، والدراسات الدينيّة فقط، بل يحاول أن يكون له حظّاً من كل ألوان الثقافة، خاصة بما يتعلّق بمنبره، كالثقافة التربوية والنفسيّة وأن يكون ذا وعي وثقافة سياسيّة، تعينه على الطرح المناسب وطبيعة الظروف.

إن الثقافة الموسوعيّة أمر مطلوب في ثقافة خطب المنبر الحسيني، وكلما كانت ثقافته متعدّدة، وواسعة، كلما كان أكثر نجاحاً وأعلى شأناً في ميدان الخطابة.

وهناك اهتمام خاص، بالتقاط الشواهد الأدبية، والعقائديّة، والعلميّة، وغيرها، مما يطعّم بها الخطيب محاضرته، كي يغنيها من جهة، ويرفع حالة السأم والملل من جهة ثانية.

ولهذا يحتفظ، كل خطيب منبر حسيني، بدفتر أو دفاتر خاصّة به يجمع فيها كل شاردة وواردة، من كل ما تقع عليه عينه، أو تسمعه أذنه، من المعلومات، التي يتوقع أن يستفيد منها، ذات يوم، ويوظفها في محاضراته ومجالسه.

إن جمهور المنبر الحسيني، ينظر إلى الخطيب ذي الثقافة

١٣٣

الموسوعيّة المتنوّعة، بأنه خطيب يولي محاضرته وجمهوره اهتمامه، وأن حديثه ليس مجرّد كلمات يلوكها اللسان، بل هي أرقام ومعلومات، جاءت بعد تتبّع، وبحث وتدقيق، ومزيد عناية.

وتعتبر المكتبات الخاصة، بخطباء المنبر الحسيني، من أغنى المكتبات، في تنوعها وتوسعها وإحاطتها بفنون المعرفة، لذلك فإن "من أهم مكتبات النجف الخاصة، مكتبات خطباء المنابر الحسينيّة، الذين تلزمهم مهمتهم، كخطباء، الإحاطة بالتاريخ، والشعر، والأدب، واللغة، إحاطة لا يمكن أن تتيسّر بدون مكتبة زاخرة بالمصادرة المهمّة من أمهات الكتب"(١) .

وهنا ننهي درسنا هذا على أن نواصل هذا البحث في الدرس القادم.

____________________

١- الخليلي، جعفر: موسوعة العتبات المقدسة، قسم النجف ٣٠٩/٧.

١٣٤

الدرس التاسع عشر:

المؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني١(١)

حيث نكمل في درسنا هذا بقية المواصفات والمؤهلات التي ينبغي للخطيب التحلّي بها.إن ما ذكرناه في الصنف الأول من المؤهلات، كانت تتعلق بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (المعلومة).ومجرد حصول الخطيب -أي خطيب- على المعلومة، لا يصيّر منهُ خطيباً.إذ أن الخطابة تحتاج إلى مؤهلات فنيّة تمكّن الخطيب من صياغة، وطرح المعلومات التي عنده بما يفعّل تأثيرها، من خلالها على الجماهير.

وبهذه المؤهلات الفنّية، يتميز الخطيب عن المحاضر؛ الذي يكتفي بطرح المعلومات، التي عنده بأسلوب هادئ وبنمط واحد تقريباً.بينما على الخطيب، أن يكون طرحه وأسلوبه، مراعياً فيه الجماهير بمستوياتها المختلفة، وشدّها إليه، وإيصال معلوماته إليه.في حين أن المحاضر عادة يخاطب مستوىً معيناً وشريحة خاصة من الناس.

وبعض هذه المؤهلات الفنّية ضروريّة لكل خطيب.

مثل: إبراز المقاطع المهمة في الخطبة، عدم جعل الصوت على وتيرة واحدة، تغيّر سرعة الحديث، التوقف قبيل وبعيد كل فكرة

____________________

١- كارنيغي، دايل: التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة، مقاطع مختلفة من الكتب.

١٣٥

مهمة، استعمال إشارات اليدين والرأس أثناء إلقاء الخطبة وإلى غير ذلك من المواصفات الفنية.

ومع ذلك فلا بد من أن نؤكد على بعض المؤهلات الفنيّة، التي تكون وثيقة الصلة، بخطيب المنبر الحسيني، وأهمها:

أ- امتلاك مستوىً جيد من القدرة على الحفظ

ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أن يحفظ العديد من النصوص، التي تشكّل عنصراً مهمّاً وأساسيّاً في نجاحه خطابيّاً.

فبالإضافة إلى استظهار آيات قرآنية كريمة، وبعضاً من الأحاديث الشريفة وما ينقل عن توجيهات الأئمة والصالحين، فإن هناك عناية خاصة، تبذل لحفظ خطب، أو مقاطع من نهج البلاغة وكذلك تحفظ خطبة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ذات المضامين اللغوية العالية، وكذلك النصوص المتعلقة بواقعة كربلاء، مثل الكتب التي راسل بها الإمام الحسينعليه‌السلام الآخرين، وخطبه، وكذلك خطب بعض أصحابه يوم عاشوراء.وهناك اهتمام خاص بخطبتي الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالبعليهما‌السلام ، في الشام حينما وصلتها السبايا.

لقد كان خطيب المنبر الحسيني سابقاً يتلو خطبته، من كتاب أو دفتر يقرأ على الناس.ولكن ومنذ عهد الشيخ كاظم سبتي(المارّة ترجمته) أخذ خطباء المنبر الحسينيون، يتبارون بكثرة محفوظاتهم.فهم بالإضافة إلى حفظ المحاضرة بأكملها بما يحتوي من أفكار، وآراء ومطارحات، ونقاط وشواهد، تحفظ بعض النصوص الخاصة،

١٣٦

وكذلك لا بدّ من حفظ القصائد الشعريّة، التي تتلى في مقدمة المحاضرة، لا سيما في مجالس، العشرة الأولى من المحرّم، ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقية أهل البيتعليه‌السلام .إن ملكة الحفظ تبلغ ببعض الخطباء، أن يستظهروا كل حوادث يوم عاشوراء بأسماء أشخاصها، وأشعارهم، وحواراتهم مرتّبة تاريخيّاً، مع ما يناسب كل مقطع من شعر رثائي، باللغة الفصحى، أو العاميّة العراقية الدارجة.ويستمر الخطيب يوم عاشوراء في قراءة المقتل، لما يزيد على ساعتين متصلتين، بصوت مرتفع، وإنشاد للشعر، وأسلوب عاطفي حزين.إن زيادة رصيد الخطيب الحسيني، من المحفوظات الشعريّة والتاريخية والنصوصيّة يعني زيادة فرص نجاحه، وتميّز منبره وشدّة إقبال الناس على محاضراته.

ب- التمتّع بقَدْر جيد من رقة الصوت

لما كانت خطابة المنبر الحسيني، قد ارتبطت بشكل أساسي، بالتعريج على واقعة كربلاء، والتوقف عند مقطع منها، وإشباعه بالشعر والإنشاد الحزين، بل إن بداية المنبر الحسيني، كانت عبارة عن إنشاد الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام .حيث كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، يعقدون تلك المجالس في بيوتهم، كما مرّ علينا في الفصل الثاني من هذا البحث.

ولقد وجدنا، أن اهتمام الأئمة بعنصر الصوت ورقّته كان مبكّراً، ففيما نقلنا من رواية دخول أبي هارون المكفوف على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وإنشاده قصيدة للشاعر السيد الحِمْيَري، فعلّق

١٣٧

الإمام على ذلك الإنشاد، وطلب من هذا المنشد، قراءة المراثي بصوت رقيق.

ولا يزال الصوت ورقته، من المؤهّلات الفنية المهمّة، في خطب المنبر الحسيني، بل يعتبر هو العنصر الأهم إطلاقاً، في المجالس التي تعقد في القرى والأرياف، وبعض مجالس البيوت في العراق، وبلدان الخليج.أما في لبنان، فإن الصوت ورقّته، هو العنصر الأهم في خطيب المنبر الحسيني، في كل المجالس كبيرها وصغيرها، المهم منها ومتواضع الأهمية.

ولهذا، إذا اكتشف طلاّب العلوم الدينية المبتدؤون، أحد زملائهم، ممن يمتلك حسن الصوت، انهالوا عليه، ناصحين ومشجعين، أن ينخرط في صفوف خطباء المنبر الحسيني!.

كما تنهال نصائح مغايرة أخرى،على من يعتلي أعواد المنبر الحسيني، وصوته ليس بتلك الرّقة والعذوبة المتوقّعة، بأن يترك الخطابة الحسينية لأن صوته لا يساعد عليها.

وقد كان عنصر رقّة الصوت، من الأمور التي حالت، دون توجّه الكثيرين، نحو حقل خطابة المنبر الحسيني.وفيهم من لا يُستهان بعلمه ومعلوماته وتقواه.

والواقع أن "حسن الصوت وحسن الإلقاء، والتّمكن من التصرّف بنبرات الصوت، وتغييره، حسب الحاجة، من أهم ما يميّز الخطيب الناجح.وذلك في أصله موهبة ربّانية، يختص بها البشر من غير كسب، غير أنها تقوّى وتنمو بالتمرين، والتعلّم، كجميع المواهب

١٣٨

الشخصيّة(١) .ولكن لا بد من وجود طبقات صوت مهيّأة للتمرين والتطوّر.

إن الصوت الجميل الرقيق، له أبلغ الأثر، في إثارة الشحنة العاطفيّة، التي تنتهي بالبكاء، في نهاية فقرات المنبر الحسيني، والبكاء كان ولا يزال أمراً أساسيّاً، يتميّز به خطاب المنبر الحسيني، عن بقية المنابر، إسلامية وغيرها.

ويعلّق الخطيب السيد صالح الحلّي (المارة ترجمته في نهاية الفصل الثالث) على هذه النقطة بقوله: "إن خطيب المنبر الحسيني، يحتاج إلى حاءات ثلاثة هي: الحظ والحفظ والحسّ"(٢) أي الصوت(٣) ، ومنه قوله تعالى:﴿ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (٤) .

وإذا كان عنصر الصوت، من العناصر المهمّة، في خطابة كل خطيب؛ فإنه في الخطابة الحسينية في غاية الأهمية، لأن خطيب المنبر الحسيني لا يكتفي بالخطبة العادية ككل خطيب، بل لا بد له من إنشاد الشعر الرثائي، باللغتين الفصحى والعاميّة، واستخدام أطوار وطرق متنوعة، وبما يستلزم بذلك من ترجيع للصوت وتغيير نبراته.

____________________

١- المظفر، محمد رضا: المنطق، ٣٧٣/٣.

٢- السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، ٥٩/١.

٣- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، ٤٩/١.

٤- الأنبياء: ١٠٢.

١٣٩

الدرس العشرون:

المؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني ٢

المؤهلات الفنية

إكمالاً للمؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني نبدأ درسنا بالتوافر على خبرة بفن الخطابة الحسينية.إن خطيب المنبر الحسيني، لا يكتفي بإبراز الجوانب العلميّة والثقافية والمعلوماتية العامّة التي يرعاها كل خطيب.أو بمشاركة كلّ الخطباء في ضرورة توافره على المؤهلات والأوصاف الفنية، المرتبطة بالخطابة بشكل عام.ويزيد عليهم في نمط خاص، من الأساليب الفنية يتميّز بها.فمثلاً في بعض بلدان الخليج، لا يكتفي خطيب المنبر الحسيني، بإلقاء محاضرته وإنشاد الشعر الرثائي، بعد ذلك على المنبر، بل ينزل من على منبره، ولاقطة الصوت بيده، يختلط بالجمهور المحتشد، بين يديه، ليزيد من بكائهم وانفعالهم، وإذا كان أحد العلماء الكبار، أو أحد السادة الأشراف المبرزين، حاضراً في المجلس، فإن الخطيب ينزل ليوجّه له أبيات العزاء، مما يزيد في بكاء الناس وتأثرهم.

وقد نجد، بعض خطباء المنبر الحسيني، يرمي بعمامته إلى الأرض، في بعض مقاطع ذكر المصيبة، مثل لحظة ضرب رأس أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في محراب جامع الكوفة، ليلة ١٩ شهر رمضان، أو

١٤٠