الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86542
تحميل: 10838

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86542 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأما من عدا أهل البيت فقد نهض عنهم الصحابة وأبناؤهم وأحفادهم بعبء العلم نهضة جديرة بدين يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. فاشتهرت بينهم أما المؤمنين عائشة وأم سلمة، وزينب بنت أبي سلمة. والعبادلة الأربعة أبناء العباس، وعمر، والزبير وعمرو، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبنته حفصة وعروة بن الزبير ابن أخت عائشة، وابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر، وراويتها عمرة بنت عبد الرحمن، وهؤلاء الثلاثة أعلم الناس بحديث عائشة، وسالم بن عبد اللّه بن عمر وسعيد بن المسيب وخارجة بن زيد وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، وتعلم عليهم جيل جديد: فيه محمد بن شهاب الزهري وأبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن المنكدر، ومحمد وعبد اللّه ابنا أبي بكر بن حزم، وربيعة الرأي، وهؤلاء مشيخة مالك بن أنس.

ومالك يعاصر في النصف الثاني من القرن الثاني نهاية الأجيال المفضلة.

ثم هو شيخ المدرسة التي نجب فيها محمد بن إدريس الشافعي وتلميذه أحمد بن حنبل.

ولقد طالما زاحم التلاميذ أشياخهم في العلم وإن لم يزاحموهم في مكانتهم عند اللّه والناس.

ومن المدينة انطلق الفقه الإسلامي إلى العراق، حيث أقام عبد اللّه بن مسعود زمانا معلما ووزيرا كما سماه عمر، وتعلم عليه تلاميذه وتلاميذ علي، كعبيدة، وعلقمة، والحارث. وعن طريق علقمة تعلمت مدرسة النخعيين يتقدمها الأسود وعبد الرحمن، ويتوسط عقدها إبراهيم ابن يزيد شيخ حماد بن أبي سليمان.

وفي حلقة حماد بالكوفة قضى أبو حنيفة عشرين عاما يتعلم، ليصبح علما على مدرسة الرأي والقياس الذي قعد قواعده الشافعي فانتشر في كل فروع العلم الإسلامي.

وهوى أبي حنيفة مع أبناء علي معروف، وصلة فكره بزعماء أهل البيت واضحة، وإن مذهبه ليقارب المذهب الزيدي أكثر مما يقارب المذهب الحنفي غيره من مذاهب أهل السنة كما قيل.

١٠١

ولقد استشهد زيد - بن زين العابدين - سنة ١٢١. وفي ذلك العهد جلس أبو حنيفة مجلس حماد بن أبي سليمان بعد وفاته. وشرع يدون بعض مذهبه وكثيرا من الفروع. ثم مكن أبو يوسف للمذهب بتولية زملائه القضاء، ليلزموا الناس به، ثم نشره محمد بن الحسن بتدوينه في كتبه الشهيرة.

وتدوين الفقه في كتاب «المجموع» قد سبق به زيد مدرسة أبي حنيفة. ولعل أبا حنيفة تعلم تدوين الفقه عليه - بل إن الجميع قد قلدوا فيه صنيع أهل البيت أنفسهم. ولديهم الكتب فيها العلم، أحاديث وفقها، يتعلمونه كابرا عن كابر.

فالحجاز والعراق قد تضامنا في إنتاج الفقه. لتتابعهما بعد ذلك شتى الحواضر، في الفسطاط ودمشق وقرطبة والقيروان، وفي المغرب وفي المشرق، وفي الإندلس، ووسط آسيا.

وظاهر من هذا التأريخ أمور:

١ - أن المذاهب الفقهية جميعا بما فيها المذاهب الباقية إلى اليوم لأهل السنة، يتصدرها في الظهور مذهب أهل البيت على يد زيد بن علي زين العابدين. وكذلك يسبق « المذهب الزيدي » مذهب الإمام جعفر الصادق، الذي تبعه الأئمة من نسله، وصار يسمى مذهب (الإمامية). فالصادق صار إماما بموت أبيه الباقر في العقد الثاني من المائة الثانية، ثم كانت وفاته بعد استشهاد عمه زيد سنة ١٢١ بسبعة وعشرين عاما سنة ١٤٨.

أما أبو حنيفة فمات في سجن أبي جعفر المنصور سنة ١٥٠. وأما مالك فمات بعد أبي حنيفة بتسعة وعشرين عاما سنة ١٧٩. والشافعي مات بعد أبي حنيفة بأربعة وخمسين عاما سنة ٢٠٤. ولحق بهم ابن حنبل سنة ٢٤١. وأصحاب المذاهب الأخرى بين معاصرين لهم أو لاحقين.

٢ - أن الإمام « جعفر » كما سنرى، ينهى عن استعمال القياس كمثل ما يرفضه فقهاء المدينة عموما والمحدثون خصوصا. وهم زعماء الفقه في المائة الأولى.

وسنرى بعد أن نهى « الصادق » عن القياس لا يعارض الاجتهاد، بل إنه ليأمر به، ويبلغ بمنهاجه في الاجتهاد ما يبلغه سواه.

وسنرى أن منهاجه في الاعتبار والاستخلاص هو منهج الفكر الإسلامي، نقله عنه الفكر العالمي.

١٠٢

٣ - أن البيئة التي عاش فيها أهل البيت ستين عاما بعد مجزرة كربلاء، كانت منجبة، بظهور العلم والعلماء من الرجال والنساء. فشاركت المرأة في العلم من عهد أمهات المؤمنين. ووجدت الفقيهات في جيل التابعين وتابعي التابعين من أهل السنة، فتصدرت نساء أهل البيت سكينة بنت الحسين(١١٧) رضي اللّه عنهما. وكانت برزة، تساجل فحول الشعراء، بل الفقهاء.

وهي بهذه المساجلات إمام في استعمال الحرية الشخصية والفكرية(١) تعلم المسلمين والمسلمات، أن المرأة نصف الناس، وأن إظهار مواهبها، وصقلها وتنميتها، خير للنصف الذي هو المرأة، وخير للنصف الآخر. ومن المساواة بينهما تقررت للمرأة حقوقها كاملة، وسلم لها بالحرية الفكرية التي قد تفهم من كلمات الإمام علي بن أبي طالب يوم لقي عائشة، في إثر انتصاره يوم الجمل، فقال لها: غفر اللّه لك. قالت: ولك وما استغفر لها إلا لخطأ منها في الاجتهاد رآه.

___________________

(١) زارها الفرزدق بالمدينة. فقالت له: من أشعر الناس؟ قال أنا. قالت: بل جرير حيث يقول . فعاد لها في الغداة بشعر جديد يسوغ له قصب السبق. قالت بل جرير حيث يقول . وكذلك صنعت في اليوم الثالث إذ عاد بجديد.

ووقفت يوما على عروة بن أذينة شيخ مالك بن أنس فقالت له: أنت الذي يقال له الرجل الصالح وأنت تقول:

إذا وجدت أوار الحب في كبدي

عمدت نحو سقاء القوم أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره

فمن لنا على الأحشاء تتقد

قال نعم.

قالت: وأنت القائل:

قالت وابثثتها وجدي وبحت به

قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

ألست تبصر من حولي ؟ فقلت لها

غطى هواك وما ألقي على بصري

قال نعم:

فالتفتت إلى جوار، كن حولها، وقالت: هن حرائر إذا كان خرج هذا من قلب سليم قط.

١٠٣

وإذا كان النصفان يجتهدان ويجاهدان، فالأمة كلها في حالة تقدم، أو محاولة تقدم - والاجتهاد في ذاته تقدم - بالعلم أو السعي إليه. وهو بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهما وبالتقوى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه).

٤ - وفي الهدأة الوقور في هذه البيئة ازدهر العلم. على النحو الذي كان حريا بالمدينة، وبأهل البيت، من حفظ لحديث الرسول وتريث في النظر والمناظرة، وتلبث في إبداء الآراء، لما فيها من شبهة المخاطرة، وصدق في خدمة حديث النبي بالعمل به وتعليم الناس إياه.

وإنما اشتعلت الثورات، وشققت الفلسفات، في العراق. ففيها تعاقبت ثورات التوابين، والخوارج، والخارجين - كابن الزبير وابن الأشعث والآخرين - ومن غليان المراجل هنالك أحدثت المبادئ الهدامة أو الغلواء أو الخصومات آثارها، كمثل ما نسب إلى عبد اللّه بن سبأ أو غيره من عقائد الغلاة الذين تبرأ منهم الشيعة، كما تبرأ الإمام علي ممن ألهوه، فحرقهم بالنار.

لكن آراء الغلاة وأعداء الإسلام لم تكن تكاد تفد على المدينة حتى تخرج منها واهنة أو محطمة.

ففي جوها النقي، تفتحت أبواب بيت النبي، وتخرج في علومها الأئمة.

(زين العابدين) ٣٨ - ٩٤

تعاظم بيت زين العابدين في عدد أفراده يوما بعد يوم، وقدم « السجاد » لنا ابنه « الباقر »، ثم قدم الباقر ابنه «الصادق». فكانوا مثلا عليا في العزوف عن السلطة والانصراف إلى تعليم الناس العلم الصحيح والعمل الصالح والأسوة الحسنة.

روى عن جابر بن عبد اللّه وابن عمر إلى جوار روايته علم أهل البيت وحديثهم عن أبيه الحسين وأم المؤمنين أم سلمة. وسمع ابن عباس. ليروي عنه فيما بعد ابناه عبد اللّه والباقر وخلق كثير. ورأى بعيني المريض العاجز عن الاستشهاد، مصاير أبيه العظيم، وإخوته وأعمامه وأولادهم يوم كربلاء.

١٠٤

وتجلت فيه الفضائل المنبثقة من الورع والرحمة: يصلي للّه في اليوم والليلة ألف ركعة. ولهذا سمي «السجاد». إذا توضأ اصفر لونه وإذا قام أرعد من الفرق. ولما سألوه قال: أتدرون من أريد أن أقف بين يديه ومن أناجي ؟

ومع تألق عبد اللّه بن جعفر بالمدينة، وهو الصحابي الذي يحرص الخلفاء في دمشق على مرضاته، وتفريق عبد اللّه عطاءه الجزل في فقراء المدينة، واستشهاد ابنين له يوم الحرة، وثالث في كربلاء، ومع أنه زوج بنت علي، عمة زين العابدين، مع هذا كله كان زين العابدين يحتل مكانه في الصدارة، ويحمل وصفه بجدارة.

وفي ذلك نص يروى عن مالك بن أنس قال: (سمي زين العابدين لعبادته).

علمته المحنة والورع الحكمة وحسن الخطاب، فكان في باكورة حياته على علم عظم. قال له يزيد يوم أدخل عليه - مريضا - مع نساء أهل البيت الناجيات من كربلاء - أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع اللّه به ما قد رأيت. قال زين العابدين (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)

قال يزيد: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).

قال زين العابدين: (هذا في حق من ظلم لا من ظلم(١) ).

تتابع على الكذب ولاة الشام والأمصار من عهد معاوية يشتمون عليا بأمر بني أمية، فكان يبقي من كذبهم شيء في عقول العامة، أو الصبية الذين لا يعلمون.

___________________

(١) ولما جيء بزين العابدين في أسرى كربلاء أقيم على درج دمشق. فقال له رجل من أهل الشام: الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. قال زين العابدين: قرأت القرآن؟ قال الرجل: نعم. قال: قرأت الـ . حم؟ قال الرجل نعم. قال: أما قرأت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قال الرجل: فإنكم إياهم؟ قال نعم. ويقصد الإمام الآية ٢٣ من سورة الشورى (ذلك الذي يبشر اللّه عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن اللّه غفور شكور) وأول آيات سورة الشورى (حم).

١٠٥

كان عبيد اللّه بن مسعود من فقهاء المدينة السبعة. وكان معلم عمر ابن عبد العزيز وهو صبي أودعه أبوه أخواله - بني عدي قوم عمر ابن الخطاب - بالمدينة. فسمع يوما شتم علي. فقال لعمر: يا بني. متى علمت أن اللّه غضب على أهل بدر؟ قال الصبي: وهل كان علي في بدر؟ قال عبيد اللّه: وهل كانت بدر كلها إلا لعلي

فلما ولي عمر الخلافة أبطل شتم أهل البيت. ورد إليهم حقوقهم. وقال رجل من أنصار الأمويين بالشام: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا ثوبا ولا سمتا ولا دابة منه. فسألت فقيل هذا علي بن الحسين بن علي. فأتيته - وقد امتلأ قلبي له بغضا - فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: أنا ابن ابنه. فقلت: بك وبأبيك أسب عليا. فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبا ؟. مل بنا إلى الدار فان احتجت منزلا أنزلناك. أو إلى مال واسيناك. أو إلى حاجة عاوناك على قضائها. فانصرفت من عنده، وما على الأرض أحد أحب إلي منه.

ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي. فلما انصرف (من الصلاة) قيل له ما بالك لم تنصرف حين اشتعلت النار؟ قال: اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى.

وأنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد. واصفر وخر مغشيا عليه. فلما أفاق سئل فقال: إني لأخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك. فيقول: لا لبيك ولا سعديك - فشجعوه حتى لبي. فغشي عليه حتى خر عن راحلته . وكان يرحل من المدينة إلى مكة فلا يقرع راحلته مرة واحدة

يقول الأصمعي (لم يكن للحسين رضي اللّه عنه عقب إلا من ابنه زين العابدين. ولم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن، فجميع الحسينيين من نسله).

أما أكبر صدقته فبالليل. يقول: (صدقة الليل تطفئ غضب الرب). ومع عظم مكانه كان إذا دخل المسجد تخطى الرقاب حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، إذا كان هنالك. فيقول له نافع بن جبير بن مطعم: أنت سيد الناس. تأتي تتخطى خلق اللّه وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فيجيب (إنما يجلس الرجل حيث ينتفع. وإن العلم يطلب حيث كان).

١٠٦

ولقد كان يريد أن يجلس إلى سعيد بن جبير وقيل له ماذا تصنع بلقاء سعيد؟ فأجاب (أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا اللّه بها)(١)

وزين العابدين لا ينسى أن النبي أمر زيد بن حارثة - وكان مولى النبي - على جعفر بن أبي طالب وجعل له القيادة، فإن قتل كانت لجعفر، فإن قتل كانت للصحابي عبد اللّه بن رواحة.

وزين العابدين بهذا يضع السوابق لأهل البيت ليتعلموا العلم المقارن من فقه المسلمين كافة. ولذلك سيجلس ابنه الباقر إلى نافع مولى ابن عمر. وسيجلس حفيده الصادق إلى عكرمة(١٠٣) مولى ابن عباس وإلى عطاء بن أبي رباح(١١٤) مولى قريش، يجلس في المسجد الحرام مجلس ابن عباس. كما يجلس الصادق إلى عبد اللّه بن أبي رافع مولى أمير المؤمنين علي.

فإذا جلس زين العابدين في المسجد جلس بين القبر والمنبر، وانعقدت حلقة كحلقة أبيه في روضة كرياض الجنة، يقول عنها القائل (إذا دخلت مسجد رسول اللّه فرأيت حلقة كأن على رءوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللّه مؤتزرا إلى أنصاف ساقيه).

ولقد يتحدث مع سليمان بن يسار(١٠٧) مولى أم المؤمنين ميمونة إلى ارتفاع الضحى. فإذا أرادا أن يقوما قرأ عليهما عبد اللّه بن أبي سلمة سورة، فإذا فرغ عبد اللّه من التلاوة دعوا اللّه سبحانه.

___________________

(١) وهو بهذا يعلم الجميع أن العلم شرف يسعي إليه الشرفاء. ولو كانوا قمة الشرف. والنبي رسالته التعليم. ومن ذلك كان تنافس أبناء الصحابة على أن يتعلموا العلم وأن يعلموه وكانت المشقة واقتحام المخاطر والفلوات لتحصيله وإنفاقه في الناس. يستوي في ذلك من لا مال عنده كابن حنبل ومن عنده الأموال كيحيى بن معين، كان عنده مليون درهم أنفقها في تحصيل الحديث. أو كابن حزم، قال له أبو الوليد الباجي - عالم المالكية: أنا أعظم منك همة في طلب العلم. أنت طلبته وأنت تعان عليه. تسهر بمشكاة الذهب. وأنا طلبته وأنا أسهر بقنديل السوق. وأجابه ابن حزم: أنت طلبته في حال فاقة تريد تبديلها لمثل حالي. وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته. لا أرجو إلا علو القدر في الدنيا والآخرة .

١٠٧

ولقد يدخل ابن شهاب الزهري(١٢٤) وصحبه فيسأله فيم كنتم ؟ فيجيبه أنهم كانوا يتذاكرون الصوم وأنهم لم يروه واجبا إلا في رمضان فيقول السجاد: الصوم على أربعين وجها. ثم يشرحها له وجها وجها. فمنها ما يجب. ومنها ما هو بالخيار أو الإباحة. إلخ.

وفي علمه يقول محمد بن سعد. صاحب الطبقات (كان زين العابدين ثقة مأمونا كثير الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . عالما. ولم يكن من أهل البيت مثله) ويقول الزهري (ما رأيت أفقه من زين العابدين لولا أنه قليل الحديث)

وهذه الشهادة بالفقه من شيخ مالك بن أنس تعلن رأى جيل التابعين.

بل إن الزهري يعلن مكانة زين العابدين بين كل الأحياء بقوله (ما رأيت قرشيا أفضل منه). قصد إليه يوما، ونفسه تكاد تبسل من ذنب ألم به. فرده الإمام إلى صميم الإسلام قال (قنوطك من رحمة اللّه التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك).

والشافعي الذي يقول في ابن شهاب الزهري (لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة) يضع زين العابدين في أعلى مكان. فيعده أعلم أهل المدينة.

كان كثير البكاء من يوم كربلاء. فقيل له في ذلك فقال (إن يعقوبعليه‌السلام بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن على يوسف - ولم يتحقق موت يوسف - وقد رأيت بضعة عشر رجلا من أهلي يذبحون في غداة واحدة).

١٠٨

وربما فسر لنا هذا المقال بعض أسباب انصرافه إلى تعليم المسلمين دينهم، لصلاح دنياهم، وإجماع المسلمين على إجلاله(١) .

وفي سنة ٩٤، سنة الفقهاء، مات جمع من فقهاء المدينة، عروة ابن الزبير، والسعيدان: ابن جبير وابن المسيب. وأبو بكر بن عبد الرحمن. وارتفعت فيها أو في سنة ٩٥ روح زين العابدين إلى الرفيق الأعلى. مخلفا أربعة عشر ولدا منهم عشرة رجال كبيرهم محمد، أبو جعفر، المكنى بالباقر، وفيهم زيد بن علي.

___________________

(١) حج هشام بن عبد الملك في خلافة أبيه - فرأى رجلا ينجفل الناس إليه، ويفسحون في الطواف له، في حين لا يحفل الناس بابن الخليفة، فسأل من هذا؟ وسمع الفرزدق السؤال. فأنشد ميميمته الطويلة المشهورة في الأدب العربي ومما جاء فيها:

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فلا يكلم إلا حين يبتسم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء اللّه قد ختموا

اللّه شرفه قدراً وعظمه

جرى بذاك له في لوحه القلم

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

ما قال « لا » قط إلا في تشهده

لولا التشهد كانت لاؤه نعم

من معشر حبهم دين. وبغضهم

كفر. وقربهم منجى ومعتصم

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأمم

وغضب هشام وأرسل زين العابدين للفرزدق أربعة آلاف درهم، ردها الفرزدق قائلا: إنما مدحتك بما أنت أهله وردها الإمام قائلا: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده.

١٠٩

(الباقر) ٥٧ - ١١٤

انصرف الإمام محمد الباقر للعلم بكله. فهذا أول دروس أبيه له. بقر العلم أي تبحر فيه. فسمي الباقر.

روى علم أبيه وجديه الحسين والحسن وجد أبيه - علي - وجادل عبد اللّه بن عباس.

وعنه روى بقايا الصحابة والتابعين. وكان يقصد الحسن البصري ونافعا مولى ابن عمر.

سأل سائل عبد اللّه بن عمر في مسجد الرسول فأشار إلى حيث يجلس الباقر وقال (اذهب إلى هذا الغلام وسله وأعلمني عما يجيبك) فلما عاد إليه بالجواب قال (إنهم أهل بيت مفهمون)

وروى عنه الفطاحل: أخوه زيد وابنه جعفر الصادق. ثم الأوزاعي إمام الشام. وابن جريج إمام مكة. وأبو حنيفة. وعبد اللّه بن أبي بكر ابن حزم شيخ مالك إمام المدينة. وحجاج بن أرطاة(١٤٥) ومكحول ابن راشد. وعمرو بن دينار(١١٥). ويحيى بن كثير(١٢٩). والزهري(١٢٤)، وربيعة الرأي(١٣٦). شيخا مالك. والأعمش(١٤٨) والقاسم بن محمد بن أبي بكر(١٠٦) وابان بن تغلب(١٤١) وجابر الجعفي(١٢٨) وزرارة بن أعين(١٥٠) والثلاثة الأخيرون من كبار علماء الشيعة ورواة ابنه جعفر الصادق.

يقول محمد بن المنكدر - شيخ مالك بن أنس - في الباقر (ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا يقاربه في الفضل حتى رأيت ابنه محمداً الباقر).

وما هو في سجاياه إلا خليفة « السجاد ». يطوف بالبيت فيركع، ويسجد، فإذا مكان سجوده قد بلله الدمع .

يقول عنه الحسن البصري: (ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء).

١١٠

عايش الباقر أباه زماناً طويلا، ولم يمتحن محنة أبيه في كربلاء، أو محنة أخيه زيد إذ أخرجه أهل الكوفة وخذلوه، ولم تعتور حياته الامتحانات المتعاقبة التي اعتورت حياة ابنه - الإمام الصادق - أو خلافات بني عمومته - أبناء الحسن - أو الإرهاب الفكري أو الفعلي من الخليفة المنصور - فأتيح للباقر أن يبلور اتجاه أهل البيت - من نسل الحسين - إلى العلم والتعليم، ويبرز فيه العناية بفقه العبادات والمعاملات. وكثر ترديد اسمه مصاحبا لاسم ابنه الإمام الصادق في كتب الفقه الشيعي. وإليه يرجع أصحاب الكلام في العقائد الشيعية، وكثير من الفقه المستنبط من القرآن والسنة.

روى عنه جابر الجعفي أكثر من خمسين ألف حديث وروى عنه محمد بن مسلم ثلاثين ألفا. وكان عبد الملك بن مروان يعرف له حقه، وهو في صدر شبابه، في حياة أبيه.

إليك أمثالا لفكره في السياسة والفقه والتفسير:

- روى الكسائي: دخلت على الرشيد فقال: هل علمت أول من سن الكتابة على الذهب والفضة؟ قلت عبد الملك بن مروان. قال ما السبب؟

قلت لا أعرف:

قال: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر على دينهم. وكانت تطرز (أبا وابنا وروحا) وتخرج من مصر تدور في الآفاق. فأمر عبد العزيز - وكان عامله على مصر - بإبطال ذلك. وأن تطرز بصورة التوحيد. مشهداً اللّه ألا إله إلا هو . فلما وصلت القراطيس إلى ملك الروم كتب إلى عبد الملك إن لم يرد هذا الطراز على ما كان عليه فسينقش على القراطيس شتم النبي. فاستشار عبد الملك، فلم يجد عند أحد رأيا، فاستشار الباقر.

فقال له: لا يعظم عليك هذا الأمر من جهتين. الأولى: أن اللّه عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم. والثانية أن تتهدد من يتعامل بغير دنانيرك. فلما علم ملك الروم أن دنانيره سيبطل التعامل بها إن حوت شتما، كف عما تهدد به.

- وفي الاحتكار ورفع الأسعار. يقول في مسجد الرسول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا، يريد غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع ».

١١١

- واليمين عند الشيعة لا تنعقد إلا قسما باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة)، فمن حلف بغيرها لا يحنث إذا لم يفعل. سئل الباقر عن قوله تعالى (والليل إذا يغشى) (والنجم إذا هوى) وما إلى ذلك فأجاب: إن اللّه عز وجل أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلا به.

- وسئل: أبا الناس حاجة إلى الإمام؟ فأجاب: أجل. ليرفع العذاب عن أهل الأرض. وذكر قوله تعالى (وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم).

تعاقب على الخلافة في حياة الباقر أربعة من أبناء عبد الملك وزوج ابنته عمر بن عبد العزيز - خامس الراشدين في مدة خلافته - وكان عمر يتردد على الامام الباقر يستنصحه. والباقر يوصيه بالمسلمين أجمعين - فيقول له بين ما يقول (أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدا. وأوسطهم أخا. وأكبرهم أبا. فارحم ولدك. وصل أخاك. وبر والدك. فإذا صنعت معروفا فربه) أي تعهده.

وكان نشر التشيع لأهل البيت همه. قال سعد الإسكافي: قلت لأبي جعفر الباقر (اني أجلس فأقص وأذكر حقكم وفضائلكم) قال: (وددت لو أن على كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك).

وحج هشام بن عبد الملك في أيام ملكه(١٠٥ - ١٢٥) فرأى الباقر بالمسجد يعلم الناس في مهابة وجلال، تعاليم الإسلام وآدابه وفرائضه وأحكامه والناس خشع في مجلسه. وغلبت هشاما غريزة المعاجزة لأهل البيت. فبعث إليه من يسأله: ما طعام الناس وشرابهم يوم المحشر؟ وأجابه الباقر بآيات الكتاب الكريم. واستطرد في تعليمه وتعليم من أرسله.

وسمعه الحجيج - عامئذ - يقول للناس (الحمد للّه الذي بعث محمدا بالحق نبياً وأكرمنا به. فنحن صفوة الناس من خلقه وخيرته من عباده وخلفائه. فالسعيد من تبعنا. والشقي من عادانا).

ورجع هشام إلى عاصمته . فأرسل في دعوة الباقر، وابنه الصادق، إلى قصبة الملك في دمشق.

١١٢

يقول الصادق: (فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثا. ثم أدخلنا في اليوم الرابع) . وكأنما أراد هشام أن يظهرهما على أنه إذا لم تكن له مكانة في جوار البيت العتيق ومسجد الرسول أو كانت الكرامة كلها، في الحج الأكبر، لأهل البيت، فإن له بيتا في دمشق وحجابا ومواعيد.

والباقر، كالأئمة من أبنائه، يفضلون عليا على سائر الصحابة. لكنهم لا يبرءون من الشيخين:

يقول لجابر الجعفي (يا جابر بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما. ويزعمون أني أمرتهم بذلك. فأبلغهم أني إلى اللّه منهم بريء. والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى اللّه بدمائهم. لا نالتني شفاعة محمد أبداً إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما).

وهو لا يترحم عليهما فحسب. ولكنه يأمر تلميذه بأن يتولاهما. وأن يبرأ من أعدائهما. يقول لتلميذه سالم (يا سالم. تولهما. وابرأ من عدوهما. فإنهما كانا إمامي هدى رضي اللّه عنهما). بل إنه يتخذ عمل أبي بكر حجة في الفقه: سئل عن حلية السيف فجوزها، قال (لا بأس به قد حلى أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه سيفه).

قال السائل: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال (نعم الصديق. فمن لم يقل الصديق فلا صدق اللّه له قولا في الدنيا والآخرة).

وفي سنة ١١٤ اختاره اللّه إلى جواره لتبدأ إمامة ابنه جعفر الصادق.

١١٣

الفصل الثاني : إمام المسلمين

(إن اللّه أراد منا شيئاً وأراد بنا شيئاً. فما أراده بنا طواه عنا. وما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا).

(الإمام الصادق)

إمام المسلمين

ولد الإمام الصادق في السابع عشر من ربيع الأول سنة ٨٢ على قول، أو غرة رجب. وفي أقوال أخرى أنه ولد سنة ٨٠ أو سنة ٨٣. وتتابع بعده أبناء الباقر، ولهذا يكنى الباقر أبا جعفر. أما أخوه الشقيق فعبد اللّه.

وأما أولاد الصادق فإسماعيل وعبد اللّه - وبه يكنى أبا عبد اللّه - وأم فروة من زوجته فاطمة بنت الحسين.. بن الحسين بن علي، وموسى (الكاظم) واسحق ومحمد. وأمهم أم ولد، تدعى حميدة. والعباس وعلي وأسماء من أمهات متفرقات.

واسم جعفر في بيت زين العابدين مذكر بأول الشهداء من بيت أبي طالب. فعلي هو الثاني فيه. والحسين هو الثالث.

أما الأول فجعفر بن أبي طالب قائد جيش مؤته وشهيدها، الطيار في الجنة، وذو الجناحين. كما وصفه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وكما روى البخاري ومسلم: قال له رسول اللّه (أنت أشبهت خلقي وخلقي).

وهو أول زوج لأسماء بنت عميس(١) جدة أم فروة أم: جعفر الصادق.

ولقد مر بنا كيف ولده رسول اللّه مرتين، وعلي مرتين، والصديق مرتين، ليدل التاريخ على أنه نسيج وحده. وأن كسرى يزجرد ملك الفرس قد ولده مرتين. ليدل على أن الإسلام للموالي والعرب.

___________________

(١) يقال عن أمها « هند » أكرم الناس أحماء: أما أسماء فزوج جعفر ولها منه عبد اللّه. وزوج أبي بكر ولها منه محمد. وزوج علي ولها منه يحيى. أما أخواتها فميمونة أم المؤمنين ولبابة زوج العباس عم النبي وجدة خلفاء الدولة العباسية. وسلمى زوج حمزة بطل أحد وشهيدها وعم النبي. وأم الفضل الكبرى (أخت أسماء لأمها) أم خالد بن الوليد. وهكذا تتصل بأسماء بنت عميس أسماء هي أحرف الهجاء في تاريخ الإسلام: النبي وعميه وابني عمه والصديق وسيف الإسلام خالد.

١١٤

فالباقر - وهو من هو - أكفأ الناس لأم فروة(١) المنحدرة من صلب أبي بكر أول الخلفاء الراشدين، والقاسم بن محمد(٢) الذي يرشحه للخلافة عمر بن عبد العزيز - خامس الخلفاء الراشدين.

وكأنما سلم الباقر ابنه شعار حياته في مقولتين صيرتاه ربانيا من كل وجه. الأولى (شيعتنا من أطاع اللّه) والثانية (إن اللّه خبأ رضاه في طاعته. فلا تحقرن من الطاعات شيئاً فلعل رضاه فيه. وخبأ سخطه في معصيته. فلا تحقرن من معصية شيئاً فلعل سخطه فيه وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحداً فلعله ذلك الولي).

تلقى الصادق من أبيه كل ما وعاه قلبه وقرأ كل ما حوته كتبه. واستمع إلى علماء العصر. وانتفع بعلوم جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر(١٠٦) وكان مثلا عاليا للأمة وواحداً من الأعمدة السبعة المسلمين «علماء المدينة السبعة»(٣) . يعلن عمر بن عبد العزيز أنه «لو لا خوف الفتنة من بني أمية لاستخلفه على الأمة» ويوصي عمر عماله أن يكتبوا السنن من عنده. فهذا رجل له ورع عمر بن عبد العزيز، وعنده كل علم المدينة، وإنه ليستطيع أن يقول - من صلة على الوثقى بأبيه محمد بن أبي بكر - إنه أوثق أهل بيته صلة برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأول من تبعه، عليا كان أو أبا بكر بل بهما معا.

___________________

(١) حجت أم فروة متنكرة فاستلمت الحجر بيدها اليسرى فقال لها رجل لا يعرفها: يا أمة اللّه أخطأت السنة فأجابت يا هذا إنا عن علمك لأغنياء.

(٢) وللقاسم وأبيه أكبر الصلات بأم المؤمنين عائشة. إذ ضمته إليها بعد مقتل أبيه محمد، على أيدي جند معاوية. ومحمد ربيب علي. سيره معها بعد وقعة الجمل إلى المدينة في كوكبة من النساء في ملابس الرجال. وكان تسيير أخيها معها كرامة يحفظ بها أخو الرسول أم المؤمنين.

وفي بيت عائشة سقي القاسم علمها الذي أراد عمر بن عبد العزيز تدوينه عن طريقه، وعمر خليفة، حتى لا يضيع علم المدينة. فكتب بذلك إلى قاضيه وواليه على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم.

وسنرى الإمام جعفر الصادق يروي عن خاله عبد الرحمن بن القاسم وعن عروة بن الزبير (ابن أسماء أخت عائشة). وعروة من كبار رواتها ورواة الصحابة.

(٣) يقول فيه يحيى بن سعيد(١٤٣) تلميذ فقهاء المدينة السبعة (ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله على القاسم) وابن حنبل يقول في يحيى (أثبت الناس).

١١٥

وعندما نذكر أن القاسم بن محمد ظل مصدراً للعلم حتى شارف الصادق ربع القرن من حياته، وأن الصادق شهد حلقات عكرمة مولى ابن عباس،(١٠٤) وعطاء بن أبي رباح، بمكة حيث كان يجلس ابن عباس، وأن أوامر الولاة في الموسم كانت (لا يفتي الناس إلا عطاء)، كما شهد بالمدينة حلقة عبد اللّه بن أبي رافع - مولى أمير المؤمنين علي - الذي أملى علي عليه كتابه إلى معاوية ، وحلق خاله عبد الرحمن بن القاسم، وعروة بن الزبير (٩٤) الراوية عن خالته عائشة، ومحمد بن المنكدر(١٣٠) شيخ مالك، فليس علينا أن نحاول البحث عما تلقاه جعفر بن محمد الصادق في صباه.

ولقد كان علم أهل البيت حسبه - فكيف إذا اجتمع إليه علوم هؤلاء، ليملأ بالفقه الشيعي وبالفقه المقارن مدينة الرسول، من يوم مات أبوه وهو بعد في ثلاثيناته.

والصبي من « أهل البيت » لا ينفق صباه في «عمل لا شيء» فذلك هو اللهو. أو في «عدم عمل شيء». فهذا هو الفراغ . وعلى الأجيال المتعاقبة منهم تبعات في تعاقب الإمامة. لا تدع لهم محيصا عن الإحاطة الكاملة بما لدى غيرهم من علم، فوق علمهم وما هو إلا القرآن والسنة والسيرة. والقرآن كما يقول ابن عباس «في بيتهم نزل». والسنة من بيتهم صدرت. والسيرة سيرتهم.

واللغة طريق ذلك كله، وهي بعد حصيلته. وإنك لتدرك منزلة جعفر بن محمد في البيان العربي من تداوله للتفسير في اقتدار على تخريج المعاني لا قرين له. وسنراه غداً عمدته النصوص في الفقه والدين، يستخرج منها أعمق المعاني بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، شأن أمراء البيان. ومن تكن النصوص عمدته الأولى، فالبلاغة عدته الكبرى.

ولئن لم يتميز الأطفال أو الصبية في بيت زين العابدين والباقر بخصوصيات تكبر وتنمو فتبرز إذ هم شيوخ وأئمة، إن بيت زين العابدين ذاته كان «خصوصية» في مجتمع الإسلام. فيه المثل الأعلى من العلم المحيط والورع الكامل والتفرغ للخدمة العامة، وتعلق القلوب به، واتجاه الأبصار تلقاءه. على هذا درج بيت زين العابدين، مع الاستمرار والاستقرار. فلم يعكر الصفوفيه غير مصرع زيد في سنة ١٢١، بعد إذ خذله أهل الكوفة في مخرجه، فمصرع ابنه يحيى. وحمل الصادق الأمانة في ذوي رحمه - منذ صار إماما بوفاة الباقر سنة ١١٤ - فكان يحنو على الأحياء من أبناء عمه زيد، ويأسو جراحات من سقط أباؤهم في الحرب من رجال زيد، فبعث ألف دينار فرقت في ورثتهم.

١١٦

وليس أحد بحاجة في ترجمة أئمة أهل البيت ليسترسل في وصف خصال من يرث أخلاق الأنبياء ويعلمها.

فلنستحضر، ونحن في بيت النبي، ما كان يصنعه النبي، ولنتيقن أن الإمام الصادق كان يحاول أن يصنع نظيره. ولنستحضر فعال علي وزهراء النبي، والحسن والحسين، وزين العابدين، والباقر. فهي أصول يتلقاها الخلف عن السلف، ليعملوا بها، ثم يعلموا بها.

وربما أجزأ في هذا المقام ذكر أمثال عادية من الحوادث اليومية تصور صميم «الشخصية». وفيما نذكره دلايل على كثير لم نذكره.

فحياة الإمام مدرسة وتطبيقاتها. والعمر أيام تتكرر. والحياة جماع أعمال يدل بعضها على البعض الآخر. ومنها الجزئي الذي يستنبط منه الكلي. وكثيراً ما كان العمل الواحد (رد فعل) عفوي أو فوري، صادراً عن عدة قواعد يجري عليها العقل أو الشعور أو السليقة أو الطريقة - فردود الأفعال شهادات عيان بدخائل الإنسان.

١ - مات بين يدي الإمام ولد صغير فبكى وقال « سبحانك ربي لئن أخذت لقد أبقيت. ولئن ابتليت لقد عافيت».

وحمله إلى النساء. وعزم عليهن ألا يصرخن. وقال « سبحان من يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حبا. إنا قوم نسأل اللّه ما نحب فيعطينا. فإذا نزل ما نكره فيمن نحب رضينا».

فأي قلب، في اطمئنانه واتزانه، كمثل ذلك الذي يفيض بالشكر، حيث يغيض الصبر عند الغير.

٢ - ونهى أهل بيته عن الصعود - فدخل يوما فإذا جارية من جواريه تربي بعض ولده، قد صعدت السلم، والصبي معها. فلما نظرت الإمام ارتعدت لعصيانها وسقط الصبي من يدها. فمات. فخرج الصادق متغير اللون. فسئل عن ذلك فقال (ما تغير لوني لموت الصبي. وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب) ثم قال لها بعد ذلك (أنت حرة لوجه اللّه. لا بأس عليك).

١١٧

فهذا أمر واحد عادي، تبعته وقائع ثلاثة غير عادية، أعقبها من الإمام تصرفات لا تصدر إلا عن الإمام. في كل واحدة منها أنواع فضائل. تبدأ باحترام إنسانية الإنسان. وتنتهي بعطاء، دونه كل عطاء، يختمه بالكلمة الطيبة - لا بأس - ويبدؤه بأعلى القيم الإنسانية. إذ يمنحها حريتها.

٣ - وذهب مرة يعزى أحد المصابين بفقد ولده. وانقطع في الطريق شسع نعله، فتناوله من رجله ومشى حافيا. فخلع ابن يعفور شسع نعله وقدمه له. فأعرض عنه كهيئة المغضب وقال لا. فصاحب المصيبة أولى بالصبر عليها .

فالإمام لا يلقي متاعبه على من دونه. بل يتحمل الأذى ليتعلم الناس وجوب العمل، ولزوم التحمل. وليعلم الكبراء أنهم كبراء بما يضربونه من المثل. وليدرك الجميع أن الصبر على المصيبة شطر الإيمان. وأحق الناس به من أتيحت الفرصة له.

٤ - وذات يوم دعا للطعام عابر سبيل لم يقرئه السلام. فراجعه حضاره متسائلين بين يديه: أليست السنة أن يسلم الرجل أولا، ثم يدعى للطعام؟ فأجاب الإمام «هذا فقه عراقي فيه بخل».

ففقه الإمام «علوي» يبدأ بالعطاء. وعملي فيه مبادرة. واجتماعي يسعى به المعطي إلى الآخذ. وإسلامي، إنساني، كله كرامة.

لقد ولد في دار شعارها البدار، بالعطاء مع الإخفاء. حتى الصدقة يقول فيها الباقر «أعط ولا تسم. ولا تذل المؤمن».

وفي ذلك السنة . وسنرى تطبيقات شتى من الإمام لهذا الفقه في المنهج الاقتصادي .

٥ - وصحا رجل من الحاج فلم يجد هميانه (الكمر الذي يلفه المحرم حول بطنه وفيه نفقته من النقود) فخرج فوجد الإمام الصادق يصلي فتعلق به وهو يقول: أنت أخذت همياني.

قال الصادق كم كان فيه؟ قال: ألف دينار. فأعطاه ألف دينار.

ومضى الرجل فوجد هميانه فرجع يعتذر ويرد ألف دينار. فأبى الصادق أن يأخذها وقال: شيء خرج من يدي فلا يعود.

١١٨

قال الرجل لمن حوله: من هذا ؟.

قالوا: جعفر الصادق. قال: لا جرم هذا فعال مثله.

فإمام المسلمين لا ينعزل عنهم، فلا ينماز منهم، حتى ليخطئ الجاهلون منهم في شخصه. فيعرض عن الجاهلين. ويخف ليخفف كرب المكروب، لا يحزنه وهمه أو اتهامه، وإنما تحزنه همومه. فيشركه فيها بالصنيع النابه مرة إثر أخرى.

والناس أسمع للصوت الذي لا صرير له. وأبصر بالإخلاص الذي لا يتصايح صاحبه به. والأفضال أفعال تدرك آثارها الحواس الخمسة.

ولا نستطرد في السرد. ففي كل واقعة سلفت « عدسة » صغيرة تريك العالم الكبير الذي وراءها، من مناقب كالنجوم وإن كان أصحابها من البشر. هذه سماء تسعى على الأرض. وهؤلاء بقية النبي عليه الصلاة والسلام، يعيشون في الدنيا.

مجالس العلم

شهد الإمام الصادق انحدار الناس بعد عصر الخلفاء الراشدين، ورأى بعين الصبى المأمول من أهل بيت الرسول ما صنعه عمر بن عبد العزيز في خلافته بين سنتي ٩٨، ١٠١ إذ أعاد الدين غضا في نحو من ثلاثين شهرا، وأثبت للدنيا، أن (المدة) كما سمي الناس خلافته، كانت كافية لتعيد الناس إلى الإسلام الصحيح عندما يوجد خليفة صادق العزم، يتخذ الخلافة - كما قال - سبيلا إلى الجنة.

وكان بعض الصالحين يستعجلون عمر ليصنع كل ما صنع في أول يوم ولي الخلافة. قال له ابنه عبد الملك، (يا أبت ما بالك لا تنفذ الأمور، فو اللّه لا أبالي في الحق لو غلت بي القدور) لكن عمر كان يتأتى للأمور في رفق وأناة وإصرار. قال (لا تعجل يا بني إن اللّه تعالى ذم الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، فتكون فتنة). وبهذا قدر على أن يرد المظالم وأغنى اللّه الناس على يديه. فأصبح عمر لا يجد فقراء يوزع المال عليهم. في المدينة أو في القرية.

١١٩

لكن الإمام «الصادق» تعلم من حياة الخليفة الصادق العزم: أن إصلاحاته لم تؤت ثمارها بعد مماته، إذ دمرها الخلفاء الذين جاءوا بعده، وتتابع الباقون يدمرون.

وشهد الإمام الصادق مقدم بني العباس وكيف ناقضوا شعارات دولتهم وحكموا حكم جاهلية.

هكذا رأى رأي العيان أن صلاح الأمر لا يكون بتولي السلطة، أو بمجرد إصلاحها مدة قصيرة أو طويلة وكل عمر قصيرة. وإنما الصلاح في إصلاح الأمة. فكيفما تكونوا يولى عليكم. ولكل أمة الحكومة التي تستحقها واستيقنت نفسه الصواب فيما صنعه أبوه وجده، وهو أن يعلموا الأمة. فإذا تعلمت صلحت فلم يستضعفها حكامها. وهي عندئذ تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر وتشركهم تبعاتهم. فالأمة القوية لا تظلم حكامها ولا يظلمونها.

وبشعار الثقة باللّه سبحانه (اللّه وليي وعصمتي من خلقه) وبنقش الخاتم الذي يعلن مصدر قوته (ما شاء اللّه. لا قوة إلا باللّه. استغفر اللّه) قصد إلى مجلس العلم، في مسجد النبي أو في داره، يستعمل البعد المكاني، حيث يجلس للتعليم في مدينة الرسول، والبعد الزماني، فهو تابعي يعيش في جيل التابعين وتابعي التابعين، والبعد الثالث وهو ارتفاع نسبه إلى النبي وعلي.

أما البعد الرابع فعمق علمه وعلم أبيه وجده.

في هذا المجلس المهيب بالمدينة أو بالكوفة، يجلس رجل ربعة. ليس بالطويل ولا بالقصير. أزهر له لمعان كالسراج. يسعى نوره بين يديه. رقيق البشرة، أسود الشعر جعده، أشم الأنف. أنزع قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهرا، له إشراق. وعلى خده خال أسود - المسلمون أيامئذ أحوج إليه ليعلمهم، منهم إليه ليحكمهم . كل ما يحيط به يوحى بالرجاء في فضل اللّه. فلما طعن في السن زاد جلالا وسناء وإحياء للأمل.

يلبس الملابس التي عناها جده عليه الصلاة والسلام حينما قال (كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة.).

١٢٠