الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86543
تحميل: 10838

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86543 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٦ - الميراث

للشيعة تفسير في المواريث في صالح البنات، لذواتهن، ولمن يتوسل للميراث بهن.

يقول تعالى (يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت. فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك. وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) - وهم يرون البنت ولدا في اللغة والعرف. ولذلك يعطون البنت دائماً. ولا يعطون الأخت أو الأخ إن كان هناك بنت أو ابن فكلاهما ولد. وهم يسقطون الوصية ما دام هناك ولد (ابن أو بنت).

وللشيعة قاعدة: أن كل فريضة لم يهبطها اللّه إلا إلى فريضة، تكون مقدمة عند « العول ». وكل فريضة، إذا زالت عن فرضها، لم يكن لها إلا ما بقي، تكون مؤخرة.

مثال ذلك للزوج النصف فإن هبط له الربع. فإن دخل عليه في التقسيم ما يزيد عن السهام رجع إلى الربع المفروض. ولا يزيله عن الفرض شيء. ومثله الزوجة والأم. اما البنات والأخوات فلهن النصف والثلثان. فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي. فإذا اجتمع ما قدم اللّه وما أخر بدئ بما قدم اللّه فأعطى حقه كاملا. فإن بقي شيء كان لما أخر. وهو تطبيق لحديث ثابت عندهم. أورده الشهيد الثاني - وأورده الحاكم في المستدرك وقال إنه صحيح على شرط مسلم - ويستشهد أهل السنة بآيات ويستشهد الشيعة بآيات وهم ينفردون بما يسمى (الحبوة) للولد الأكبر: ملابس أبيه وثيابه ومصحفه وخاتمة زيادة على حصته في الميراث - كما ينفردون بعدم توريث الزوجة من عقار الزوج ورقبة الأرض عينا وقيمة، لأخبار وردت عن الأئمة مروية عن النبي.

٧ - متعة الحج

ينشئ الحاج إحرامه من ميقاته (أماكن القصد إلى البيت الحرام) والمتمتع يأتي مكة ويطوف بالبيت. ثم يقصر ويحل من إحرامه ويقيم بعد ذلك حلالا. ثم يفيض إلى المشعر الحرام. ثم يأتي بأفعال الحج بإحرام جديد. وهذان التقصير والإحلال تيسير بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين. وهذا ما كرهه عمر وحرمه قائلا: هي سنة رسول اللّه لكني أخشى أن يعرسوا بهن - نسائهم - تحت الأراك ثم يرحون بهن حجابا. فخطب ونهى عن هذه المتعة مع متعة الزواج.

٢٢١

ومع ذلك فابن عمر يقول عن عمل أبيه: أرأيت إن نهي عنها أبي وصنعها رسول اللّه أأمر أبي أتبع أم أمر رسول اللّه؟ وابن عباس كعلي لا يحرمان ما حرمه عمر.

ولما قدم علي من اليمن وجد فاطمة الزهراء قد حلت ولبست صبيغاً، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا. فذهب إلى رسول اللّه فقال: صدقت صدقت.

والشيعة لهذا يرون متعة الحج.

٨ - التفسير بالتأويل

يروي الشيعة عن النبي أنه قال (ان للقرآن ظاهرا وباطنا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن) ويروون عن علي أنه قال (ما من آية قرآنية. إلا ولها ظاهر وباطن. وحد ومطلع) ويروي هذا البيان عن «سهل التستري»، من المفسرين الصوفيين. وأنه أضاف. فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد حلالها وحرامها. والمطلع إشراف القلب على المراد به فقها عن اللّه عز وجل . قيل له ما الباطن؟ قال: فهمه.

ويروون عن الإمام الصادق أنه قال (إن في كتاب اللّه أمورا أربعة. العبارات والإشارات، والحقائق واللطائف. فالعبارات للعوام. والإشارات للخواص. واللطائف للأولياء. والحقائق لأنبياء اللّه)

والمتتبع لتفسيرات الإمام الصادق وأجوبته على المسائل يجدها تنبع من بحر عميق في فهم القرآن واللسان العربي، أمكنه أن يكشف للناس بين الفينة والفينة ما فيه من شمول وما بينه وبين السنة من صلة الأصل بفرعه. وبذلك قدر الإمام أن يفسر القرآن بالقرآن - ففي بيته نزل - وأن يجد للحديث الواحد أصولا عدة، في آيات متفرقة، بمجرد أن يدلى إليه سائل بسؤال وهو منهج سيتتابع عليه عظماء الأئمة من أهل السنة. وفي طليعتهم أحمد بن حنبل.

ولا يسوغ لنا أن نعتبر تفسيرات الصادق من أضرب التفسير بالرأي أو بالمأثور أو بهما - وهي مصنفة بين عقلي ونقلي وصوفي ورمزي وقصصي . الخ - وفي البعض منها تأويل باطني.

٢٢٢

وابن عطية من كبار مفسري أهل السنة ينفي صحة نسبة تفسير باطني أو رمزي إلى الإمام الصادق، ويقول (..وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد - رضي اللّه عنه - ولا ينبغي أن يلتفت إليه).

إليك مثلا - بين نظائر تجل عن الحصر - لاستعمال اللسان العربي في التفسير: يقول زرارة للإمام الصادق: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ ويجيب الإمام: لمكان الباء في قوله تعالى (وامسحوا برءوسكم). يقصد أن الباء للبعضية.

ولقد تتابع على هذا التفسير الأئمة في اللغة والفقه. جاء في المصباح المنير في مادة (بعض) أن الباء (في قوله تعالى (وامسحوا برءوسكم) للتبعيض . ونص على مجيئها للبعض ابن قتيبة . وأبو علي الفارسي وابن جني . وذهب إلى مجيء الباء بمعنى البعض الشافعي وهو من أئمة اللسان. وقال بمقتضاه أحمد وأبو حنيفة)

ومن استعمال ظاهر اللسان العربي تفسير « الكوثر » بأنه الذرية الكثيرة في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر). فهي صيغة مبالغة من الكثرة (فوعل) يؤيد ذلك الآية التي تجيء فيما بعد (إن شائنك هو الأبتر) والأبتر من لا عقب له. وبهذا ساغ تفسير الشيعة بأن الكوثر هو الذرية. وقد رزق اللّه النبي الذرية الكثيرة من فاطمة. فهي الكوثر المقصود. والآخرون يقولون إن الكوثر نهر في الجنة. وغيرهم يؤولونه بأنه النبوة.

ولقد أسلفنا طائفة من تفسيرات الإمام، كالخوف من عدم العدل بين النساء، والإنفاق من رزق اللّه، ورؤية اللّه جل شأنه، وقتل النفس بإخراجها من الهدى إلى الضلال، والتفسيرات التي جعلت أبا حنيفة يقول عن آية (وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله) لكأني ما قرأتها قط في كتاب اللّه ولا سمعتها الا في هذا الموقف وهي جميعا صادرة عن فهم دقيق للسان العربي الذي نزل به القرآن.

والتفسير بالظاهر ممن يفهم البلاغة العربية، ومجازاتها المتعددة، والاستعارة، والإيجاز اللفظي، وهو بعض خصائص الإعجاز البياني في القرآن، لا ينفي استعمال العقل، بل فيه

٢٢٣

مجال واسع له. ولا ينفي القيمة العظيمة لتفسير الزمخشري المعتزلي، وهو حجة في اللغة، وحجة في الجمع بين الظاهر وبين وجوه « الرأي »، بالمعاني الدقيقة وأسرار البلاغة(١) .

وممن أثارهم الإعجاب به الإمام يحيى بن حمزة العلوي (٧٤٩) صاحب كتاب الطراز.

وما من تفسير ثبت عن إمام عن أهل البيت إلا تلقته العقول بالقبول، لأنه لا يغاير النص من القرآن والسنة. وإنما يشرحهما في نورانية باهرة(٢) ، في حين أن المعتزلة يؤولون ليخضعوا المعنى لأصولهم الخمسة(٣) . وهذا خلاف عظيم بين المؤولين وبين الإمام جعفر والشيعة الإمامية.

___________________

(١) يؤول المعتزلة الألفاظ ليفسروا معاني الآيات طبقا لأصولهم. وعلى ذلك أولوا الآيات التي قد تتم عن التشبيه والجهة والجسمية.

والتفسير بالرأي يقوم على قاعدة كصمام الإمان للذين ينهجونه. فبالكتاب آيات محكمات وأخر متشابهات والمحكمة آيات لا يتمارى في معناها أحد. فإذا وردت آية متشابهة فسرت على أساس الآية المحكمة. مثل قوله تعالى (إلى ربها ناظرة) تفسر على أساس قوله تعالى (لا تدركه الأبصار) فيكون معناها الرضى عنها وتوقع النعمة من اللّه. ومثل قوله (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) تفسر على أساس قوله (إن اللّه لا يأمر بالفحشاء). وأكثر المؤولين يلجئون للمجاز وفي القرآن كثير منه مثل قوله تعالى (يد اللّه فوق أيديهم) فمعناها القدرة - وهم ككل المفسرين - يبدأون من أن اللّه تعالى ليس كمثله شيء. أما التفسير بالمأثور فتتصدره مدرسة الإمام الطبري: يجمع الأقوال والآثار ويختار منها.

(٢) إليك مثلا تفسير « الإمام العسكري » للحروف المقطعة مثل (ا ل م . .) في فواتح السور يراها تنبيها على أن هذا الكتاب الذي أنزله اللّه هو هذه الحروف المقطعة. وأنه بلغتكم وهجائكم فأتوا بمثله ان كنتم صادقين. وما يزال هذا التفسير في طليعة تفسير الحروف المقطعة - في أوائل السور.

(٣) أصول المعتزلة الخمسة:

١ - التوحيد الذي ينفي عن الذات صفات الأجسام والمكان وأهل السنة يرون صفات اللّه خاصة به وأنه تعالى « كما وصف نصفه ». فليس في ذلك تشبيه للّه بخلقه.

٢ - العدل وفحواه أن اللّه لا يأمر إلا بالحسن ولا ينهى إلا عن القبيح وما يفعله الناس عمل من أعمالهم ولذلك يثابون ويعاقبون. وأهل السنة يقولون إن اللّه خالق العمل والعبد كاسب له.

٣ - الوعد والوعيد أو الثواب والعقاب ملازمان للفعل وأهل السنة يرون التوبة قد يقبلها اللّه من مرتكب الكبيرة.

٤ - المنزلة بين المنزلتين. فمرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر بل فاسق وإن كان عقابه أقل من الكافر.

٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع اشتدادهم في ذلك عندما كانت السلطة في أيديهم.

٢٢٤

اما الإسماعيلة - فلهم بعض التأويلات الباطنية التي تهمل المعنى الظاهر وتحمل الألفاظ ما لا تحتمله.

والاسماعيلية فرقة شيعية لم تظهر إلا بعد موت الإمام جعفر بقرن أو أكثر.

٩ - البداء: ومفهومه الشائع: الظهور بعد الخفاء

نسب إلى الشيعة القول بأن اللّه يبدو له فيغير ما قرره لظهور طارئ. وأطلقوا على ذلك لفظ البداء. والشيعة الإمامية لا تقول شيئا بهذا المعنى - بل تعتقد أن اللّه عالم بكل شيء . وعلمه أزلي بما كان وما يكون. يقول الإمام الصادق (ما بدا للّه في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له) وسأله منصور بن حازم . هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه بالأمس؟ قال: (لا . من قال هذا فقد أخزاه اللّه) قال منصور: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم اللّه؟ قال (بلى قبل أن يخلق الخلق) ويروى عنه قوله (إن اللّه لم يبد له عن جهل).

فجميع الكائنات الممكنة، قبل أن تخلق، قدرها اللّه تعالى وكتبها بمشيئته وإرادته في اللوح المحفوظ. واللّه تعالى يقول (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت) وكل ما يتعلق به القضاء، والتقدير، لابد له من تعلق الإرادة والمشيئة به. وما لا يكون قضاؤه وتقديره حتميا مما هو مورد المحو والإثبات تتعلق المشيئة بمحوه وإثباته. وقد يكون وجوده، وتكوينه بإرادة اللّه تعالى، منوطا أي مشروطا. بتحقق أمر آخر. فيكون قد جرى في علمه تعالى أن يوجد إذا حصل ما اقتضت المصلحة، التي يعلمها اللّه، أن تكون شرطا.

واللّه تعالى يقول (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) ويقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).

وروى أحمد في المسند أن النبي قال (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. ولا يرد القدر إلا الدعاء. ولا يزيد في العمر إلا البر).

وعن أبي سعيد أن النبي قال (ما من مسلم يدعو اللّه بدعوه ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب لدعوته أو يصرف عنه من السوء مثلها أو يدخر له من الأجر مثلها. قالوا: يا رسول اللّه إذن نكثر. قال: اللّه أكثر).

٢٢٥

ومن القضاء علم مخزون لا يطلع اللّه عليه أحدا. فلا بداء فيه. وقضاء أخبر به ملائكته ورسله. فهذا أيضا لا بداء فيه. وقضاء معبر عنه بلوح المحو والإثبات. وفي هذا القسم يرد قول الشيعة بالبداء (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت).

والشهرستاني ينفي عن الإمام جعفر ما ينسب إليه من أقوال في الغيبة والبداء بمعنى تغيير إرادة اللّه.

١٠ - الرجعة

القول « برجعة » « المهدي » المنتظر ليس مجمعا عليه في الفكر الشيعي. فمنهم من لا يعتبرها عقيدة. ومنهم من يأخذ بها، كما أخذ بعض أهل السنة، ببعض أنباء الغيب وحوادث المستقبل وأشراط الساعة. مثل نزول عيسى من السماء، وظهور الدجال الذي يظهر قبل الإمام بقليل فيقتله الإمام، وخروج السفياني - الذي يخرج من الوادي اليابس حتى ينزل بدمشق، فذلك اختراع لحساب بني أمية في الأندلس. وثمة سفياني قيل إن خالد بن يزيد اخترعه لحساب بني أمية ضد بني مروان. ومن قبلهم وجد (القحطاني) المنتظر - رجل في قحطان يسوق العرب بعصاه - بل ادعى عبد الرحمن بن الأشعث أنه القحطاني المنتظر.

بل إن سعيد بن المسيب علامة التابعين يعتبر عمر بن عبد العزيز المهدي المنتظر (للمدينة). وقد سمى العباسيون لهم مهديا (الخليفة المهدي بن المنصور).

وأبو جعفر المنصور يقول عن محمد النفس الزكية « هذا مهدينا أهل البيت ». ولقد سمى الكثيرون من يتولونهم بالمهدي.

فأتباع محمد بن الحنفية لقبوه بالمهدي. وابن صرد يلقب الحسين بالمهدي. وأشياع المختار الثقفي لقبوه بالمهدي.. بل إن كثرة الزيدية يقولون إن كل واحد من الأئمة مهدي. فزيد مهدي. وابنه يحيى مهدي. ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن « النفس الزكية » مهدي. وكل فاطمي شجاع عالم زاهد يدعو إلى الحق بالجهاد فهو لدى الزيدية إمام

٢٢٦

« مهدي ».(١)

ومن الناس من ينتظر عودة من يسمونهم كذلك.

وفي مسند أحمد بن حنبل: سمعت عليا يقول قال رسول اللّه (لو لم يبق من الدنيا الا يوم لبعث اللّه عز وجل رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورا).

ويقول بعض الشيعة إن عقيدة البعث أصل مجمع عليه، وإنه عندما يؤخذ القول بالرجعة على أنها بعث فلا وجه لنفي العدالة عمن يفهمها كذلك(٢) .

ولقد رددت كتب السنن الكلام في المهدي وظهوره. ومنها سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. ولم يرد ذكره في صحيحي البخاري ومسلم. وتكلم البعض في أسناد الأحاديث المروية في السنن. وفي الوقت ذاته نجد السيوطي في كتابه (العرف الوردي في أخبار المهدي) وابن حجر في كتابه (القول المختصر في أخبار المهدي المنتظر (وهما من فحول علماء أهل السنة)، وآخرين غيرهم، يكتبون عن المهدي، ويروون أحاديث في ظهوره.

___________________

(١) يقول الإمام محمد آل كاشف الغطاء من أئمة الشيعة (الإمامية) المعاصرين (وليس التدين بالرجعة في مذهب التشيع بلازم. ولا إنكارها بضار وإن كانت ضرورية عندهم ولكن لا يناط التشيع بها وجودا أو عدما).

ويقول (وحديث الطعن بالرجعة كان هجيري علماء السنة . فكان علماء الجرح والتعديل إذا ذكر بعض العظماء من رواة الشيعة ومحدثيهم ولم يجدوا مجالا للطعن فيه لوثاقته وورعه وأمانته نبذوه بأنه يقول بالرجعة فكأنهم يقولون يعبد صنما أو يجعل للّه شريكا. ونادرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة معروفة. وأنا لا أريد أن أثبت في مقامي هذا ولا غيره صحة القول بالرجعة وليس لها عندي من الإهتمام قدر قلامة ظفر ...).

(٢) يقول الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الشيعة): من يستغرب الرجعة يكون بمثابة من يستغرب البعث فيقول (من يحيي العظام وهي رميم )فيقال: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم )، وينهى بحثه في هذا الصدد بقوله: على كل حال. فالرجعة ليست من الاصول التي يجب الاعتقاد بها. وإنما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت الذين ندين بعصمتهم من الكذب. وهي من الأمور الغيبية التي أخبروا بها ولا يمتنع وقوعها .

٢٢٧

وفي تفسير الأحاديث إذا صحت تتغاير الأنظار(١) .

وابن الجوزي الحنبلي يسمى القائلين بالرجعة في كتابه «تلبيس إبليس» (الرجعية). ولقد أسلفنا تضعيف بعض محدثي أهل السنة للقائلين بالرجعة.

___________________

(١) في كتب أهل السنة أقاويل شتى: يتكلم الشعراني عن الولاية أنها «مواهب مخصوصة للأوتاد والأبدال والأئمة من أصحاب الدوائر والأعداد وأصحاب النوب والأفراد» ثم يقول «وقد اجتمعت هذه المراتب كلها في خاتم الولاية المحمدية وهو المهدي أخو عيسىعليهما‌السلام ، في الختمية، لقوله في حقه يقفو أثري ولا يخطئ. كما جمع له مرتبة الدعوة إلى اللّه تعالى بالسيف وإقامة الحجة وهذه هي مرتبة العصمة التي لا يتصف بها إلا نبي أو خليفة اللّه تعالى . ثم اعلم أن العلوم الحاصلة عن طريق الكسب والوهب من علوم التوحيد يجب سترها عن الناس لما فيها من الغرابة والتبري من المعقول والمنقول. وقد اقتفت الكمل من الأولياء هذه الآثار عن الصحابة والتابعين شفقة على ضعفة الناس الجاهلين بهذه الطريقة اتباعا لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله».

ومن الآخذين بسبيل التصوف قائلون بعلم الباطن وما فيه. وفي قواميسهم شطحات ومقولات كثيراً ما تتجه اتجاهات غريبة عن الإسلام كمقولات « وحدة الوجود، والفناء، والمحو والحلول » وما قول الحلاج من أقوالهم ببعيد (أنا الحق وما في جيبي إلا الحق)

ولقد ازدهرت في القرنين السادس والسابع الهجري أفكار فلسفية غريبة على تصوف أهل السنة. وهو متمثل في زهد الصحابة وحده.

ومن هذه الأفكار فكرة تطهير الروح بالارتياض والخلاص من مطالب الجسد. يصل بها الإشراقيون إلى القول بأن الرياضة الروحية وتهذيب النفس هما الوسيلة الوحيدة للمعرفة. أما الغلاة فيعذبون الجسد تعذيب البراهمة والبوذيين الهنود. وآخرون يأخذون من الهنود فكرة الوحدة الثابتة الجامعة لكل ما في الوجود. فالكل واحد.

والحلاج(٣٠٩) ومن ذهب مذاهبه يقولون بالحلول الإلهي في بعض المخلوقين.

ومن المسلمين من أصبحت (الوحدة) أنشودة على لسانه مثل محي الدين بن عربي. ومنهم من وصل الذات الإنسانية الفانية بذات اللّه الخالدة، وصلا سبيله المحبة التي تبلغ درجة السكر والغيبوبة عن الحس، مثل ابن الفارض (٦٣٨) وابن عطاء السكندري. وعند بعضهم كلام جيد يفهمه البعض فهما ضارا - وقد ترتب على هذه الأفكار نشوء أفكار أخرى، كالإيمان بالخوارق وكرامات الأولياء وأصبح الولي عند البعض مكشوفاً عنه الحجاب مادام يفنى في ذات اللّه ويخرج عن المألوف

٢٢٨

الباب الخامس : المنهج العلمي

إن العلم هو علم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ميراث محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(ابن تيمية)

في الباب الحالي فصول ثلاثة تحاول تصوير منهج الإمام الصادق « العلمي »، و « الحضاري » « السياسي والاقتصادي »، كما رسم خطوطه بالفعل وبالقول، وكما اقتفى آثاره وبنى عليه علماء الإسلام، الفقهاء منهم والرياضيون والتطبيقيون، مستمتعين بحرية الفكر والبحث التي وردت بها نصوص الكتاب العزيز وأمرت بها السنة. وكان الإمام الصادق من الأوائل في تعليمها للمسلمين، ممن انتسبوا إليه وممن أخذوا عنهم. يستوي في ذلك الشيعة وفقهاء أهل السنة.

على هؤلاء الفقهاء والعلماء تعلم أهل أوربة منهج النزاهة العلمية والواقعية الذي تبلور في طريقة «التجربة والاستخلاص». والذي أعلنه جابر بن حيان، أول من استحق في العالم لقب كيميائي كما يعبر عنه الأوربيون.

ومن المنهج الحضاري: المنهج السياسي والاقتصادي الذي يستهدف عمارة الدنيا بالعدل في الناس، والعمل للحياة، والتكافل بين أعضاء الجماعة، والسعي لاستثمار طاقات الناس وأموالهم - وهي قواعد بلغ بها الفقه الشيعي غايته، ابتداء من منهج أمير المؤمنين علي، معمولا به في حياته أو خلافته، أو منصوصا في عهده للأشتر النخعي، وكله سياسة واجتماع واقتصاد، إلى رسالة حفيده زين العابدين في الحقوق، وهي تجري في آثاره، إلى برنامج حفيده جعفر اصادق العلمي والحضاري، السياسي والاقتصادي، يدلى به للناس، ويطبقه بنفسه. ويضع به الأسس لدول أو مجتمعات، أو جماعات، أو جمعيات، تعمل بمنهاجه لتبلغ أوجها به.

وهذه خصيصة لا يجارى الصادق فيها عالم من العلماء في التاريخ.

وحسبنا في هذا المقام كلمات، كالإشارات، تضمنتها الفصول الثلاثة التي حواها هذا الباب.

٢٢٩

الفصل الأول : التجربة والاستخلاص

أما إذا خرجت من الإنكار إلى منزلة الشك، فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة.

(جعفر الصادق)

لو أتيح لي الأمر لحرقت كتب أرسطو كلها، لأن دراستها يمكن أن تؤدي إلى ضياع الوقت وإحداث الخطأ ونشر الجهالة.

روجير بيكون(١٢٩٤ ميلادية)

لم يكن روجير بيكون في الحقيقة إلا واحداً من رسل العلم الإسلامي والمنهج الإسلامي إلى أوربة المسيحية

روبر بريفو

التجربة والاستخلاص

أتيحت للإمام الصادق حقبة طويلة للتعليم يتلقاه أو يلقيه. فلم يحبس كمثل ما حبس الكثيرون من أهل بيته، أو يقتل كما قتل عظماؤهم.

ولم يصطدم مذهبه الفقهي بمذهب فقهي للسلطان. فبنو أمية وبنو العباس، حتى عهده، لم يكن لهم مذهب فقهي - أن لم تظهر المذاهب « رسمياً » إلا في أخريات القرن الثاني للهجرة، عندما صير أبو يوسف مذهب أبي حنيفة مذهب السلطان. واستعصمت المدينة بفقهها، ثم ظهر الشافعي في أواخر القرن الثاني.

ولم يصطدم الإمام بمذهب سياسي للخليفة - أن لم يظهر اعتناق الدولة للاعتزال إلا في عصر المأمون في فاتحة القرن الثالث.

وكان الجهميون والقدريون مستضعفين. ولم يكن لمناقشات أصحاب الملل والنحل شأن يستلفت النظر.

بهذا أتيح للإمام في مجلسه العلمي، واقتداره الذي يسلم به الجميع. أن يرسي في أمنة واطمئنان. قواعد «منهج علمي» ما يزال يعبر القرون باعتباره فتحا من الفتوح التي فتحها اللّه على البشر.

٢٣٠

وفحوى المنهج أن العلم « مشاهدة » و « نزاهة فكرية » في « استخلاص » النتائج لا يقبل اللّه سواها من عالم أو متعلم.

في هذا الفحوى قول الإمام « اطلبوا العلم. فانه السبب بينكم وبين اللّه ».

- والسبب إلى اللّه لا يقوى إلا بقلب خاشع. ومن ثم وجب إخلاص النية فيه، وصدق الهمة في تلقيه، وقبول حقائقه دون تلويثها بشوائب الهوى أو الغرض أو المقررات السابقة، أو العوامل الخارجية.

وبهذه الخصائص تصبح « النزاهة العلمية » سمتا للعبادة وشأوا للسيادة - يقول الإمام (الملوك حكام على الناس والعلم حاكم عليهم . حسبك من العلم أن تخشى اللّه. وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك).

ولتحقيق ذلك يأمر الإمام طالب العلم - من بدء أمره - بالتحلي بخصال. وينهاه عن نقيضها. يقول: (لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به ولا لتباهي به ولا لتماري به. ولا تدعه لثلاث: رغبة في الجهل وزهادة في العلم واستحياء من الناس) وما المراء أو الإصرار على عدم المعرفة أو تحقير العلم أو خوف النقد إلا خروق واسعة تتساقط منها كنوز العلماء، ومواهب المتعلمين، وواجب الفرد في أن يتعلم، في أمة فرض رسولها العلم على كل مسلم ومسلمة. فالعلم في الإسلام طريق للبقاء والتقدم.

ويقول لمحمد بن النعمان (مؤمن الطاق)، وهو المناضل الجدل، (يا ابن النعمان: إياك والمراء فإنه يحبط عملك. وإياك والجدل فإنه يوبقك. وإياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من اللّه. وإن من قبلكم كانوا يتعلمون. وأنتم تتعلمون الكلام . إنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء إن أبغضكم إلى المترئسون، المشاءون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم. وإنما أوليائي الذين سلموا لأمرنا واتبعوا آثارنا.

وليست البلاغة بحدة اللسان ولا بكثرة الهذيان. ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة). ويضيف.

(يا ابن النعمان. إن أردت أن يصفو لك ود أخيك فلا تمازحنه ولا تجارينه ولا تباهينه. لا تطلع صديقك من سرك إلا على ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك. فإن الصديق قد يكون عدوك يوما .)

٢٣١

- ومن أدوات المنهج طمأنينة المعلم والمتعلم، بالاستغناء عن الناس. فالإمام يحث تلاميذه على العمل للرزق، ويمدهم بالمال، ليتجروا، ويستغنوا عن الناس ليستمع إليهم الناس. وليقدروا على الاستمرار في التلقي وفي الإلقاء.

- ومن أدواته التعمق والتخصص. فالعلم لا يعطيك بعضه إلا أن تعطيه كلك، كما يقول أبو يوسف:

فأبان بن تغلب وزرارة بن أعين متخصصان للفقه. يفتيان الناس في مسجد الرسول.

وحمران بن أعين حجة في علوم القرآن.

ومؤمن الطاق للكلام = علم التوحيد.

وهشام بن الحكم للكلام في العقائد وفي الإمامة.

وأبان بن عثمان للكلام في الاستطاعة وما إليها.

- والمنهج شامل: يسأل الإمام عن قوله تعالى (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فيقول: « الحكمة هي المعرفة والتفقه في الدين ».

ولما جمع للحكمة المعرفة والتفقه في الدين كان يعلم الناس أن الفقه وحده ليس الحكمة وإنما هو درجة فيها. وهو القائل (تفقهوا في الدين فإن من لم يتفقه منكم فهو أعرابي).

ولما جعل مطلق المعرفة بعض الحكمة فتح الباب لكل أنواع العلوم. فليست المعرفة قاصرة على العلم الديني. فهذا ينفيه نصه على التفقه في الدين معها.

وإنما قصد الإمام العلم عموما. ومنه العلوم التطبيقية والفلسفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كان لها في مجالس الإمام الصادق مكان، هو أول مكان تلقاه في حلقة إمام للدين في مدارس الإسلام. كمكان جابر بن حيان. وهذه التفرقة بين ألوان المعرفة يوجبها المنهج العلمي على الدارسين.

وهذا الجمع لشتى العلوم إيذان بتطبيق المنهج الإسلامي في فنون العلم العالمي كما سنرى بعد.

- وللمنهج - بعد - شعار من حب رسول اللّه، وتقدير أصحابه (محمد رسول اللّه والذين معه). فلا يقبل العلم من رجل، أو يقبل العلم على رجل، قصر إيمانه عن صيانتهم.

يقول الإمام لجابر الجعفي

٢٣٢

(أبلغ أهل الكوفة أني بريء ممن يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما وأرضاهما).

فهذا العلم دين. والمجلس العلمي كمجالس العابدين. والشيخان، وإن خالفتهما نظريات الشيعة، محل إجلال المسلمين.

وكمثل الشيخين في حفظ الكرامة. عثمان بن عفان. وهم جميعاً - كعلي بن أبي طالب - أصحاب بل أصهار لصاحب الشريعة. وتعليم الشريعة أول أعمال الإمام. والإمام سيد عصره. لا تسقط من حضار مجلسه كلمة نابية.

بهذه النزاهة الفعلية والفكرية، وبالإخلاص للمعرفة، والتزام قيم الإسلام، استعمل الإمام الصادق «العقل» أصلا من الأصول، إلى جوار القرآن والسنة والإجماع.

والنص على العقل واستعماله مستمد من القرآن الذي طالما خاطب فطرة البشر « لتعتبر » بما تدركه الحواس من آيات اللّه، وتتدبرها، وتستصحبها، لترى آلاءه على عباده، وتشهد تقديره وتدبيره، فتقنعهم بوجوده ووحدانيته وقدرته، فتصبح الدليل ما بعده دليل(١) .

وكما استعمل « الصادق » العقل، استعمل الحرية، التي منحها القرآن للإنسان: لا يكره الناس على أن يكونوا مؤمنين، ولا يستعمل في جدالهم إلا التي هي أحسن. ولا في وعظهم إلا الموعظة الحسنة. حتى ثبوت الألوهية لا يرضاه اللّه بإكراه.

والعقل لا يعمل إلا حراً. وإذا أكره تعطل أو انحرف. والجدال بعنف تعسف. وللعقل كرامة. والكرامة هي الحرية.

والاعتبار بالآثار والأشياء المحيطة بالناس، بالمشاهدة والاستخلاص، ثم الحرية والأمانة في التفكير والتقدير، أي النزاهة الفكرية، هما صميم المنهج.

وهو لا يتجلى قدر ما يتجلى في الدلالة على اللّه جل ثناؤه.

إليك مثلا من زنديق تحداه بقوله: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه؟ - قال الصادق: (رأته القلوب بنور الإيمان. وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان. وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف. ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها. واقتصر العلماء على ما رأوه من عظمته دون رؤيته)

___________________

(١) (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن) للمؤلف مطبعة دار الاتحاد العربي صفحات ١١ إلى ٥٤.

٢٣٣

فلنلاحظ أنه يبدأ بآثار اللّه التي يراها الناس في نور الإيمان، ويثبتها العقل والبصر. ثم يثني بالرسل اللافتين أنظار الناس إلى آيات اللّه، وبالنصوص المحكمة التي جاءوا بها. وأخيراً يذكر ما يحصله العلم المحدود بما يراه العلماء من آثار ذلك.

لكن الزنديق يستمر : أليس هو قادراً أن يظهر لهم فيعرفوه فيعبد على يقين ؟ قال الصادق (ليس للمحال جواب). قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟ قال الصادق (إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما، لم يجز أن يشاهده خلقه أو يلامسوه . ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم .)

ومثلا مما يروي محمد بن سنان (حدثني المفضل بن عمر قال: كنت ذات يوم بين القبر والمنبر - قبر الرسول بالمدينة - وأنا أفكر فيما خص به اللّه تعالى سيدنا محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إذا جاء ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه . فخرجت من المجلس محزونا متفكراً فيما يلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها. فدخلت على مولاي.عليه‌السلام ، منكسرا فقال: مالك؟ فأخبرته. فقال: بكر علي غدا . فلما أصبحت غدوت فاستؤذن لي فجلست وقمت بين يديه فقال:

(إن الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود . فهم في ضلالهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وفرشت بأحسن الفرش . ووضع كل شيء من ذلك موضعه . فجعلوا يترددون فيها يمينا وشمالا . محجوبة أبصارهم عنها.. والإنسان كالمالك لهذا البيت . ففي هذا دلالة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة، وأن الخالق له واحد .).

وهو هنا يدلل بما تلمسه الحواس على لزوم وجود ما لا تلمسه. فهو يستعمل العقل والواقع معا.

٢٣٤

ويروي ابن بابويه القمي(٣٨١) (كان ابن أبي العوجاء وابن المقفع يلاحظان الجمع الذي كان يطوف بالكعبة فقال ابن المقفع لأصحابه:

لا واحد من هؤلاء يستحق اسم الإنسانية إلا هذا الشيخ الجالس - وأشار إلى جعفر بن محمد - فقام ابن أبي العوجاء إلى الشيخ، وتحدث معه ثم رجع إلى صاحبه وقال: ما هذا ببشر. إن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً، أو يتروح إذا شاء باطناً، فهو هذا . ظل يحصى لي قدرة اللّه التي في نفسي، والتي لم أستطع رفضها، حتى ظننت أن اللّه قد نزل بيني وبينه.

ونزول اللّه بين الإمام وبين ملحد، باعتراف الملحد، آية باقتدار المنهج على بلوغ غرضه، وقدرة مجادل جمع الآيات الربانية حججا بين يدي منكر أخذته حجة الأمر الواقع فأبلس.

فإذا تصدى الإمام لأصحاب الأغلوطات أزري بالسفسطات. وبدههم - كدأبه - « بالواقع ». فبهتتهم - كأن لم يشهدوها قبل - حقائق الأمر الواقع. طلب واحد من تلاميذه بيانا عن قول أبي شاكر الديصاني - رئيس الطائفة الديصانية - وهي طائفة ملحدة تنعم بحرية العقيدة في بلدان الإسلام - إن في القرآن ما يدل على أن الإله ليس واحدا. ففيه (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فأجاب الإمام بقوله: قل له ما اسمك في الكوفة فيقول فلان. فقل له ما اسمك في البصرة فيقول فلان. فقل له فكذلك: ربنا في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي كل مكان إله.

وفي كتاب الإهليلجة المروي عن طريق المفضل بن عمر يستعمل الجدل العلمي، في تنبيه الشكاك على أنهم في بداية الطريق نحو المعرفة يقول (. أخبرني هل رقيت إلى الجهات كلها وبلغت منتهاها؟ . فهل رقيت إلى السماء التي ترى أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلت في أقطارها . فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك . أما إذا خرجت من الإنكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة).

فلنلاحظ أنه يجادل الرجل بأن يرتفع من الإدراك المادي إلى حيث يفكر، وأنه يرفع المفكر إلى حيث يستيقن، فيطالب الشاك بمزيد من التجربة المحسوبة الملموسة. ليصل من الشك إلى المعرفة. وهي مراحل العلم الذي يصل إليه الناس بوسائل مأمونة ومجربة.

٢٣٥

وهذا المنهج « الواقعي » القائم على النزاهة الفكرية والحرية العقلية هو الآن منهج عالمي، يدين به الجميع للقرآن وأصول الفكر الإسلامي على ما سنرى بعد(١) ففي حين استخلص علماء العالم القديم من اليونان

« نظريات » عمموها ليخضعوا لها نتائج الاستنباط، وفرضت سيادة الفكر الارستطاليسي على العقل في أوربة منطق النظريات والعمومات، وقاومت الكنيسة في تاريخها القديم حرية التفكير، نرى القرآن ينبه « العقل » على الاعتبار بالمحسوس التي يتمثل في « الواقع » وأن يرفض الاستسلام للعمومات التي تحكم مقدما أي أمر واقع. ويرشد الإنسان إلى استعمال فكره « بحرية » من أي قيد.

بل نرى الإمام الصادق يعتبر « التقليد » مذلة عقلية « واستعباداً للنفس »، ويحاجج في ذلك حجاج القرآن، ويفسره تفسيره الرائع.

عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق في معنى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه) قال (أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة، ولو دعوهم ما أجابوهم. ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا. فعبدوهم من حيث لا يشعرون). وفي تعبير آخر يقول: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه قال (واللّه ما صاموا لهم ولا صلوا. لكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم). فالاتباع دون فهم، في الحلال والحرام، أو غيرهما، ترك لزمام النفس في قبضة الغير، وإهدار لحريتها وقدرتها، وتلك عبادة لغير اللّه. وليس بعد ذلك كفر.

___________________

(١) والارتباط بين فروع المعرفة أحد «الأساسيات» العلمية، وهي جميعا تستعمل الطريقة التجريبية وتلتزم حقائق الحياة الواقعة وقوانين الكون التي لا تتخلف ولا تدع مجالا للفراغ أو المجازفة أو الصدفة. وكل شيء بمقدار. وكل أمر موزون - في الإنسان والحيوان والنبات والجماد. وفيما بينها. وفي العلوم الطبيعية والرياضية وفي العلوم الاجتماعية والإنسانية. والعلميون يستعملون مقولات: الوحدة والتفاضل والتكامل. واطراد العلل والنتائج. والآخرون يستعملون مقولات الوحدة، والتناسب والتناسق، والتزاوج والانسجام، في الأشياء والأشكال والألوان والأحجام. ويستوى في ذلك الذين يلتزمون بالدين أو الذي يلتزمون بإنكاره.

ومن الموضوعية « سلطان الإرادة » الإنسانية في التعاقد، أي حريتها، مع تقيدها بالقانون الذي يجتمع عليه الناس. وهذا مظهر الحرية الشخصية والفكرية التي أتاحها اللّه لعباده وأمرهم أن يستعملوها لأنها وسيلة للحياة الكريمة وللتقدم. وهو معلم من معالم السبق التشريعي الإسلامي.

٢٣٦

وليس أبلغ من هذه العبارات في الدعوة للحرية الفكرية والحث على الاجتهاد واستعمال العقل.

يقول الشافعي عن مكانة علي في علوم الإسلام (كان علي كرم اللّه وجهه قد خص بعلم القرآن والفقه لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا له. وأمره أن يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمضيها).

ولقد آلى على نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول صلى اللّه عليه وعلى آله ألا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن - كما أسلفنا - فجمعه مهتما بأمور « أصولية » في الشريعة وفقهها تتعلق بالمحكم والمتشابه، أي بما لا يحتمل الاجتهاد وما يحتمله، وبالنصوص التي نسخت والتي هي واجبة التطبيق، وبالمطلق منها والذي يحتمل التخصيص، والعزائم والرخص، وبالفروض والمندوبات، وفيها المحرم والمكروه، وما هو تهذيب للأمة من فضائل وآداب(١) . وفي نهج البلاغة » طائفة من أصول الفقه التي ينبه عليها أمير المؤمنين رضي اللّه عنه وهذه وتلك أساسيات في أصول الفقه.

___________________

(١) بهذا كان علي إمام المفسرين.

قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال لا. فتلوت عليه الآية التي في «الفرقان». قال: هذه مكية نسختها آية مدنية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا).

ورووا أن ابن عباس ناظر عليا في الآية. فقال علي: من أين لك أنها محكمة؟ قال (تكاثف الوعيد). قال علي: إن اللّه نسخها بآيتين آية قبلها وآية بعدها في النظم. الأولى قوله تعالى (إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومن يشرك باللّه فقد افترى إثما عظيما )وأما التي بعدها في النظم فهي قوله تعالى (إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالا بعيدا )و المفسرون يضيفون إلى الآيات قوله تعالى (والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق )إلى قوله تعالى (ويخلد فيه مهانا )ثم استثنى بقوله (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ).

لكم صدق ابن عباس حينما سئل عن علمه وعلم ابن عمه (علي) فقال: كالقطرة إلى جوار البحر المحيط.

٢٣٧

والأصول أدلة في طريق أو نهج. ولا إمامة إلا بمنهج.

والفقه السني يعتبر الشافعي أول من اتجه إلى تجلية أصول الفقه في كتابه (الرسالة) وقد وضعه، والناس يتحلقون حوله، في جوار الكعبة بعد سنة ١٨٤.

وليس غريباً أن نجد النبوغ الشافعي يتلاقى وأموراً أساسية أهمت من بادئ الأمر علي بن أبي طالب. أو نجد أفكاراً « علوية » أو آراء « شيعية » تظهر بقوة في مذهب الشافعي وآرائه. والشافعي من أبناء عمومة النبي وعلي، يباهي بحب أهل البيت ويتحدى به. وهو إمام في اللسان العربي. له لغة خاصة تعلنها قواميس اللغة. طوعت له إمامته فيها أن يفهم القرآن فهم الذين نزل فيهم.

واتصال اللغة والبلاغة بالفقه في الإسلام أساسي، لأن الفقه فهم للقرآن. والقرآن عربي. فالشافعي في استنباطه للأصول من القرآن كان موجها بفهم عربي عميق للكتاب الكريم، الذي صنعت على أسسه العقلية الإسلامية.

يقول أحمد بن حنبل - وهو الإمام الرابع لأهل السنة في الفقه، فوق أنه إمام في اللغة - (الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة. واختلاف الناس. والمعاني. والفقه). وهذه هي الأمور الأساسية في كل فقه.

وسواء أنبثقت الأصول من اهتمامات علي، في جوار قبر النبي بالمدينة غداة صعود روح النبي إلى الرفيق الأعلى، أو ممن نحوا ذلك النحو من الشيعة، أم انبثقت من « رسالة الشافعي » في جوار البيت الحرام بمكة. وسواء أطلع الشافعي على كتب لأهل البيت أو على آرائهم، أم لم يطلع، فالأصول قرآنية المبدأ والمنتهى. مشتقة من نصوص القرآن والسنة ومنهاجهما وأسلوبهما. ومن ذلك شرفها في الفكر الديني والعلمي.

وحرية التفكير توجب « الاجتهاد » على أساس العلم كما يقرر الشافعي في « رسالته »، مع النزاهة الفكرية الكاملة، غير مقيدة إلا بما تثق بوجوده، وتحقيق المناط وتنقيحه، والتدقيق في الفرع وفي الأصل، والسند، فيما ليس قطعي الورود في السنة أو قطعي الدلالة فيها أو في الكتاب العزيز، ومع اتخاذ الأهبة والدربة، وهذه كلها أمور يوجبها القرآن والسنة.

٢٣٨

والحضارة العالمية مدينة بهذا المنهج للإسلام بما طور من فكر الأمم التي دانت به، في أربعة عشر قرنا، ومن أساليبها، ووسائلها العلمية، حتى صبغ فكرها، في شكله وموضوعه، صبغة اللّه. ومن أحسن من اللّه صبغة وكما ارتفع العرب درجات بالإسلام انتفع به كل الأمم ممن أسلموا، وممن لم يسلموا. ومن ثمة كان الإسلام خيرا كله للعالم كله. فتلك خصائص رسالته: العالمية. والأبدية. والسمو. والطريق إليه مفتوحة حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

وما تقدم الإنسانية إلا حاصل دفع اللّه الناس بعضهم ببعض، وأخذ بعضهم بيد البعض - ومن أجل ذلك اختص الفقه الإسلامي بخصيصة القدرة على إحداث التطور ومواكبته، مع اليسر وحفظ الدين، « بالاجتهاد » الذي أمر به اللّه على أصول القرآن والسنة(١) .

أعلن « علي » تمسكه « بالاجتهاد ». إذا تولى إمارة المؤمنين بعد عمر ابن الخطاب. ومن أجل ذلك وحده، لم يبايع له عبد الرحمن بن عوف. وأعلن عثمان التزامه بأن « يتبع » عمل السابقين فجعل عبد الرحمن يبايع له.

«فالاجتهاد» شعار من شعارات «علي» من بادئ الأمر. وشعارات الشيعة من بعده. ومن ذلك لم يصخ عظماؤهم إلى ذلك الصوت البغيض الذين أعلن إقفال باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، لتنفتح أبواب التقليد، وتخبو شعلة الفكر. بل شهد الشيعة في القرن الرابع ذاته نهضة شاملة تترائ في أعمال عظمائهم. فاستعمال العقل أصل. والأصل لا يتعطل.

وما الاجتهاد إلا الحرية الفكرية في استخلاص النتائج، والنزاهة العلمية أو الاعتبار« بالواقع والصحيح ». وهاتان العجلتان اللتان تحملان موكب الفكر الإنساني المنجب. هما شعار مجالس الإمام الصادق كما سلف البيان. بل هما أساس ما استخلصه تلميذه جابر بن حيان. من تجاربه العلمية. وعنه انتقل إلى أوربة المنهج التجريبي: أو منهج « التجربة والاستخلاص » كما يسمى في العصور الحديثة.

___________________

(١) كتاب نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات من الفقه الإسلامي: للمؤلف (طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة ١٩٧٤ الفقرات ٣ إلى ٧٣ والفقرات ٩٣ إلى ١٢٧).

٢٣٩

و من نزاهة المنهج في الفقه ، كان الإقرار بضعف الإنسان فليس الاجتهاد مقابلا للحقيقة ، و إنما هو أحسن أداة يمكن أن يصل بها المرء إليها يقول أبو حنيفة (علمنا هذا رأي فمن جاءنا بأحسن منه كان أولى بالصواب منا).

ولما قال الشافعي (الاجتهاد القياس) وإنهما اسمان لمعنى واحد، واستطرد فقعد له القواعد، ليجري علماء أهل السنة في مضماره. صلى الأصوليون من أهل السنة بعده في حلبة الفكر العالمي. منذ القرن الثاني للهجرة، والتاسع للميلاد، فوضعوا القواعد التي لم يبدأ في تعرفها الأوربيون إلا بعد ثمانية قرون تحت عناوين اطراد العلة. وأنها إذا توفرت ثبت الحكم. أو قانون اطراد الحوادث، لوجود « نظام » في الكون، أو تناسق، تخضع له الأشياء، طردا وعكسا، باطراد أسبابها وملابساتها فيها. وهذا ما قرره الأصوليون المسلمون عند تماثل العلل لاستنباط الأحكام.

غير أن الأصوليين المسلمين فاقوا في تمحيصهم « جون ستيوارت مل » في أبحاثه ، إذ تعمقوا في مسالك العلة، و دققوا في الاستقراء و الاستنباط ، مع الورع الكامل و النزاهة الفكرية المثلى فكان عندهم لكل ركن من أركان «القياس» أبحاثه، وضمانات صحته، باتساع الاختبار وامتحان الاستخلاص. وإيجاب أن تجمع الأصل «المقيس عليه» «والفرع» «المقيس» «علة»، لتنتج ثمرة القياس وهي «الحكم».

وأولى الأصوليون العلة وتخريجها اهتماماً مقطوع النظير. فشرطوا لها مسالك نقلية من نص أو إجماع، أو عقلية من تحقيق المناط بوجود العلة، وتنقيح المناط بحذف ما لا يدخل في الاعتبار، وبطرائق السبر والتقسيم والطرد، لحصر الأوصاف التي تصلح للعلية. واستبعاد ما لا يصلح منها، ومقارنة الأوصاف للحكم، ودوران العلة مع المعلول وجودا وعدما الخ . مع تكامل اختبار الوقائع وسلامة النتائج ثم قبولها.

كل أولئك دون دخل لمقررات أو نظريات سابقة. ومع التقرير بأن ما يصل إليه المجتهد ليس الحقيقة وإنما هو الراجح بغلبة الظن. فإن اجتهاداً آخر قد يغيره. والاجتهاد مفتوح. وقانونه الحرية. فإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.

٢٤٠