الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86550
تحميل: 10838

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86550 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رآه سفيان الثوري وعليه جبة خز دكناء فقال: يا ابن رسول اللّه ما هذا لباسك فقال (يا ثوري. لبسنا هذا للّه، ثم كشف عن جبة صوف يلبسها، وقال: ولبسنا هذا لكم).

كان جده علي يختار الخشن من الألبسة . ويلح الجوع عليه فيعلل معدته بقرص شعير. يخيط نعله إن لم يكن مشغولا، أو يتركه لمن يخيطه بأجر إذا انشغل. لكن الزمان يتغير فيغير الصادق ليظهر أثر النعمة. ويقول للناس (إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة أحب أن يراها عليه لأن اللّه جميل يحب الجمال).

ويقول (إن اللّه يحب الجمال والتجمل. ويكره البؤس والتباؤس ..) والنظافة من الإيمان. فيها الكرامة والسلامة للنفس وللأسرة وللمدينة. فعلى المرء كما يقول الإمام (أن ينظف ثوبه ويطيب ريحه ويجصص داره ويكنس أفنيته).

وذات يوم رآه «عباد بن كثير البصري» في الطواف فقال له: تلبس هذه الثياب في هذا الموضع وأنت في المكان الذي أنت فيه من علي؟ فأجاب كما يروي الإمام نفسه (فقلت: فرقبي - نسبه إلى «فرقب» حيث تصنع ثياب كتان أبيض - اشتريته بدينار. وقد كان علي في زمن يستقيم له ما لبس فيه. ولو لبس مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس: هذا مرائي مثل «عباد» ..)

قيل له يوما: كان أبوك وكان . فما لهذه الثياب المروية (حرير مرو) فأجاب: ويلك فمن (حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟

وإنك لترى آثار النعمة على مالك وأبي حنيفة، وإجابات مشتقة بدقة من هذه الإجابات، في ردود الرجلين بشأن ملابسهما وأنعم اللّه عليهما - وكان كلاهما لباسا - فالمذموم من الثياب ما فيه خيلاء. والمحمود ما كان إظهارا لنعمة اللّه على عبده. حتى تلميذه العظيم الثالث سفيان الثوري - وهو إمام الزهد والورع والحديث والفقه - قد انتفع بدروس الإمام في الملبس فأمسى يقول: الزهد في الدنيا هو بقصر الأمل. ليس بأكل الخشن ولا بلبس الغليظ. ازهد في الدنيا ثم نم. لا لك ولا عليك. إن الرجل ليكون عنده المال وهو زاهد في الدنيا. وإن الرجل ليكون فقيرا وهو راغب فيها.

١٢١

وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يلبس ما تيسر من الصوف تارة ومن القطن تارة ومن الكتان تارة. وكانت مخدته من أدم حشوها ليف نخل. ولما قال له رجل يا رسول اللّه أنا أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة. أفمن الكبر ذاك؟ قال (لا. إن اللّه جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس).

ولم يعب الصحابة بعضهم على بعض الملابس من أعلى وأدنى. لا يعيب صاحب الخز على صاحب الصوف ولا صاحب الصوف يعيب على صاحب الخز.

في هذا المجلس تتلمذ للإمام جعفر وروى عنه - كما يقول أرباب الإحصاءات - أربعة ألاف من الرواة وكتب عنه أربعمائة كاتب. كلهم يقول: قال جعفر بن محمد.

فأي مجلس كان ذلك المجلس تتراءى فيه اشياء من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . بعضها مادي يجري في أصلاب رجل بعد رجل. وبعضه معنوي يتراءى في معانيه وفحوى مقولاته، لكل هؤلاء.

ليس بالمجلس لجاجة ولا حجاج عقيم. يقول للتلامذة (من عرف شيئا قل كلامه فيه. وإنما سمي البليغ بليغا لأنه يبلغ حاجته بأدنى سعيه).

إذا سأل سائل عن خلافات الصحابة أجاب (علمها عند ربي في كتاب. لا يضل ربي ولا ينسى).

يهتدي بهديه الكبراء في الامتناع عن الجواب في خلاف الصحابة. يقول أحمد بن حنبل إذ يسأل عما كان بين الصحابة: كان بينهم شيء اللّه أعلم به. ومع ذلك يعجب ويتساءل عن طلحة والزبير: أكانا يريدان أعدل من علي؟ ولا يضيع الحق في المجلس: سمع أن أحد الولاة نال من أمير المؤمنين علي . فوقف الصادق فقال (ألا أنبئكم بأعلى الناس ميزانا يوم القيامة وأبينهم خسرانا؟ من باع آخرته لغيره. وهذا هو الفاسق).

وعرف الناس الفاسق الذي باع آخرته لمن يشتهون أن يقدح لهم في علي بن أبي طالب.

والمقياس عند صاحب المجلس هو الإخلاص للّه والرسول. يقول ويروي عن آبائه عن أمير المؤمنين علي (قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية. ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة).

١٢٢

والقاعدة هي المساواة بين الناس، مساواة فطرية - مهما اختلفت العقائد والأجناس - يقول (الناس في آدم مستوون). حتى عبدة النار يقول فيهم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».

وللنساء والبنات عنده المكانة العالية. قياما بوصية جده بالنساء في آخر خطبه عليه الصلاة والسلام - روى الجارود بن المنذر: قال لي أبو عبد اللّه الصادق «بلغني أن لك ابنة فتسخطها. ما عليك منها؟ ريحانة تشمها. قد كفيت رزقها. وقد كان رسول اللّه أبا بنات».

وأي مثل في الإسلام كمثل رسول اللّه. وأي نعمة أن يكون للمرء ريحانة أو رياحين وأي فضل كفضل البنات يكفي رزقهن اللّه يقول الصادق (إن إبراهيم سأل ربه ابنة تبكيه وتندبه بعد موته) لينبه على بقاء الوفاء في أفئدة البنات بعد الممات.

ومن الدروس الأولية في هذا المجلس تعليم الناس أن يسعوا لعمارة الدنيا بالعمل للرزق، ومجانبة الخلائق الفاقرة بالتواكل، أو البطالة. وبهذا المبدأ أصبح المجتمع الشيعي مجتمع العاملين، وبلغ حظه - حيثما كان - من النماء، والاستغناء، والانتفاع بما منحه اللّه للبشر من مواهب، وأتاح لهم من وسائل.

جاء مجلس الإمام يوما جماعة من الزهاد يريدون منه إظهار التقشف والزهد الكامل. فقال لهم:

(حدثني أبي أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ابدأ بمن تعول. الأدنى فالأدنى . هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم . قال العزيز الحكيم (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما). أفلا ترون أن اللّه تعالى قال غير ما أراكم تدعونني إليه؟ . فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير. فلا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو اللّه أن يرزقه فلا يستجيب له. للحديث الذي جاء عن النبي (إن أصنافا من أمتي لا يستجاب دعاؤهم: رجل يدعو على والديه. ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه. ورجل يدعو على زوجته وقد جعل اللّه تخلية سبيلها بيده. ورجل يقعد

١٢٣

في بيته ويقول رب ارزقني، ولا يطلب الرزق، فيقول اللّه عز وجل: يا عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب . ألم أرزقك رزقا واسعا؟ فهلا اقتصدت كما أمرتك ولم تسرف فيه وقد نهيتك عن الإسراف. ورجل يدعوني في قطيعة رحم .) ثم علم اللّه عز وجل كيف ينفق فقال (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) فهذه أحاديث رسول اللّه يصدقها الكتاب. والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين . وفيهم سلمان الفارسي وأبو ذر رضي اللّه عنهما:

فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته حتى يحضر عطاؤه من قابل. فقيل له: يا أبا عبد اللّه أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً؟ فكان جوابه أنه قال: ترجون لي البقاء وقد خفتم علي الفناء. أما علمتم أن النفس قد تلتاث على صاحبها ما لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه. فإذا أحرزت معيشتها اطمأنت.

وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها، ويذبح منها إذا اشتهى اللحم، أو نزل به الضيف . ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهما رسول اللّه ما قال . ولم يبلغا من الزهد أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم . ويؤثرون على أنفسهم وعيالهم . .)

فالإمام يريد مجتمعا عاملا، متواصلا، فيه قصد وجد. فبهذا يعين اللّه من يعين نفسه من عباده.

التلاميذ الأئمة

كان سفيان الثوري إمام العصر في الورع والسنن والفقه، للعراق كافة. وكانت له في مجابهة الخليفة مواقف لا يمل الحديث فيها. وكان كثيرون من رواد المجلس كسفيان مكانة في المسلمين: منهم عمرو بن عبيد الذي نشأت على يديه فرقة المعتزلة، وأبو حنيفة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ترب أبي حنيفة، وإمام المدينة مالك بن أنس.

وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم لأهل السنة. ومالك أكبر من تلقى عليه الشافعي علما. وأطولهم في تعليمه زمانا. والشافعي شيخ أحمد بن حنبل.

١٢٤

وكمثلهم كان المحدثون العظماء: يحيى بن سعيد محدث المدينة وابن جريج وابن عيينة محدثا مكة. وابن عيينة هو المعلم الأول للشافعي في الحديث.

فلندع للأئمة وصف مكانهم من الإمام - وفيه وصف مجالس علمه:

يقول مالك بن أنس (كنت أرى جعفر بن محمد. وكان كثير الدعابة والتبسم. فإذا ذكر عنده النبي اخضر واصفر. ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت آراه إلا على ثلاث خصال. إما مصليا وإما قائما وإما يقرأ القرآن. وما رأيته يحدث عن رسول اللّه إلا على الطهارة. ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من العلماء والعباد والزهاد الذين يخشون اللّه. وما رأيته قط إلا ويخرج وسادة من تحته ويجعلها تحتي).

وفي مقولة أخرى يضيف مالك (وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، إذا قال (قال رسول اللّه) اخضر مرة واصفر أخرى حتى ينكره من يعرفه. ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الإحرام، كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخر عن راحلته. فقلت: يا ابن رسول اللّه. أو لابد لك أن تقول قال: كيف أجرؤ أن أقول لبيك وأخشى أن يقول اللّه عز وجل: لا لبيك ولا سعديك) .

وإنا لنذكر ما كان يصنعه جده زين العابدين في هذا المقام.

وأصبح مالك إذا ذكر النبي اصفر لونه. فإذا تساءل جلساؤه قال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون. ويذكر لهم حال ابن المنكدر(١) ثم يعقب بحال جعفر.

___________________

(١) محمد بن المنكدر(١٣٠) من معادن الصدق بالمدينة وأشياخ مالك، من بني تيم قبيلة أبي بكر، وهم مشهورون بالرقة والورع. وهم أجداد الإمام جعفر - كان لا يسأل ابن المنكدر أحد عن حديث إلا بكى. ومالك يقول (كنت إذا وجدت من نفسي قسوة آتي ابن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأبغض نفسي أياما).

وابن المنكدر يقول (كابدت نفسي في ذلك أربعين عاما حتى استقامت). وكان من بني المنكدر إخوة ثلاثة فقهاء: محمد وأبوبكر وعمر أبناء المنكدر.

١٢٥

إنما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته . ويحس، أو يكاد يلمس، شيئاً مادياً، يتسلسل من الجد لحفيده، وأشياء غير مادية تملك اللب والقلب: فالرؤية متعة والسماع نعمة. والجوار - مجرد الجوار - تأديب وتربيب . وفي كل أولئك طرائق قاصدة إلى الجنة.

وصاحب المجلس طهر كله. لا يتحدث عن جده إلا على الطهارة. يقول (الوضوء شطر الإيمان) ومن أجل ذلك لم يعد الوضوء عنده أو في مذهبه، مجرد وسيلة لغيره - أي للصلاة - بل أمسى مستحبا لذاته كالصلاة المستحبة. يتهيأ به المتوضئ لدخول المساجد، وقراءة القرآن، بل الزوجان ليلة زفافهما، والمسافر إلى أهله . والقاضي ليجلس للقضاء، والإمام الذي يفتي أو يعلم.

وما هو بدع أن يشغف به مالك - وهو الأموي بهواه - فإنما هو حب الرسول وأهل بيته. فحبهم إيمان. وما كان تعبير مالك إلا حبا، وهو - بعد - التلميذ النجيب لفقهاء بني تيم (قبيلة أبي بكر) سواء كانوا من مواليهم - كربيعة الرأي - أو من أنفسهم كمحمد بن المنكدر، أو أمهم منهم، كالإمام جعفر.

وأبو بكر الصديق يقف في قمة التاريخ العلمي لمصادر مالك باتباعه واجتهاده وأبنائه وبني تيم .

تعلم مالك الكثير من السلوك على الإمام جعفر فكان إذا حدث لا يحدث إلا على الطهارة. ويحمى مجلسه ممن يخرجونه عن قصده. كما يكرم تلامذته. بل صار إماما لليسر الذي تتمثل فيه خصائص المدينة. وأمسى عنوانا على العلم: فإذا خاصم السلطة خاصمها من أجل النزاهة العلمية فحسب. وفي منهجه الاحتفال الكامل بالواقع. وفي طريقته العمل للرزق، حتى لا يحتاج لأحد، مما يعبر عن اقتداء كامل بالإمام الصادق.

وكهيئة الإمام الصادق، لم يجار فقهاء العراق في قولهم أرأيت أرأيت. أي افتراض الفروض واستباق الحوادث وإبداء الرأي فيما لم يحدث حتى سماهم خصومهم (الأرأيتيين).

١٢٦

ومن رضا الإمام عن التلميذ كان «الصادق» يشير بإتيان حلقة مالك. روى عنوان البصري أنه كان يختلف إلى الإمام جعفر يتعلم عليه فغاب الإمام عن المدينة فاختلف إلى مالك سنتين ثم عاد الصادق فعاد عنوان إلى مجلسه. فنصحه أن يجلس إلى مالك.

ولقد يدخل الإمام المسجد - فيقدم إليه تلميذ من تلاميذه ابن أبي ليلى(١) (١٤٨) قاضي الكوفة. فيقول الإمام: أنت ابن أبي ليلى القاضي؟ ويجيب: نعم. فينبهه الإمام على جلال خطر القضاء بقوله: (.. تأخذ مال هذا وتعطيه هذا. وتفرق بين المرء وزوجه لا تخاف في ذلك أحدا . فما تقول إذا جيء بأرض من فضة وسماء من فضة ثم أخذ رسول اللّه بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال: يا ربي هذا قضى بغير ما قضيت).

واصفر وجه ابن أبي ليلى مثل الزعفران. لكنه خرج من المسجد مزودا بزاد من خشية اللّه زوده به ابن رسول اللّه.

ولما سئل مرة: أكنت تاركا قولا أو قضاء لرأي أحد؟ أجاب: لا. إلا لرجل واحد. هو جعفر بن محمد الصادق.

وابن أبي ليلى قاضي بني أمية وبني العباس. وهم أعداء الإمام.

في هذا المجلس بالمدينة ، أو بالكوفة في إحدى قدمات الإمام جعفر إلى العراق ، دخل أئمة الكوفة مجتمعين : أبو حنيفة و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة(١٤٤) على الإمام جعفر فجعل الصادق ينبه أبا حنيفة مكتشف أداة «القياس»، على خطرها في حضور العالمين الآخرين. وفي مواجهة هذين يقول الإمام الصادق لأبي حنيفة: «اتق اللّه ولا تقس الدين برأيك».

___________________

(١) أول من تعلم عليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وفي الخلاف بينه وبين أبي حنيفة وضع أبو يوسف كتابه الشهير اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى. وكثيراً ما رجح فيه آراءه. ومن ذلك أخذه برأيه في قضية رفعت على الخليفة الهادي أمامه و بهذا دفع الخليفة لصاحب الحق حقه (راجع أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح للمؤلف. ص ١٠٠ طبعة المجلس الأعلى للشئون الاسلامية).

١٢٧

واقفا وهو في مجلس الدرس، فقال (يا ابن رسول اللّه - لو شعرت بك أول ما وقفت ما رآني اللّه أقعد وأنت قائم) ليشهد اللّه على دخيلة نفسه أنها لا تقبل الجلوس والإمام قائم.

وأبو حنيفة (٨٠ - ١٥٠) أكبر عمرا من الإمام الصادق.

ولقد يكون أبو حنيفة في حلقته بالكوفة أو في المدينة فيقف عليها الإمام الصادق، ولا تقع عليه عين أبي حنيفة، فإذا لمحته عيناه هب أبو حنيفة لكن الصادق يشد أزره بعبارات مشجعة. فيقول له (اجلس يا أبا حنيفة فعلى هذا أدركت آبائي) يريد بذلك إعظام مجالس العلم. ووقوف الجميع. وجلوس الأستاذ.

انقطع أبو حنيفة إلى مجالس الإمام طوال عامين قضاهما بالمدينة، وفيهما يقول (لولا العامان لهلك النعمان) - وكان لا يخاطب صاحب المجلس إلا بقوله « جعلت فداك يا ابن بنت رسول اللّه ».

ولقد يتحدى الإمام الصادق في مجلسه أبا حنيفة ليختبر رأي صاحب الرأي فيسأل: ما تقول في محرم كسر رباعية الظبي. ويجيب أبو حنيفة: يا ابن رسول اللّه لا أعلم ما فيه. فيقول له الإمام الصادق: أنت تتداهى. أو لا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية . وإنما سكت أبو حنيفة لأنه لم يعلم كما قال، أو لأنه يمتنع عن أن يصحح للإمام السؤال. وما كان أعظم أدب أبي حنيفة بين نظرائه. فما بالك به بين يدي الإمام.

فإذا جاء ابن شبرمة وحده يسأل عما لم يقع - كدأب تلاميذ أبي حنيفة ومدرسة الكوفة - لم يتردد الإمام في دفعه، بالحسنى:

ذهب إليه ذات يوم يسأله عن القسامة في الدم فأجابه بما صنع النبي. فقال ابن شبرمة: أرأيت لو أن النبي لم يصنع هذا، كيف كان القول فيه؟ فأجابه: أما ما صنع النبي فقد أخبرتك به. وأما ما لم يصنع فلا علم لي به.

والصادق عليم بالاختلاف بين آراء الفقهاء، أي بعلم المدينة وعلم الشام وعلم الكوفة، وهو يروي عشرات الآلاف من الأحاديث، في حين كانت قلة ما سلمه أهل العراق من الحديث آفة علمائه، حتى صوبهم الشافعي في نهاية القرن، بالقوة التي لا نزاع فيها لخبر الواحد، وبوضع قواعد القياس.

١٢٨

والحسن بن زياد اللؤلؤي يعلن رأي صاحبه في إحاطة الإمام الصادق فيقول (سمعت أبا حنيفة وقد سئل من أفقه الناس ممن رأيت فقال: جعفر ابن محمد).

ولما استفتي أبو حنيفة في رجل أوصى « للإمام »، بإطلاق الوصف، قال انها لجعفر بن محمد. فهذا إعلان لتفرده بالإمامة في عصره .

ولم تكن السنتان اللتان حيي بسببهما النعمان بن ثابت (أبو حنيفة) ولم يهلك، إلا تكملة لسنين سابقة كان يتدارس فيها فقه الشيعة. ومن ذلك كان يشد أزر زيد بن علي في خروجه على هشام بن عبد الملك. وقيل مال إلى محمد وإبراهيم (ولدي عبد اللّه بن الحسن) في خروجهما على المنصور. وأن قد جاءته امرأة تقول إن ابنها يريد الخروج مع هذا الرجل - في إبان خروج إبراهيم - وأنا أمنعه. فقال لها لا تمنعيه.

ويروي أبو الفرج الأصفهاني عن أبي إسحق الفزاري: جئت إلى أبي حنيفة فقلت له: أما اتقيت اللّه. أفتيت أخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل فقال (قتل أخيك حيث قتل، يعدل قتله لو قتل يوم بدر. وشهادته مع إبراهيم خير له من الحياة).

ولئن كان مجداً لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي، أو مجداً للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل، أو مجداً للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة. أما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان. فالإمام مبلغ للناس، كافة، علم جده عليه الصلاة والسلام. والإمامة مرتبته. وتلمذة أئمة السنة له تشوف منهم لمقاربة صاحب المرتبة.

لقد يجيء للمناظرة عمرو بن عبيد(١٤٤) زعيم المعتزلة، الذي لم يضحك أبو حنيفة طول حياته بعد أن قال له عمرو إذ ضحك مرة في إبان مناظرته: بافتي تتكلم في مسألة من مسائل العلم وتضحك؟، والذي يبلغ من وقاره أن يراه الرائي فيحسبه أقبل من دفن والديه. فإذا انتهى الكلام قال عمرو للإمام (هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم).

١٢٩

ويجيء إمام خراسان عبد اللّه بن المبارك، وهو إمام فقه، وبطل معارك. تلمذ للإمام زمانا، ولأبي حنيفة، فتعلم ما جعله يخفي بطولاته في الفتوح «لأن من صنعها لأجله - سبحانه - مطلع عليها(١) ». وفي الإمام جعفر شعره الذي ورد فيه:

أنت يا جعفر فوق الـ

مدح. والمدح عناء

إنما الأشراف أرض

ولهم أنت سماء

جاز حد المدح من

قد ولدته الأنبياء

فإذا كان الصادق في مواجهة مع المنصور، حيث القواد والعلماء يجلسون على مبعدة منه، فإن مجلس الإمام عن يمينه . حتى ولو دعاه يخوفه. فلقد طالما انتهت اللقاءات بالموعظة يلقيها الإمام من حديث رسول اللّه، ولحديث رسول اللّه شرف المجلس، ولابن رسول اللّه شرف من رسول اللّه.

ولو جلس الصادق على مبعدة أو مقربة من الخليفة، لكان الشرف حيث يجلس. وربما قربه الخليفة ليلتمس لنفسه القربى إلى الناس في الدنيا، ويوم لا تملك نفس لنفس شيئا، وعندما تلتمس الشفاعة.

وأبو جعفر المنصور يقر بمكانه من العلم والتقوى مع ضيق صدره بمكانته في الأمة. يقول (هذا الشجى المعترض في حلقي أعلم أهل زمانه. وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا).

___________________

(١) استعصى على المسلمين حصن من حصون الروم. فتصدى له فارس ملثم فاقتحمه وتتابع وراءه المسلمون واختفى الفارس في الجند. ولما سئل ابن المبارك فيما بعد، عن إخفاء نفسه، قال (لأن من صنعت ذلك لأجله - سبحانه - مطلع عليه).

وخرج إلى الحج فمر بأمرأة رآها تخرج غرابا ميتا من حيث ألقى به. فسألها فقالت إنها وزوجها لا يجدان ما يطعمانه. فقال لوكيله : كم معك من نفقة الحج؟ قال: ألف دينار قال: (عد منها عشرين تكفي للعودة إلى مرو (عاصمة خراسان) وأعطها الباقي. فهذا أفضل من حجنا هذا العام). ورجع ولم يحج.

وكان الرشيد بالرقة يوما وأقبل عليها ابن المبارك. فانجفل الناس خلفه ورأته أم ولد الرشيد فقالت: هذا واللّه الملك. لا ملك هارون الذي يجمع الناس بشرطه وأعوان.

ولما مات ابن المبارك جلس الرشيد فتقبل العزاء فيه.

١٣٠

ومن نص الإقرار ما يدل على أن مجلس «الصادق» للعلم، لم يكن ليسلم من مراقبة أعوان السلطان، وصاحب المجلس شجى معترض في حلقه. وهو قد ينبئ عن أن الفرصة متاحة للإمام ليلقى دروسه، مع الحيطة الواجبة، حتى لا يغص الخليفة بريقه مما ينقل إليه، وإن كان المؤكد أن مجرد وجود الإمام كان فيه الشجى المعترض.

كل العلوم

والمجلس مورد عذب كثير الزحام - لكل فيه ما يغنيه - فالإمام في مجلسه الرفيع يروي السنة عن آبائه. وما يقوله يجري عند الشيعة مجرى الأصول. فإذا أبدى الرأي في واقعة معينة جعله الشيعة مجعل السنة والتزموها باعتبارها نصا عنه.

أما أهل السنة فيأخذونه مأخذ اجتهاد الأئمة.

واللسان العربي علم العلوم. وإمام المسلمين إمام في البلاغة العربية، عبر عن أسلوبه أبو عمرو بن العلاء حين قال عن أساليب العربية (العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها).

وعند الصادق لكل مقام مقال. يسهب ويستطرد كما ستقرأ، بعد، أو يوجز ليحفظ عنه ويتذوق منه، بحروف لها جرس في الأذن ونغم في الفم. كأن يقول: (لا تصل فيما خف أو شف). وكلاهما كاشف.

ويجري على لسانه الشعر الرفيع مثل الذي يرويه عنه سفيان الثوري:

لا اليسر يطرؤنا يوما فيبطرنا

ولا لأزمة دهر نظهر الجزعا

إن سرنا الدهر لم نبهج لصحته

أو ساءنا الدهر لم نظهر له الهلعا

مثل النجوم على مضمار أولنا

إذا تغيب نجم، آخر طلعا

أو مثل قوله جوابا لسفيان إذ يسأل: يا ابن رسول اللّه لم اعتزلت الناس؟

قال « يا سفيان قد فسد الزمان وتغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد » وأنشد:

ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب

والناس بين مخاتل وموارب

يفشون بينهم المودة والصفا

وقلوبهم محشوة بعقارب

١٣١

ومثل قوله:

فلا تجزع وإن أعسرت يوما

فقد أيسرت في زمن طويل

ولا تيأس فإن اليأس كفر

لعل اللّه يغني عن قليل

ولا تظن بربك ظن سوء

فإن اللّه أولى بالجميل

ومثل قوله:

لا تجزعن من المداد فإنه

عطر الرجال وحلية الآداب

فإذا جاءه المناظرون من كل فج عميق، أو التلاميذ الفقهاء، يمثلون أقطار الإسلام، ويجادلون في الأصول أو الفروع، فهو البحر لا تنزفه الدلاء. يروي العقول ويشفي الصدور.

فالديصاني، رغيم فرقة ملحدة، وصاحب الإهليلجة طبيب هندي. وعبد الكريم بن أبي العوجاء(١) عربي ملحد. وعبد الملك مصري يتزندق. وعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة. وأبو حنيفة إمام الكوفة، ومالك إمام المدينة، وسفيان الثوري، وغيرهم. كل هؤلاء تملأ مجادلاته معهم الكتب، ولا يضيق صدرا بجدالهم. بل يضرب الأمثال، بمسلكه معهم واتساع صدره لهم، على الحرية الفكرية التي يتيحها الإمام للناس في مجلسه، ليفهموا العلم، أو ليؤمنوا عن فهم، دون إكراه أو إعنات، وعلى سعة الخلاف الفقهي لكل اتجاهات المسلمين. وعلى اليسر والرحمة في الشريعة. فكل هذه أسباب لنشر الإسلام وخلود فقهه.

___________________

(١) عبد الكريم بن أبي العوجاء هو خال معن بن زائدة الشيباني أحد قواد بني مروان، وكبير من كبار الولاة لأبي جعفر. وهو الذي أنقذ أبا جعفر من الموت يوم الراوندية وأبلى - وأهله بنو شيبان أعظم البلاء في الدفاع عن بني العباس. ولما قدم ابن أبي العوجاء للقتل للزندقة سنة ١٦١ قال (لن يقتلوني. لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت فيها الحرام وحرمت الحلال) لكن علماء الجرح والتعديل فطنوا إليها جميعا واستبعدوها .

١٣٢

يقول ابن المقفع - و هو متهم بالمجوسية أو بالزيغ على الأقل - إذ يؤمئ إلى « الصادق » في موضع الطواف (هذا الخلق ما منهم أحد أوجب له بالإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس).

ويذهب ابن أبي العوجاء ليناظره فتعتريه سكتة. فيسأله الإمام: ما يمنعك من الكلام؟ فيقول: (إجلالا لك. ومهابة منك. وما ينطق لساني بين يديك. فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم ما تداخلني من هيبتك).

رآه الإمام مرة بالحرم فقال له: ما جاء بك؟ قال: عادة الجسد وسنة البلد. ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة. قال الصادق: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم؟ فذهب يتكلم. فقال الإمام: لا جدال في الحج. ونفض رداءه من يده وقال: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول، وليس كما تقول، نجونا وهلكت. وأي صبر في حرية الفكر كمثل هذا الصبر من الإمام الصادق؟ وحيث تؤدى المناسك

وإنما ترك الإمام رجلا ملحدا سيقتل - بعد - في إلحاده سنة ١٦١.

وإذا لم يأخذ الملحدين بالشدة، فتحا لأبواب الهداية لهم، فهو صارم في صدد المغالين في علي، أو فيه. ليكفهم عن غلوائهم. ومنهم بيان بن سمعان التميمي. كان يعتقد ألوهية علي والحسن والحسين ثم محمد بن الحنفية، ثم ابنه أبي هاشم. بل زعموا أنه قال إنه - بيانا - المراد بقوله تعالى (هذا بيان للناس). وادعى المغيرة بن سعيد الانتماء إلى الباقر، وصار يؤله عليا ثم جعفر الصادق، ويكفر أبا بكر وعمر ومن لم يوال عليا.

وكذلك كان بشار الشعيري.

يقول جعفر الصادق لمرازم: « تقربوا إلى اللّه فإنكم فساق كفار مشركون » ويقول له « إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يا كافر يا فاسق أنا بريء منك ».

دخل عليه بشار يوما فصاح به « اخرج عني لعنك اللّه. واللّه لا يظلني وإياك سقف أبدا » فلما خرج قال :«ويحه. ما صغر اللّه أحد تصغير هذا الفاجر. واللّه إني عبد اللّه وابن أمته».

١٣٣

ويقول عن المغيرة بن سعيد (لعن اللّه المغيرة بن سعيد. لعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق. فو اللّه ما نحن إلا عبيد، خلقنا اللّه واصطفانا، ما نقدر على ضرر ولا نفع إلا بقدرته . ولعن اللّه من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا).

ويقول: (من قال إننا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه).

وينبه الأذهان على دسائس خصوم الشيعة بالاختلاق عليهم فيقول (إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من يكذب علينا عند الناس. يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا).

ويقول الخيثمة (أبلغ شيعتنا أننا لا نغني من اللّه شيئا. وأنه لا ينال ما عند اللّه إلا بالعمل. وأن أعظم الناس يوم القيامة حسرة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره .)

وهي مقولات لا تترك مجالا لدعاوي المغالين في جعفر الصادق وآبائه وبنيه من الأئمة. وتنفي عنه ما ادعوه من علم الغيب. فلا يعلم الغيب إلا اللّه. كما تجعل الأئمة مجعل البشر، وهي آراء أبيه وجده.

سأل سائل جده زين العابدين: متى يبعث علي؟ فأجاب (يبعث - واللّه - يوم القيامة. وتهمه نفسه) أي أنه يحاسب يوم الحساب كما يحاسب غيره.

وأما تعبير الأحلام فالصادق يرى أنها (لو كانت كلها تصدق كان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معنى لها. فكانت تصدق أحيانا لينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها، أو مضرة يحذر منها. وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد).

فرؤى الأنبياء حقائق من هدى النبوة. أما رؤى الآخرين فأصداء أفكار تتحرك في باطنهم. منها ما يصدقه الواقع ومنها ما يكذبه.

روى هشام بن الحكم: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه (الإمام الصادق) أشياء. فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه وقيل له إنه خارج بمكة. فخرج إلى مكة، ونحن مع أبي عبد اللّه، فصادفنا في الطواف. وكان اسمه عبد الملك. وكنيته أبو عبد اللّه. فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه . فقال له أبو عبد اللّه . فمن هذا الملك الذي أنت عبده. من ملوك الأرض أو من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إلاه السماء أم عبد إلاه الأرض. قل ما شئت تخصم . إذا فرغت من الطواف فائتنا.

١٣٤

فلما فرغ أتاه الزنديق فقعد بين يديه . قال أبو عبد اللّه: أيها الرجل: ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم. ولا حجة للجاهل . يا أخا مصر إن الذين يذهبون إليه ويظنون أنه الدهر، إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم ؟ - يا أخا مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طبقاتها؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها ؟ قال الزنديق أمسكهما اللّه ربهما وسيدهما . فآمن الزنديق .

فقال: اجعلني من تلامذتك . فقال: يا هشام بن الحكم. خذه إليك. فعلمه هشام. فسار يعلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان .

ويروى هشام (أن زعيم الديصانية وفد على مجلس الإمام فقال له: دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي. فإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها . فقال: يا ديصاني. هذا حصن مكنون له جلد غليظ. وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق. وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة . فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة. ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة. فهي على حالها. لم يخرج بها مصلح فيخبر عن صلاحها. ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها. ولا يدري أللذكر خلقت أم للأنثى. تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أو لا ترى لها مدبرا؟

فأطرق الديصاني ثم قال أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده ورسوله. وأنك إمام وحجة من اللّه على خلقه. وأنا تائب مما كنت فيه).

قصد إليه في مجلسه ذات يوم نفر من المعتزلة يطلبون إليه بيعة « محمد بن عبد اللّه » النفس الزكية. فطلب إليهم أن يختاروا واحدا منهم ليناظره. فاختاروا زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد. وظاهر أن تاريخ ذلك المجلس كان معاصرا لرفض الإمام الصادق أن يبايع يوم الأبواء قبل قيام الدولة العباسية سنة ١٣٣. فلقد كان عمرو بن عبيد من أنصارها. له صلة خاصة بالمنصور، واشتهر عنه أنه لم يبايع محمدا وقال إنه لم يختبر عدله، وربما كان ذلك المجلس في إثر مقتل الوليد ابن يزيد سنة ١٢٦، أو فترة الحروب الأخيرة لبني مروان، التي قامت على أثرها الدولة العباسية.

١٣٥

قال عمرو: قتل أهل الشام خليفتهم وضرب اللّه بعضهم بقلوب بعض وشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة وهو محمد بن عبد اللّه بن الحسن. فأردنا أن نجتمع معه فنابيعه . وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك. فإنه لا غناء لنا عنك لفضلك.

قال الصادق: إنا نسخط إذا عصى اللّه. فإذا أطيع اللّه رضينا. أخبرني يا عمرو: لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة فقيل لك ولها من شئت. من كنت تولي؟

قال عمرو: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.

قال الصادق: بين كلهم؟ قال نعم. قال قريش وغيرهم؟ قال عمرو: العرب والعجم.

قال الصادق: يا عمرو: أتتولى أبا بكر وعمر أم تتبرأ منهما؟ قال أتولاهما.قال الصادق: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز الخلاف عليهما. وإن كنت تتولاهما فقد خالفتهما. فقد عمد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا. ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا. ثم جعلها عمر شورى بين ستة فأخرج منها الأنصار. ثم أوصى الناس بشيء. وما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك.

قال عمرو: وما صنع؟

قال الصادق: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام. وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم الا ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء. وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت الثلاثة ولم يفرغوا ولم يبايعوا أن يضرب أعناق الستة. وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضى ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين. أفترضون بهذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟.

قال: لا.

قال الصادق: أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعو إليه ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف منهم رجلان. أفمضيتم إلى المشركين؟

قال: نعم.

قال الصادق: فتفعلون ماذا؟

قال عمرو: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.

قال الصادق: فإن كانوا مجوسا وعبدة النار والبهائم وليسوا أهل الكتاب؟ قال عمرو: سواء .

١٣٦

وبعد محاورة في شأن الجزية والصدقات أقبل على عمرو والناس وقال (اتق اللّه يا عمرو. وأنتم أيها الرهط فاتقوا اللّه. فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلم بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه أن رسول اللّه قال (ومن ضرب بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف).

مع القرآن

كان جده علي يقول (سلوني عن كتاب اللّه. فو اللّه ما من آية إلا أنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، في سهل نزلت أم في جبل) فلقد كان دائماً إلى جوار الرسول. وهو باب مدينة العلم. والإمام جعفر يصدر من المنبع ذاته.

يقول مثل جده علي «كان أصحاب محمد يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل. إن القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلا. وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وأسأل اللّه تعالى. وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ باللّه من النار».

للقرآن عنده المقام الأول. يسأل عمن يؤم القوم فيجيب (أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يتقدم القوم أقرؤهم للقرآن. فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا. وإن كانوا في السن سواء فأعلمهم بالسنة، وأفقههم في الدين. ولا يتقدمن أحد الرجل في منزله. وصاحب السلطان في سلطانه).

ونصوص القرآن حاضرة كما أراد أن يدلي بحجة. وهو في قمة البلاغة العربية تسعفة اللغة. لا يلجأ إلى التأويل بديلا من التفسير. فهو في فهم النصوص أنفذ بصيرة. لم يعلم له تفسير نوقض فيه. والتفسير بتخريج مجازات

١٣٧

القرآن لا يقدر عليه الا البلغاء(١) . ومن القرآن ينبثق فقه الإمام في كل باب:

- يسأله سائل عن قوله تعالى (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) فيجيب: من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد - واللّه - قتلها.

- ويجيئه زنديق يسأله عن تفسير قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وقوله تعالى في آخر السورة (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل) فيفحم الإمام الزنديق فيقول: «أما قوله فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإنما عنى النفقة. وأما قوله ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فإنما عنى المودة فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة).

- ويقول عن الرزق الذي يحض اللّه على الإنفاق منه (و مما رزقناهم ينفقون) فيفسرها «ومما علمناهم يبثون» فالعلم رزق. وإذاعته إنفاق واجب.

- ومن تعبيره عن حجية القرآن أبدا يسأله السائل: لم صار الشعر والخطب يمل ما أعيد منهما والقرآن لا يمل؟ فيجيب:) لأن القرآن حجة على أهل العصر الثاني كما هو حجة على أهل العصر الأول. فكل طائفة تراه عصرا جديدا. ولأن كل امرئ في نفسه، متى أعاده وفكر فيه، تلقى منه في كل مدة علوما غضة. وليس هذا كله في الشعر والخطب)(٢) .

___________________

(١) في القرآن مجاز كثير مثل عرض الأمانة على السموات والأرض، يفسرها بعض العلماء أنها الطاعة. ومثل يد اللّه فوق أيديهم يفسرها البعض بأنها القدرة - و هؤلاء المخرجون يبدأون من أن (اللّه ليس كمثله شيء) والآخذون بالتأويل يبدأون من ذلك المبدأ ثم يؤولون الآيات المتشابهة على أساس الآيات المحكمة. كقوله تعالى (إلى ربها ناظرة) يفسرونها على أساس قوله (لا تدركه الأبصار) فيكون المقصود الرضى عنها.

وللمؤولين تفاسير كثيرة ألقى كثير منها في غياهب الإهمال وبخاصة تفاسير المعتزلة، بقى منها الكشاف للزمخشري الفقيه الحنفي، وللبلاغة العربية فيه أعظم مكان .

(٢) يروي الشاطبي - في كتابه الاعتصام - ما يوضح حاجة العصور كافة لهدى القرآن: رووا للأوزاعي(١٥٧) قول أحد الصحابة بعد موت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزمان: (لو خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة) فقال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ . كان ذلك في منتصف القرن الثاني للهجرة وفيه تابعو التابعين - فكيف الأمر فيما تلاه من قرون وقرون.

١٣٨

- ويقول المفضل: قلت؛ أخبرني عن قول اللّه عز وجل (وجعلها باقية في عقبه) قال: (يعني بذلك الإمامة) جعلها في عقب الحسين إلى يوم القيامة) فقلت فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن وهما جميعا ولدا رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة؟ فقال: إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين أخوين فجعل اللّه النبوة في صلب هارون دون صلب موسى. ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل اللّه ذلك. فإن الإمامة خلافة اللّه عز وجل جعلها في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن اللّه هو الحكيم في أفعاله. لا يسأل عن فعله وهم يسألون.

- ويعلن الامام رأيه بوجوب الإمامة. فيسأله السائل عن منزلة الأئمة. ومن يشبهون؟ فيقول: كصاحب موسى وذي القرنين. كانا عالمين. ولم يكونا نبيين(١) .

- وفي قوله تعالى (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت) يقول الإمام « وهل يمحو اللّه إلا ما كان ثابتا. وهل يثبت اللّه إلا ما لم يكن » ويقول (لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه) وإنما يقصد استجابة اللّه لدعاء العباد. وفي ذلك قوله (ما عظم اللّه بشيء مثل البداء).

___________________

(١) يحدد الصادق الإمامة بتشبيه قرآني يفسر وجوبها، إذ يسأل عن حديث الرسول «من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية» هل هي ميتة كفر؟ فيجب «ميتة ضلال» - وكذلك يحدد جده زين العابدين معنى العصمة بحد قرآني إذ يسأل عن معني المعصوم فيقول (هو من اعتصم بحبل اللّه المتين أي القرآن. فلا يفترق الإمام عن القرآن إلى يوم القيامة فالإمام يهدي الناس إلى القرآن والقرآن يهدي الناس إلى الإمام بقوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ..)

ويلاحظ أن الذي فتق الكلام في الإمامة وفصل وأصل فيها هم تلاميذ الإمام. وربما بدأ الكلام فيها في عهده كما يقول المستشرق رونالدسن. أما التعريفات الوافية فتنسب إلى الإمام الرضا(٢٠٢) حفيد الإمام الصادق يقول الإمام الرضا (الامامة منزلة الأنبياء. ووراثة الأوصياء. الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول. والإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين) والماوردي من فقهاء أهل السنة يحدد غرضها فيقول (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).

١٣٩

- ويسأله عمرو بن عبيد عن الكبائر « من كتاب اللّه ». فيسردها، ويضع في جوار كل كبيرة النص عليها من الكتاب العزيز فهي:

الشرك: (إن اللّه لا يغفر أن يشرك به).

اليأس من روح اللّه: (لا ييأس من روح اللّه الا القوم الكافرون).

عقوق الوالدين: (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا)

قتل النفس: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها)

قذف المحصنات: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة)

أكل مال اليتيم: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً).

أكل الربا: (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).

الفرار من الزحف: (ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير).

السحر: (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق)

الزنا: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا).

اليمين الغموس: (إن الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).

الغلول: (ومن يغلل يأت مما غل يوم القيامة).

منع الزكاة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم).

كتمان الشهادة: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).

شهادة الزور: (والذين لا يشهدون الزور).

نقض العهد وقطيعة الرحم: « الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون).

١٤٠