الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86541
تحميل: 10838

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86541 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كفران النعمة: (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).

بخس الكيل: (ويل للمطففين).

وترك الصلاة: (....) واللواط: (....) وقول الزور: (....) وشرب الخمر: (....) والبدعة: (....)

- ومن علم الامام جعفر بالقرآن أخذ القراءات عليه حمزة بن حبيب التيمي. وفيها مد وإطالة وسكت على الساكن قبل الهمز.

- وفي صفات اللّه يقول الإمام لعبد الملك بن أعين (تعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون للّه بخلقه . إن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عز وجل فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه . هو اللّه الثابت الموجود).

ويقول لمن سأله هل رأى رسول اللّه ربه (نعم لقد رآه بقلبه - أما ربنا جل جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين ولا تحيط به أسماع السامعين).

وسأله الأعمش - شيخ المحدثين - عن مكان اللّه فقال: (لو كان في مكان لكان محدثا). ولما سئل عن استوائه على العرش قال: (إنه يعني أنه لا شيء أقرب إليه من شيء).

سئل عن قوله تعالى (وسع كرسيه السموات والأرض) فقال (العرش في وجه هو جملة الخلق والكرسي وعاؤه. وفي وجه آخر هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه ورسوله وحججه. والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسوله وحججه).

وسئل عن قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) وقول البعض إن العرش كان على الماء والرب فوقه؟ فأجاب (كذبوا من زعم هذا فقد صير اللّه محمولا، ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه).

وواضح من ذلك نهي الإمام عن التجسيد والتشبيه وتصحيحه أفهام تلاميذه. كيوم جاءه يونس بن ظبيان يقول إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما .

يزعم أن اللّه تعالى جسم قال الإمام (ويله أما علم أن الجسم محدود متناه. فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان. فإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا).

١٤١

- وواضح منحى الإمام في الاحتجاج بنظام الكون، ونظام الجسم الإنساني، وبالعقل وهو درس من جده علي يلفت إلى بديع صنع المبدع جل جلاله. وفي ذلك قول علي:

أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟

يجيء الإمام رجل من أهل مصر أوصى أخوه للكعبة بجارية مغنية فارهة كانت له فقيل له ادفعها إلى بني شيبة (وفيهم سدانة الكعبة). واختلف الناس في أداء الوصية. وأخيرا أشاروا عليه أن يأتي الإمام. قال الإمام (إن الكعبة لا تأكل ولا تشرب وما أهدى إليها فهو لزوارها. فبع الجارية وناد: هل من محتاج؟ فإذا أتوك فسل عنهم وأعطهم).

- ويسأل عن القضاء والقدر فيجيب (هو أمر بين أمرين: لا جبر ولا تفويض)(١) ويحسم القضية بين الجبرية والقدرية فيقول (ما من قبض ولا بسط إلا للّه فيه مشيئة ورضاء وابتلاء).

يسأل عن الجبر والتفويض: جعلت فداك. أجبر اللّه العباد على المعاصي؟ فيجيب: اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فيقول السائل: جعلت فداك ففوض إليهم؟ فيجيبه لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي. فيقول السائل جعلت فداك فبينهما منزلة؟ فيجيب (نعم. ما بين السماء والأرض).

___________________

(١) الجبر أن الإنسان مجبر على أعماله. والتفويض أن الإنسان مخير فيها. وهما نظريتان لمفكرين كانوا أحياء في بدايات حياة الامام - قال بالجبر الجعد بن درهم متأثرا بقول بيان ابن سمعان. وقال بالتفويض غيلان الدمشقي ومعبد الجهني - وقد قتل الأربعة. الأولان قتلهما خالد بن عبد اللّه القسري والي بني أمية. والأخيران قتل الأول منهما هشام بن عبد الملك. أما معبد فقتله الحجاج لخروجه عليه في فتنة ابن الأشعث. وتابع جهم بن صفوان الجعد. وقد قتله سالم بن أحوز المازني بمرو في أواخر أيام بني أمية.

وفي حياة الامام الصادق ازدهرت نظرية الإرجاء إلى اللّه، حتى يكون يوم الحساب، فيحاسب الناس على عملهم مع وجوب قيامهم بالعمل الصالح. قال بها سعيد بن جبير وحماد ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان - وهو من السابقين الأولين في التفسير - وهؤلاء مرجئة السنة. أما مرجئة البدعة فيرجئون الحساب ولا يوجبون العمل الصالح.

والأولون يقولون إن اللّه يعاقب مرتكب الكبيرة لكنه قد يغفرها ولا يكفره الناس في الحياة الدنيا لذلك الأمل.

١٤٢

وفي مجلس آخر يسأله السائل: وما أمر بين أمرين؟ فيجيب (مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته. فتركته. ففعل تلك المعصية. فليس، حيث لم يقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية).

ويقول لسائل آخر (قال رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من زعم أن اللّه يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على اللّه. ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه. ومن زعم أن المعاصي بغير قوة اللّه فقد كذب على اللّه. ومن كذب على اللّه أدخله النار).

ويقول (إن اللّه أراد منا شيئاً. وأراد بنا شيئاً. وما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا)

مع اهل الكوفة وابي حنيفة

ولقد يقول له قائل: إن لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر فيجيب: برئ اللّه من جارك. واللّه إني لأرجو أن ينفعني اللّه بقرابتي من أبي بكر.

أو يسأله السؤال ذاته سالم بن أبي حفصة فيجيب بما أجاب أبوه الباقر (يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما. فإنهما كانا إمامي هدى رضى اللّه عنهما).

يقول سالم قال لي جعفر (أيسب الرجل جده؟ أبوبكر جدي. لا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما).

ولقد كان لجده زين العابدين ابن أسماه عمر. وكان زين العابدين يترحم على أبي بكر وعمر وعثمان.

ويقول أبو حنيفة (استأذنت عليه فحجبني. وجاء قوم من أهل الكوفة استأذنوا لهم فدخلت معهم. فلما صرت عنده قلت:

يا ابن رسول اللّه لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ - فإني تركت فيها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم.

فقال: لا يقبلون مني.

١٤٣

فقلت: ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول اللّه؟

فقال الصادق: أنت أول من لا يقبل مني. دخلت بغير إذني. وجلست بغير أمري. وتكلمت بغير رأيي. وقد بلغني أنك تقول بالقياس.

فقلت: نعم أقول به.

فقال: ويحك يا نعمان أول من قاس إبليس حين أمر بالسجود لآدم فأبى وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين. أيهما أكبر يا نعمان القتل أم الزنا؟ قلت القتل.

قال: فلم جعل اللّه في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة؟ أيقاس لك هذا؟ قلت لا. قال: فأيهما أكبر البول أو المني. قلت البول.

قال: فلماذا أمر في البول بالوضوء وأمر في المني بالغسل. أيقاس لك هذا؟

قلت: لا. قال أيهما أكبر الصلاة أم الصوم؟

قلت: الصلاة. قال: فلم وجب على الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ قلت لا.

قال: فأيهما أضعف المرأة أم الرجل قلت المرأة.

قال: فلم جعل اللّه للرجل سهمين في الميراث وللمرأة سهما؟ أيقاس ذلك؟

قلت: لا.

قال: وقد بلغني أنك تقرأ أية من كتاب اللّه (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم): أنه الطعام الطيب والماء البارد في اليوم الصائف.

قلت: نعم.

قال: لو دعاك رجل وأطعمك وسقاك ماء باردا، ثم امتن عليك. ما كنت تنسبه إليه؟ قلت: البخل. قال: أفبخل علينا؟ قلت فما هو:

١٤٤

قال حبنا أهل البيت)(١) .

___________________

(١) يلاحظ أن مدرسة المحدثين ضائقة الصدر بالقياس. ومدرسة المدينة، وعلى رأسها مالك، تقدح في أهل العراق لكثرة إبداء الآراء باستعمال القياس.

ولئن كان لنا أن نلاحظ تأثر أبي حنيفة الكامل بمنهج الامام الصادق في الاعتبار بالآيات الدالة على الحقائق(أبو حنيفة - بطل الحرية والتسامح في الإسلام للمؤلف صفحة ١٧٨ طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية) أو تأثر مالك بمنهج الامام الصادق في عدم المجازفة بالرأي (مالك ابن أنس للمؤلف صفحة ٧٦ وما بعدها طبعة دار المعارف) إننا نقطع كذلك بأثره في النهي عن القياس. فلقد نفع النهي القياسين أنفسهم فضبطوا القياس وتحروا كل الدقة فيه ليتفادوا المجازفة ثم جاء الشافعي فأصله وقعده. وهو القائل «والاجتهاد والقياس».

يقول الفخر الرازي «العجيب أن أبا حنيفة كان تعويله على القياس وخصومه يذمونه بسبب كثرة القياسات. ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه صنف في إثبات القياس ورقة. ولا أنه ذكر في تقريره شبهة. فضلا عن حجة. ولا أنه أجاب عن دلائل خصومه في إنكار القياس بل أول من قال في هذه المسألة وأورد فيها الدلائل هو الشافعي». فأبو حنيفة استعمل القياس والشافعي استعمله وأصله وقعد القواعد للعاملين به.

ولقد أفاد الشيعة كثرة ما آل إليهم من السنة ونصوص الحديث فلم يلجأوا للقياس، كما كانت قواعدهم الأخرى كافية لبلوغ غرضهم. ومن أسباب الإقبال على القياس في العراق قلة ما سلموه من نصوص السنة. وانما اتسع فقه أحمد بن حنبل بكثرة السنن التي جمعها واعتمد أصحابه عليها - مع تعويله على أصل الصحابة فزاد مصادر الفقه أصلا بتمامه. والقياس الذي يلجأ اليه المجتهدون من أهل السنة. هو إلحاق أمر لم يرد في حكمه نص أو إجماع بأمر ورد في حكمه نص أو اجماع لاشتراكهما في المعنى الذي شرع هذا الحكم من أجله فثمة أركان أربعة: الأصل وهو النص والفرع وهو الأمر الذي لم يرد في حكمه نص.

والمعنى: الذي من أجله شرع الحكم. والمطلوب وهو الحكم.

وهم يضعون للقياس شروطا:

١ - أن يكون حكم الأصل ثابتا بنص في الكتاب أو السنة أو الاجماع.

٢ - أن يكون لحكم الأصل علة يدركها العقل. فمن الاحكام ما هو تنفيذي لا يجوز القياس فيه. كتحديد عدد الركعات. ومقدار الأنصباء في الأموال التي تجب فيها الزكاة. وتحديد عدد الطواف حول الكعبة. فهذه مقدرات لا يقاس عليها لأن العقل لا يدرك عليه مقاديرها.

وجميع الأحكام إلا قليلا منها، كالتي سبق، يمكن للعقل إدراك المعاني التي شرعت الأحكام لأجلها.

٣ - أن يتساوى الفرع والأصل في المعني الذى شرع حكم الأصل من أجله. وإلا كان القياس فيه مع الفارق. وأن يكون المعنى ظاهرا. لأنه معرف للحكم الخفي والخفي لا يعرف الخفي.

٤ - أن لا يكون في الفرع نص أو إجماع يدل على حكم يخالف القياس.

٥ - أن لا يكون حكم الأصل خصوصية من الخصوصيات كاختصاص الرسول بزواج من زدن على الأربع. واختصاص خزيمة بأن تعدل شهادته رجلين وأن لا تكون العلة قاصرة على الأصل لا يمكن تعدية حكمها إلى الفرع. وبالقياس أمكن أهل السنة البناء على النصوص واستعمال العلل في تحقيق مقاصد الشارع.

١٤٥

والمسلمون يرفعون أبا حنيفة إلى مكانته العليا بين كبار المجادلين من أهل الإسلام، ولا يجدونه ساكتا في يوم من الأيام، كهيئة ما كان في ذلك المقام.

فأما تفسير القرآن بما ينفي البخل عن المعطي جل شأنه فحجة الصادق فيه لا راد لها. واما حجاجه بعدم طاعة أهل الكوفة فظاهر لأبي حنيفة، إمام الكوفة في الفقه والأدب الديني والاجتماعي، الذي دخل وجلس وتكلم، دون أن يطيع، ثلاث مرات.

اما أسئلته عن القياس فقد وضعت القياس موضع التهمة. ولم يحر أبو حنيفة جوابا، وهو المقتدر. ولو سأل الصادق أبا حنيفة عن حكمة كل حكم لأجاب وأضاف: أن كل ذلك ليس يمنع القياس عنده. وربما كان أبو حنيفة يومذاك كهيئته يوم سكت عن الرد بأن الظبي لا تكون له رباعية، مخافة أن يظن به ظان أنه يريد ردا على الإمام، في حين أنه قد جاء إلى مجلسه ليتعلم. أو إجلالا منه لمقام الإمام وهو بين يديه. فذلك أدب الأئمة الذي جعل الشافعي وهو يصلي عند قبر أبي حنيفة لا يرفع يديه ويقول : (أدباً مع هذا الإمام أن أظهر خلافه بحضرته).

طعم أبو حنيفة يوما مع الإمام الصادق - فرفع الإمام يده حمدا للّه ثم قال: اللهم هذا منك ومن رسولك. قال أبو حنيفة: يا أبا عبد اللّه أجعلت مع الله شريكا؟ قال الإمام: إن اللّه يقول في كتابه (وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله) فقال أبو حنيفة « لكأني ما قرأتها قط في كتاب ولا سمعتها إلا في هذا الموقف.

ولقد دخل عليه سفيان الثوري وفيه قول القائل (ما رأيت الغنى أذل منه في مجلس الثوري ولا الفقير أعز منه في مجلس الثورى). والذين يجلون ورع الإمام أحمد بن حنبل يشبهونه فيه بسفيان الثوري. وسفيان الثوري يسمى (أمير المؤمنين في الحديث). وحسبه أن يكون من تلاميذه في الحديث ابن جريح إمام مكة والأوزاعي إمام الشام ومالك بن أنس إمام المدينة، وابن اسحق امام المحدثين في السيرة. وهو فوق كل ذلك إمام عامل. رمى كتاب المهدي له في دجلة - وفيه توليته للقضاء - وهرب من السلطان فولى شريكا بدله.

١٤٦

وكان سفيان كثير المغاضبة للخلفاء - ولهذا كثر ما كان الخليفة يطلب دمه، وكان يختفي عن عيونه.

يستأذن سفيان على الإمام. فلا يرفض الإذن بل يدخله ليعلن له أن ظهوره في المجلس العلمي، وهو مختف، أمر غير سائغ. صيانة للمجلس العلمي من أن يكون مجلس المطلوبين، وحماية للمطلوب ذاته. وحفظا لعلاقة الإمام بالخليفة. ومع ذلك لا يضن الإمام عليه بالحكمة.

يقول ابن أبي حازم: (كنت عند جعفر الصادق يوما وإذا بسفيان الثوري بالباب فقال: إيذن لي. فدخل. فقال له جعفر: إنك رجل يطلبك السلطان في بعض الأحيان. ونحضر عنده وأنا أتقي السلطان. فاخرج عني غير مطرود.

قال سفيان: «حدثني حديثا أسمعه وأقوم».

قال الإمام (حدثني أبي عن جدي عن أبيه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (من أنعم اللّه عليه نعمة فليحمد اللّه. ومن استبطأ الرزق فليستغفر اللّه، ومن حزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا باللّه)

طلب إليه سفيان يوما أن يعظه. فقال: يا سفيان لا مروءة لكذوب ولا أخ لملول. ولا راحة لحسود. ولا سؤدد لسيئ الخلق). فقال سفيان زدني. قال (يا سفيان ثق باللّه تكن مؤمنا. وارض بما قسم اللّه تكن غنيا. وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما. ولا تصحب الفاجر يعلمك فجوره. وشاور في أمرك الذين يخشون اللّه عز وجل). فاستزاده سفيان فقال (من أراد عزا بغير عشيرة، وغنى بغير مال، فلينتقل من ذل معصية اللّه إلى عز طاعته).

فإذا أوصى زرارة عندما ولي القضاء، ذكره حساب السماء، قال (إنه إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم) فالقضاء أمانة اللّه. وإذا كان القاضي يجري عليه قضاء اللّه فهو مسئول عما يجري به قضاؤه على غيره.

١٤٧

ويوصي الإمام ابنه موسى الكاظم فيقول:

(يا بني. من رضي بما قسمه اللّه له استغنى. ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا. ومن لم يرض بما قسمه اللّه له اتهم اللّه في قضائه. ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره.

يا بني: من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته. ومن سل سيف البغي قتل به. ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها. ومن داخل السفهاء حقر. ومن خالط العلماء وقر. ومن دخل مداخل السوء اتهم.

يا بني: إياك أن تزرى بالرجال فيزرى بك. وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.

يا بني قل الحق لك أو عليك.

يا بني: كن لكتاب اللّه تاليا وللإسلام فاشيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا. ولمن قطعك واصلا. ولمن سكت عنك مبتدئا. ولمن سألك معطيا. وإياك والنميمة. فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف).

١٤٨

وتصبح هذه الوصية تراثا للأئمة بعده. فيعلن الإمام الثامن (علي الرضا) أنه (ما ترك هذه الوصية إلى أن توفى) ولقد يفد على المجلس الكميت - شاعر أهل البيت - كما كان يدخل على زين العابدين(١) والإمام يعرف انبعاث الشاعر. ويخشى عليه من الخيال الصادق في تصوير ظلم يعانيه أهل البيت. وشعر الكميت من أسير الشعر في الأدب العربي - والبرد تنقل للخليفة الخبء من أي شيء - فيستأذن الكميت الإمام قائلا: جعلت فداك. ألا أنشدك؟ فينبهه الإمام قائلا: «إنها أيام عظام».

فيقول الكميت عن القصيدة: إنها فيكم. ويقول الإمام: هات فينشده قصيدته التي مطلعها:

ألا هل عم في رأيه متأمل

وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

___________________

(١) دخل الكميت على زين العابدين فأنشده قصيدته التي مطلعها:

من لقلب متيم مستهام

غير ما صبوة ولا أحلام

وقال الإمام: ثوابك نعجز عنه لكن اللّه لا يعجز عن مكأفاتك. اللهم اغفر للكميت. ثم قسط على نفسه وعلى أهله أربعمائة ألف درهم. أعطاه القسط الأول. قائلا: خذ يا أبا المستهل. قال الكميت لو وصلتني بدانق كان شرفا لي ولكن إن أحببت أن تحسن إلي فادفع لي بعض ثيابك، التي تلي جسمك أتبرك بها. فنزع ثيابه ودفعها إليه كلها ثم قال: اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه حين ضن الناس. وأظهر ما كتمه غيره من الحق فأحيه سعيدا. وأمته شهيدا. وأره الجزاء عاجلا وأجزل له المثوبة آجلا. فإنا قد عجزنا عن مكافأته - قال الكميت فيما بعد: فما زلت أعرف بركات دعائه.

ولئن كان عطاء الشعراء جوائز تشجيع لهم، إن تقسيط العطاء آية سخاء في التشجيع، وارتباط طويل بالمودة بين من قرض الشعر وبين من أجازه.

وتعجيل العطاء بالاستدانة درس تعلمه زين العابدين على جده -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كان يمكث شهرا ما يستوقد نارا، إن هو إلا التمر واللبن. ومع ذلك لا يرد أحدا يسأله، بل يعطيه إذا كان عنده وإلا وعده. وذات يوم جاءه رجل. فقال عليه الصلاة والسلام «ما عندي شيء. ابتع علي فإذا جاء شيء قضيناه». قال عمر: يا رسول اللّه ما كلفك اللّه ما لا تقدر عليه. فكره ما قال عمر. وقال رجل من الأنصار: يا رسول اللّه أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال «بهذا أمرت».

١٤٩

إلى أن قال:

كلام النبيين الهداة كلامنا

وأفعال أهل الجاهلية تفعل

رضينا بدنيا لا نريد فراقها

على أننا فيها نموت ونقتل

ونحن بها مستمسكون كأنها

لنا جنة مما نخاف ونعقل

فكثر البكاء وارتفعت الأصوات إلى أن قال:

كأن حسينا والبهاليل حوله

لأسيافهم ما يختلى المتبقل

فلم أر مخذولا أجل مصيبة

وأوجب منه نصرة حين يخذل

فرفع جعفر الصادق يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر. وما أسر وما أعلن. وأعطه حتى يرضى. ثم أعطاه ألف دينار وكسوة.

قال الكميت: واللّه ما أحببتكم للدنيا، ولو أردتها لأتيت من هي لديه، ولكني أحببتكم للآخرة. فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فإني أقبلها لبركتها. أما المال فلا أقبله

المذهب الجعفري

أخرج الحاكم في تاريخه بالإسناد إلى أبي بكر عن رسول اللّه قال (من كتب علي علما أو حديثا لم يزل يكتب له الأجر ما بقى ذلك العلم أو الحديث).

وأجمع أبو بكر أيام خلافته على تدوين الحديث فجمع خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا. قالت عائشة. فغمني تقلبه. فلما أصبح قال لي: «أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك» فجئت بها فأحرقها.

وعن الزهري عن عروة أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها. فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهرا ثم أصبح يوما فقال (إني كنت أريد أن أكتب السنن. وإني ذكرت قوما قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب اللّه. وإني واللّه لا أشوب كتاب اللّه بشيء أبدا).

١٥٠

لكن عليا دون. وخلف في شيعته طريقة (التدوين). فلقد كان على ثقة من طريقته. وهو الذي يقول فيه الرسول (علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) وعنه قال الرسول (يا معشر قريش. واللّه ليبعثن اللّه عليكم رجلا منكم امتحن اللّه قلبه للإيمان فيضربكم على الدين قال أبو بكر: أنا هو يا رسول اللّه؟ قال لا. قال عمر: أنا هو يا رسول اللّه؟ قال لا. ولكن ذلك الذي يخصف النعل).

وكان علي يخصف نعلا للنبي عند ذلك.

وبالتدوين الفقهي استقر المذهب في صدور الحفظة والنقلة، من علي إلى بنيه، فبنيهم، وبخاصة زين العابدين وزيد والباقر والصادق. ثم عملت مجالس الإمام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره. وأدرك الأئمة الذين تلمذوا له وتلاميذهم أمورا ترفع مجلس الصادق فوق المجالس، سواء مجالس أهل السنة أو «أهل البيت» منها:

١ - أن الذي يلقى هذا العلم إمام موصى إليه «باسمه» من أبيه. وبهذا ينماز من عمه زيد بن علي صاحب المذهب الزيدي ومن غيره من الشيعة.

٢ - أن هذا الإمام يقف بين العلماء جميعا في مكان خاص. فالسنة عند الشيعة بعد موته تثبت عن طريقة - إلا ما ندر - فعنه يروى آلاف، وعنهم جاءت الأحاديث المروية في كتبهم.

٣ - أن الآراء الفقهية في أصول الدين وأصول الفقه وفروع المعاملات والعبادات سيراها اللاحقون منسوبة إليه. وربما اقترن به أبوه الباقر، أو أشير إلى رأي جده، السجاد، لكن نبع العلم منه هو الأشهر والأكثر.

وإذا لم يعرف التاريخ إماما في السنن من درجته أو إماما في الفقه من مرتبته. فالتاريخ - كذلك - لا يعرف إماما اجتمعت له الإمامتان مثله،

٤ - أنه الإمام الذي يوثقه أئمة المسلمين جميعا. ويستوي في ذلك من أهل السنة أئمة الرأي فهم تلاميذه، وأئمة الحديث فهو في القمة منهم.

١٥١

وروايته للحديث يوثقها واضع الأساس العلمي لقبول الحديث «الشافعي»، وعلماء الجرح والتعديل كيحي بي معين وأبي حاتم والذهبي وابن حنبل والآخرين. وتتردد في كتب الصحاح أحاديثه. كما يبايعه إمام أهل البيت الذي سبق بفرقة عظيمة وفقه خالد، عمه زيد بن علي زين العابدين، صاحب «المذهب الزيدي». ويضعه موضع الإمامة فيقول (في كل زمان رجل من أهل البيت يحتج به اللّه على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من كان من شيعته ولا يهتدي من خالفه).

٥ - أن هذا الإمام هو أول وآخر واحد من صلب آبائه وأجداده من اللّه عليه بهذه الفرصة: أواخر الدولة المروانية المشغولة عنه بتثبيت دعائمها المهتزة، وأوائل عهد الدولة العباسية، التي تمد إليه بسبب، من السلام أو الخصام، وآصرة من النسب، تخدمانه أو تخدمانها - وهي ترفع شعار أهل البيت والدفاع عن الدين - وبهذا أتيحت له حرية الجلوس لكل الناس، والتدريس لكل العلوم، وأن تسيل الأباطح بأعناق المطي إليه من بقاع العالم، في حقبة ممتازة من التاريخ العالمي والإسلامي.

٦ - أنه الإمام الذي طمأن الخلفاء (الملوك) في الدولتين، وكانوا سفاحين غلاظ الأكباد. فهو كما يقول الشهرستاني وأبو نعيم في الملل والنحل وحلية الأولياء (ما تعرض للإمامة قط ولا نازع في الخلافة أحدا. ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط. ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط)

٧ - أنه الإمام الذي أتيح له على مدار ثلث قرن من الزمان بعد موت أبيه سنة ١١٤ أن يكون « الإمام ». فامتد به عصر سلام، ضروري لنشر العلم، باطمئنان طالبه، وواهبه، والدولة التي ينتشر في رعاياها.

هذه العناصر التي لم تجتمع لواحد من آبائه أو أبنائه جميعا، هي التي سوغت لمن تبع فقهه من الشيعة أن يطلقوا على مذهبه المذهب (الجعفري). وما هو في صميمه إلا «مذهب علي». وإنما تحول السماء بركاتها لبعض الأسماء في شكل حظوظ. وكان الإمام جعفر الصادق جديرا بنعمة السماء قدر ما صدق وكافح في خدمة الإسلام. وما كان علي بحاجة إلى ما يخلد اسمه. فالإسلام في أعظم أيامه يقترن باسم علي، قدر ما اقترن اسم علي بالنبي وبيت النبي.

١٥٢

والمذهب يحمل اسم جعفر بأنه صاحب مدرسة سقيت منه السنة الصحيحة، ومصادر الفقه العظيم، والمنهاج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نهجه تابعوه، وروى ذلك كله الآلاف. وروى عنهم أمثالهم.

وفي الجدود، بمعنى الحظوظ، جد وجد، لكنها ليست خبط عشواء: فاسم أمريكا قد خلد اسم أمريجو قسبوتشي، لأن أمريجو قسبوتشي كان كاشفا حقيقيا لبعض شواطئها سنة ١٤٩٩.

ولم يغمط حظ الكاشف الثاني حق كرستوفر كولمبس، الكاشف الأول لها في سنة ١٤٩٣. فاسم كولومبوس ما يزال يجري على كل لسان على أنه كاشف العالم الحديث.

والتاريخ - كله - يقدمه على قسبوتشي.

ولسنا في مقام مقارنات برجال، فعلي وجعفر فوق المقارنات، بما قدموا للعالم كله - وسيطه وحديثه - من عناصر الحضارة، التي نقلت العالم من جهالات العصور القديمة وظلمات العصور الوسطى، إلى الحضارة المعاصرة، على عجلات التقدم، يحركها العلم الصحيح، والاجتهاد الذي لا يتوقف.

وكسب الأمم من علم الأئمة. كاقتران أسماء أصحاب الكشوف بكشوفهم وأرباب الابتكارات بفتوحهم، ليس صدفة. ولا محض جزاء. وإنما هو توفيق من اللّه للإنسانية وللناس، لتكريم أمم، ورجال، فتحوا أرض اللّه لعباده. أو مكنوهم من أنعم السماء، أو سنن الأنبياء، ليشجع الشجعان، ويستمر ضوء الفكر الإنساني في إشراقه. حفزا للعزائم وظهورا للعلم.

ومنذ القرن الميلادي الماضي يطلق العلماء أسماء الرجال الذين يسروا للناس أسرار الطبيعة على مقاييس الطبيعة: الوات نسبة إلى Watt والفرد نسبة إلى Faraday والأمبير نسبة إلى Ampere والفولت نسبة إلى Volta والأهم نسبة إلى Ohm والميجاهرتز نسبة لهزتز Hertz ورونتجن نسبة إلى Rontigen. وهم إنجليزيان وفرنسي وإيطالي وثلاثة من الألمان.

١٥٣

وأين تجربة أو تجارب أو كشف أو كشوف من شريعة بتمامها، وإمام في الصدر من أئمتها، وطأ نصوصها، وأصل أصولها، وقعد القواعد لها، وأقام عليها دولا باقية بقاء الزمان، ومجتمعات خالده بخلود الإسلام، ينسب المذهب فيها إلى صاحبه، فيكون المذهب «الجعفري» أو المذهب «الإمامي» المنسوب إلى الإمام جعفر وإلى القول «بإمامة الأئمة الاثنى عشر».

القسم الثاني

الباب الرابع : المدرسة الكبرى

الباب الخامس : المنهج العلمي

الباب السادس : الى الرفيق الأعلى

الباب الرابع : المدرسة الكبرى

يا أهل بيت رسول اللّه حبكمو

فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكمو من عظيم القدر منزلة

من لم يصل عليكم لا صلاة له

 (الشافعي)

في هذا الباب محاولة لرسم خطوط تقريبية للبنيان العظيم لفكر الشيعة الجعفرية (الاثنا عشرية أو الإمامية) الذي كان الإمام الصادق في طليعة بناته، والذي يحمل اسمه، وإن شاركت في رفع صرحه مدرسة كاملة من السابقين عليه، والآخذين إخذه، من تلاميذه وتلاميذهم، بدأت بالنبي عليه الصلاة والسلام، مدينة العلم، وعلي بابها. وتتابع فيها الصحابة العظماء، والتابعون وتابعو التابعين. وفي الأجيال الثلاثة الإمام علي والحسن والحسين ثم زين العابدين فالباقر فالصادق.

ثم تلمذ للإمام الصادق فريق المخضرمين ممن تعلموا على أبيه أو أبيه وجده، ومن الشباب الذين تعاونت قرائحهم في تفتيق الكلام في العقيدة، وتشقيق المعاني في الفقه، ليصبحوا للذين جاءوا بعدهم، حتى اليوم، علامات على الطريق.

١٥٤

وفي مشيخة هذه المدرسة ورد الفصل الأول.

والفصل الثاني يتناول أموراً أساسية في فكر المدرسة، دون حصر لتفاصيله أو تطرق للاختلاف عليه بينهم وبين أهل السنة، أو بينهم وبين فرقهم، حتى لا نخرج من إطار الصورة التي نحاول رسمها، وتنقيتها مما تبرأ منه الشيعة، وتقع التبعات فيه على الغلاة المطرودين.

وقد خصصنا بالبيان في هذا الفصل مسألتين أصوليتين، لكل منهما أثر في الفقه، سواء أكان فقه معاملات أم فقه عبادات - فبدأنا «بالحديث» وشروط قبوله وثنينا «بالإمامة». وأضفنا كلمات عن مسائل خلافية بين المذهب الجعفري وبين غيره من المذاهب التي تتقاسم أهل السنة. تخيرناها من شتى مناحي التفكير الفقهي، لتتم أبعاد الصورة للقارئ، ويزداد جانبها الخلفي جلاء: أن الدين واحد عند أهل السنة والشيعة.

الفصل الأول : المدرسة الكبرى

ماذا لقينا من أبناء علي. إذا أحببناهم قتلنا وإذا عاديناهم دخلنا النار.

(الشعبي)

المدرسة الكبرى

أخذ الفروع والأصول عن الإمام جعفر جمع غفير من ثقات الشيعة، ورووا لمن ذلك بعدهم على سبيل التواتر القطعي ورواه هؤلاء، لمن خلفوهم قرنا بعد قرن فالصادق يروي علم من قبله، ويروي الأئمة من أبنائه علمه. كما يرويه تلامذته فهو الحلقة التي تتوسط السلسة، أو العروة الوثقى بين كتب آبائه وبين ما كتب بعده «الإمامية» .

المصحف الخاص أو كتاب الأصول

آلى أمير المؤمنين على نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول صلى الله عليه وآله، ألا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن فجمعه مرتبا على حسب النزول. وأشار إلى عامه وخاصه. ومطلقه ومقيده. ومحكمه ومتشابهه. وناسخه. ومنسوخه. وعزائمه ورخصه. وسننه وآدابه. ونبه على أسباب النزول فيه .

١٥٥

ومن جلال شأن هذا الكتاب قال فيه محمد بن سيرين (لو أصبت هذا الكتاب كان فيه العلم) فهو كما يظهر من محتوياته مصحف خاص وكتاب أصول من صنع علي .

والجامعة: كتاب طوله سبعون ذراعاً من إملاء النبي وخط علي. فيه ما يحتاجه الناس من حلال وحرام وغيره، حتى ليصل في التفصيل إلى أرش الخدش. (التعويض عنه). وقد وصفها بذلك الباقر والصادق. وشهدها عندهما الثقات من أصحابهما ومنهم أبو بصير. قال الصادق (أما والله عندنا مالا نحتاج إلى أحد. والناس يحتاجون إلينا. إن عندنا الكتاب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي بيده. صحيفة طولها سبعون ذراعاً. فيها كل حلال وحرام) .

وقال (إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما. فيها الحلال والحرام. إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدهم من الحق إلا بعداً. وإن دين الله لا يصاب بالقياس) .

قالوا: سميت الجامعة. والصحيفة. وكتاب علي. والصحيفة العتيقة.

كان أمير المؤمنين يخطب الناس فيقول (والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة - وكانت معلقة بسيفه- أخذتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله) .

ولقد دعا الخليفة أبو جعفر المنصور بكتاب علي هذا، فجاء به الإمام الصادق وقرأ فيه أن النساء ليس لهن من عقار الرجل، إذا توفي عنهن، شيء. وقال أبو جعفر: هذا والله خط علي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأبو جعفر من العلماء كما قال عنه مالك إمام المدينة، وكما أقر له الجاحظ كبير النقدة. فهو قد يقسم لأنه قرأ كتابه قبل ذلك لعلي، أو لأن لديه من العلم. ما يعرفه أنها بإملاء النبي .

وكتاب الديات: وهو يغطي ما يسمى في الفقه المعاصر «المسؤولية المدنية» عن الفعل الضار بالجسم. أورد محتوياته ابن سعد في كتابه المعروف بالجامع. وروى عنه أحمد بن حنبل في المسند الأعظم. وذكره البخاري ومسلم. ورويا عنه .

١٥٦

مصحف فاطمة

ومن التراث العلمي عند الشيعة ما يسمى مصحف فاطمة.

حدثوا عن الصادق إذ سئل عنه (أن فاطمة مكثت بعد رسول الله خمسة وسبعين يوما وكان قد دخلها حزن على أبيها. وكان جبريل يأتيها فيحسن عزاءها ويطيب نفسها. ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها. وكان علي يكتب ذلك. فهذا مصحف فاطمة) .

فليس هذا مصحفا بالمعنى الخاص بكتاب الله تعالى وإنما هو أحد المدونات .

التدوين

يروي «الصدوق» في الأمالي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (المؤمن من إذا مات ترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً بينه وبين النار) .

وفي حياة النبي أو حياة علي، اقتدت بعلي شيعته في التدوين. أو قل: هديت لتنفيذ أمر الرسول.

يقول ابن شهر اشوب:

(أول من صنف في الإسلام علي بن أبي طالب. ثم سلمان الفارسي ثم أبوذر). والاثنان شيعة علي.

والسيوطي يروي أن علياً والحسن بن علي ممن أباحوا كتابة العلم بين الصحابة وفعلوها .

وألف أبو رافع مولى الرسول، وصاحب بيت مال علي بالكوفة، كتاب السنن والأحكام والقضايا. يقول موسى بن عبد الله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهد فقال أبي: هات كتاب أبي رافع. فأخرجه فأملاه علينا.

أما علي بن رافع فكتب كتاباً في فنون الفقه على مذهب أهل البيت- أي آراء علي بن أبي طالب- وكانوا يعظمون شأن هذا الكتاب ويحملون شيعتهم عليه.

ومن الشيعة زيد الجهضمي. حارب مع علي وألف كتاباً يحوي خطبه. ومنهم ربيعة بن سميع له كتاب في زكاة النعم. ومنهم عبد الله بن الحر الفارسي. له لمعة في الحديث جمعها في عهد رسول الله.

١٥٧

ومنهم الأصبغ بن نباته صاحب علي. روى عنه عهده إلى الأشتر النخعي. ووصيته إلى أبنه محمد بن الحنفية.

ومنهم سليم بن قيس الهلالي صاحب أمير المؤمنين، له كتاب في الإمامة، وله مكانة عليا في المذهب من حيث الأصول.

وذات يوم كان الحكم بن عيينة عند الباقر يسأله فقال: يا بني قم فأحضر كتاب علي. فأحضر كتابا مدرجا عظيما ففتحه. وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، وقال: هذا خط علي وإملاء رسول الله. وأقبل على الحكم وقال (اذهب أنت وسلمة والمقداد حيث شئتم يمينا وشمالا. فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبريل).

ومن قبل الإمام الباقر وجدت عند الإمام زين العابدين الصحيفة المسماة الصحيفة الكاملة. وعن زين العابدين آلت إلى الشيعة رسائل عدة منها رسالة الحقوق. ورسالة إلى ابن شهاب الزهري(١) .

وكذلك ألف عمرو بن أبي المقدام جامعا في الفقه يرويه عن الإمام زين العابدين.

فلما صارت الإمامة للصادق حض على تدوين العلم أيا كان موضوعه، دينيا أو دنيويا، فقه عبادات أو معاملات أو علوماً تطبيقية. وكان يقول (القلب يتكل على الكتابة) .

وكان يملي على تلاميذه. ويجيئهم بالدواة والقرطاس. ويقول «اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا».

ويلتمس سفيان الثوري إليه أن يحدثه بحديث خطبة الرسول بمسجد الخيف. ويرجوه ليأمر له بقرطاس ودواة ليثبته، فيأمر له، ثم يمليه (بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله في مسجد الخيف. نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها. وبلغها من لم تبلغه. يا أيها الناس: ليبلغ الشاهد منكم الغائب. فرب حامل فقه ليس بفقيه. ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .

___________________

(١) وفي العصر ذاته كان سعيد بن المسيب أول فقهاء المدينة السبعة يخاف أن يكتب عنه العلم. جاءه رجل فسأله عن شيء فأملاه عليه. ثم سأله عن رأيه فأجابه. وكانوا من كثرة افتائه يسمونه سعيد بن المسيب الجرئ. فكتب الرجل. فقال جلساء سعيد: أتكتب يا أبا محمد؟ فقال سعيد للرجل ناولنيها. فناوله الصحيفة فخرقها.

١٥٨

وكتب عبد الله الحلبي كتابا عرضه على «الصادق» فصححه واستحسنه. وسنرى حفيدة الإمام العسكري يعرض عليه يونس بن عبد الرحمن كتاب (يوم وليلة) فيصححه ويأمر بالعمل به.

ولما غاب «المهدي» في النصف الثاني من القرن الثالث أحوجت «الغيبة» إلى الرجوع للمدونات التي تزخر بها خزائن الشيعة. إذ لم يكن لديهم إمام ظاهر يسألونه. وكثرت الكتابة عندهم في القرن الرابع.

كان أول المستفيدين بالتدوين الباكر أولئك الذين يلوذون بالأئمة من أهل البيت فيتعلمون شفاها أو تحريرا، أي من فم لفم أو بالكتابة.

فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث، هو التراث النبوي- في صميمه- بلغ الشيعة في يسر طوع لعلمهم الازدهار. في حين لم يجمع أهل السنة هذا التراث إلا بعد أن انكب عليه علماؤهم قرنا ونصف قرن حتى حصلوا ما دونوه في المدونات الأولى. ثم ظلوا قرونا أخرى، يجوبون الفيافي والقفار في كل الأمصار، فتطابقت السنة- في مجموعها- عند هؤلاء وأولاء، إلا أموراً لا تتصل بأصل الدين، وخلافات في الفروع ليست بدعا في الأمة.

وربما كان اختلاف مذاهب أهل السنة فيما بينهم وبين أنفسهم أكثر ظهوراً في بعض المسائل من خلافهم فيها مع فقهاء الشيعة.

وإذا لاحظنا أن من الرواة من قيل إنه روى عشرات الآلاف من الحديث عن الإمام، تجلت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الأمة .

وإذا لاحظنا توثيق الشافعي ومالك وأبي حنيفة ويحيى بن معين وأبي حاتم والذهبي للإمام الصادق- وهم واضعو شروط المحدثين وقواعد قبول الرواية وصحة السند- فمن الحق التقرير بأن حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السنة عن الإمام الصادق.

والشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث إلى الإمام. لا يطلبون إسناداً قبل الإمام جعفر. بل لا يطلبون إسنادا قبل الأئمة عموماً. لأن الإمام بين أن يكون يروي عن الإمام الذي أوصى له، وبين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه- إلى ذلك فإن ما يقوله سنة عندهم. فهو ممحص من كل وجه. فليست روايته للحديث مجرد شهادة به، بل هي إعلان لصحته.

١٥٩

وإذا كان ما رواه الصادق، رواية الباقر ورواية السجاد عن الحسين عن الحسن أو عن علي عن النبي، فهذا يصحح الحديث على كل منهج فالثلاثة الأخيرون من الصحابة المقدمين يروون عن صاحب الرسالة، إذ يروي الحسن والحسين عن علي عنه.

ولا مرية كان منهج علي ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين، منع المساوئ المنسوبة إلى بعض الروايات، وأقفل الباب دون افتراء الزنادقة.

والوضاعين. فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة. ولما أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلمون بهذه الفضيلة- بالإجماع - لعلي وبنيه.

والسنة شارحة للكتاب العزيز. وهو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة. فهي كمثله حقيقة بالكتابة إنما كان المحدثون من أهل السنة في القرون الأولى مضطرين لسماع لفظ الحديث من الأشياخ، أو عرضه عليهم، لأن السنن لم تكن مدونة. فكانت الرحلة إلى أقطار العالم لتلقي الحديث على العلماء وسيلتهم الأكيدة. ولم يغير ذلك النظر انتشار التدوين في نهاية القرن الثاني ومنتصف الثالث، وكثرة الحديث المدون في المسانيد والمجاميع والصحاح التي الفت بعد تلك الفترة، ومنها مسند أحمد بن حنبل(٢٤١) حوى ثلاثين الفا دون المكرر. اختارها من ثلاثة أرباع مليون جمعها من أفواه العلماء من أقصى الأرض وأدناها، وحدث بها تلاميذه لينقلوها إلى الأجيال التالية.

وكان في أواخر أيامه يستوثق لنفسه فيروي للناس الحديث ويطلب المسند يقرأ فيه.

ثم جاءت أجيال تأخذ الحديث من الصحف الموثوق بصحة صدورها من صاحبها دون أن يرتحل إليه. وهذا ما أطلقوا عليه الوجادة- (لفظ مولد من «وجد» غير مسموع من العرب) يقولون: وجدنا بخط فلان. وفي القرن الرابع اعتبر ابن يونس الصفدي(٣٤٧) إماما حافظا للحديث وإن لم يرحل.

قلنا في كتابنا (أحمد بن حنبل إمام أهل السنة)(١) (والبعض من المحدثين لم يكونوا يروون عن الإمام جعفر الصادق لأنه يحدث بما قرأه في الكتب سئل أبوبكر بن عياش وهو من أول أشياخ أحمد «لماذا لم تسمع من جعفر وقد أدركته؟ قال سألناه عما يحدث من الأحاديث أشيء

___________________

(١) الطبعة الأولى- طبعة المجلس الأعلى للشئون الاسلامية القاهرة- ص ٢٦١ .

١٦٠