الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86747
تحميل: 10868

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86747 / تحميل: 10868
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

= قال: مولى. قال فمن فقيه اليمن؟

قال: طاوس بن كيسان قال مولى أم عربي؟ قال: مولى.

قال: فمن فقيه أهل اليمامة؟

قال: يحيى بن أبي كثير قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى

قال: فمن فقيه أهل الشام؟

قال: مكحول قال مولى أم عربي؟ قال مولى.

قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟

قال: ميمون بن مهران قال مولى أم عربي؟ قال: مولى.

قال: فمن فقيه أهل الجزيرة.

قال: الضحاك بن مزاحم قال مولى أم عربي؟ قال مولى.

قال: فمن فقيه أهل البصرة ؟

قال: الحسن وابن سيرين. قال: موليان أم عربيان؟ قال موليان.

قال: قال فمن فقيه أهل الكوفة؟

قال: إبراهيم النخعي قال: مولى أم عربي ؟

قال: عربي.

قال: كادت نفسي تزهق ولا تقول واحد عربي.

ومن هذا التعصب للعرق وتمييز العرب ثار من عدا العرب في خراسان (ما وراء العراق حتى وسط آسيا) وأجاء أهل خراسان بني العباس إلى الخلافة بشعارين يكمل كل منهما الآخر:

إعادة حكم الدين وتولية أهل البيت مساواة الموالي والعرب. وانطبعت الدولة العباسية في أغلب أمرها. بطابع غير عربي.

يقول الجاحظ عن المائة الأولى من عمرها (دولتهم أعجمية خراسانية. ودولة بني أمية عربية أعرابية).

وكان مؤسسو الدولة العباسية يشيرون إلى خراسان على أنها (باب الدولة).

وفي خواتيم المائة الاولى حاول الرشيد أن يستعيد مقاليد الأمور من الفرس فكانت مصارع البرامكة. فلم يلبث الفرس إلا سنين حتى قتلت جيوشهم الأمين - العربي الأب والأم - وجاءوا بالمأمون إلى عرش الخلافة وأمه خراسانية.

وشهدت المائة الثانية من عمر الدولة دولا قادمة من خراسان تستقل بممالكها أو تحكم الدولة العباسية كلها: بني سامان(٢٦١ - ٣٨٩) يحكمون في الشرق من خراسان من عهد المستعين(٢٤٨) والدولة الصفارية في عهد المعتز(٢٥٢) ثم بني بويه(٣٢٤ - ٤٢٣) يحكمون فارس والري وأصفهان والجبل. ولم تنشأ دولة عربية إلا في الموصل وديار بكر وربيعة وهي دولة بني حمدان(٣١٧ - ٣٥٨).

٢٦١

ولقد وهم الذين نسبوا أسباب التشيع في خراسان إلى ما زعموه من تشابه تتابع الخلافة النبوية والدينية في بيت الرسول، وتوارث الملك عند الفرس في الدولة الكسروية، وحكم كسرى « بالحق الآلهي ».

فلقد ترك الفرس دين كسرى بتمامه إلى الإسلام وقواعده.

إنما كانت تفرقة الولاة والحكام بين العجم وبين العرب سببا لتصبح المساواة صيحة التجمع منهم على أمير المؤمنين علي وبنيه. وكان أهل البيت مضطهدين، تهوى إليهم الأفئدة. وكانوا شجعانا يستشهدون. فاجتمع على إيجاب الانضمام إليهم الدين والعقل والمصلحة. وهي دوافع كافية للجهاد ضد بني أمية.

أما زعم الزاعمين أن إصهار الحسين إلى الفرس في أم زين العابدين كان سببا لتشيعهم، فينقضه أن ابني عمر وأبي بكر أصهرا إليهم في أختين لها، ومع ذلك لم يتعصب الفرس لأبويهما.

لامراء كان طلب المساواة هو الباعث على التشيع لعلي، من قوم سلبت حقوقهم في المساواة. وهم في قمة المجتمع العلمي والديني يحملون مسئوليات الدين الجديد مع العرب(١) .

والدول العظيمة، والحروب الدامية، وتغيير التاريخ، لا يحدثها الغضب من أجل النسب. وإنما تحدثها المبادئ الخالدة والبطولات الرائعة وابتغاء مستقبل أفضل. وتفسير التاريخ على أساس النسب تفسير أوربي يدفع المستشرقين إليه سوابق «الزواج السياسي» بين ملوكهم و «حروب الوراثة» بين دولهم.

___________________

(١) ومن المستشرقين من يلقي القول على عواهنه: «فلهوزن» مثلا يخلط بين أشياع علي وأتباع ابن سبأ الذي يبرأ الشيعة منه. فيقول إن بعض العقيدة الشيعية نبع من اليهودية، أكثر مما نبع من الفارسية. «ودوزي» يرى إن الأصل في التشيع فارسي. لأن الفرس يدينون بالملك والوراثة فيه والحق الإلهي. «وفان فلوتن» يرى أن التشيع كان مباءة للعقائد الآسيوية.

ومن المؤرخين من تابعوا المستشرقين.

٢٦٢

العدل - ونزاهة الحكم

في حياة علي ومبادئه، وخطبه وأقضيته، عن هذين، مالا نظير له في أي عصر ، والمقام يضيق عن الاستقصاء فحسبنا أن نقف قليلا عند فقرات من عهده لمالك بن الحارث (الأشتر النخعي) فهذا عهد مقطوع القرين في شكله وموضوعه، في التراث العالمي والإسلامي، وبخاصة في السياسة الإسلامية، والحكم الصالح، سواء في صياغته أو محتوياته.

وهذا العهد يضع اسم علي في ذروة المؤسسين للدول (واضعي الدساتير) حيث يتكلم عما يسمى في الدساتير العصرية بالمقومات الأساسية، وواجبات الولاة نحو الأمة، وطريقة قيامهم بحقوق الجماعة، بالتفصيل اللازم. والتنبيه على ملء الفراغ، فيما سكت عنه، بالرجوع إلى أصل الشريعة: القرآن والسنة.

ولقد تتابعت على هذا العهد شروح الأئمة من بعد، فرأينا لزين العابدين في رسالة الحقوق تفصيلات جديدة يقتضيها الزمان، وشهدنا الإمام جعفر الصادق يضيف التطبيق، والتفصيل الدقيق، لما تضمنته رسالة زين العابدين وعهد علي - فيجعل من تنفيذهما وشروحه لهما، عهدا جديدا للمسلمين وللشيعة، تبلغ به مجتمعاتهم أو دولهم مبالغها كلما التزموهما أو قاربوا الالتزام بهما.

يبدأ «عهد علي» بتحديد مهمة الوالي (حين ولاه مصر، جباية خراجها وجهاد عدوها وإصلاح أهلها وعمارة بلادها) فهو قد جمع له ولاية الخراج وولاية الحكم وقال:

(واعلم أن الرعية طبقات. لا يصلح بعضها إلا ببعض. ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود اللّه. ومنها كتاب العامة. ومنها قضاة العدل(١) . ومنها عمال الإنصاف والرفق. ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس. ومنها التجار وأهل الصناعات. ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. وكلا قد سمى اللّه سهمه.

فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية. وزين الولاة. وعز الدين. وسبيل الأمن. وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللّه تعالى لهم من الخراج . ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.

___________________

(١) يراجع شرح القسم القضائي من هذا العهد في كتابنا (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن ص(١٤٥ - ١٦٠).

٢٦٣

ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات . ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم. وفي اللّه لكل سعة. وعلى الوالي حق بقدر ما يصلحه .).

أما ولاية الإدارة عامة، والعمال والكتاب خاصة. فيقول عنها:

(فول من جنودك أنصحهم في نفسك للّه ورسوله ولإمامك. وأطهرهم جببا وأفضلهم حلما . ثم الصق بذوي المروءات . ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما . ولا تحقرن لطفا تتعاهدهم به وإن قل . وليكن آثر جندك عندك من واساهم في معونته . وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد بظهور مودة الرعية . .).

وأما عن العدالة، وقوامها القضاء، فيبدأ المشترع العظيم - في التعبير الأوربي - الكلام فيها عن القانون الواجب التطبيق فيقول:

(واردد إلى اللّه ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور. فقد قال اللّه تعالى لقوم أحب إرشادهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول) - فالرد إلى اللّه الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة).

ويقرن القانون الإلهي بالقاضي كما يتطلبه الإسلام فيعقب على ما سبق بقوله عن صميم القضاء (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور. ولا تمحكه الخصوم. ولا يتمادى في الزلة. ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه. ولا تشرف نفسه على طمع. ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه: أوقفهم في الشبهات. وآخذهم بالحجج. وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم. وأصبرهم على تكشيف الأمور. وأصرمهم عند اتضاح الحكم . ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل.

ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح علته وتقل حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك. ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك).

٢٦٤

ولئن كانت رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري قد جمعت جمل الأحكام في كلمات مختصرة، لا يجد محق عنها معدلا، إن عهد علي للأشتر كان في زمان مختلف، فجاء جامعا، بل مضيفاً - في الموضوع الذي وردت فيه رسالة عمر - أمورا شتى يحتاجها زمان علي وكل زمان بعده.

وورود القانون، والدعوى، واختيار القاضي، وسلوكه، وطريقة القضاء، واستقلال القضاء، في فقرتين بين فقرات ذلك العهد، مظهر من مظاهر شموله واتساع نطاقه، وأسباب خلوده.

أما الادارة العامة - عمال الوالي - ففيهم يقول أمير المؤمنين:

(انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا ولا تولهم محاباة وأثرة . وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام. فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا . ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم. وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك... ثم تفقد أعمالهم ..).

وأما الكتاب ففيهم قوله (ثم انظر في حال كتابك. فول على أمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك، بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ . ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستقامتك وحسن الظن منك . ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم في العامة أثرا . .)

ثم يقول عن الضعفة:

(وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه . واجعل لذوي الحاجات منك مجلسا عاما . فلا تكونن منفرا ولا مضيعا. فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال (صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما).

٢٦٥

الشورى والعناية بالعامة

في بداية العهد إلى الأشتر أمران: الأول خاص بالأشتر. والثاني خاص بالعامة والخاصة.

والأمران عصريان في كل عصر. ومطلوبان في كل مكان. ومن كل الحكام:

أما الأول: ففيه قوله له (إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك. ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري بهم على ألسنة عباده . فاملك هواك. وشح بنفسك عما لا يحل لك . وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق. يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل. ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه ...)(١) .

وقوله (وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك . فإن اللّه يذل كل جبار ويهين كل مختال. أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم . .)

ويقول عن الشورى (ولا تدخلن في مشورتك من يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. ولا جباناً يضعفك عن الأمور ولا حريصاً يزين لك الشر، بالجور، فإن البخل والجبن غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه . والصق بأهل الورع والصدق . ثم رضهم على أن لا يطروك . ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة .).

وأما الثاني: ففيه قوله: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق. وأعمها في العدل. وأجمعها لرضى الرعية. فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصة. وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأخف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة.

___________________

(١) ولما عهد لمحمد بن أبي بكر كان مما جاء في عهده له قوله (اعلم يا محمد بن أبي بكر أنى قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي، أهل مصر، وأنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم وسركم علانيتكم. ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم).

٢٦٦

وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة. فليكن صغوك لهم وميلك معهم).

بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين إن رسول اللّه يقول (اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء) وأنت في طليعة أهل الجنة. تحب أكثر أهلها عددا في الحياة الدنيا. ومن أجل ذلك تكرم العامة، وهم كثرة الأمة. وتؤثر منها الفقراء.

ولقد كنت دائماً قدوة. وأردت الخاصة على أن تكون قدوة. وحذرتها من مطامعها ومزالقها. ولو حذرت، للزمت الجادة، وصلح أمر هذه الأمة.

إن من يضع دستوراً في العصر الحديث خليق بأن يرتوي من عهدك، ويروي الأمة من ينابيعك، في تطبيق الشريعة، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وأمانة الولادة، ونزاهة الإدارة، واحترام العامة، وإلزام الخاصة أن تكون قدوة في الأمة.

يقول ابن المقفع في شأن الخاصة بعد مائة عام، في كتابه لأبي جعفر (وقد علمنا علما لا يخالطه الشك أن عامة قط لم تصلح من قبل نفسها. ولم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها . وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم اللّه به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك).

ويتصدى الإمام زين العابدين في « رسالة الحقوق » بالشرح الشامل، والتفصيل الطويل، لسلوك الجماعات والأفراد وما يجب لها شرحاً وتفصيلا تقتضيهما حالة الناس وظروف الزمان في النصف الثاني من القرن، عصر كربلاء والحرة وضرب الكعبة والدولة الهرقلية وتغير الناس.

٢٦٧

واستقصاء السجاد فيها للأحكام مظهر لتحمله مسئولية تعليم المسلمين أمور دينهم وشئون دنياهم: فهي تبدأ بحقوق اللّه عز وجل. وأكبرها ما أوجبه اللّه تعالى من حقه. فجعل للجوارح حقوقاً ولأفعالها حقوقاً (ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك وأوجبها عليك حق أئمتك ثم حقوق رعيتك ثم حقوق رحمك. فهذه حقوق يتشعب منها حقوق. فحقوق أئمتك ثلاثة . وحقوق رعيتك ثلاثة . وحقوق رحمك كثيرة متصلة . فأوجبها عليك حق أمك ثم حق أبيك . ثم حق مولاك المنعم عليك ثم . .)(١) وتطرقت رسالة الحقوق للعلاقات الحكومية والقضائية والاجتماعية التي تنظم الجماعة الإسلامية. فنظمت آدابها والتزاماتها الخلقية والقانونية بالتفصيل.

وربما أجزأ في تقريب منهاجها إلى الألباب مثل ننقله منها عن معاملة السلاطين حيث يقول: (وأما حق سائسك بالسلطان فأنت تعلم أنك جعلت له فتنة. وأنه مبتلى فيك بما جعله اللّه له عليك من السلطان. فعليك أن تخلص له في النصيحة. ولا تماحكه وقد بسطت يده عليك. فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه . . وتلطف لعطائه ما يكفه عنك دون أن يضر بدينه. وتستعين عليه في ذلك باللّه فلا تعانده . فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك وعرضتها للمكروه).

___________________

(١) فأما حق اللّه الأكبر عليك فأن تعبده ولا تشك به شيئاً. فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة . وأما حق نفسك عليك . وأما حق اللسان وأما حق السمع . وأما حق بصرك . وأما حق رجليك . وأما حق يدك . وأما حق بطنك . وأما حق فرجك .

ثم حقوق الأفعال: وحق الصلاة . وحق الحج . وأما حق الصوم . وأما حق الصدقة . وأما حق الهدى - ثم حق الأئمة . فأما حق سائسك بالسلطان . وأما حق سائسك بالعلم . وأما حق سائسك بالملك.

ثم حقوق الرعية . فأما حقوق رعيتك بالسطان . والعلم . بملك النكاح . بملك اليمين.

وأما حق الرحم . وأما حق أمتك . وأما حق ولدك . وأما حق أخيك . وأما حق المنعم عليك . وأما حق مولاك الجارية نعمته عليك . وأما حق ذي المعروف عليك . وأما حق المؤذن . وأما حق إمامك في صلواتك . وأما حق الجليس . وأما حق الجار . وأما حق الصاحب وأما حق الشريك وأما حق المال . وأما حق الغريم المطالب لك . وأما حق الخليط . وأما حق الخصم المدعي عليك . وأما حق الخصم المدعى عليه . وأما حق المستشير . وأما حق المشير عليك . وأما حق المستنصح . وأما حق الناصح وأما حق الكبير . وأما حق الصغير . وأما حق السائل . وأما حق المسئول . وأما حق من سرك اللّه به وعلى يديه . وأما حق من ساءك القضاء عليه . وأما حق أهل ملتك عامة وأما حق . وأما حق .

٢٦٨

الحكام

تابع الإمام الصادق عمل آبائه في التنبيه على قواعد الحكم الصالح ومنها حقوق العامة - وهي جسم الجماعة - بنصوص دستورية يوجزها. لتحفظ عنه وتنقل منه . وإليك أمثالا:

يقول: «أفضل الملوك من أعطى ثلاث خصال: الرحمة والجود والبذل».

ويقول: «ليس للملوك أن يفرطوا في ثلاثة: حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لأعمالهم».

وما هي إلا أركان الدولة الثلاثة: الجيش والقضاء والإدارة. أو مبادئ الحكم الثلاثة: المنعة في الخارج بالجيش. والعزة في الداخل بالعدل. والحكم الصالح بالإدارة الحسنة. والرسول يقول: (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) وهو مقال موجه للعامة والخاصة في أمة خصيصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأول المسئولين عنهما الولاة والعلماء والقادرون.

والصادق يقول لكل هؤلاء «خير الناس أكثرهم خدمة للناس»، يقول للحكام (كفارة عمل السلطان قضاء حاجات الإخوان) ويقول «المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل» (العثرات). وهي مقولة تنطق بها سجلات الطغيان، حيثما كان، وفي جميع الحقب. فالزلة الواحدة تزعزع قوام الطاغية أو المتعصب أو المتحكم. فهو كالواقف على قدم واحدة.

وتعاليم الصادق في العدل والرفق بالرعية مقولات دستورية في الأمة.

يقول «ما أوسع العدل وإن قل » ويقول « أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم».

ويقول لوالي المنصور على الأهواز إذ استنصحه:

(. فاعلم أن خلاصك ونجاتك في حقن الدماء وكف الأذى عن أولياء اللّه والرفق بالرعية. والثاني حسن المعاشرة مع لين في غير ضعف. وشدة في غير عنف . وإياك والسعاة وأهل النمائم . ولا تستصغرن من حلو وفضل طعام في بطون خالية . إياك يا عبد اللّه أن تخيف مؤمناً).

٢٦٩

تلك دروس جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو القائل (سبعة يظلهم اللّه يوم القيامة. إمام عادل .) فبدأ بالعدل.

بل يقول عليه الصلاة والسلام (عدل السلطان يوماً يعدل عبادة سبعين سنة .).

والدنيا قد تدوم، والدولة قد تقوم، مع العدل والكفر. لكنها لا تبقى مع الظلم، وإن كان الظلم واقعاً على غير مسلم. واللّه تعالى يقول في محكم كتابه (كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى)(١) .

يقول الإمام الصادق: «من نكد العيش السلطان الجائر والجار السوء والمرأة البذيئة». فالسلطان الجائر أذى دائم، ومنكر مستمر، تضيق الدنيا به، وإن رحبت، كما يضيق المكان - على رحبه - بالجار السوء، وتضيق الحياة - وإن طالت أو اتسعت - مع المرأة الطويلة اللسان.

والإمام يبدأ بالسلطان الجائر لأن أذاه يفسد الدنيا وإن صلحت، والأسرة وإن هنؤت. وإذا عم العدل احتمل الناس همومهم حيث هم.

ومن فساد السلطان أن يتولى سدته المتكبرون. والمتعالون في دخيلتهم منحطون. يقول الصادق «ما من أحد يتيه إلا من ذلة وجدها في نفسه».

ومن ذلك ينحي عن الرياسات من يجرون أزرهم خيلاء، فهؤلاء لا ينتفعون بتجربة من أنفسهم، وإلا لما تكبروا على الناس، أو من غيرهم، وإلا لما غرهم الغرور. يقول (لا يطمع القليل التجربة المعجب برأيه في الرياسة) ويقول (من طلب الرياسة هلك).

___________________

(١) لما فتح هولاكو بغداد استفتى العلماء: أيهما أفضل. السلطان الكافر العادل أو السلطان المسلم الجائر؟ فجمعوا لذلك بالمدرسة المستنصرية. وكان علي بن طاوس حاضرا. وهو المقدم المحترم. فتناول الفتيا ووضع خطه عليها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر. ووضع العلماء خطوطهم على ذلك.

٢٧٠

فإذا ولي الحاكم فليخش اللّه في الناس. وليعلم أن فيهم ضعفاً، وأنه مطالب بالعفو والصفح الجميل يقول الإمام «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. وأنقص الناس عقلا من ظلم من دونه. ولم يصفح عمن اعتذر إليه».

والناس مطالبون بأن يمحضوا النصح بإخلاص. وليس الإخلاص مجرد النية الحسنة أو البدار بالكلام. وإنما هو الفكر الجاد، وتقليب الأمور على وجوهها. والاستماع إلى المخالفين. فالإمام يقول «لا تكن أول مشير. وإياك والرأي الفطير».

وكثيراً ما تأذى الناصح بنصحه، وركبت المنصوح شياطين غلوائه. وقد يستفيد الظنة المتنصح.

وينبه الإمام الأمة على ألا تشتري الراحة بالرياء إذ « المؤمن يداري ولا يماري » كما يقول. وينبه الناس - ومنهم الحكام - على أن يسارعوا إلى الخيرات بإصلاح عيوبهم، وإعلانها دون تأثم أو تحرج.

والناس يمدون أيديهم إلى من يصارحهم بمصاعبه، فيشركونه في متاعبه. يقول «أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلى عيب نفسه وأشدها مؤنة إخفاء الفاقة . .»

وكما يقول «من لم يتفقد النقص في نفسه دام نقصه. ومن دام نقصه فالموت خير له .»

ولعل أنفع الناس للمرء، من يهدى إليه عيوبه: بأن ينبهه عليها.

المجتمع الجعفري

الإمام مبلغ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمه. وهذا العلم أجناس وأنواع، نشير في هذا المقام إلى بعض منها في السياسة والاجتماع، والاقتصاد، وهو حسب أي مجتمع ليقيم دولة راسخة الأركان، وأمة تعمل كخلية النحل، لا مجرد جمعية للإصلاح أو جماعة متطلعة للتقدم، كالجمعيات والجماعات التي تزخر بها المجتمعات في العصور الحديثة، بقصد إصلاح جزئي أو الدعوة لمبادئ معينة.

٢٧١

وكثير من المبادئ التي تحدثنا عنها قبل، والتي سنتحدث عنها بعد، شذرات من دروس، متداولة عن الإمام، لو حاولنا جمعها كنا كمن يجمع مصابيح السماء. وقد يكفي في هذا المقام ذكر بعض توجيهات الإمام «لشيعتنا» كما يقول. أو «للجعفري» الجدير بالانتساب للإمام، كما يسمى تابعيه.

وإذ كانت هذه التوجيهات إشارات إلى مؤهلات الانتساب إليه فهي تقطع بأنه كان يعد «دعاة» يدعون لمجتمع يدين بمبادئه.

وهذه المبادئ، مضافة إلى الفقة المدني والجزائي ونظرية الإمامة، كافية لإقامة مذهب متكامل تقوم على قواعده « دولة » تكفل الجزاء والثواب، فالقاعدة القانونية، مع العقيدة الدينية والنظريات الخلقية، كالماء الذي يسقي البذور الصالحة التي تنتظر الزمن لتشق الأرض وتظهر، في حماية الدولة.

ولقد كلل اللّه بالنجاح سعيه. وظهرت دول ومجتمعات ازدهرت في العالم، مع اصطناع التغييرات التي تستدعيها حاجات السلطان والزمان والمكان، أو الدعاية للدولة، كما كان الشأن في الدول والمجتمعات الاسماعيلية كالفاطميين المنتسبين إلى اسماعيل بن الإمام جعفر.

وأحدثت هذه المبادئ آثاراً منجحة في المجتمعات الشيعية، في أمم إسلامية أو غير إسلامية، أنمت التمسك الديني بفضائل الإسلام. وأمكنت من الدفاع عنه بقوة وإيمان. وأبدعت عبقريتها الاقتصادية التي طالما حضت عليها تعاليم الإمام.

فالتعاليم الصادرة عن الإمام الصادق ليست مجرد أصول فقهية أو فروع علمية كما هو دأب الأئمة من أهل السنة. بل هي تتعدى ذلك المجال إلى كل مجال للناس فيه نشاط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي .

ومن أجل ذلك العموم في رسالة الإمام ومقامه في الإسلام، كان شعور أبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وعمرو بن عبيد ونظرائهم أو المقاربين لهم أنهم في مجلسه تلامذة. واعتبار الأمة أنهم هنالك كذلك وإن كانوا أئمة.

ومن نفاذ البصيرة، وعظمة الطريقة، وجلال السمت، واتساع العلم، كان اعتراف خصوم المسلمين أنفسهم بأنه - بين الحجيج جميعاً - الفرد العلم.

٢٧٢

أما المبادئ الفقهية ومبادئ العقيدة والسياسية فقد تكلمنا عنها. وتبقى كلمات، كالإشارات، عن المبادئ الخلقية والاجتماعية التي أنتخبنا بعضها، لتدل على اتجاهه بها نحو تكوين مجتمع قوى وإعداد الدعاة له .

أوصى الإمام المفضل بن عمر بخصال يبلغهن من وراءه من «شيعة أهل البيت».

«أن تؤدي الأمانة إلى من أئتمنك. وأن ترضى لأخيك ما ترضاه لنفسك. واعلم أن للأمور أواخر فاحذر العواقب. وأن للأمور بغتات فكن منها على حذر. وإياك ومرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر وعراً».

وأوصاهم:

«صلو عشائركم. واشهدوا جنائزهم. وعودوا مرضاكم. وأدوا حقوقهم. فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل «هذا جعفري» ويسرني ذلك. وإذا كان غير ذلك دخل على بلاؤه وعاره. وقيل هذا أدب «جعفر» فو اللّه إن الرجل كان يكون في القبيلة من «شيعة علي» فيكون زينها آداهم للأمانة. وأقضاهم للحقوق. وأصدقهم. يحمل إليه وصاياهم وودائعهم تسأل العشيرة عنه ويقال : «من مثل فلان ؟».

وأوصاهم:

(أوصيكم بتقوى اللّه واجتناب معاصيه. وأداء الأمانة لمن أئتمنكم. وحسن الصحابة لمن صحبتموه. وأن تكونوا لنا دعاة صامتين).

فهو بهذا يربط إحسان العمل بالانتساب لأهل البيت ويضع القواعد المثلى للتجمع.

دخل عليه المفضل بن قيس ذات يوم يسأله الدعاء. وكما قال: «فشكوت إليه بعض حالي وسألته الدعاء فقال: يا جارية هاتي الكيس . فقال « هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن بها». قلت ما أردت هذا الكيس ولكن أردت الدعاء لي. قال « ولا أدع الدعاء لك. ولكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم.»

هكذا تتابع منه العطاء غير المطلوب، والدعاء المطلوب، والنصح الواجب. فهو معلم في المقام الأول. أعطى فأغنى. ثم نصح، ليقبل النصح منه.

٢٧٣

والأعمال أعلى صوتاً من الأقوال.

وهو يزيد العلاقة بين أصحابه وثاقة.

قال يوماً لبعض أصحابه: ما بال أخيك يشكوك؟ قال: يشكوني إذ استقصيت عليه حقي. فقال مغضباً « كأنك إذا استقصيت حقك لم تسيء؟ أرأيت ما حكى اللّه عن قوم يخافون سوء الحساب؟ أخافوا أن يجور عليهم؟ ولكن خافوا الاستقصاء. سماه اللّه سوء الحساب. فمن استقصى فقد أساء ».

أرأيت - إلى مدى ما يستنبط الإمام من النص؟ وإلى مقدار ما يدخل في أنفس أمته من الإحساس الرقيق بمتاعب بعضهم، كالجسم تتداعى أعضاؤه بإدراك مرهف وتكافل كامل؟ ذلك أدب جده صلى اللّه عليه وعلى آله. والإمام يعلمهم أن تكون لهم اليد العليا بالابتداء بالعطاء.

وفي السؤال رهق. والصلة تفقد رونقها، وربما قيمتها، إن لم تكن فيها مبادرة:

دخل عليه رجل من خراسان قال: لقد قل ذات يدي ولا أقدر على التوجه إلى أهلي إلا أن تعينوني . فنظر الإمام للجالسين وقال. أما تسمعون ما يقول أخوكم؟ . إنما المعروف ابتداء. فأما ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل من ماء وجهه . وقد قال رسول اللّه عليه وسلم (والذي فلق الحب وبرأ النسمة وبعثني بالحق نبياً لما يتجشم أحدكم من مسألته إياك أعظم. مما ناله من معروفك .) فجمعوا له خمسمائة درهم. وبهذا اشترك الجميع في أداء الواجب.

وهو القائل «أغنى الغنى ألا تكون للحرص أسيرا».

والتنبيه على الإرهاق في الاستقصاء، وعلى انعدام فضل المسئول على

السائل، خصيصتان إسلاميتان ترفعان قدر الجماعة - بما فيهما من مؤالفة وتكافل.

والتعبيرات العالية عنهما تعبيرات إمام:

قال مصادف (كنت عند أبي عبد اللّه فدخل رجل فسأله الإمام: كيف خلفت إخوانك؟ فأحسن الثناء عليهم. فسأله: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ قال الرجل: قليلة. قال الإمام: كيف مساعدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال قليلة. قال الإمام؟ فكيف يزعم هؤلاء أنهم «شيعتنا»؟

٢٧٤

الجهاد

يقول أبو الدرداء (من رأى أن الغدوة إلى العلم ليست بجهاد فقد نقص في عقله ودينه) والصادق لا يكتفي بالتعليم بل يحض على الجهاد بالنفس والمال ويقول للمسلمين: (الجهاد واجب مع إمام عادل. ومن قتل دون ماله فهو شهيد).

ويرى الانحياز إلى الظالمين تمكيناً لهم. والجهاد مع العادلين تثبيتاً للاسلام. سأل يوماً عبد الملك بن عمرو (لم لا تخرج إلى هذه الديار التي يخرج إليها أهل بلادك؟ - أي تجاهد مع الولاة - قال عبد الملك: أنتظر أمركم والاقتداء بكم. قال الإمام: أي واللّه لو كان خيراً ما سبقونا إليه. قال عبد الملك: إن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد. قال الإمام: أنا لا أرى الجهاد؟ . .؟ بلى واللّه. إني أراه. لكني أكره أن أدع حلمي إلى جهلهم).

ولقد كان عظيماً جهاد جده الحسين في جيوش معاوية، بل جهاد الحسين ضد معاوية نفسه، إذ يخاطبه بقوله (ثم سلطته (زيادا) على العراقيين يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ويصلبهم على جذوع النخل . فكتبت إليه أن اقتل كل من كان على دين علي. فقتلهم ومثل بهم بأمرك . .).

أما كربلاء فملحمة في الإسلام.

فإذا كان الجهاد للدفاع عن الإسلام إذا ما تهدده العدو. أو حين يغزو أرض المسلمين عدو، فذلك فرض عين على كل فرد. ولو كان تحت إمرة أمير جائر. سئل الإمام الرضا عن الرجل يرابط تجاه العدو .

كيف يصنع؟ قال يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء. يقصد الحكام الظلمة.

والمرابطة في الثغور إن كانت للاستطلاع فلها مدة. وهي مستحبة. وإذا كانت لملاقاة العدو فهي واجبة. والرجل المسلم كفء لرجلين عند اللقاء. يقول الإمام الصادق (من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر).

٢٧٥

والجهاد لغير الدفاع، أي لمجرد الغزو، فرض كفائي، قال الصادق «جاء رجل إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إني راغب في الجهاد نشيط. فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فجاهد في سبيل اللّه » قال الرجل: إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي قال النبي (أقم مع والديك. والذي نفسي بيده لأنسك بهما يوماً وليلة خير من جهاد سنة) »

والإمام بهذا يعلم الناس إيثار الوالدين بالرعاية. فهما النواة التي تزدوج لتصنع الأسرة. وهي بدورها نواة الأمة. والتمكين لهذه تكوين لتلك. أما إذا احتيج للرجل لكفاءة خاصة فيه فالجهاد فرض عين عليه.

والصادق يعلم المسلمين قوانين الإسلام في الحروب فيقول (إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله) ويعلن أن (إطعام الأسير حق على من أسره. وإن كان يراد من الغد قتله. فإنه ينبغي أن يطعم ويسقى ويرفق به، كافراً كان أو غيره).

ويعلم المسلمين (أن رسول اللّه كان إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا باسم اللّه وعلى سبيل اللّه . ولا تغدروا. ولا تغلوا. ولا تمثلوا. ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها. ولا تقتلوا شيخاً فانيا. ولا صبياً. ولا امرأة).

وينهى الصادق عن قتل الرسل. أوقتل الرهن. أو استعمال السم، حتى في حرب المشركين. فإذا كانت حرب فلتكن حرباً نظيفة. أي إسلامية.

ولنتذكر في هذا المقام قول «علي» وهو يسير الجند للقتال (لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم. فإنكم بحمد اللّه على حجة. وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح. ولا تهيجوا النساء بأذى . إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وهن مشركات .).

وقول الصادق «نهى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقى السم في جهاد المشركين . وعن قتل النساء والولدان في دار الحرب. وعن الأعمى. والشيخ العاني . وما بيت عدوا قط في ليل).

٢٧٦

وقول الصادق لإحسان معاملة أهل الذمة (إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قبل الجزية من أهل الذمة على ألا يأكلوا الربا ولا لحم الخنزير، ولا ينكحوا الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت. فمن فعل ذلك منهم فقد برئت منه ذمة اللّه وذمة رسوله).

فعلى المسلمين ألا يتعرضوا لأهل الذمة بسوء. بل إن عليهم أن يدافعوا عنهم، ما داموا لا ينشرون الدعوة ضد الإسلام، ولا يتظاهرون بارتكاب المنكرات، ولا يؤون إليهم أعداء الإسلام.

وكل من له كتاب كاليهودي والنصراني، أو شبه كتاب، كالمجوس، فهو ذمي، إذا قبل شروط الذمة والتزم بها. فإذا لم يلتزم فحكمه حكم الحربي .

 (في المجتمع ودعائمه) الأسرة

إذا رتبت تعاليم الإمام تصدر تعاليمه للناس قوله (أصل الرجل دينه وتقواه. الناس في أدم مستوون) وهذه المساواة الفطرية تسبقها البنوة لآدم، ثم يبلغها أغراضها حدب القوى على الضعيف، والعالم على الجاهل، والذي أتيحت له الفرصة على من لم تتح له.

ولما سأل الإمام رجلا: من سيد هذه القبيلة فأجاب: أنا. قال الإمام: لو كنت سيدهم ما قلت أنا.

ولما فصل المكرمات المطلوبة من الناس قال (المكارم عشر: صدق الناس، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وقرى الضيف وإطعام السائل، والمكافأة على الصنائع، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب. ورأسهن الحياء).

فهو يبدأ بالصدق وأداء الأمانة. ثم يتبعها صلة الرحم ولها عنده أعلى مقام. فبها قيام الأسرة - وهي نواة المجتمع الإسلامي - بتنظيمها القانوني الذي لا ضريب له في أمم غير أمة الإسلام.

يقول: «خمسة لا يعطوا شيئاً من الزكاة. الأب والأم والولد والزوجة والمملوك. لأنهم عياله ولازمون له» فالإنفاق على هؤلاء فرض. والصدقات مع وجوبها وتعميمها والحث عليها، لا تستحق للناس إلا أن يكتفي ذوو الأرحام. يقول الإمام «لا صدقة وذو رحم محتاج».

٢٧٧

ولو ظن واصل الرحم أنه يضع المعروف في غير موضعه - وللمعروف دائماً موضع - فالإمام يقول له: «لا تقطع رحمك وإن قطعك».

وقع كلام بينه وبين عبد اللّه بن الحسن (وربما كان ذلك من جراء يوم الأبواء، وسلف القول فيه) وكان عبد اللّه أعلى أهل البيت سنا، فأغلظ عبد اللّه القول. فلم يرد الصادق. ثم افترقا ثم تلاقيا على باب المسجد. فابتدره الصادق يقول «كيف أمسيت يا أبا محمد»؟ (فهو أبو محمد المهدي - النفس الزكية - وإبراهيم والباقين، من بني عبد اللّه بن الحسن). وقال عبد اللّه كالمغضب: بخير.

قال الصادق: يا أبا محمد. أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب؟ ثم تلا قوله تعالى (والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) فقال عبد اللّه: فلا تراني بعدها قاطعا رحما.

يقول الصادق إن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول اللّه إني لي أهلا قد كنت أصلهم وهم يؤذونني وقد أردت رفضهم. فقال له رسول اللّه «إن اللّه يرفضكم جميعاً» قال الرجل كيف أصنع؟ قال «تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك. فإذا فعلت ذلك كان اللّه عز وجل لك عليهم ظهيرا».

وكان الإمام يصلي عن ولده في كل ليلة ركعتين وعن والده في كل يوم ركعتين .

يقول في صدد الصلاة عن الميت إنه ليكون في ضيق فيوسع عليه ذلك الضيق، ثم يؤتى فيقال له خفف اللّه عنك ذلك الضيق لصلاة فلان أخيك عنك.

وربما أجمل منهاج الصادق في القول والعمل للناس عامة، كلمات له يتناقلها الناس في كل مكان. (خير من الصدق قائله وخير من الخير فاعله).

فهنا فضائل كثيرة مجتمعة. هي الخير. وصنعه. وإمكان الاقتداء بصانعه. وإعلان لرأي الإمام بأن الإيمان عقيدة وعمل. وأن العمل الصالح يحول الفكر المجرد، إلى فعل نافع أو أمر واقع. والعمل هو الوسيلة المنجحة إذا جرى مجرى الأصول. والصادق يروي عن علي:

(سمعت رسول اللّه يقول: عليكم بسنتي: فعمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة).

والإمام يرى أن «رأس الحزم التواضع» وأن التواضع هو «الرضى بأن تجلس من المجلس بدون شرفك وأن تسلم على من لقيت. وأن تترك المراء وإن كنت محقاً ». ويقول» من أكرمك فأكرمه ومن لم يكرمك فأكرم نفسك عنه».

٢٧٨

ويضيف إلى ذلك «إنك لن تمنع الناس من عرضك إلا بما تنشره عليهم من فضلك». وهذا الفضل بعض المعروف. أما عن تمام المعروف فيقول (المعروف لا يتم إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره وستره).

يقول (العافية نعمة يعجز عنها الشكر) بل يقول «المعروف زكاة النعم».

واللّه تعالى يقول «وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها». فما أكثر ما يستحق الناس من المعروف عند المسلم الصادق.

والسخاء سمو، ولو من الجاهل. يقول الإمام «جاهل سخي أفضل من ناسك بخيل».

فلنتصور مجتمعاً يسود فيه السخاء. ويعم العطاء، ويتواتر المعروف، ليتعاون الناس في دنياهم. وتستوثق القربى فيهم، فتزداد لحمة الأسرة وثاقة، ثم تلتزم الجماعة والأفراد بالمكارم العشرة التي نص عليها الإمام إنه المجتمع الإسلامي.

لنقرأ وصية الإمام لعبد اللّه بن جندب، لنلمس مواقع الجمال والكمال في هذا المجتمع.

(لا تكن بطرا في الغنى ولا جزعاً في الفقر. ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك. ولا تكن واهناً يجفوك من عرفك. ولا تشار من فوقك. ولا تسخر ممن دونك. ولا تنازع الأمر أهله. يا ابن جندب: لا تتصدقن على أعين الناس يزكوك. فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك. ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك. فإن الذي تتصدق له سراً يجزيك علانية. فقد علم ما تريد).

الأخوة

كان طبيعياً أن تمتد هذه المبادئ السياسة والاجتماعية، الموجهة للأفراد، إلى بيئتهم. وأن يكون المقام العظيم للأصحاب والصحبة. وهي القرابة التي يختارها المرء لنفسه ولا تفرض عليه من أسلافه. والصحبة أداة منجحة للتكافل والتكامل. وبها تجتمع « الخلية الأولى » للجماعة الهادفة.

٢٧٩

ولعل في اهتمام الإمام بالصحبة والأخوة دليلا على اتجاهه نحو إيجاد مجتمع أو جماعات تتآخى في التشيع. وبمثل هذه الجماعات قامت الدول الشيعية على نظم مشهورة في الدعوة لها، خافية أو معلنة، وبخاصة نظم الدعوة الاسماعيلية. وكما حفلت مجالس الإمام ومقولاته بوصف (الجعفري) وبعبارة (شيعتنا)، حفلت بتوكيد أسباب التعاون بين الإخوان.

هو أولا يجعل المودة بينهم من الدين فيقول (من حب الرجل دينه حبه إخوانه) ثم ينتقل من الوضع الديني إلى الاجتماعي فيقول «وطن نفسك على حسن الصحبة لمن صحبت. وحسن خلقك وكف لسانك واكظم غيظك.

أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره. ليس منا من لم يحس مجاورة جاره».

وقديماً قيل لأبي الأسود الدؤلي تلميذ «علي» «بعت دارك»؟ قال «بعت جاري» وقيل «الرفيق قبل الطريق».

والإمام الصادق يقول «أيسر حق من حقوق الإخوان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وأن تكره لأخيك ما تكره لنفسك وأن تتجنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره وتعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك. وأن تكون عينه ودليله ومرآته. ولا تشبع ويجوع. ولا تروى ويظمأ. ولا تلبس ويعرى. وأن تبر قسمه. وتجيب دعوته. وتعود مريضه وتشهد جنازته. فإذا علمت أن له حاجة تبادر إلى قضائها ولا تلجئه إلى أن يسألكها).

فكل وجه من الوجوه المشار إليها أداة تراحم تمكن للأخوة الإسلامية. وكل تفريط، مهما قل أمره، أو ضاق زمنه، تنقص من الأخوة الإسلامية. فإذا أطال المسلم قطيعة أخيه. فهي إحدى الكبر. فالمجتمع المتقاطع، هو كالمجتمع بين أعداء . أو كالجزر المتنازحة في اليم، حدود كل منها مصالحها.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام (هجرة الرجل أخاه سنة كسفك دمه) وما أدق نصح الإمام في معاشرة الناس « لا تفتش الناس فتبقى بلا صديق. المؤمن يداري ولا يماري. مجاملة الناس ثلث العقل».

٢٨٠