الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 86545
تحميل: 10838

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86545 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومع ذلك يعاد المشهد في بغداد، بعد سنة ١٤٥، فيستحضره المنصور لمواجهة جديدة.

يقول له: يا جعفر. ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلى بن خنيس؟

قال الصادق: معاذ اللّه ما كان من ذلك شيء.

قال المنصور: تحلف على براءتك بالطلاق والعتاق.

قال الصادق: نعم أحلف باللّه ما كان من ذلك شيء.

قال المنصور: بل تحلف بالطلاق والعتاق.

قال الصادق: ألا ترضى بيميني: اللّه الذي لا إله إلا هو

قال أبو جعفر: لا تتفقه علي.

قال الصادق: وأين يذهب الفقه مني ؟

قال المنصور: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك هذا حتى يواجهك.

فأتوه بالرجل .

قال الصادق: تحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح؟ قال: نعم. ثم بدأ باليمين: قال واللّه الذي لا إله إلا هو الغالب الحي القيوم.

قال الصادق: لا تعجل في يمينك فإني استحلفك. قال أبو جعفر: ما أنكرت من هذه اليمين؟

قال الصادق: إن اللّه تعالى حي كريم إذا أثنى عليه عبده لا يعاجله بالعقوبة. ولكن قل أيها الرجل: أبرأ إلى اللّه من حوله وقوته. وألجأ إلى حولي وقوتي. إني لصادق بر فيما أقول.

قال المنصور للرجل: احلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه.

قال راوي الخبر: فحلف الرجل. فلم يتم الكلام حتى خر ميتا. فارتعدت فرائص المنصور. وقال للصادق: سر من عندي إلى حرم جدك إن اخترت ذلك. وإن اخترت المقام عندنا لم نأل جهدا في إكرامك. فو اللّه لا قبلت بعدها قول أحد أبداً.

٨١

وأين يذهب الفقه من إمام المسلمين، وهو الذي يوجه اليمين، ومن حقه صياغتها وفي الصيغة ما ذكر المفتري بعظم افترائه، وبالخالق سبحانه (ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا). ومن الإنساني، ومن جلال مقام الإمام عند اللّه والناس، أن يخر صريعا من يفتري على اللّه وعلى الإمام، في مجلس الخليفة.

بهذه الآية هدى جبار السموات جباراً على الأرض لا يطأطئ رأسه. فإذا حركها عندما يناوشه الذباب سأل حضاره كالمستنكر: لم خلق اللّه الذباب. وكان الصادق حاضراً يوما فأجاب: ليذل اللّه به الجبابرة.

ولئن كان في وجود الذباب في المجلس تذكرة للجبابرة، ففي سقوط المفتري على الإمام بين أيديهم آية ما بعدها آية.

وكما يضمن أبو جعفر طاعة الإمام بالبغتات يصطعنها من حين لآخر، لا يتورع عن محاولة إفحام الإمام، بين علماء العصر، أو تسخير أعظم علماء العراق، لينصب منه شركاء يوقع فيه الإمام وليس هوى أبي جعفر مع أي منهما. ولا بأس عنده إذا أعجز كل منهما، أو أحدهما، صاحبه.

وإن المرء ليلمس خساسة الحيل الظاهرة من أبي جعفر، باتخاذ العلم والفقه أداة للشر المدبر، وعظماء العلماء وسائل للإساءة للمسالمين الذين يأمن جانبهم. فلنقس عليها فظاعة تدابيره السرية لمن يخشى العواقب منهم، ولندرك جلالة الحق إذ ينتصر على الحيلة، وجلجلة الحقيقة إذ تظهرها وسيلة أريد بها طمس معالمها، ومكانة الإمام الصادق في العلم إذ يتواضع أمامه العظماء من الفقهاء، في مجلس علمي يسيطر عليه خليفة عالم:

أقدم المنصور الإمام الصادق من المدينة إلى العراق وبعث إلى أبي حنيفة فقال له: إن الناس قد افتتنوا بجعفر. فهيئ له المسائل الشداد.

٨٢

ويقول أبو حنيفة عن لقائه بعد ذلك (بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته. فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه. فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه، فأومأ إلى فجلست. ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة. قال جعفر: إنه قد أتانا. ثم التفت إلي المنصور وقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه (الصادق) مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا. وأهل المدينة يقولون كذا. ونحن نقول كذا. فربما تابعهم. وربما خالفنا جميعا. حتى أتيت على أربعين مسألة). .

ولقد قال أبو حنيفة في مقام آخر (ألسنا روينا أن أعلم للناس أعلمهم باختلاف الناس).

وإنما يقصد أبو حنيفة باختلاف الناس الاجتهاد الفقهي للمقارنة بين مذاهب المجتهدين . فأبو حنيفة - وهو الإمام الأعظم عند أهل السنة - يقرر أن الإمام الصادق أعلم الناس باختلاف الناس في المدينة حيث علم المحدثين، وفي الكوفة حيث علم أهل الرأي. وكانتا قد بلغتا أوجهما، على أيدي أبي حنيفة ومالك. وهما التلميذان في مجالس الإمام الصادق. وكمثلهما كان إمام العراق الآخر سفيان الثوري.

وأبو حنيفة أكبر سنا من جعفر الصادق. ولد قبله بأعوام وسيموت بعده. وكان أبو حنيفة كما قال مالك لو حدثك أن السارية من ذهب لقام بحجته.

والجاحظ كبير النقدة يقول بعد مائة عام (جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال إن أبا حنيفة من تلاميذه وكذلك سفيان الثوري. وحسبك بهما في هذا الباب).

والجاحظ يذكر تلاميذ العراق. ولو ذكر تلاميذ المدينة لما نسي مالك بن أنس.

٨٣

بلغ الإمام الصادق بمسالمته للمنصور بعض آماله لأهل بيته، بقية أيام حياته، بل طوال خلافة أبي جعفر المنصور. فكان ميمون النقيبة بالسلام الذي نشده، والأمان الذي دعا له، وأطال زمانه. ومنع كثيراً من الطغيان الذي طالما شكاه أبوه، على ما سيروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة - (ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل. ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا. ووجد الكاذبون والجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا . فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس. وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن. فقتلت شيعتنا بكل بلدة. وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة. ومن يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين. ثم جاء الحجاج(١) فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة. حتى أن الرجل يقال له زنديق أحب إليه من أن يقال شيعة علي).

وفي عصر الباقر كان الحسن البصري(١١٠) الجسور (قاضي عمر بن عبد العزيز وشيخه الذي لا يهاب الخلفاء) إذا روى عن أمير المؤمنين علي قال (قال أبو زينب) ليخفى الاسم الذي لا خفاء له

بل كان الشعبي(١٠٤) شيخ المحدثين بالعراق يقول (ماذا لقينا من آل علي إذا أحببناهم قتلنا وإذا أبغضناهم دخلنا النار).

وكان طبيعيا في دولة « هرقلية » أن يكون همها الملك لا الدين، تعاقب من تتوهم خطره عليها وتترك من تزندق، أن تزداد الاستهانة بالدين في مقابل السلام الذي تنشده الدولة، والبلهنية التي يؤثرها دعاة الدعة. بدأ ذلك من عهد معاوية وسيستمر استمرار فساد الدولة. وستستبقيه لتصرف الناس عن الاهتمام بأهل بيت النبي، أو توقع بهم لفرطات تفرط من أحدهم، أو تعزي كذبا إليهم، منتهزة للفرص حينا، أو مفتعلة لها في أغلب الأحيان.

___________________

(١) أطلق الخليفة سليمان بن عبد الملك من سجون الحجاج في يوم واحد ثمانين ألفا. منهم ثلاثون ألفا بغير ذنب. ومنهم ثلاثون ألف امرأة.

٨٤

كانت الأوامر تصدر من بغداد إلى أرجاء الامبراطورية التي تدين لبني العباس، ومنها مصر، أن (لا يقبل علوي ضيعة. ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها. وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد (والرقيق يومذاك قوة العمل) وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة فلا يقبل قول العلوي. ويقبل قول خصمه بدون بينة)

وكانوا يسفرون من الأطراف إلى العاصمة ليكونوا تحت الرقابة. بل أمر الرشيد أن يضمن العلويون بعضهم بعضا. وكانوا يعرضون على السلطان كل يوم، فمن غاب عوقب . وكأن « أهل بيت النبي » جالية من العدو أو شرذمة من المشبوهين.

ولقد كان يكفي للحيطة أقل القليل من حاكم يريد أن يطمئن. وإنما كان ذلك الكيد سياسة إبادة مستمرة، يشترك في تنفيذها الخلفاء، والأشياع الظلمة، تدفع الثائرين إلى أن يثوروا، فيؤخذوا بثوراتهم، أو يؤخذ غيرهم بجرائر تنسب إليهم، أما سياسة أهل البيت فواضحة من شعار أبناء علي في كلمة مسلم بن عقيل (إنا أهل بيت نكره الغدر) قالهاعندما عرض عليه البعض قتل عبيد اللّه بن زياد في إحدى زياراته. فنجا ابن زياد بهذا الشعار ليقتل مسلما فيما بعد. أما شعار حاشية معاوية فكان (إن للّه جنودا من عسل) يقصدون دس السم إلى أعدائهم فيه.

ولقد طالما استعمل الطغاة السم في أهل البيت في القرون التالية. فإن لم يكن سم في خفاء فالقتل جهرة. ومن الروايات أن أئمة أهل البيت - الاثني عشر - ماتوا مسمومين ما عدا أمير المؤمنين عليا وأبا الشهداء الحسين - ماتا شهيدين.

في أيام الخليفة الهادي (سنة ١٦٩) كان أهل بيت النبي في المدينة يستعرضون كل يوم لكل واحد منهم كفيل من نسيب أو قريب. بل ولى عليهم واحد من ذرية عمر بن الخطاب هو عبد العزيز بن عبد اللّه. فولى بدوره على أهل البيت رجلا يقال له عيسى الحائك. فحبسهم الحائك في المقصورة. فثارت لأجلهم المدينة إذ ثاروا، وكسرت السجون وأخرج المسجونون، وبويع للحسين بن علي بن الحسن. فبقي واحداً وعشرين يوما بالمدينة ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج.

٨٥

وكرر التاريخ نفسه في خروج الحسين ومن معه من أهل المدينة إذ جاءه الإمام موسى الكاظم يستقيله من الخروج معه، كما صنع أبوه مع النفس الزكية (محمد بن عبد اللّه). قال الكاظم للحسين (أحب أن تجعلني في حل من تخلفي عنك) قال أنت في سعة قال الكاظم (أنت مقتول . وعند اللّه عز وجل أحتسبكم من عصبة..).

وجهز الهادي جيشاً لاقاه حيث استشهد في موقع يقال له (فخ) ومعه كثير من العلويين. وحملت رأس (الحسين شهيد فخ) إلى القائد العباسي بالبشرى مع رءوس مائة آخرين.

واستعرض القائد الرءوس بالمدينة فقال الإمام الكاظم عندما عرضوا رأس الحسين (إنا للّه وإنا إليه راجعون. مضى واللّه مسلما. صالحا. صواما قواما آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. ما كان في أهل بيته مثله).

وكان مع الحسين يحيى بن عبد اللّه بن الحسن (أخي محمد وإبراهيم، وإدريس أبناء عبد اللّه بن الحسن) فلما انتهت المعركة استتر، ثم ظهر، فخرج على الرشيد في بلاد الديلم، ووجه إليه الرشيد جيشاً بقيادة الفضل بن برمك حتى استسلم بعهد مكتوب. ومع ذلك استفتى الرشيد العلماء لقتله، فأبى ذلك محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وصاح: ماذا تصنع لو كان محاربا وولى كان آمنا.

لكن الرشيد وجد من علماء السوء من أفتاه بقتله، وكان هو أقدر على النفاق السياسي من مفتيه. أخذ من المفتي ما يملكه، ليصنع هو ما يقدر عليه . فسجن يحيى وضيق عليه الخناق حتى مات في سجنه، كمثل ما سيموت في سجن الرشيد الإمام موسى الكاظم ويشهد الرشيد الناس عليه، ليبرئ نفسه من تهمة اغتياله.

أما الأخ الرابع إدريس فأفلت هارباً إلى مصر، ثم إلى المغرب، وقيل دس إليه الرشيد هناك من سمه. فأسس ابنه دولة الأدارسة.

٨٦

وسيموت في حبس الرشيد كذلك عبد اللّه بن الحسن (الأفطس). قتله جعفر بن برمك وزير الرشيد. وسيموت في حبسه محمد بن يحيى بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن، والعباس بن محمد بن عبد اللّه، وكذلك الحسين ابن . عبد اللّه بن جعفر(١) .

وفي عهد المأمون وجه إلى جماعة من آل أبي طالب. فحملوا إليه في مرو عاصمة خراسان وفيهم الإمام علي الرضا (بن الكاظم بن الصادق) فخاطبه في أن يكون ولي عهده. فأبى. فتهدده بقوله. (إن عمر جعل الشورى في ستة آخرهم جدك. وقال من خالف فاضربوا عنقه. ولابد من قبول ذلك) فقبل. وبايع له المأمون والعباس بن المأمون.

ثم دعاه المأمون للخطبة فأوجز، وكأنه يتوقع وجازة أيامه. فاكتفى بعد أن حمد اللّه بقوله (إن لنا عليكم حقا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. ولكم علينا حق فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم). لكنه مات بعد قليل في ظروف مبهمة لا يستبعد منها دس السم كما تؤكد الشيعة، فموت علي الرضا كان حلا لإشكالات بني العباس سواء من يحبون المأمون، أو الكارهين للرضا، أو للمأمون ذاته(٢) .

ولا نستطرد للسرد. فليس في تاريخ البشرية، كلها، أسرة شردت وجردت، وذاقت العذاب والاسترهاب، مثل أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

___________________

(١) وتستمر عجلات الطغيان في الدوران. وتتوالى مقاتل الطالبين توالي الخلفاء العباسيين - ففي بدء عهد المأمون يقتل بالعراق: الحسن بن الحسين بن زيد عند قنطرة الكوفة مع أبي السرايا. والحسن بن اسحق بن علي في وقعة السوس مع أبي السرايا. ومحمد بن الحسن بن الحسين يقتل باليمن في أيام أبي السرايا وعلي بن عبد اللّه بن محمد يقتل باليمن في أيام أبي السرايا ومحمد بن إبراهيم بن إسماعيل (وهو ابن طباطبا) الخارج مع أبي السرايا سنة ١٩٩ مطالبين بالبيعة (للرضا من آل محمد). وقد انهزموا بجيش هرثمة بن أعين قائد المأمون سنة ٢٠٠. وقتلى العلويين على يد هذا الجيش كثيرون.

(٢) وفي عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم . بن علي بالطالقان فقبض عليه عبد اللّه بن طاهر وبعث به إلى الخليفة. وحبس المعتصم عبد اللّه بن الحسن . بن جعفر حتى مات في مخبئه. فلما جاء الواثق أمن العلويون بضع سنين. إذ جمعوا ثم حبسوا، عن الانطلاق خارج العاصمة سامرا، فتطامنوا وأطمأنت السلطة. ثم هبت عليهم في أيام المتوكل ريح عاتية من جنون الفزع. =

٨٧

= فلقد أزال قبر الحسين وحرثه حتى لا يزار. وشتت شمل شيعته وفرقهم في النواحي. فمنهم من حبسوا ومنهم من تواروا حتى ماتوا في مهربهم - وتناقل الناس أشعاراً منسوبة إلى ابن السكيت عالم النحو الكبير، وكان يعلم ولدي المتوكل. وفي هذه الأشعار:

تاللّه إن كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

وربما أراد المتوكل أن يتيقن من صدور هذا الشعر أو من ولاء العالم حين سأله:

أيهما أحسن: ولداي (المؤيد والمعتز) أم الحسن والحسين ؟ . ولم يرضه جوابه. فأمر بقتله فقتلوه. ولم يلبث المتوكل إلا قليلا حتى قتله ابنه « المنتصر » في مؤامرة

وإنما كانت فظاعة الجريمة الأخيرة قصاصاً عجلت به السماء لمقتل عالم آثر الصدق.

ولم يصلح للعلويين بال إلا أشهرا بعد مصرع المتوكل. ليعود البطش بهم إلى عنفوانه في أيام المستعين. فمنهم من خرج وخرج الناس معه، كيحى بن عمر خرج فقتل. ومنهم من خرج ولم يخرج الناس معه، فحبس ليموت سنة ٢٧١. وهو الحسن بن محمد المعروف بالحرون. ومنهم محمد بن جعفر خرج وحبس حتى مات في سامراء ليتتابع سجل الشهداء.

٨٨

بدأ بهم تاريخ الإسلام مجده. واستمر فيهم بعبرته وعظمتها. قدم أبوهم للبشرية أسباب خلاصها بكتاب اللّه وسنة الرسول. وقدم أهل بيته أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة. كانت مصابيحهم تتحطم لكن شعلتهم لا تنطفئ، لتخلد الجهاد والاستشهاد والإرشاد، بالمثل العالي الذي كانوه، والضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره ، وعلم فيه أبناء النبي أمته بعض علومه : أن الاستشهاد حياة ، للمستشهدين وللأحياء جميعا(١) .

___________________

(١) نقف عن السرد، عند أبيات لابن الرومي(٣٢١ - ٣٨٤) من جيميته في رثاء يحيى بن عمر بعد مقتله إذ خرج على بني العباس في القرن الرابع من جراء ظلمهم:

أمامك فانظر أي نهجيك تنهج

طريقان شتى. مستقيم وأعوج

أكل أوان للنبي محمد

قتيل زكى بالدماء مضرج ؟

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكمو عما قليل مفرج

أبعد المسمى بالحسين شهيدكم

تضاء مصابيح السماء فتسرج؟

أيحى العلاء لهفي لذكراك لهفة

يباشر مكواها الفؤاد فينفج

لمن تستجد الأرض بعدك زينة

فتصبح في أثوابها تتبرج ؟

سلام وريحان وروح ورحمة

عليك ومحدود من الظل سجسج

الا أيها المستبشرون بيومه

أظلت عليكم غمة لا تفرج

نظار لكم أن يرجع الحق راجع

إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا

غررتم إذا صدقتمو أن حالة

تدوم لكم. والدهر لونان. أخرج

أبى اللّه إلا أن يطيبوا وتخبثوا

وأن يسبقوا بالصالحات ويفلجوا

لعل قلوبا قد أطلتم غليلها

ستظفر منكم بالشفاء فتثلج

٨٩

الباب الثالث : إمام المسلمين

أنت يا جعفر فوق الـ

مدح والمدح عناء

جاز حد المدح من

قد ولدته الأنبياء

 (عبد اللّه بن المبارك)

امام المسلمين

قامت الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث طبق الدين أكمل تطبيق. فلم تكن العاصمة المناسبة لدول ثلاثة أقامها أصحابها من أجل خلافة الدنيا لا خلافة الدين.

والمدينة هي المقر الأمثل لأهل بيت الرسول حيث يرتبطون بكل أثر فيها وترتبط بهم المعاني التي خلد بها الإسلام، وانتصر المسلمون.

والسنة هي الشجرة المباركة وفروعها. في ثمرها اليانع رحمة ويسر ومعرفة. وفي ظلالها الوارفة مودة وإيلاف وتواصل. ومن هذه العناصر نتج الفكر الرفيع للمجتمع العظيم، يسقى من القرآن ويحيا به.

وبالقرآن والسنة، والفكر الرفيع والفقه المحيط، اعتصم أهل البيت في المدينة. فاختصم وإياهم خلفاء الدول الثلاثة الأموية والمروانية والعباسية، وولاتهم على المدينة. لكنها ظلت مدرسة السنة والفقه. وتتابع فيها أئمة أهل البيت: زين العابدين، والباقر، والصادق.

والفصل الثاني من الباب الحالي مداره مجلس إمام المسلمين جعفر الصادق، وأمثال لما يجري فيه من أقوال، ومن يشرف بالانتهاء إليه من رجال، ليسوا كسائر الرجال. فهم أئمة الفكر الإسلامي جميعه. من سنن وفقه، وزهد وكلام، وعلوم تطبيقية. منذ القرن الثاني للهجرة حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

٩٠

الفصل الأول : في المدينة المنورة

«اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك. وإنه دعاك لمكة. وإني أدعوك «للمدينة» بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه».

(حديث شريف)

في المدينة المنورة

ولي مروان بن الحكم إمرة المدينة لمعاوية سنة ٤٢. وكان مروان طلبة الثوار على عثمان. لو تسلموه لما قتلوا الخليفة - كما قيل - وكان مروان يبحث لنفسه في الفتنة عن مكان. ومن أجل ذلك رمى معاوية المدينة به، أو رماه بها، من فور ولايته للسلطة. وهو ابن عمه وابن عم عثمان. كان معاوية يصرفه عن الإمرة ثم يعيده. وآثر مروان وأهله الإقامة بالمدينة، في الحالين، على الذهاب إلى دمشق عاصمة بني أمية، حيث الصدارة لغيره. وحسن صلاته بأهل المدينة. فلما وقعت مجزرة كربلاء كانت عواطفه مع أهل بلدته. ثم أجاءته الرياح إلى حيث نصبه أهله خليفة سنة ٦٤ بعد اعتزال معاوية ابن يزيد. ثم خلف مروان ابنه عبد الملك لتبقى خلافته عشرين عاما من سنة ٦٦ إلى سنة ٨٦. وفي عبد الملك يقول عبد اللّه بن عمر: إن لمروان ابنا فقيها فاسألوه. لكنه بعد الخلافة صار ظلوما غشوما: أدخل عليه الأسرى ذات يوم فأمر بضرب أعناقهم - دون استجواب فقال له رجل من أهل الشام كان يعرفه أيام تنسكه - لقد أقست الخلافة قلبك. وكنت رءوفاً فأجاب: كلا. ولكن أقساه الضغن بعد الضغن.

كان يستنكر ضرب جيوش يزيد بن معاوية للكعبة سنة ٦٣ في حصار مكة، حتى إذا ولى الخلافة ضربها الحجاج له في سنة ٧٣ ولما سئل الحسن البصري أن يقول قوله في عبد الملك بن مروان أجاب: ماذا أقول في رجل، الحجاج إحدى سيئاته ولم يتمهد الملك لابنه الوليد إلا بعد عشرين عاما من حكم عبد الملك. فلقد بويع لابن الزبير بمكة سنة ٦٤ من أهل الحجاز والعراق ومصر، فدارت رحى الحرب، واستمرت بيعة العراق لابن الزبير حتى سنة ٧١ عندما قتل جند عبد الملك مصعب بن الزبير، وهدموا قصر الخلافة الزبيرية بالكوفة. وفي العام التالي استرجع « المدينة » لعبد الملك طارق ابن عمر، وفي سنة ٧٣ قتل عبد اللّه بن الزبير، واستسلم للحجاج أهل « مكة ».

٩١

وفي حياة الإمام جعفر كان على إمرة المدينة أبان بن عثمان حتى سنة ٨٢ حين عزله عبد الملك بهشام بن إسماعيل، الذي ضرب سعيد بن المسيب سنة ٨٥ من جراء رفضه بيعة الوليد وسليمان ابني عبد الملك، وطاف به في المدينة.

ثم عزل الوليد هشاما بعمر بن عبد العزيز سنة ٨٧. وعمر زوج أخته وهو زوج أخت عمر. والأربعة حفدة مروان.

وأمر الوليد عمر أن يوقف هشاما للناس أمام دار مروان ، و لكل عنده مظلمة فمر الناس به يلمزونه ويغمزونه. فصاحب المعروف لا يقع و إن وقع وجد متكأ و كان هشام من كثرة ما أساء إلى علي بن الحسين (زين العابدين) يقول: ما أخاف إلا من علي زين العابدين - فلو أزري به زين العابدين لحق عليه الدمار من العابدين ومن العامة - لكن زين العابدين ومواليه وخاصته مروا به لا يتعرضون له بكلمة. فلما مروا وسلم هشام، صاح: اللّه يعلم حيث يجعل رسالته.

ورد عمر بن عبد العزيز لأهل البيت فدكا. وكان النبي قد أعطاها لفاطمة الزهراء ولم يورثها أبو بكر وعمر لها. فكان اجتهاد عمر بن عبد العزيز خلافا في الفقه مع أبي بكر ومع جده عمر بن الخطاب.

ومنع عمر الشعار الأموي الآثم. وهو سب علي. وزاد إنصافا فاستعاض عنه شعاراً تبدو فيه معاني التوبة النصوح والاستغفار من الذنوب، وهو الآية الكريمة (ربنا اغفر لنا. ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). وكان معاوية قد استحدث نظام القصص ليثني القصاص على الخلفاء من بني أمية و يزينوا للناس حالهم فأمرهم عمر أن يقصروا الثناء (على المؤمنين).

وفي عمر يقول أحمد بن حنبل «ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر ابن عبد العزيز» ويخاطبه كثير، وهو من شعراء الشيعة، بقوله:

وليت ولم تسبب عليا ولم تخف

مريبا ولم تقبل مقالة مجرم

وصدقت بالقول الفعال مع الذي

أتيت فأمسى راضيا كل مسلم

٩٢

وفي العام التالي لولاية عمر على المدينة حج الوليد، وبدا له أن يأمر بتوسعة المسجد، لتدخل فيه حجرات أمهات المؤمنين وبيت علي، الذي أذن له به النبي، في حين ردم أبواب سائر الصحابة. فنصح الناس الخليفة أن يعود إلى مقر الملك في دمشق ويصدر أوامره منها بتوسيع المساجد عامة في مكة والمدينة وبيت المقدس، وأن يبني مسجداً بدمشق، وبهذا يتحقق غرضه دون أن يلومه الناس. فرجع إلى دمشق وأصدر منها أوامره.

وشق الأمر على أهل المدينة وتظاهروا عليه طالبين ترك (الحجرات) كما تركها صاحب الشريعة. فأصر الوليد وأنفذ، لتنفيذ أمره، بعثة من العمال من بلاد الروم.

قال خبيب بن عبد اللّه بن الزبير لعمر (نشدتك اللّه يا عمر أن تذهب بآية من آيات اللّه تقول (إن الذين ينادونك من وراء « الحجرات » أكثرهم لا يعقلون) . وطعن في بني أمية، وبلغ خبره الوليد بدمشق فأمر بجلده. فجلد. ومضى زمن ومات خبيب. فكان عمر يقول كلما بشره بالجنة أحد: (كيف. وخبيب على الطريق).

وفي سنة ٩١ حج الوليد فزار المسجد، وخطب على منبر الرسول قاعدا في كبرياء. فنفر الفقهاء. وترضى السادات. فاستفز الفقراء.

وكان عمر يؤوى، بالمدينة، من يتهددهم بطش الحجاج في العراق. لكن الوليد ولى الحجاج على الحج سنة ٩٢، فاستعفاه عمر من مرور الطاغية بمدينة الرسول، فقبل.

ولم يكن عدل عمر مانعا، بل ربما صار مقتضيا، أن يعزله الوليد بعثمان ابن حيان المري سنة ٩٣، فأنزل الوالي الجديد النكال بالعلماء، ومنهم ناسك المدينة محمد بن المنكدر فقيه بني تميم قبيلة أبي بكر وأخوال جعفر الصادق، وقذف أهل المدينة من فوق المنبر بقوله (أيها الناس إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه).

وامتدت يد البطش إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (وجده عمرو عامل الرسول)، فأمر بحلق لحيته لولا أن عزل الخليفة الجديد (سليمان بن عبد الملك) عثمان بأبي بكر ذاته سنة ٩٦. وبقي أبو بكر أميراً على المدينة حتى سنة ١٠١. واجتمع له القضاء والإمرة عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز.

ولما عزله يزيد بن عبد الملك بعد وفاة عمر، بعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عذب الوالي الجديد أبا بكر. فلما عزل عبد الرحمن سنة ١٠٤، حاقت البأساء والضراء بعبد الرحمن، حتى صار يلتمس الصدقة من سوء حاله.

٩٣

وفي سنة ١٠٦ تولى إبراهيم بن هشام بن إسماعيل - وهو خال الخليفة هشام بن عبد الملك - فبقي إبراهيم واليا إلى سنة ١١٤. ثم عزل بخالد ابن عبد الملك بن الحارث بن أبي العاص، فبقيت له الإمرة حتى سنة ١١٨.

وخطب خالد على منبر الرسول، فانتقص أولاد الرسول وأباهم عليا. فقام إليه داود بن قيس فبرك على ركبتيه وقال: كذبت كذبت. حتى حيل بينهما. ثم عزل بمحمد بن هشام بن اسماعيل أخي إبراهيم فبقى حتى سنة ١٢٥.

وكما ولى محمد وإبراهيم ابنا هشام، لخؤلتهما لهشام بن عبد الملك، ولي الوليد ابن يزيد إمرة المدينة « خاله » محمد بن يوسف الثقفي. وأمره أن يعذبهما، وأن يقيمهما للناس، وأن يبعث بهما إلى والي العراق ليذيقهما الهوان حتى يموتا من العذاب. ففعل. وبقي حتى سنة ١٢٦ فعزل بعبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز ليبقي ثلاث سنوات حتى سنة ١٢٩، فيحل محله عبد الواحد ابن سليمان بن عبد الملك.

وفي ولاية عبد الواحد كانت شمس بني أمية في الغروب: لقد طرد الحارث بن سريج عاملهم نصر بن سيار من أقصى الشرق في مرو - وأقبل أبو حمزة « الخارجي » يخرجهم من قلب الإسلام في المدينة سنة ١٣٠ بعد وقعة قديد. وفيها قتل من أهل المدينة خلق كثير. وهرب عبد الواحد.

وسفر إلى أبي حمزة، وهو على أبواب المدينة، السفراء: شيخ بني هاشم عبد اللّه بن الحسن، ومحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، وكان محسوبا مع بني هاشم لما يجمعه بهم من رحم، وعبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبي بكر خال الإمام جعفر، وعبد اللّه بن عمر بن . عمر، ومعهم ربيعة الرأي شيخ مالك بن أنس، في رجال آخرين. فعامل أبو حمزة الوفد معاملة الخوارج للصحابة: عبس وبسر في وجه الأولين حفيدي علي وعثمان. وبشر في وجه الثالث والرابع - حفيدي الشيخين: أبي بكر وعمر. وقال لهما: واللّه ما جئنا إلا لنسير بسيرة أبويكما.

قال شيخ بني هاشم واللّه ما جئناك لتفضل بين آبائنا. ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة. وهذا ربيعة يخبرك بها..

أقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر ثم خرج لقتال جند الشام فانهزم .

٩٤

ثم جاءت دولة بني العباس. وتولى إمرة المدينة للسفاح عمه داود بن علي فقام فخطب فقال: أيها الناس أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال ؟ .

والسيف مشهر:

حتى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كل مثقف بالهام

ويقمن ربات الخدور حواسرا

يمسحن عرض ذوائب الأيتام

لكن اللّه عاجله بعد ثلاثة أشهر فلقى حتفه - وولى بعده زياد بن عبد اللّه بن المدان خال السفاح.

وأحاط السفاح ببني أمية: دعاهم، ومنحهم الأمان، حتى إذا اجتمعوا به أعمل رجاله السيوف فيهم. وكانوا نيفا وثمانين رجلا. وفي سنة ١٣٣ قتل عماله من أشياعهم ثلاثين ألفا بالشام. واستدعى عبد اللّه بن علي، أخو داود، وقائد جيش الشام، الإمام الأوزاعي إمام الشام إلى عسكره فسأله: ما تقول في بني أمية؟

قال: لقد كانت بينك وبينهم عهود. وكان ينبغي أن تفوا بها.

قال: ويحك. اجعلني وإياهم لا عهد بيننا.

يقول الأوزاعي (فأجهشت نفسي وكرهت القتل. فذكرت مقامي بين يدي اللّه فقلت (دماؤهم عليك حرام) فانتفخت عيناه وأوداجه وقال: ويحك لم؟ قلت (قال رسول اللّه: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: ثيب زان ونفس بنفس وتارك دينه. قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ أليس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوصى لعلي؟ فسكت . وجعلت أتوقع رأسي يسقط . وقال أخرجوه فخرجت).

وروى عبد اللّه بن علي رماحه من الدم بما لم يسمع التاريخ بمثله. حتى إذا ولي أبو جعفر المنصور(١٣٦ - ١٥٨) - عزل زياد بن عبد اللّه بن المدان عن المدينة بمحمد بن خالد القسري. وأمر بحمل زياد بن عبد اللّه إلى العراق مكبلا بالحديد.

ثم عزل محمد بن خالد وولى مكانه رباح بن عثمان بن حيان سنة ١٤١. وهو ابن عم مسلم بن عقبة (الذي يسميه البعض مجرم بن عقبة - فهو قائد الجيش الذي دمر المدينة وارتكب الفظائع في معركة الحرة سنة ٦٣) ففاخر الناس بنقائصه قال: أنا الأفعي بن الأفعي أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم. فوثب عليه الناس فحصبوه بالحصى ورموه بالحجارة.

٩٥

وفي إمرته اقتحم الجند منازل أهل البيت فأخرجوا منها رجالهم إلى السجون. ومرت مواكب أهل البيت في شوارع المدينة وهم في الأصفاد، هزلهم العذاب والأيام الشداد، ثم سيقوا إلى الكوفة، ليودعوا السجن حيث حبسوا - كما يقول المسعودي في مروج الذهب - في سرداب تحت الأرض لا يعرفون الليل من النهار حتى مات أكثرهم، ثم خر عليهم، ليموت تحت أنقاضه الأحياء منهم، ويدفن الذين سبقوهم إلى الموت دون أن يعني بهم أحد.

وبقي رباح حتى خرج محمد بن عبد اللّه (النفس الزكية) على المنصور وقبض الخارجون على رباح وأدخلوه سجن المدينة هو وأخاه.

ولما انتهت الحرب عين المنصور على المدينة عبد اللّه بن الربيع الحارثي فبقي حتى سنة ١٤٧ ثم عزل. فولى مكانه جعفر بن سليمان بن سليمان ابن علي بن عبد اللّه بن عباس، فبقي واليا حتى سنة ١٤٩. وهو الذي أمر بضرب مالك بن أنس حتى انخلعت كتفه وطافوا به في المدينة.

وفي ولاية جعفر بن سليمان مات الإمام الصادق.

بهذه الوجازة العجلى لأمر الولاة في نحو قرن من الحكم الأموي والمرواني والعباسي للمدينة، عاش فيه الإمام الصادق، تتكشف أمور حسبنا أن ننبه على بعضها الآن:

١ - ففي حكم بني مروان، لم يكن لأهل البيت، بخاصة، مشكلة مع الدولة. وإنما كانت المشكلة لأهل المدينة عامة مع العاصمة. أما خروج زيد بن علي زين العابدين سنة ١٢١ وابنه يحيى سنة ١٢٥.(١)

___________________

(١) ادعى خالد بن عبد اللّه القسري مالا قبل زيد وأبناء الصحابة. فدعاهم الخليفة هشام ابن عبد الملك إلى العاصمة وسألهم فأنكروا مزاعمه. فأعادهم إلى واليه على العراق يوسف بن عمر ليستحلفهم. وقيل إن هشاما لم يرد السلام على زيد فأغلظ له زيد في الكلام. وكان زيد في الذروة من فقهاء العصر - ولما رجعوا إلى الكوفة استحلفهم يوسف فحلفوا. لكنه أبقاهم محبوسين في انتظار رأي هشام. فأمره بإخلاء سبيلهم فخرج زيد من الحبس قاصداً القادسية. واجتمع إليه شيعة الكوفة وطلبوا إليه الخروج على الخليفة وتعهدوا بنصره. فخرج إليهم، فجمعوا له أربعة آلاف رجل ثم انفضوا من حوله. فحارب حرب الأبطال حتى استشهد سنة ١٢١. فكان منهم معه ما كان من آبائهم مع جده أي (فعلوها حسينية) كما قال.

ثم خرج ابنه يحيى فقتل سنة ١٢٥.

٩٦

فكان في أواخر بني مروان. وكذلك كان خروج عبد اللّه بن معاوية ابن عبد اللّه بن جعفر سنة ١٢٧، بعد عامين من استشهاد يحيى بن زيد. ولقد سلم عبد اللّه نفسه لأبي مسلم الخراساني بعد أن انهزم نصر بن سيار والي خراسان لبني مروان. فقضى أبو مسلم عليه بعد أن استسلم.

بهذا يمكن القول إن زين العابدين وابنه محمدا الباقر عاشا أكثر من نصف قرن في سلام مع السلطة. وبهذا السلام تبوءآ الذروة من الاحترام والطمأنينة اللذين يمهدان للعلم أن ينتشر، وللقدوة الصالحة أن يشيع هداها، كالشعاع ينشر النور في المدينة ويحمل الدفء إلى الأفئدة الوافدة من شتى الأقطار.

٢ - كان الأمراء على المدينة إما أقرباء للخلفاء في دمشق والأنبار والكوفة، وإما صنائع لهم. لكنهم كانوا - عدا عمر بن عبد العزيز - مستضعفين من الجميع، يعزلون، ويقامون للناس، ليتخذوهم سخريا أو ينكلوا بهم.

وفي أواخر أيام بني مروان سخر الناس منهم علانية، واشتجروا معهم، إذا مسوا أمير المؤمنين عليا بسوء.

وكان عبد الملك قد أوصى عامله على المدينة بقوله (جنبني دماء بني هاشم فإني رأيت آل حرب لما تهجموا عليهم لم ينصروا) - وهو الباطش، الذي تولى له بالعراق الحجاج، وبخراسان المهلب بن أبي صفرة، وبمصر هشام بن إسماعيل وابنه عبد اللّه، وباليمن محمد أخو الحجاج، وبالجزيرة محمد بن مروان (أخو عبد الملك). وكل من هؤلاء ظالم فاتك.

ولما سئل عبد اللّه بن المبارك: أبو مسلم خير أم الحجاج؟ أجاب (لا أقول أبو مسلم خير من أحد، لكن الحجاج شر منه)

٣ - أما في عهد العباسيين - أبناء العمومة - فقد هبت على بني علي ريح صرصر، من الطغيان المدمر، لتنزل بهم وبأحفاد الصحابة والتابعين الفزع الأكبر، كهيئة ما صنع بنو أمية في كربلاء والحرة. وطبائع الطغيان واحدة.

٩٧

اهل المدينة

غاضبت دمشق العراق والحجاز أيام صيرها معاوية حاضرة بني أمية. وتابعته على ذلك دولة بني مروان. لكن المدينة بلدة طيبة وشعب كريم. وثب أهلها بالأمويين بعد كربلاء ثم تركوهم يجلون عنها، على موثق من أهلها، ألا يدلوا جند يزيد على عوراتها. وجلا الأمويون إلى الشام إلا زوج مروان بن الحكم، عائشة بنت عثمان بن عفان، توجهت إلى الطائف في حماية «علي زين العابدين».

والمدينة واحة في قفر، والرزق نزر في الصحاري الساخنة، إلا ما يرد إلى الناس من تجارة أو عطاء، متقطع كسحائب الصحراء، يجري، ويجف، حسب الشهوات، في دمشق. وأهل البيت تجيئهم حقوقهم في بيت المال أو لا تجيء، لكنهم ينفقون المال خفية وعلانية - ولو كان بهم خصاصة - فعلي زين العابدين مصدر من مصادر الرزق المجهولة للناس، لا يعرف إلا بعد أن يموت، فيتفقد الناس المصدر فيعرفونه. وكذلك أبناؤه، يتزعمهم الباقر. وهو القائل: إن استطعت ألا تقابل أحدا إلا ولك الفضل عليه فافعل.

أما ابن عمهم عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فكان وثيق العرى بالخلفاء. سأله يزيد بن معاوية يوما كم عطاؤك؟ قال ألف ألف درهم. قال يزيد: قد أضعفناها لك. قال ابن جعفر. فداك أبي وأمي. وما قلتها لأحد قبلك. فضاعف يزيد عطاءه مرة ثانية.

ولما خرج عبد اللّه من المجلس، قال جلساء يزيد: تعطي رجلا واحدا اربعة آلاف ألف درهم قال: ويحكم إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين. فما يده فيها إلا عارية.

والحق أن الفقراء كان لهم في أمواله حق معلوم، فكانوا يستدينون في انتظار ورود عطاء عبد اللّه بن جعفر من العاصمة.

وكان الخلفاء يحجرون على شباب قريش أن يبرحوا الحجاز إلا بإذن فأمسى سجنا واسعا لمن فيه منهم. وازداد أهله انعزالا وارتباطا فتراحموا، وتصاهروا، لتصير المدينة مجتمعا مقطوع القرين، نرى فيه: « سكينة بنت الحسين » يبني بها « مصعب بن الزبير » ثم يبني بضرة لها « عائشة بنت طلحة ». أي أطراف يوم الجمل تجتمع في بيت واحد.

٩٨

وإليك أطرافا أخرى في أختها فاطمة: ولدتها أم إسحق بنت طلحة. وتزوجها عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان. ويرزقان محمدا. وله بنت من خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير تدعى حفصة. وأم عروة أسماء بنت أبي بكر. فهؤلاء: رسول اللّه وخمسة من العشرة المبشرين بالجنة علي وأبو بكر وعثمان وطلحة والزبير يجتمعون في حفصة

أما الإمام جعفر الصادق فآية من الآيات.

جده لأبيه زين العابدين. وزين العابدين وسالم بن عبد اللّه بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر أولاد خالات ثلاثة. هن بنات كسرى يزدجرد.

وأبوه الباقر ولدته لزين العابدين بنت عمه فاطمة بنت الحسن.

وأمه أم فروة بنت «القاسم» بن محمد بن أبي بكر. وقد تزوج أمير المؤمنين علي أم محمد، أسماء بنت عميس، بعد موت أبي بكر. فصار ربيبة، وترعرع في كنفه حتى شهد معه الجمل. وكان على الرجالة. وشهد معه صفين. وولاه مصر حتى قتلته جيوش معاوية في مصر.

وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عم القاسم وشقيق عائشة. شهد اليمامة مع خالد. وقتل محكم اليمامة في الحصن فاقتحمه المسلمون. وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم فردها وقال لا أبيع ديني بدنياي.

وعبد الرحمن هو القائل وهو يرفض البيعة ليزيد (جعلتموها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل).

فجعفر قد ولده النبي عليه الصلاة والسلام مرتين. وعلي مرتين، والصديق مرتين، ليدل بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده.

ومن الناحية الأخرى ولده كسرى مرتين. ليدل الدنيا - من أعلى مواقعها - على أن الإسلام للموالي والعرب. فذلك هو الدين الذي جاء به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والذي دافع من أجله عن المساواة بين المسلمين، كافة، أمير المؤمنين علي.

هكذا وحدت المدينة مجتمعها. ورفعت أبناء الصحابة إلى أعلى مقام. وأهل البيت إلى صدارة المجتمع، يمدون أنسابهم إلى هاماته وأسبابهم إلى طبقاته.

٩٩

وذات يوم أصهر الحجاج إلى عبد اللّه بن جعفر في بنته أم كلثوم. فأبرد إليه الخليفة عبد الملك ليسوغ أباها المهر ويعجل طلاقها، لأنه تجاوز قدره. وهي حجة ظاهرة، قد تخفى حجة حقيقية، إذا كان يخشى أن يمد الحجاج بسبب إلى أسرة قد يشمله هداها، أو يأسره الإخلاص لها، أو يبعده عن أن يكون - بجمعه - لعبد الملك، وبقسوته على من عداه.

لكن العلم ظل الخصيصة الكبرى «للمدينة». ففيها وضعت القواعد العامة لتطبيق المبادئ الإلهية التي بعثت بها السماء آخر رسلها لإصلاح البشر. ووضعت أسس الدولة ومبادئ الجماعة وانتشر الدين، في القارات الثلاثة المعروفة. لتقدم الحضارة الإسلامية، سياسة وإدارة، وتشريعا، دوليا ومدنيا وجنائيا، واقتصاديا، وقواعد علمية، وعلوما تطبيقية ورياضية، لم تشهدها القرون قبل. وستبني عليها الحضارات جميعا. فتكون مجازا للبشرية من جهالات القرون الأولى، إلى حضارات العصور الحديثة العلمية والاقتصادية والتشريعية والاجتماعية.

ولما انقضى عهد الرسالة والراشدين الأربعة، تابعت عاصمة الإسلام، وإن لم تعد عاصمة الدولة، رسالتها بالفقه. وهو في الحضارة الإسلامية كحجارة الأساس في البنيان: أن كانت منه قواعد الفكر الإسلامي كافة، وكانت الحرية الفكرية لحمته وسداه، والفضيلة الإنسانية مبدأه ومنتهاه. وفيه صلاح الناس، والتخفيف عليهم، وفتح أبواب الرجاء لهم، وتمكينهم من التطور لملاحقة حاجات الأعصر، بأداته « الديناميكية » - المحركة - نحو التقدم، وهي اجتهاد الرأي.

وفي أهل البيت كان النبي مدينة العلم وعلي بابها، وريحانتا الرسول من الدنيا الإمام « الحسن » والإمام «الحسين» يمثلون الجيل الأول. وفي الجيل الثاني كان السجاد - من كثرة السجود - أو زين العابدين - من كمال عبادته - وابناه الإمام الباقر وزيد. وكان لزيد مذهبه.

أما الجيل الثالث من القرون المفضلة فقد تراءى فيه للمسلمين جعفر ابن محمد، الصادق، بدر تمام، لجيل كان ختام أجيال.

١٠٠