زبدة التفاسير الجزء ٢

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657
المشاهدات: 6749
تحميل: 1991


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 657 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6749 / تحميل: 1991
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-04-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله وتشكّي أنبيائهعليهم‌السلام . ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصّة من خواصّه بليّة قد عرفها السلطان، واطّلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ وهو عالم بما فعل به، يريد به توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم السلطان، واتّكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لـما حلّ به منه.

وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثمّ يجيبون بعد ما يرجع إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم.

وقيل: المعنى: لا علم لنا إلى جنب علمك، فإنّ علمنا ساقط مع علمك ومغمور به، لأنّك علّام الغيوب، ومن علم الخفيّات لم تخف عليه الظواهر الّتي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنّه لا علم لنا إلى جنب علمك.

وقيل: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وإنّما الحكم للخاتمة. وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه، زرق العيون، موبّخين.

قال الحاكم(١) أبو سعيد الجشمي عليه ما عليه في تفسيره: إنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة إنّ الأئمّة يعلمون الغيب.

ونحن نقول: إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم، فإنّا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس أنّه يعلم الغيب، ومن وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين، والشيعة الإماميّة برآء من هذا القول، فمن نسبهم إلى ذلك فالله فيما بينه وبينهم.

__________________

(١) أبو سعد الجشمي هو المحسّن بن محمد بن كرّامة، مفسّر، عالم بالأصول والكلام، حنفيّ ثم معتزليّ فزيدي، وهو شيخ الزمخشري، ولد سنة ٤١٣، وتوفّي مقتولا بمكّة عام ٤٩٤.

راجع الأعلام للزركلى ٦: ١٧٦.

٣٤١

( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) )

ولـمّا عرّف سبحانه يوم القيامة بما وصفه به من جمع الرسل فيه، عطف عليه

٣٤٢

بذكر المسيح، فقال بدلا(١) من يوم الجمع:( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ) وهو على طريقة:( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (٢) ، فإنّ المستقبل المحقّق الوقوع في حكم الماضي.

والمعنى: أنّه تعالى يوبّخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات، فكذّبتهم طائفة وسمّوهم سحرة، وغلا آخرون فاتّخذوهم آلهة، كما قال بعض بني إسرائيل لـمّا أظهر على يد عيسى من البيّنات الباهرة والمعجزات الساطعة:( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (٣) . واتّخذوه بعضهم وأمّه إلهين. ويجوز أنّه نصب بإضمار «اذكر».

ثمّ فسّر نعمته بقوله:( إِذْ أَيَّدْتُكَ ) قوّيتك. وهو ظرف لـ «نعمتي»، أو حال منه( بِرُوحِ الْقُدُسِ ) بجبرئيل، أو بالكلام الّذي يحيا به الدين أو النفس حياة أبديّة، ويطهّر من الآثام. ويؤيّده قوله:( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي: كائنا في المهد وكهلا.

والمعنى: تكلّمهم في الطفوليّة والكهولة على سواء، يعني: إلحاق حاله في الطفوليّة بحال الكهوليّة في كمال العقل والتكلّم. يعني: تكلّمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفوليّة وحين الكهولة، الذي هو وقت تمام العقل وبلوغ الأشدّ، والحدّ الّذي يستنبأ فيه الأنبياء. وبه استدلّ على أنّه سينزل، فإنّه رفع قبل أن يكتهل.

( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ ) وقيل: الكتابة يعني الخطّ( وَالْحِكْمَةَ ) أي: علم الشريعة الّذي هو الكلام المحكم الصواب. وقيل: أراد الكتب، فيكون اسم جنس.

__________________

(١) أي: جاعلا قوله هذا بدلا من قوله: «يوم يجمع».

(٢) الأعراف: ٤٤.

(٣) النمل: ١٣.

٣٤٣

ثمّ فصّله بالذكر فقال:( وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) وخصّهما من بين جنس الكتب بالذكر لمزيد شرفهما( وَإِذْ تَخْلُقُ ) تصوّر( مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) أي: هيئة مثل هيئة الطير وصورته( بِإِذْنِي ) وأمري وتسهيلي. وسمّاه خلقا، لأنّه كان يقدّره.

( فَتَنْفُخُ فِيها ) الضمير للكاف، لأنّها صفة الهيئة الّتي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنّها ليست صفة من خلقه ولا من نفخه في شيء، أي: ينفخ فيها الروح، لأنّ الروح جسم يجوز أن ينفخه المسيح بأمر الله تعالى.

والطير يؤنّث ويذكّر، فمن أنّث فعلى الجمع، ومن ذكّر فعلى اللفظ. وواحد الطير طائر، كراكب وركب، وضائن وضأن.

وبيّن بقوله:( فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ) أنّه إذا نفخ المسيح فيها الروح قلّبها الله لحما ودما، وخلق فيها الحياة، فصارت طيرا بأمر الله وإرادته، لا بفعل المسيح.

وقرأ نافع: طائرا. ويحتمل الإفراد والجمع، كالباقر.

( وَتُبْرِئُ ) أي: تصحّح( الْأَكْمَهَ ) الّذي ولد أعمى( وَالْأَبْرَصَ ) من به برص مستحكم( بِإِذْنِي ) . والمعنى: أنّك تدعوني حتى أبرئ الأكمه والأبرص.

ونسب ذلك إلى المسيح، لأنّه بدعائه وسؤاله.

( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) أي: اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك، وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء. نسب ذلك إلى المسيح أيضا، لأنّه كان بدعائه. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية.

( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ ) أي: اليهود حين همّوا بقتلك وأذاك( إِذْ جِئْتَهُمْ ) ظرف لـ «كففت»، أي: حين أتيتهم( بِالْبَيِّناتِ ) المعجزات البيّنة مع كفرهم وعنادهم( فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وجحدوا نبوّتك( مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يعنون به ما جاء به عيسى. يعني: ما هذا الّذي جئت به إلّا سحر ظاهر واضح. وقرأ حمزة

٣٤٤

والكسائي: إلّا ساحر. فالإشارة إلى عيسىعليه‌السلام . والغرض من تعداد هذه النعمة على عيسى إلزام قومه بالحجّة، فإنّهم ادّعوا أنّه إله.

ثمّ بيّن سبحانه تمام نعمته على عيسىعليه‌السلام ، فقال:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) أي: ألهمتهم. وقيل: أمرتهم على ألسنة الرسل.( أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) أي: صدّقوا بي وبصفاتي وبعيسى أنّه عبد ونبيّ. ويجوز أن تكون «أن» مصدريّة وأن تكون مفسّرة.( قالُوا ) أي: قال الحواريّون ادّعاء( آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ ) مخلصون.

ثمّ أخبر سبحانه عن الحواريّين وسؤالهم فقال:( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ) منصوب بـ «اذكر»، أو ظرف لـ «قالوا». فيكون تنبيها على أنّ ادّعاءهم الإخلاص مع قولهم:( يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة.

وقيل: هذه الاستطاعة بناء على ما تقتضيه الحكمة والإرادة، لا على ما تقتضيه القدرة. والمعنى: هل يفعل ذلك ربّك بمسألتك إيّاه ليكون علما على صدقك.

وقيل: يستطيع بمعنى يطيع، كاستجاب بمعنى أجاب، أي: هل يطيعك ويجيبك؟ وقرأ الكسائي: تستطيع ربّك، أي: سؤال ربّك. والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله.

والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من: ماد الماء يميد إذا تحرّك، أو من: ماده إذا أعطاه، كأنّها تميد، أي: تعطي من تقدّم إليه. ونظيرها قولهم: شجرة مطعمة.

ويؤيّد الأوّل(١) قوله:( قالَ اتَّقُوا اللهَ ) من أمثال هذا الكلام والسؤال

__________________

(١) يعني: المعنى الأول من معاني «هل يستطيع»، أي: هل يقدر ربك؟ وأنه لم يكن بعد عن

٣٤٥

( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) بكمال قدرته وصحّة نبوّتي، أو صدقتم في ادّعاء الإيمان. وعلى الوجوه الأخر معناه: لا تقترحوا الآيات، ولا تقدّموا بين يدي الله ورسوله، لأنّ الله تعالى قد أراهم البراهين والمعجزات بإحياء الموتى وغيره ممّا هو آكد ممّا سألوه.

وفي هذا دلالة على عدم استحكام دينهم، وقلّة معرفتهم بالله وصفاته.

( قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) هذا تمهيد عذر، وبيان لـما دعاهم إلى السؤال، وهو أن يتمتّعوا بالأكل منها( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته، فإنّ الدلائل كلّما كثرت مكّنت المعرفة في النفس.

( وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ) في ادّعائك النبوّة، أو أنّ الله يجيب دعوتنا( وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) إذا استشهدتنا عند الّذين لم يحضروها من بني إسرائيل. أو من الشاهدين للعين، دون السامعين لـما يخبر. أو من الشاهدين لله بالوحدانيّة، ولك بالنبوّة.

( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) لـمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك، أو أنّهم لا يقلعون عنه، فأراد إلزامهم الحجّة بكمالها( اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) أصل أللّهمّ يا الله، فحذف حرف النداء، وعوّضت الميم منه. و «ربّنا» نداء ثان( تَكُونُ لَنا عِيداً ) أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظّمه، وهو يوم الأحد، ومن ثمّ اتّخذه النصارى عيدا. وقيل: العيد السرور العائد، ولذلك سمّي يوم العيد عيدا، أي: يكون لنا سرورا وفرحا.( لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا ) بدل من «لنا» بإعادة العامل، أي: عيدا لمتقدّمينا ومتأخّرينا، يعنون: لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا. وقيل: معناه: يأكل منها أوّلنا وآخرنا. ويجوز أن يريد المقدّمين منّا والأتباع.

( وَآيَةً مِنْكَ ) صفة لها، أي: آية كائنة منك تدلّ على كمال قدرتك وصحّة نبوّتي( وَارْزُقْنا ) المائدة، أو الشكر عليها( وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) خير من يرزق ،

__________________

تحقيق واستحكام معرفة.

٣٤٦

لأنّك خالق الرزق ومعطيه بلا عوض. وفي هذا دلالة على أنّ العباد يرزق بعضهم بعضا، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال له سبحانه: أنت خير الرازقين، كما لا يجوز أن يقال: أنت خير الآلهة، لـمّا لم يكن غيره سبحانه إلها.

( قالَ اللهُ ) مجيبا له( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ) إجابة إلى سؤالكم. وقرأ أهل المدينة والشام وعاصم: منزّلها مشدّدا، والباقون: منزلها مخفّفا.( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ ) بعد إنزالها( مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً ) أي: تعذيبا. ويجوز أن يجعل مفعولا به على السعة.( لا أُعَذِّبُهُ ) الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذّب به على حذف حرف الجرّ( أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) أي: من عالمي زمانهم، أو العالمين مطلقا، فإنّهم مسخوا قردة وخنازير، ولم يعذّب مثل ذلك غيرهم.

عن ابن عبّاس: أنّ عيسىعليه‌السلام قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثمّ أسألوا الله ما شئتم يعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوما، فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا صمنا وجعنا، فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وهو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي أنّه قال: «لمّا سأل الحواريّون عيسىعليه‌السلام أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى وقال: أللّهمّ أنزل علينا مائدة.

فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسىعليه‌السلام وقال: أللّهمّ اجعلني من الشاكرين، أللّهمّ اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة وعقوبة. واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قطّ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسىعليه‌السلام وتوضّأ وصلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا هو سمكة مشويّة، وليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من

٣٤٧

الدسم، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خلّ، وحولها من ألوان البقول ما عدا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد.

فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟

فقال عيسىعليه‌السلام : ليس شيء ممّا ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنّه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا ممّا سألتم يمددكم ويزدكم من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى.

فقال عيسىعليه‌السلام : يا سمكة أحيي بإذن الله. فاضطربت وعاد عليها فلوسها وشوكها، ففزعوا منها.

فقال عيسى: مالكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا، يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشويّة كما كانت.

فقالوا: يا روح الله كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن.

فقال عيسى: معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها.

ثمّ دعا لها عيسى أهل الفاقة والزّمنى(١) والمرضى والمبتلين، فقال: كلوا منها، ولكم المهنأ(٢) ، ولغيركم البلاء. فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض ومبتلى، وكلّهم شبعان يتجشّأ(٣) .

__________________

(١) الزّمنى جمع الزمين، أي: المصاب بالزمانة.

(٢) المهنأ: ما أتاك بلا مشقّة.

(٣) تجشّأ أي: أخرج من فمه الجشاء. والجشاء: ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع.

٣٤٨

ثمّ نظر عيسىعليه‌السلام إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثمّ طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منها زمن إلّا صحّ، ولا مريض إلّا برىء، ولا فقير إلّا استغنى، ولم يزل غنيّا حتّى مات.

وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها.

وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار يتزاحمون عليها، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيء طارت صعدا، وهم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم. وكانت تنزل غبّا، يوما تنزل ويوما لا.

فأوحى الله إلى عيسى:عليه‌السلام : اجعل مائدتي للفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحّاء. فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا وشكّكوا الناس فيها.

فأوحى الله تعالى إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا إنّ من كفر بعد نزولها أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسىعليه‌السلام :( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) . فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير، يسعون في الطرقات والكناسات، ويأكلون العذرة في الحشوش. فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا، وبكى على الممسوخين أهلوهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.

وفي تفسير أهل البيتعليهم‌السلام : كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها، ثمّ ترفع. فقال كبراؤهم ومترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا.

فرفع الله المائدة ببغيهم، ومسخوا قردة وخنازير.

وقيل: لـمّا وعد الله تعالى إنزالها بهذه الشرائط استغفروا وقالوا: لا نريد، فلم ينزل. والصحيح أنّها نزلت.

__________________

(١) المائدة: ١١٨.

٣٤٩

( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠) )

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من أمر المسيحعليه‌السلام ، فقال توبيخا وتبكيتا للكفرة:( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) الاستفهام يراد به التقريع لمن ادّعى ذلك عليه من النصارى، واستعظام لذلك القول. والجارّ والمجرور صفة لـ «إلهين»، أو صلة «اتّخذوني».

ومعنى «دون» إمّا المغايرة، فيكون فيه تنبيه على أنّ عبادة الله تعالى مع

٣٥٠

عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتها فكأنّه عبدهما ولم يعبده. أو القصور، فإنّهم لم يعتقدوا أنّهما مستقلّان باستحقاق العبادة، وإنّما زعموا أنّ عبادتهما توصل إلى عبادة الله تعالى، وكأنّه قيل: اتّخذوني وأمّي إلهين متوصّلين بنا إلى الله.

( قالَ سُبْحانَكَ ) أي: أنزّهك تنزيها من أن يكون لك شريك( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ) ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحقّ لي أن أقوله، وأنا عبد مثلهم، وإنّما تحقّ العبادة لك وحدك.

( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه( وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) ما تخفيه من معلوماتك. وقوله: «في نفسك» للمشاكلة، وإلّا فالله سبحانه منزّه عن أن تكون له نفس أو قلب تحلّ فيها المعاني، وصنعة المشاكلة من فصيح الكلام. وقيل: المراد بالنفس الذّات.

( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه، فإنّ ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولا ينتهي علم أحد إلى ما يعلمه سبحانه.

ثمّ صرّح عيسى بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدلّ عليه، فقال:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) عطف بيان للضمير في «به»، أو بدل منه، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا، ليلزم منه بقاء الموصول بلا راجع. أو خبر مضمر أو مفعوله، مثل: هو أو أعني. ولا يجوز إبداله من «ما أمرتني به»، فإنّ المصدر لا يكون مفعول القول. ولا أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ الأمر مسند إلى الله تعالى، وهو سبحانه لا يقول: اعبدوا الله ربّي وربّكم، والقول لا يفسّر، بل الجملة تحكي بعده، إلّا أن يؤوّل القول بالأمر، فكأنّه قيل: ما أمرتهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله.

( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) رقيبا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان( ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ) بالرفع إلى السماء،

٣٥١

لقوله:( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ ) (١) . والتوفّي: أخذ الشيء وافيا، والموت نوع منه.

قال الله تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) (٢) .( كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) المراقب لأحوالهم، فتمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلّة، وأرسلت إليهم من الرسل، وأنزلت عليهم من الآيات( وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) مطّلع عليه، مراقب له.

( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) أي: فإنّك تعذّب من عبادك الّذين عبدوا غيرك، وعصوا رسلك، منكرين أنبياءك، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) القادر على العقاب والثواب( الْحَكِيمُ ) الّذي لا يفعلهما إلّا عن حكمة وصواب. هذا تسليم الأمر إلى مالكه، وتفويض إلى مدبّره، وتبرّء من أن يكون إليه شيء من أمور قومه، كما يقول الواحد منّا إذا تبرّأ من تدبير أمر من الأمور، ويريد تفويضه إلى غيره: هذا الأمر لا يدخل في تصرّفي، فإن شئت فافعله، وإن شئت فاتركه، مع علمه وقطعه على أنّ أحد الأمرين لا يكون منه.

وقيل: إنّ المعنى: إن تعذّبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت لهم، فكأنّه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام. أو المعنى: إن المغفرة مستحسنة عقلا لكلّ مجرم، وكلّما كان الجرم أعظم فالعفو عنه أحسن عقلا، فإن عذّبت فعدل، وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بـ «إن».

( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) وقرأ نافع: يوم بالنصب، على أنّه ظرف لـ «قال»، وخبر «هذا» محذوف، أو ظرف مستقرّ وقع خبرا.

__________________

(١) آل عمران: ٥٥.

(٢) الزمر: ٤٢.

٣٥٢

والمعنى: هذا الّذي ذكرنا من كلام عيسىعليه‌السلام واقع يوم ينفع الصادقين ما صدقوا فيه.

وقيل: إنّه خبر، ولكن بني على الفتح، لإضافته إلى الفعل. وليس بصحيح، لأنّ المضاف إليه معرب.

والمراد بالصدق: الصدق في الدنيا، فإنّ النافع ما كان حال التكليف، فلا ينفع الكافرين صدقهم في يوم القيامة إذا أقرّوا على أنفسهم بسوء أعمالهم.

وقيل: المراد تصديقهم لرسل الله وكتبهم.

وقيل: المراد صدقهم يوم القيامة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ.

( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) أي: دائمين فيها في نعيم مقيم لا يزول( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) بما فعلوا( وَرَضُوا عَنْهُ ) بما أعطاهم( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) هذا بيان للنفع.

ثمّ نبّه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح، فقال:( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . وإنّما لم يقل: ومن فيهنّ، تغليبا للعقلاء. وقال: «وما فيهنّ» لأنّ لفظة «ما» تتناول الأجناس تناولا عامّا، فإنّ من أبصر شخصا من بعيد قال: ما هو؟ قبل أن يعرف أمن العقلاء هو أم من غيرهم؟ فلفظة «ما» أولى بإرادة العموم والشمول. ولأنّ إتباع العقلاء غيرهم من غير عكس مشعر بقصورهم عن معنى الربوبيّة، ونزولهم عن رتبة العبوديّة.

٣٥٣
٣٥٤

(٦)

سورة الأنعام

مائة وخمس وستّون آية. وعن ابن عبّاس: هي مكّيّة إلّا ستّ آيات:( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (١) إلى آخر ثلاث آيات،( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) (٢) إلى آخر ثلاث آيات، فإنّهنّ نزلن بالمدينة.

وروي عن أبيّ بن كعب وعكرمة وقتادة: أنّها كلّها نزلت بمكّة جملة واحدة ليلا، ومعها سبعون ألف ملك قد ملأوا بين الخافقين، لهم زجل(٣) بالتسبيح والتحميد. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحان الله العظيم وخرّ ساجدا، ثمّ دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم. وأكثرها حجاج على المشركين، وعلى من كذّب بالبعث والنشور.

وأيضا عنه قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأها صلّى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية من الأنعام يوما وليلة».

جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ ثلاث آيات من أوّل

__________________

(١) الأنعام: ٩١ ـ ٩٣.

(٢) الأنعام: ١٥١ ـ ١٥٣.

(٣) الزجل: صوت الناس وضجيجهم.

٣٥٥

سورة الأنعام إلى قوله:( وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) وكّل الله به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة(١) من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا ضربه بها».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «إنّ سورة الأنعام نزلت جملة، وشيّعها سبعون ألف ملك، فعظّموها وبجّلوها، فإنّ اسم الله تعالى فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها.

ثمّ قالعليه‌السلام : من كانت له إلى الله حاجة يريد قضاءها فليصلّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب والأنعام، وليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة: يا كريم يا كريم يا كريم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم، يا أعظم من كلّ عظيم، يا سميع الدعاء، يا من لا تغيّره الليالي والأيّام، صلّ على محمّد وآل محمّد، وارحم ضعفي وفقري وفاقتي ومسكنتي. يا من رحم الشيخ يعقوب حين ردّ عليه يوسف قرّة عينه، يا من رحم أيّوب بعد حلول بلائه، يا من رحم محمّدا، ومن اليتم آواه، ونصره على جبابرة قريش وطواغيتها، وأمكنه منهم، يا مغيث يا مغيث يا مغيث. هكذا تقول مرارا، فو الّذي نفسي بيده لو دعوت الله بها بعد ما تصلّي هذه الصلاة في دبر هذه السورة، ثم سألت الله جميع حوائجك، لأعطاك إن شاء الله»(٢) .

وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، قال: «نزلت الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة»(٣) .

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة كان

__________________

(١) المرزبة والمرزبّة: عصاة من حديد.

(٢) تفسير العيّاشي ١: ٣٥٣ ح ١.

(٣) تفسير القمّي ١: ١٩٣.

٣٥٦

من الآمنين يوم القيامة، ولم ير النار بعينه أبدا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المائدة بأنّه على كلّ شيء قدير، افتتح سورة الأنعام بما يدلّ على كمال قدرته، من خلق السموات والأرض، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة. أخبر سبحانه بأنّه حقيق وحريّ بالحمد. ونبّه على أنّه المستحقّ للحمد على هذه النعم الجسام، حمد أو لم يحمد، ليكون حجّة على الّذين هم بربّهم يعدلون. وجمع السماوات دون الأرض، وهي مثلهنّ، لأنّ طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات، دون الأرض.

وقدّمها لشرفها، وعلوّ مكانها، وتقدّم وجودها.

( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) أنشأهما. والفرق بين «خلق» و «جعل» الّذي له مفعول واحد: أنّ خلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أي: قدّر السماوات والأرض، وضمّن فيها الظلمات والنور، ولذلك عبّر عن إحداث النور والظلمة بالجعل، تنبيها على أنّهما عرضان يقومان بالجسم، لا بأنفسهما كما زعمت الثنويّة.

وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، فإنّ أسباب الظلمة تارة

٣٥٧

بالليل، فإنّ جميع الأجرام فيه مظلمة، وتارة بالخسوف والكسوف، وتارة بالسحاب المتراكم مع الرعد، وتارة بالبحر، وتارة بالظلّ، فإنّ ما من جنس من أجناس الأجرام إلّا وله ظلّ، بخلاف النور، فإنّه من جنس واحد، وهو النار. أو لأنّ المراد بالظلمة الضلال، وبالنور الهدى، والهدى واحد، والضلال متعدّد. وتقديمها لتقدّم الأعدام على الملكات.

ثمّ عجب سبحانه ممّن جعل له شريكا، مع ما يرى من الآيات الدالّة على وحدانيّته، فقال:( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) جحدوا الحقّ( بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) . معنى «ثمّ» استبعاد عدولهم بعد هذا البيان.

وهذا عطف على قوله: «الحمد لله»، على معنى: أنّ الله حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثمّ الّذين كفروا به يعدلون، فيكفرون نعمته. ويكون «بربّهم» تنبيها على أنّه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكوّنهم وتعيّشهم، فمن حقّه أن يحمد عليها ولا يكفر.

أو على قوله: «خلق»، على معنى: أنّه خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثمّ هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه.

والباء على الأوّل متعلّقة، بـ «كفروا»، وصلة «يعدلون» محذوفة، أي: يعدلون عنه، ليقع الإنكار على نفس العدول. وعلى الثاني متعلّقة بـ «يعدلون». والمعنى: أنّ الكفّار يسوّون به غيره، بأن جعلوا له أندادا من الأوثان. مأخوذ من قولهم: ما أعدل بفلان أحدا، أي: لا نظير له عندي.

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) أي: ابتدأ خلقكم منه، فإنّه المادّة الأولى، وإنّ آدم الّذي هو أصل البشر خلق منه. أو خلقءاباءكم، فحذف المضاف.( ثُمَّ قَضى أَجَلاً ) كتب وقدّر أجل الموت( وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) أجل القيامة. وقيل: الأوّل ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ، فإنّ الأجل كما

٣٥٨

يطلق لآخر المدّة يطلق لجملتها. وقيل: الأوّل النوم، والثاني الموت. وقيل: الأوّل لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي.

و «أجل» نكرة خصّصت بالصفة، ولذلك استغنى عن تقديم الخبر.

والاستئناف به لتعظيمه، ولذلك نكّر ووصف بأنّه مسمّى، أي: مثبت معيّن لا يقبل التغيّر. وأخبر عنه بأنّه عند الله تعالى لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة، ولأنّه المقصود بيانه.

( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنّه خالقهم وخالق أصولهم، ومحييهم إلى آجالهم وباعثهم، فإنّ من قدر على خلق الموادّ وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء، كان أقدر على جمع تلك الموادّ وإحيائها ثانيا.

فالآية الأولى دليل التوحيد، والثانية دليل البعث. والامتراء الشكّ. وأصله: المري، وهو استخراج(١) اللبن من الضرع.

( وَهُوَ اللهُ ) الضمير لله، و «الله» خبره( فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) متعلّق باسم الله. والمعنى: هو المستحقّ للعبادة فيهما لا غير، كقوله:( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (٢) . أو هو المعروف بالإلهيّة، أو هو المتوحّد بالإلهيّة فيهما. فقوله:( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ) تقرير له، لأنّ من استوى في علمه السرّ والعلانية هو الله وحده.

ويجوز أن يكون «هو» ضمير الشأن، و «الله يعلم سركم وجهركم» مبتدأ وخبر، و «في السماوات» يتعلّق بـ «يعلم». وأن يكون «في السماوات» خبرا بعد خبر، أو بدلا من «الله» على معنى: أنّه الله، وأنّه في السماوات والأرض. ويكفي

__________________

(١) ولعلّ وجه النقل من المعنى اللغوي إلى هذا المعنى: أن الشكّ منشأ استخراج العلم، كما يستخرج اللبن من الضرع ويمترى.

(٢) الزخرف: ٨٤.

٣٥٩

لصحّة الظرفيّة كون المعلوم فيهما، كقولك: رميت الصيد في الحرم، إذا كنت خارجه والصيد داخله، بمعنى أنّه تعالى وتقدّس لكمال علمه بما فيهما كأنّه فيهما. وقال الزجّاج: لو قلت: هو زيد في البيت والدار، لم يجز إلّا أن يكون في الكلام دليل على أنّ زيدا يدبّر أمر البيت والدار، فيكون المعنى: هو المدبّر في البيت والدار.

فالمعنى: هو المعبود المدبّر في السماوات والأرض. وليس الظرف متعلّقا بالمصدر، وهو «سرّكم وجهركم»، لأنّ صفته لا تتقدّم عليه.

( وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) من خير أو شرّ، فيثيب ويعاقب. ولعلّه أريد بالسرّ والجهر وما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح.

( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) )

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المذكورين في أوّل الآية، فقال:( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) «من» مزيدة للاستغراق( مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ) للتبعيض(١) ، أي: ما يظهر لهم دليل قطّ من الأدلّة الّتي يجب فيها النظر وبها يحصل الاعتبار، أو معجزة من المعجزات، أو آية من آيات القرآن( إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) تاركين للنظر فيه، غير ملتفتين إليه، ولا مستدلّين به.

( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) يعني: القرآن الّذي تحدّوا به فعجزوا عنه.

وهو كاللازم ممّا قبله، كأنّه قيل: إنّهم لـمّا كانوا معرضين عن الآيات كلّها كذّبوا به لـمّا جاءهم. أو كالدليل عليه، على معنى: أنّهم لـمّا أعرضوا عن القرآن وكذّبوا به وهو أعظم الآيات، فكيف لا يعرضون عن غيره؟! ولذلك رتّب عليه بالفاء.

__________________

(١) أي: «من» الثانية في قوله تعالى: «من آيات».

٣٦٠