الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86069
تحميل: 10765

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86069 / تحميل: 10765
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام

تأليف:

المستشار عبدالحليم الجندي

١

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كان من المنطق أن يظهر هذا الكتاب قبل - أو مع - كتابنا (أبي حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام (سنة ١٩٤٥) م أو كتاب (مالك بن أنس). فلقد تتلمذ أبوحنيفة ومالك للإمام الصادق، وتأثرا كثيرا به، سواء في الفقه أو في الطريقة. ومالك شيخ الشافعي. والشافعي يدلي إلى أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسباب من العلم والدم. وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشرة. فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق.

غير أن تعاقب الأئمة الأربعة لأهل السنة. وتقارب مذاهبهم في تعبيرها عن فقه «أهل السنة»، دفعا إلى وجه آخر. فظهرت كتبنا عنهم بين سنتي ١٩٤٥ ، ١٩٧٠ للميلاد.

وإلى ذلك فقد تأكد في كتابنا «توحيد الأمة العربية» (سنة ١٩٦٥) أن «وحدة القاعدة القانونية» هي الطريقة المثلى لربط المسلمين، في شتى أقطارهم، بتشريع إسلامي شامل. تضؤل دونه التشريعات المعاصرة في الغرب أو في الشرق. والفقه « الشيعي » واحد من النهرين اللذين تسقى منهما حضارة أهل الإسلام. وإليه لجأ الشارع المصري في هذا القرن لإجراء إصلاحات ذات بال في نظم الأسرة المصرية.

والإمام جعفر الصادق يقف شامخا في قمة فقه أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. هو في الفقه إمام. وحياته للمسلمين إمام. والمسلمون اليوم يلتمسون في كنوزهم الذاتية مصادر أصيلة للنهضة؛ مسلمة غير مخلطة ولا مستوردة.

هو الإمام الوحيد من «أهل البيت» الذي أتيحت له إمامة دامت أكثر من ثلث قرن، تمحض فيها مجلسه للعلم، دون أن يمد عينيه إلى السلطة في أيدي الملوك. وبهذا التخصص سلم الأمة مفاتح العلم النبوي. ومنه يبدأ التأصيل الواضح لمنهج علمي عام للفكر الإسلامي، نقلته أمم الغرب فبلغت به مبالغها الحالية. وعمل به بين يديه، ثم أعلنه، تلميذه جابر بن حيان أول كيمائي كما تبايع له «أوروبة الحديثة»، وهو «منهج التجربة والاستخلاص»، أي الاعتبار بالواقع وتحكيم العقل، مع النزاهة العلمية.

٢

فالإمام الصادق هو فاتح العالم الفكري الجديد، بالمنهج العقلاني والتجريبي، كأصحاب الكشوف الذين فتحوا أرض اللّه لعباده فدخلوها آمنين.

والإمام الصادق هو الإمام الوحيد في التاريخ الإسلامي، والعالم الوحيد في التاريخ العالمي، الذي قامت على أسس مبادئه «الدينية والفقهية» والاجتماعية والاقتصادية » دول عظمى.

ومصر تذكر منها أكبر دولة عرفها التاريخ فيها من عهد الفراعنة - الدولة الفاطمية - التي امتد سلطانها من المحيط الأطلسي إلى برزخ السويس. ولولا هزيمة جيوشها أمام الأتراك لخفقت أعلامها على جبال الهملايا في وسط آسيا.

والعالم كله مدين لها بمدينة القاهرة.

والمسلمون يدينون لها بالجامع الأزهر، الذي حفظ القرآن والسنة واللغة العربية، وعلومها كافة. ويدينون لتعاليم الإمام بقيام دولة كبيرة في إيران. ومجتمع عظيم بالعراق. ومعاهد علمية يتصدرها النجف الأشرف، وشعوب قوية في الهند وباكستان واليمن وأفغانستان ووسط آسيا ولبنان وسورية وكثير سواها.

وهو الإمام الذي علم بالمواقف التي وقفها، قدر ما علم بالمبادئ التي أرساها. فالمواقف أعمال. وهي أعلى صوتا من الأقوال. ولقد يعدل الموقف الواحد جهاد عمر كامل، أو مهمة حياة رجل.

وهو، بمكانه من «أهل البيت»، وحقه في الخلافة، وإمامته للفقهاء بلا استثناء، كان غرضا يطلبه أعظم خلفاء بني العباس ليضيفه إلى قوائم القتلى من صناديد القواد، أو الشهداء من «أهل البيت». وكان درسا من السماء أن يسيطر الإمام على الميزان إذ يلتقيان، فيضعف الطالب عن المطلوب، ويرتفع الإمام الصادق بالخليفة القاتل إلى مستوى الحاكم العادل.

والمستقبليون الذين يتكلمون اليوم عن الأخذ بأسباب النهضة العلمية، كمثل السياسين الذين لا يرون النهضة بالغة شأوها إلا أن تكون شاملة لأمور الدين والدنيا - هؤلاء وأولاء، بحاجة إلى أن يظهروا على حياة الإمام الصادق، ليروا مقدار ما تفلح الدعوة الصادقة بالمبادئ الصحيحة، والخطط المنجحة، في إقامة دول، ومجتمعات، قوامها الدين والعلم والعدل والاقتصاد العصري.

٣

وكمثلهم دعاة الإصلاح الذين يمثلهم الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر في النصف الأول من هذا القرن عندما قال: « إن الأمم ليست بكثرة أفرادها وعديدها ولكن بروحها وإيمانها وخلقها. ولعمري إن سبيل ذلك لهو العلم » - وقال « إن كل إصلاح لا يقوم على أساس تقوية الروح الديني في الأمة لا بقاء له. ولا خير فيه. وإذا قلت الروح الديني فإنما أريد الأخذ العملي بالشريعة عن إيمان وثقة. لا أن نكتفي بما ينص عليه الدستور من أن دين الدولة هو الإسلام. ثم نكون في أكثر أحوالنا وتشريعاتنا وأخلاقنا على خلاف ما يأمر به الإسلام وينهى عنه الإسلام».

واللّه نحمد: لقد غيرت مصر في سنة ١٩٧١ دستورها الذي أشار الشيخ إليه. ونصت على أن «الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» وهي دعوة صادقة لتقوم القوانين المطبقة جميعا على أساس الشريعة.

وبعد: فالكتاب الحالي يبلغ غرضه إذا كان صوتا يدعو إلى الوحدة. والمسلمون تجمعهم أصول فكرية واحدة، وإن اختلفت الفروع أو تعددت الآراء. وفي تعدد الآراء ثراء. ولما عرض تلميذ لأحمد بن حنبل تسمية كتاب له «كتاب الاختلاف» قال له «سمه كتاب السعة».

ألا: وإنه لا صلاح للمسلمين والعرب اليوم في مواجهة التحدي العالمي إلا بالوحدة.

والعالم الغربي الذي تهز الأفكار المادية والإلحادية عقائده، ويزعزع الرعب النووي اطمئنانه، بحاجة إلى مبادئ الإسلام، وعرض شريعته علميا، كهيئة ما عرضها الإمام الصادق على الملاحدة في عصره فكانوا يسلمون. وكمثل ما علم تلاميذه ومعاصريه قواعد العلم والفقه والاقتصاد التي تكفل للمسلمين النماء الفكري والاجتماعي والاقتصادي.

٤

والعالم الغربي، الذي يحسب للعالم الإسلامي حساب الطاقة التي خزنتها السماء في الأرض الإسلامية، التي جعلها اللّه مقرا لبيته العتيق، وحساب المعادن التي تعكس الأقمار الصناعية لمعانها وإشراقها كلما صورت أرض العرب، هذا العالم الغربي الذي جمعته الحروب الصليبية في مقابلة العالم الإسلامي، والذي خططت حدوده الحالية حروب ومعاهدات دينية، وازدهرت قاراته الجديدة بعد هجرات تجري في جذورها النوازع الدينية، هذا العالم الغربي جدير بأن يواجهه المسلمون كالبنيان المرصوص، لا كهيئة الحجارة المتناثرة، قد بعثرتها في مهاب الرياح الأربعة أمم غلبت عليها بالقوة، من الخارج، وبالتخلف الاجتماعي والعسكري والاختلاف الديني في الداخل.

والمسلمون اليوم لا يتنازعون سلطة كما كان الأقدمون منهم يتنازعون من أجل السلطة. وإنما يتنازع غيرهم السلطة عليهم.

وهم اليوم لا يتقاسمون القوة وإنما يتقاسمون الضعف المادي، في حين يختزنون القيم العليا للتقدم، والقوى التي تحصى وتعد. فحيثما ابتغوا الوسيلة وجدوا نصر اللّه.

ويوم توجد فينا إرادة الانتصار سننتصر.

واللّه متم نوره.

حياة الإمام تنقسم في ترجمتها قسمين: الأول عن الرجل، والثاني عن علمه. وعلى ذلك وردت الصورة التي صورنا فيها هذه الحياة في قسمين. كل منهما في ثلاثة أبواب.

القسم الأول: يدور حول ظهور الإسلام وتألق «علي» وأولاده من «فاطمة الزهراء» في الصدارة من الأشخاص والأحداث، والبيئة التي نتج فيها الإمام الصادق. فتعاونت على إعداده ظروف الوفاء، أو العداء، لأهل البيت، لتهيئ منه إماما خصيصته تعليم العلم الذي تلقاه عن جديه، وطريقته الأسوة الحسنة في أعمال حياته، وتحمل التبعات حيث تزوغ الأبصار.

٥

والقسم الثاني: من الكتاب يعرض تصور المؤلف للعلم الذي علمه الإمام، والمدرسة التي أنتجته، والمنهج العلمي، العالمي، الذي أخذ به العلماء الدينيون والفقهيون، والرياضيون، والفلكيون والكيمائيون وعلماء الطبيعة الإسلاميون، ونقله عنهم رياضيو العصور الوسيطة في أوربة، ليصير «منهج التجربة والاستخلاص» الذي يعمل به الفكر المعاصر، بعد إذ ترجم من العربية في جنوب فرنسا واسبانيا وصقلية وسواها من جامعات أوروبة، وسبق إلى التنويه به «روجير بيكون» ثم نسب إلى «فرنسيس بيكون» بعد ثلاثة قرون - وكذلك المنهج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي أقام الدول العظمى والمجتمعات الإسلامية التي يباهي بها المسلمون في العصر الوسيط وفي العصور الحديثة.

وفي هذا القسم باب أخير تبدو فيه عدالة التاريخ مصححة لانحراف الأعداء وافتياتهم على أبناء علي. كما يظهر فيه نصر اللّه للمسلمين إذ يتحدون.

واللّه نسأل أن يقينا الزلل.

٦

القسم الأول

الباب الأول: ظهور الاسلام

الباب الثاني: بين السلطان والامام

الباب الثالث : امام المسلمين

الباب الأول : ظهور الإسلام

«لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. ليس بفرار. يفتح اللّه عز وجل على يديه»

«حديث شريف»

ظهور الإسلام

الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم. يحني لها الوجود البشري هاماته. ويدين بحضاراته. على رأسها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وفيها بطولات الإمام علي إلى جوار النبي، وأثرها في ظهور الإسلام، ومشاركته في إبان خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوه. وآيات نبوغه وتبريزه في السياسة والإدارة والقضاء والفقه والتشريع والبيان العربي والعلم بوجه عام. وإجلال جميع المسلمين لمكانته والتفاف شيعته حوله وتفضيلهم له على سائر الخلفاء الراشدين. ثم قيام الفتنة في أخريات خلافة عثمان واغتياله وبيعة المسلمين لعلي، وخروج معاوية عليهم بأهل الشام، وقيام الحرب بين أمير المؤمنين وبين جيش معاوية، وخروج الخوارج واغتيال علي، والبيعة لابنه الحسن. ثم تصالح الحسن ومعاوية حقناء للدماء. واستقرار الأمور للأخير نحو عشرين عاما.

ولما آلت الأمور إلى ابنه يزيد استفتح حكمه بمذبحة كربلاء، حيث استشهد الحسين بن علي أبو الشهداء. وأعقبتها وقعة الحرة، حيث سفك دم الصحابة والتابعين، ثم ضربت جيوشه الكعبة بالمنجنيق ومات وجيوشه تضرب الكعبة. فتولى بعده ابنه معاوية، فتنازل عن الخلافة. وولى بنو أمية مروان بن الحكم وتتابع بعده بنوه.

٧

أما أبناء الحسين فتتابعوا على حمل هموم المسلمين وإعلاء كلمة الدين والقيام في الأمة مقام جدهم الإمام «علي بن أبي طالب» والنهوض بتبعات الإمامة بتوفيق اللّه سبحانه: من علي بن الحسين (زين العابدين) إلى ابنه الإمام (الباقر) إلى حفيده الإمام (الصادق)

والإشارات السريعة، إلى كل أولئك، مع الوجازة المفروضة، موضوع الفصلين الأول والثاني في هذا الباب. وفيهما مدخل الكتاب.

الفصل الأول : أخو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

«أنت أخي وصاحبي»

«حديث شريف»

أخو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أول من آمن باللّه ورسوله أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب. واختلف في الأول منهما. والأكثرون يقولون عليا. واختلفوا في سن علي يومئذ. قال ابن إسحق إن عليا أول من آمن باللّه وصدق رسول اللّه، وهو ابن عشر سنين يومئذ.

لكن حسان بن ثابت، وطائفة، قالوا إن أبا بكر هو الأول.

وروى ابن إسحق كيف أسلم علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة وصلاتها مع النبي بيوم واحد. إذ جاء فوجدهما يصليان. فقال علي: يا محمد ما هذا ؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دين اللّه الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى عبادة اللّه وكفر باللات والعزى».

فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم. فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب. فكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره.

فقال له «يا علي إن لم تسلم فاكتم». فمكث على تلك الليلة. ثم إن اللّه أوقع في قلبه الإسلام. فأصبح غاديا إلى رسول اللّه حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد ؟

فقال «تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. وتكفر باللات والعزى. وتبرأ من الأنداد». ففعل علي وأسلم. ومكث علي يأتيه سرا خوفا من أبي طالب. وكان مما أنعم اللّه به على علي أنه ربي في حجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الإسلام.

٨

ومن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة - أول مسلمين - ولدت فاطمة الزهراء. ومن أبنائها ومن أبناء علي وأبي بكر الصديق، أي من أبناء نبي الإسلام، والمسلمين الثلاثة الأولين، ولد جعفر بن محمد: الإمام الصادق.

وبدعوة أبي بكر أسلم خمسة من العشرة الذين بشرهم رسول اللّه بالجنة ومات وهو عنهم راض: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة ابن عبيد اللّه وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. وهؤلاء الخمسة هم أهل الشورى، الذين جعل عمر الخلافة فيهم وفي «علي بن أبي طالب»، ليختاروا واحدا منهم فيبايعه المسلمون.

فعلي بن أبي طالب يجيء دائما في صدارة أهل الإسلام.

وأبوه وأمه في الصدارة كذلك:

لقد كفل أبوه محمدا ابن أخيه عبد اللّه وهو ابن ثماني سنين. وخرج به إلى الشام وهو ابن اثنتى عشرة. وهو الذي مثله في الزواج من أم المؤمنين خديجة. ولما ماتت فاطمة بنت أسد، أم علي، نزل النبي في لحدها وألبسها قميصه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقال (لم يكن أحد أبربي بعد أبي طالب منها).

وجزى النبي صنيعهما في علي. إذ كفله وهو ابن ست سنين، ثم جعله سابقا في الإسلام. فلما كان النبي يعبد اللّه في غار حراء كان علي يعبد اللّه وهو صبي مميز. ثم بسق الفرع وسمق في جوار أخيه(١) ومربيه وعلى عين أبيه.

وفي سنة سبع من المبعث تآمرت قريش على قتل الرسول. وأبى قومه بنو هاشم وظاهرهم بنو عمهم «المطلب بن عبد مناف». فأجمع المشركون من قريش على إخراجهم من مكة إلى الشعب. فخرجوا مؤمنهم وكافرهم. فلما عرفت قريش أن رسول اللّه قد منعه قومه أجمعت ألا تدخل إليهم شيئا، وقطعت عنهم الأسواق ثلاث سنين.

___________________

(١) العرب تسمى ابن العم الشقيق أخا.

٩

وكان «أبو طالب» يأمر رسول اللّه أن يأتي فراشه كل ليلة، حتى يراه من أراد به شراً. فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فاضطجع على فراش الرسول. وأمره أن يرقد على بعض فرشهم فيرقد عليها. حتى إذا أكملوا ثلاث سنين أخبر اللّه رسوله أن العهد الذي تعاهدته قريش في صحيفة علقوها بالكعبة قد أكلته الأرضة. ولحست باقي الصحيفة. فخرجوا من الشعب إلى قريش. وأنبأ أبوطالب قريشا أن الصحيفة قد أكلت، وأسماءهم قد لحست، كما أخبره ابن أخيه، وأنبأهم أنه وأهله سيحمونه عن آخرهم.

وذات يوم سأل النبي أهله: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ - وعلي جالس - فسكتوا. وقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. فكانت هذه أول موالاة من النبي لعلي.

ولما حضرت الوفاة أبا طالب في السنة العاشرة من المبعث عن بضع وثمانين، جمع إليه وجوه قريش فقال بين ما قال (. وإني أوصيكم بمحمد فإنه الأمين في قريش والصديق للعرب وهو الجامع لكل ما وصيتكم به وقد جاءنا بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن . يا معشر قريش كونوا له ولاة ...).

والنبي يقول (ما زالت قريش كاعة حتى مات عمي أبو طالب).

وماتت خديجة بعد أبي طالب بأيام أو أشهر أو أكثر. وأذن اللّه للرسول في الهجرة إلى المدينة. وكان قد أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة. ولم يبق فيها إلى جواره إلا أبا بكر وعليا. والأول هو الصديق والثاني هو «الفدائي الأول».

فلقد رأت قريش ذلك فأجمعت على قتل النبي فبيتوه ورصدوه طول ليلهم ليقتلوه إذا خرج. فأمر عليا أن ينام على فراشه. ودعا ربه أن يعمى على قريش أثره، وخرج وقد غشى أبناءها النوم. فلما أصبحوا خرج علي عليهم وقال: ليس في الدار ديار. فعلموا أن رسول اللّه نجا.

وكان «الفدائي الأول» قد شارف العشرين من العمر. استبقاه الرسول لأمر يتعلق بحياة الرسول. ليضحي من أجله بحياته. وسلمت الحياتان لأن الأولى حياة الإسلام، ولأنّ الثانية سوف تفديها وتحرسها مرة إثر أخرى.

١٠

اخو النبي:

أقام علي بمكة أياما ليرد فيها ودائع كانت عند الرسول. ثم لحق به في المدينة. فنزل معه بقباء، حيث أقام رسول اللّه مسجدها ثم خرج إلى دور أخواله بني عدي بن النجار فأقام بها أشهرا بنى فيها مسجده. وآخى بين تسعين من المهاجرين والأنصار على الحق والمساواة والتوارث. حتى نزل قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).

أما «أبو بكر» فآخى بينه وبين خارجة بن زيد. وأما « عمر » فآخى بينه وبين عتبان بن مالك وأما «عثمان» فآخى بينه وبين أوس بن ثابت (أخي حسان).

أما «علي». فآخى بينه وبين نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . بل هو قال له: «أنت أخي وصاحبي». وفي ذلك رواية ابن عباس أن عليا كان يقول (واللّه إني لأخو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووليه). وهذه هي المؤاخاة الثانية. فالأولى كانت بمكة.

ثم خرج المسلمون ليوم « بدر »، فدفع رسول اللّه الراية إلى علي. وراية أخرى لرجل من الأنصار. فهذه أولى معارك الإسلام وكبراها. وفعل علي الأفاعيل بالعدو: قتل من المشركين بيده أربعة. وقيل خمسة. وقيل ستة: أكثرهم من أهل معاوية بن أبي سفيان. وهو ما يزال بين المشركين. ثم قدم الرسول فلذة كبده «لبطل بدر». فبنى بفاطمة الزهراء وهي في الثامنة عشرة(١) .

___________________

(١) روى جميع بن عمير التيمي قال (دخلت مع عمي على عائشة فسألت: أي الناس كان أحب إلى رسول اللّه ؟ قالت فاطمة. قيل من الرجال؟ قالت زوجها. أن كان ما علمت صواما قواما) وفي مسند الإمام أحمد عن علي أنّه قال: دخل علي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام النبي إلى شاة لنا بكئ (قليلة اللبن) فحلبها فدرت فجاء الحسن فنحاه النبي فقالت فاطمة: يا رسول اللّه. كأنه أحبهما قال لا ولكنه استسقى قبله. ثم قال (أنا واياك وهذين، وهذا الراقد، في مكان واحد يوم القيامة).

توفيت بعد رسول اللّه بستة أشهر وقيل ثلاثة. وقيل بسبعين يوما عن تسع وعشرين سنة أو ثلاثين.

١١

روى ابن الأثير في أسد الغابة (أخبرنا . عن الحارث عن علي فقال: خطب أبو بكر وعمر - يعني فاطمة - إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأبى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما. فقال عمر: أنت لها يا علي. فقلت: ما لي من شيء إلا درعي أرهنها. فزوجه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة. فلما بلغ ذلك فاطمة بكت. قال: فدخل عليها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: مالك تبكين يا فاطمة فو اللّه لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم خلقا وأولهم سلما).

أما العلم والحلم والسلم فهي التي احتاج فيها علي - وهو في فتاء السن - إلى الشهادة بها من النبي لدى زهراء النبي.

وأما ميادين الوغى فقد شهدت له فيها رايات « بدر ». وستشهد له فيها الرايات الأخر:

في يوم أحد - أخطر معارك الإسلام - كان علي في الحرس، إلى جوار النبي، حين أصيب النبي في المعركة. وكان طبيعيا أن يصاب علي بستة عشر ضربة، كل ضربة تلزمه الأرض. وكما يقول سعيد بن المسيب سيد التابعين (فما كان يرفعه إلا جبريلعليه‌السلام ) فلما اشتد الخطب، وقتل حامل الراية - مصعب بن عمير - دفع الرسول الراية لعلي . فقتل علي يومذاك واحدا وقيل ثلاثة مشركين.

وفي يوم الخندق أزفت الآزفة حيث تيمم المشركون مكانا ضيقا فاقتحموه بخيلهم. فخرج لهم علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها. وكان عمرو بن عبدود - فارس العرب - يريد أن يعرف مكانه يوم الخندق. فنادى من فوق الخيل: هل من مبارز ؟ فبرز له علي. قال له عمرو: ما أحب أن أقتلك لما بيني وبين أبيك . وأصر علي ونزل عمرو عن فرسه. وتجاولا. فما انجلى النقع حتى قتله علي. وفر أصحاب الثغرة بخيولهم منهزمين.

١٢

وفي غزوة بني قريظة كانت له راية المسلمين:

وفي صلح الحديبية كان «كاتب» صحيفة الصلح علي بن أبي طالب يملي عليه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك كان أيمن صلح عرفه التاريخ البشري. فلقد أصبح الذين أسلموا بعده وقبل فتح مكة، أكثر ممن أسلموا قبله. وبه حفظت دماء الذين بايعوا تحت الشجرة، ليظهر الإسلام على أعدائه وييسر فتح مكة.

وفي غزوة خيبر فتح اللّه على المسلمين حصنا واستعصى اثنان على أبي بكر وعمر. فقال عليه الصلاة والسلام: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. ليس بفرار. يفتح اللّه عز وجل على يديه». ولما أصبح دعا عليا وقال: «خذ الراية وامض حتى يفتح اللّه عليك».

وحمى الوطيس. وسقط ترس علي. فتناول بابا وترس به نفسه. ولم يزل يقاتل حتى فتح اللّه عليه.

وصدق أبو بكر بعد سنين في وصف علي عندما حدث المسلمين عن علي وعمر: إن عليا إذا اعترضته عقبة حاول اقتحامها. فإما كسرته أو كسرها. أما عمر فإنه إذا صادفته عقبة دار لها.

وحمى اللّه فضائل الإسلام على يد علي. فلم يره أحد في موقف المنكسر. ولما استشهد في دفاعه عن هذه الفضائل، كان الإسلام ينتصر.

وفي يوم حنين أعجبت المسلمين كثرتهم. فكادوا ينهزمون. وثبت الرسول. وقتل علي صاحب راية المشركين وأخذها منه، وكر المسلمون عليهم فهزموهم بإذن اللّه.

ولما قتل خالد بني خزيمة خطأ وسباهم - وهم مسلمون - بعث الرسول عليا فوداهم ورد إليهم أموالهم وقال لهم: انظروا إن فقدتم عقالا لأدينه. فبهذا أمرني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣

وفي السنة التاسعة خرج رسول اللّه إلى تبوك واستعمل عليا على المدينة فسأل علي النبي في ذلك فأجابه (إنما خلفتك لما تركت ورائي. فارجع فاخلفني في أهلي، وأهلك. فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ..) فكان تخليفه عن هذه الغزوة تقديما له. إذ وضعه موضع هرون من «موسى»عليه‌السلام . أي في منزلة أخ الرسول من الرسول.

وتتابع التقديم. إذ نزلت عشر آيات من صدر سورة «براءة» من عهد كل مشرك لم يسلم أن يدخل مسجد الحرام بعد هذا العام. فقالوا للرسول: ابعث بها إلى أبي بكر - وكان على الناس في حج البيت الحرام - فقال عليه الصلاة والسلام «لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي» وبعث عليا على ناقتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأدرك أبابكر في الطريق. فسأله أبو بكر هل جاء أميرا أو مأمورا ؟ قال علي: بل مأمورا. فهو قد جاء بغرض خاص بتبليغ القرآن. أما إمارة الحاج فكانت لأبي بكر.

وفي كتب السنن أن النبي بعد عودته من حجة الوداع نزل بغدير خم وأعلن أنه يترك القرآن و«عترته» للمسلمين ثم أخذ بيد علي ودعا ربه «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»

وكان للرسول «كتابه» «والمنفذون» لأمره و «المفتون» في حياته - ثقة من اللّه والرسول في شجاعتهم وحكمتهم وسداد رأيهم - وفي كل صفة، وكل طائفة، كان علي. فامتاز بهذه الخصيصة التي تحوي جماع خصائص أصحاب النبي.

- فكتاب النبي. أبي بن كعب وأبو بكر وعمر وعثمان و «علي» وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان وحنظلة بن الربيع.

- والمنفذون لأحكامه (ومنها ضرب الأعناق بين يدي النبي). «علي» والزبير ومحمد بن مسلمة

- والمفتون في عهده: أبو بكر وعمر وعثمان و «علي» وأبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وزيد بن ثابت وسلمان و أبو الدرداء وأبو موسى الأشعري.

١٤

ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام عليا إلى اليمن قال علي (يا رسول اللّه تبعثني إلى اليمن ويسألونني عن القضاء ولا علم لي به). فضرب النبي بيده على صدره ثم قال «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه» قال علي (فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين بعد). وهي خصيصة يدرك جلال اليقين فيها من ولي القضاء.

بين الخلفاء الراشدين:

صعدت روح رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى وعلي بطل جيوشه غير منازع. وكان قد دربه على القضاء والإفتاء. فهاتان الوظيفتان هما أسمى عمل في الدول. وبخاصة في الدولة المسلمة، حيث الحفاظ على الشريعة وإدارة الدول وسياسة الأمم واستقرار النظم واطمئنان الجماعة واجبات دينية. والإفتاء يعدل التشريع في أيامنا هذه. والقضاء هو توزيع العدالة. والعدل صفة اللّه سبحانه.

لقد بعثه إلى اليمن. فقضى. وله قضاء مشهور عرض على النبي فاستحسنه. وله السؤال المشهور يومذاك إذ سأل: أكون كالسكة المحماة أو الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام «بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب». فدل بذلك على تفويضه في أن يجتهد، وأن يعمل بمقاصد الشريعة . وكان أيامئذ في عنفوان شبابه. فلم يفارقه الاجتهاد العظيم للأمة في كل مناسبة تقتضي الاجتهاد.

وبالتربية النبوية في القضاء والإفتاء. نفذ علي إلى صميم الفكر التشريعي في الأمة. أي صميم شريعة الإسلام. فاحتاج أبو بكر وعمر إليه في جوارهما ليشير عليهما ويقضي ويفتى.

أما فتاواه التشريعية فستبقى مثلا أعلى للفكر الإسلامي في سياسة الدولة وسياسة الناس.

إذا اشتهر عمر بأنه المجتهد الأكبر من كثرة ما واجه من ظروف طارئة على الدولة المنتصرة في الشرق والغرب، ومن طول ما حكم وهو خليفة، واتساع ما فتح من الفتوح، واختلاف من أسلم من أهل البلاد المفتوحة، فعلي كان يصحح الكثير للمجتهد الأكبر. وفي ذلك الحجة القاطعة على أنه في أسمى وظائف الفكر، وهما التشريع والقضاء، كان بدوره مجتهداً أكبر.

١٥

إليك قليلا من الأمثال، تخيرناها، من أمور معلمة في الدين والفقه والسياسة:

- منع عمر تدوين الحديث - مخافة أن يخلط القرآن بشيء - وبهذا أبطأ التدوين عند أهل السنة قرنا بتمامه. وانفتحت أبواب للجرح والتعديل وللوضع، وللضياع. أما علي فدون من أول يوم مات فيه الرسول. ولعله إذ دون صار مرجع الصحابة بما فيهم عمر.

وهذا الاتجاه العلمي للتدوين، يؤازره اتجاه ديني، وفقهي، وسياسي، واقتصادي، لتوزيع الحقوق.

- قال عمر للناس يوما: ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال (مال الصدقة) قالوا يا أمير المؤمنين. قد شغلناك عن أهلك وضيعتك فهو لك. فالتفت إلى علي وقال ما تقول؟ قال قد أشاور عليك. قال عمر: قل.

قال علي: لم تجعل يقينك ظنا ؟. أتذكر حين بعثك رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ساعيا فأتيت العباس بن المطلب، فمنعك صدقته. فقلت لي: انطلق إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فوجدناه خاثرا. فرجعنا ثم غدونا عليه. فوجدناه طيب النفس فأخبرناه بالذي صنع .

فقال لك: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ وذكرنا الذي كان من طيب نفسه في اليوم التالي فقال: اما انكما أتيتماني اليوم وكان عندي من الصدقة ديناران. فكان الذي رأيتماه من خثوري له. وأتيتماني اليوم وقد وجهتهما غداً (صباح اليوم) فذاك الذي رأيتما من طيب نفسي.

- ودعا عمر امرأة فأجهضت ما في بطنها بفزعها فاستشار في الدية.

فقال له عثمان وعبد الرحمن: لا عليك. إنما أنت مؤدب.

وقال علي: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ. وإن لم يجتهدا فقد غشاك. أرى عليك الدية.

فقال عمر: عزمت عليك ألا تبرح حتى تفرضها على بني عدي . وهذه الفتوى تعتبر تقدما تحاول أن تبلغه الحضارة المعاصرة، ولا تكاد.

١٦

- ورأى عمر ذات يوم رجلا مع امرأة على معصية. فاستشار في أن يقضى بعلمه أم لابد من شهادة غيره؟

قال علي (يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين).

- ولما فتح المسلمون الأمصار طلب الفاتحون لأنفسهم أربعة أخماس الأراضي المفتوحة أخذا بظاهر الآية. فاستشار عمر الصحابة. فاختلفوا. لكن عليا كان من الرأي الذي أخذ به عمر، وهو إبقاء الأرض في أيدي أصحابها وتكليفهم الخراج تسد من حصيلته حاجات الدفاع عن الأمة والإنفاق على المحتاجين.

وفي بقاء الأرض في أيدي أصحابها بقاء لهم أو لمن يجيئون بعدهم وأثر هذه الفتوى في نشر الإسلام يذكر ويشكر.

- وعلى صاحب الرأي الشهير بتضمين الصناع ما يتلفونه إلا أن يثبتوا أنه من عمل غيرهم بعد إذ كانوا لا يضمنون لأن يدهم يد الأمين. لكن الزمان تغير فاقتضى تغير الناس التضمين. وفي ذلك قول علي: لا يصلح الناس إلا ذاك. وهذا مضرب المثل على العمل بقصد الشارع من حفظ مصالح المسلمين وتوخي المصلحة الإسلامية حيث تكون.

- ورفعت إلى عمر قضية رجل قتلته امرأة وخليلها. فتردد هل يقتل الكثيرين بالواحد ؟ قال علي أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور هذا عضوا وهذا عضوا. أكنت قاطعهم ؟ قال نعم. قال علي: فكذلك.

فكتب عمر إلى عامله أن: اقتلهما فو اللّه لو اشترك أهل صنعاء كلهم لقتلتهم.

- وجيء عمر يوما بأمرة زنت وأقرت فأمر برجمها. لكن عليا قال: لعل بها عذرا. ثم سألها: ما حملك على ما فعلت ؟ قالت: كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن. ولم يك في إبلي ماء ولا لبن. وظمئت واستسقيته فأبى ان يسقيني حتى أعطيه نفسي. فأبيت عليه ثلاثا. فلما ظمئت وظننت نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. قال علي: اللّه أكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. إن اللّه غفور رحيم).

- لقد كان عمر على الحق إذ أمر ألا يفتى أحد بالمسجد وعلي حاضر. فجعل القضاء وقفا عليه في ساحة القضاء.

١٧

- وكان يقول اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي.(١)

بل يحيل سائليه على علي. ويجيب أذينة العبدي إذ يسأله: من أين أعتمر؟ إيت علي بن أبي طالب فاسأله.

بل يقول: لولا علي لهلك عمر.

- ولعلي عهده المشهور إلى الأشتر النخعي(٢) إذ ولاه مصر. فهو دستور سياسي وديني وعالمي يضؤل دونه كل العهود، بما فيه من شمول وتفصيل لقواعد الحكم الصالح. وإليه يرجع كل من أراد نجاحا للحكم بصلاح الدنيا والدين.

والمصريون - مسلمين ومسيحيين - يحفظون قوله فيه لواليه (واشعر قلبك الرحمة بهم والمحبة لهم. واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنهم: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل).

___________________

(١) لا يتسع المقام في هذا الباب إلا لبعض أمثال:

- قاضاه خصم إلى عمر وناداه عمر: قم يا أبا الحسن. ولاحظ عمر أنه تألم فسأله. فقال (تألمت إذ كنيتني ولم تكن خصمي فلم تسو بيننا).

- وقاضاه يهودي - وهو خليفة - في درع - ولم تكن للخليفة بينة. فقضى القاضي ضده، فأسلم اليهودي لما رأى من العدل.

- وأودع قرشيان مائة دينار - لدى قرشية على ألا تدفعها لأحدهما دون الآخر. ولبثا حولا ثم جاء أحدهما وادعى أن الآخر مات. فدفعت إليه المال. ثم جاءها الآخر فأخبرته. فترافعا إلى علي. وعرف علي أن الرجلين مكرا بها. فقال للرجل: أليس قلتما لها لا تدفعي لواحد دون صاحبه؟ قال بلى. قال اذهب فجئ بصاحبك. فذهب ولم يرجع.

وهذه اللفتات المرتجلة تصدر عن وحدة فكرية في أمور الإثبات والإجراءات وإدارة الجلسات وهي دلائل متضافرة على اقتدار مقطوع القرين « لعقل قضائي » أجمع الصحابة العظماء على أنه أقضاهم.

(٢) الأشتر أول من عبر التعبير الشهير في شأن معاوية حين سئل: أشهد معاوية بدرا ؟ فأجاب: نعم من الجانب الآخر (أي جانب المشركين).

١٨

- وعلي هو الذي يضبط فحوى الشرع ويرفعه إلى مقامه الحق في تعريفه للفقيه فيقول للمسلمين (الا أنبئكم بالفقيه، حق الفقيه ؟ من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ولم يرخص لهم في معاصي اللّه. ولم يؤمنهم من مكر اللّه).

كان منذ شبابه الذي أنضجته أحداث النزال والطعان في الميدان - أعبد الناس وأكثرهم في عبادته جمعا مع اللّه. لا يقطع صلاته والسهام تقع بين يديه يمينا وشمالا. يربط على بطنه من الجوع في حين يتصدق بأربعة آلاف درهم، وعليه إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم. أما قوته فمن دقيق الشعير. يأخذ قبضة فيضعها في الماء فيصب عليها قدحا فيشربه . وفي يده كل مال المسلمين

ولما أصهر عمر إليه في «أم كلثوم» كان يتوسل إلى الآخرة بلحمة النسب. فلقد كان يقول: (لقد أعطى علي بن أبي طالب ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة بنت رسول اللّه،صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وسكناه المسجد مع رسول اللّه. يحل فيه ما يحل له).

ولم يبرح عمر المدينة في خلافته الا استخلف عليا عليها. فلقد كان ذلك سنة عنده. أليس صاحبهما -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كان يستخلفه، إذا برح المدينة ؟.

وعلي «باب مدينة العلم». يقول الرسول عليه الصلاة والسلام «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت بابه».

وهو «إمام البلاغة». يجيء معاوية رجل من الكذبة فيقول له: جئتك من عند أعيا الناس - يقصد عليا - فيجيب معاوية، وهو أعدى الناس لعلي، (ويحك فو اللّه ما سن الفصاحة للناس غيره). كيف لا ؟ وبلاغته من بلاغة النبي . مذ كان فكره من فكره، وكان قد رباه فأحسن تأديبه، حتى ليعيا بلغاء العرب عن فهم المعنى النبوي ويراه على بادي الرأي.

شكا العباس من مرداس للنبي قسمه من الفيء بقوله:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

د كنهب عيينة والأقرع

١٩

(والعبيد فرس الشاعر. وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس من المؤلفة قلوبهم).

(قال عليه الصلاة والسلام: «يا علي اقطع لسانه»

فأخذه علي ومضى.

قال العباس: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟

قال علي: إني لممض فيك ما أمر .

ثم مضى به إلى إبل الصدقة وقال له: خذ ما أحببت.

ومن «نهج بلاغته» يسقي بلغاء العربية وحكماء الإسلام. ومن تعليمه وضع النحو العربي(١) . ووضع النحو بتعليم علي يذكر بالمكانة الخاصة لعلي

___________________

(١) روى الأنباري في تاريخ الأدباء أن سبب وضع علي كرم اللّه وجهه لهذا العلم ما روى أبو الأسود الدؤلي (٦٧) حيث قال: دخلت على أمير المؤمنين علي فوجدت في يده رقعة فقلت ما هذه يا أمير المؤمنين فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم) فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ثم ألقى إلي الرقعة ومكتوب فيها (الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى) وقال لي انح هذا النحو وأضف إليه ما وقع عليك وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة.. ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر. وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر (أراد بذلك الاسم المبهم) قال ثم وضعت بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها فكتبتها ما خلا «لكن» فلما عرضتها على أمير المؤمنينعليه‌السلام أمرني بضم لكن اليها. وكلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية. فقال ما أحسن هذا النحو الذي نحوت فلذا سمى النحو). وان المرء ليلاحظ أن هذا الفتح العظيم في العلم كان من اهتماماته وهو أمير المؤمنين، ليس لديه يوم واحد خلا من معركة أو استعداد لمعركة. وأن أبا الأسود هو واضع علامات الإعراب في المصحف في أواخر الكلمات بصبغ يخالف لون المداد الذي كتب به المصحف. فجعل علامة الفتح نقطة فوق الحرف. والضم نقطة إلى جانبه والكسر نقطة في أسفله والتنوين مع الحركة نقطتين ثم وضع نصر بن عاصم (٨٩) تلميذ أبي الأسود النقط والشكل لأوائل لكلمات وأواسطها ثم جاء الخليل بن أحمد(١٧٥) فشارك في إتمام بقية الإعجام . والخليل شيعي كأبى الأسود. وهو واضع علم العروض وصاحب المعجم الأول وواضح النحو على أساس القياس.

فاللغة العربية مدينة لعلي وتلاميذ علي. وكمثلها البلاغة العربية.

وعلى معدود من خطباء التاريخ العالمي بخطبه والمناسبات التي دعت اليها.

٢٠