زبدة التفاسير الجزء ٢

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657
المشاهدات: 6739
تحميل: 1981


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 657 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6739 / تحميل: 1981
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-04-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ خطّ عن يمينه وعن شماله خطوطا ثمّ قال: هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ تلا هذه الآية:( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ) .

( ذلِكُمْ ) الاتّباع( وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) عن الضلال والتفرّق عن الحقّ.

عن ابن عبّاس: هذه الآيات محكمات لم ينسخها شيء من جميع الكتب، وهي محرّمات على بني آدم كلّهم، وهنّ أمّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنّة، ومن تركهنّ دخل النار.

وقال كعب الأحبار: والّذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأوّل شيء في التوراة،( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) :( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الآيات.

( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) )

( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) عطف على «وصّاكم». و «ثمّ» للتراخي في

٤٨١

الأخبار، أو للتفاوت في الرتبة، كأنّه قيل: ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا، ثمّ أعظم من ذلك أنّا آتينا موسى الكتاب. وقيل: هو عطف على ما تقدّم من قوله:( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) (١) .

( تَماماً ) للكرامة والنعمة( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) على كلّ من أحسن القيام به، أي: من كان محسنا صالحا، يريد به جنس المحسنين. أو على الّذي أحسن تبليغه، وهو موسى. أو تماما على ما أحسنه موسى من العلم والشرائع، من: أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه إتماما له.

( وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ) وبيانا مفصّلا لكلّ ما يحتاج إليه في الدين. وهو عطف على «تماما». ونصبهما يحتمل العلّة والحال والمصدر.

( وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ ) لعلّ بني إسرائيل( بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) أي: بلقائه للجزاء.

( وَهذا ) يعني: القرآن( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) كثير النفع في الدارين( فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) بواسطة اتّباعه، وهو العمل بما فيه.

( أَنْ تَقُولُوا ) علّة لـ «أنزلناه». والخطاب لأهل مكّة، أي: أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا يا أهل مكّة:( إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) اليهود والنصارى.

وإنّما خصّهما بالذكر من بين الكتب السماويّة لشهرتهما وظهور أمرهما، أي: أنزلنا القرآن عليكم لنقطع حجّتكم.( وَإِنْ كُنَّا ) «إن» هي المخفّفة، ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر «كان»، والهاء ضمير الشأن، أي: وإن الشأن كنّا( عَنْ دِراسَتِهِمْ ) قراءتهم( لَغافِلِينَ ) لا ندري ما هي، ولم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم، لأنّهم كانوا غيرنا، ولو أريد منّا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم.

( أَوْ تَقُولُوا ) عطف على الأوّل( لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ

__________________

(١) الأنعام: ٨٤، ومضى تفسيرها في ص: ٤٢٣.

٤٨٢

لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، ولذلك تلقّفنا فنونا من العلم، كالقصص والأشعار والخطب، على أنّا أمّيّون.

( فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) حجّة واضحة، ودلالة ظاهرة تعرفونها، وهو القرآن. هذا تبكيت لهم، فإنّه جواب الشرط المقدّر، تقديره: إن صدقتم فيما كنتم تعدّونه من أنفسكم فقد جاءكم بيّنة من ربّكم( وَهُدىً ) يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم والثواب الجسيم( وَرَحْمَةٌ ) ونعمة لمن تأمّل فيه وعمل به.

( فَمَنْ أَظْلَمُ ) لنفسه( مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ ) بعد أن عرف صحّتها وصدقها، أو تمكّن من معرفتها( وَصَدَفَ عَنْها ) أعرض أو صدّ عنها، فضلّ أو أضلّ( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ ) يعرضون( عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ ) شدّته( بِما كانُوا يَصْدِفُونَ ) بإعراضهم أو صدّهم.

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) )

ثمّ توعّدهم سبحانه بقوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ ) أي: ما ينتظرون؟ يعني: أهل مكّة. وهم وإن كانوا غير منتظرين لذلك، لكن لـمّا كان يلحقهم لحوق المنتظر شبّهوا بالمنتظرين( إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) ملائكة الموت أو العذاب. وقرأ حمزة والكسائي بالياء.( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) أي: أمره بالعذاب وكلّ آياته، يعني: آيات القيامة والهلاك الكلّي، بدلالة قوله:( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) يعني: أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك.

وعن حذيفة والبراء بن عازب: «كنّا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول

٤٨٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة. قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابّة الأرض، وخسفا بالمشرق، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، والدجّال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونارا تخرج من عدن».

( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ) كالمحتضر، إذ صار الأمر عيانا، لأنّه ليس بإيمان اختياري، بل إنّما هو إيمان دفع العذاب واليأس عن أنفسهم، فيصير ملجأ إلى فعل الحسن وترك القبيح، والإيمان الاضطراري غير معتبر( لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) صفة لقوله: «نفسا»( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) عطف على «آمنت». والمعنى: أنّه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو غير كاسبة في إيمانها خيرا. وفي هذا دلالة على أنّ كسب الخير الّذي هو عمل الجوارح غير الإيمان الّذي هو عمل القلب، الا ترى أنّه عطف على ذاك، والشيء لا يعطف على نفسه، وإنّما يعطف على غيره.

( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) وعيد لهم، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة، فإنّا منتظرون له، وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل.

( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) )

ثمّ عطف سبحانه على ما قدّمه من الوعيد، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) بدّدوه، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. أو جعلوه أديانا فافترقوا فيه، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة، وافترقت النصاري على ثنتين وسبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة».

ولا شبهة أنّ هذه الواحدة هي الفرقة الإماميّة، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا ،

٤٨٤

ومن تخلّف عنها غرق».

وقرأ حمزة والكسائي: فارقوا، أي: باينوا دينهم.

( وَكانُوا شِيَعاً ) فرقا تشيع كلّ فرقة إماما. وعن الباقرعليه‌السلام : «أنّهم أهل الضلالة، وأصحاب الشبهات والبدع». ورواه أيضا أبو هريرة وعائشة مرفوعا.

( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) أي: من السؤال عنهم وعن تفرّقهم، أو من عقابهم.

أو أنت بريء منهم، وعلى المباعدة التامّة من الاجتماع معهم في شيء من مذاهبهم الفاسدة. وقيل: هو نهي عن التعرّض لهم. وهو منسوخ بآية السيف(١) .

( إِنَّما أَمْرُهُمْ ) والحكم بينهم في اختلافهم، ومجازاتهم على سوء أفعالهم( إِلَى اللهِ ) يتولّى جزاءهم( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ ) بالعقاب( بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ) بفعلهم القبيح.

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) )

ولـمّا ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي، عقّبه بذكر الوعد وتضعيف الجزاء في الطاعات، فقال:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ) بالخصلة الواحدة من خصال الطاعات( فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) . أقيمت الصفة مقام الموصوف، أي: عشر حسنات أمثالها، فضلا من الله تعالى. وقرأ يعقوب: عشر بالتنوين، وأمثالها بالرفع على الوصف.

وهذا اقلّ ما وعد من الأضعاف، فقد وعد بالواحد سبعين، وسبعمائة، وبغير حساب. ولذا قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. وذلك من عظم فضل الله، وجزيل إنعامه على عباده، حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق، بل يزيد عليه، وربما يعفو عن ذنوب المؤمنين منّا منه عليهم وتفضّلا، وإن عاقب على قدر الاستحقاق عدلا، كما قال:( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) بالخصلة الواحدة( فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ) قضيّة للعدل. فمضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيّئات عدل.

__________________

(١) التوبة: ٥ و٢٩.

٤٨٥

( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بنقص الثواب، وزيادة العقاب.

وعن أبي ذرّ، عن الصادق المصدّقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى قال: الحسنة عشر أو أزيد، والسيّئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره».

( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) )

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج( دِيناً ) بدل من موضع قوله: «إلى صراط»، فإنّ المعنى: هداني صراطا مستقيما، كقوله:( وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) (١) .

( قِيَماً ) نهاية الاستقامة. فيعل(٢) من: قام، كسيّد وهيّن، من: ساد وهان.

وهو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة، والمستقيم أبلغ منه باعتبار الصيغة. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي قيما، على أنّه مصدر نعت به. فكان قياسه قوما كعوض، فأعلّ لإعلال فعله، كالقيام.

( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) عطف بيان لـ «دينا»( حَنِيفاً ) حال من إبراهيم، أي: هداني وعرّفني ملّة إبراهيم حال كونه مائلا عن الملل الباطلة إلى الملّة الحقّة ميلا لازما لا رجوع معه، وهي ملّة الإسلام، أي: مخلصا لله في العبادة. وإنّما وصف دين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه ملّة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب، لجلالة إبراهيم في نفوسهم ونفوس

__________________

(١) الفتح: ٢٠.

(٢) أي: في قراءة: قيّما.

٤٨٦

كلّ أهل الأديان، وانتساب العرب إليه، واتّفاقهم على أنّه كان على الحقّ( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يعني: إبراهيم كان يدعو إلى الله، وينهى عن عبادة الأصنام. وهذا تعريض لكفّار مكّة.

( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) عبادتي كلّها أو قرباني، فجمع بين الصلاة والذبح، ونحوه:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (١) . وقيل: مناسك حجّي.( وَمَحْيايَ وَمَماتِي ) وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصيّة والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما.

وقرأ نافع: محياي بإسكان الياء، إجراء للوصل مجرى الوقف.( لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) خالصة له.

( لا شَرِيكَ لَهُ ) لا أشرك فيها غيره( وَبِذلِكَ ) القول أو الإخلاص( أُمِرْتُ ) أمر ربّي( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) من هذه الأمّة، لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته.

( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥) )

ولـمّا أمر سبحانه نبيّه ببيان الإخلاص في الدين، عقّبه بأمره بأن يبيّن لهم

__________________

(١) الكوثر: ٢.

٤٨٧

بطلان أفعال المشركين، فقال:( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ) فأشركه في عبادتي. وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. والهمزة للإنكار، أي: أنا منكر أن أبغي ربّا غيره.( وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) حال في موضع العلّة للإنكار والدليل له، أي: وكلّ ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبيّة، ونحوه:( أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ) (١) .

( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ) أي: لا تكسب كلّ نفس جزاء كلّ عمل من طاعة أو معصية إلّا عليها، فعليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها. ووجه اتّصالها بما قبلها أنّ المراد أنّه لا ينفعني في ابتغاء ربّ غيره ما أنتم عليه من ذلك.

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وهذا جواب عن قولهم:( اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) (٢) . والمعنى: لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم نفس أخرى. وفيه دلالة على فساد قول المجبّرة: إنّ الله يعذّب الطفل. بكفر أبيه.( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ) مآلكم يوم القيامة( فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) بتبيين الرشد من الغي، وتمييز المحقّ من المبطل.

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) يخلّف كلّ عصر أهل العصر الّذي قبله، يجري ذلك على انتظام واتّساق إلى يوم القيامة. أو خلفاء الله في أرضه تتصرّفون فيها، على أنّ الخطاب عامّ. أو خلفاء الأمم السابقة، على أنّ الخطاب لأمّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه خاتم النبيّين، فخلّفت أمّته سائر الأمم.

( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) في الشرف والغنى. وقيل: في الصورة والعقل، والمال والقوّة، والعمر.( لِيَبْلُوَكُمْ ) ليختبركم( فِي ما آتاكُمْ ) من الجاه والمال، كيف تشكرون نعمه؟ وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والغنيّ بالفقير؟ يعني: يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل، وانتفاء من الظلم، أي: لينظر الغنيّ إلى

__________________

(١) الزمر: ٦٤.

(٢) العنكبوت: ١٢.

٤٨٨

الفقير فيشكر، وينظر الفقير إلى الغنيّ فيصبر، ويفكّر العاقل في الأدلّة فيعلم ويعمل بما يعلم.

( إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ ) لمن كفّر نعمه، لأنّ ما هو آت قريب، أو لأنّه يسرع إذا أراده في الدنيا( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) لمن أقام بشكره. وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة، وضمّ إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكّدة، تنبيها على أنّه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها. والله أعلم بالصواب.

٤٨٩
٤٩٠

(٧)

سورة الأعراف

عدد آيها مائتان وستّ آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا، وكان آدم شفيعا له يوم القيامة.

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها في كلّ جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة»(١) .

وروى أيضا عنهعليه‌السلام : «أما إنّ فيها آيا محكمة، فلا تدعوا قراءتها وتلاوتها والقيام بها، فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربّه»(٢) .

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنّه أنزل

__________________

(١، ٢) تفسير العيّاشي ٢: ٢ ح ١.

٤٩١

كتابا فيه معالم الدين والحكمة، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص ) أنا الله أعلم جميع الأمور والأحوال وأصدق في جميع الأقوال. وقيل: اسم السورة أو القرآن. وبواقي وجوه الحروف المقطّعة قد سبق(١) في سورة البقرة.

( كِتابٌ ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب. أو خبر «المص». والمراد به السورة أو القرآن.( أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) صفته( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) من تبليغه مخافة أن تكذّب فيه أو تقصّر في القيام بحقّه، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف تكذيب قومه له، وإعراضهم عن قبوله، وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له، فآمنه الله تعالى، وأمره بترك المبالاة بهم. أو المراد بالحرج الشكّ، فإنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. وتوجّه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولهم: لا أرينّك هاهنا. والفاء تحتمل العطف والجواب، فكأنّه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك منه.

( لِتُنْذِرَ بِهِ ) متعلّق بـ «أنزل» أو بـ «لا يكن»، أي: أنزل إليك لإنذارك، أو لا يكن في صدرك حرج لإنذارك، لأنّه إذا أيقن أنّه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم، أو علم أنّه موفّق للقيام بتبليغه.

( وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) يحتمل النصب على معنى: لتنذر به وتذكّر تذكيرا، فإنّ الذكرى في معنى التذكير. والرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو عطف على «كتاب». والجرّ للعطف على محلّ أن «تنذر» أي: للإنذار وللذكر. وخصّ المؤمنين لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ خاطب المكلّفين بقوله:( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعمّ القرآن والسنّة، لقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) (٢) . ويدخل في وجوب

__________________

(١) راجع ج ١: ٣٦.

(٢) النجم: ٣ ـ ٤.

٤٩٢

الاتّباع الواجب والندب والمباح، لأنّه يجب أن يعتقد في كلّ منها ما أمر الله به، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه.

( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ ) من دون الله( أَوْلِياءَ ) يضلّونكم عن دين الله وعمّا أمركم باتّباعه من الجنّ والإنس. وقيل: الضمير في «دونه» لـ «ما أنزل»، أي: ولا تتّبعوا من دون دين الله دين أولياء.

وعن الحسن: يا ابن آدم أمرت باتّباع كتاب الله وسنّة نبيّه، والله ما أنزلت آية إلّا ويحبّ أن تعلم فيم نزلت وما معناها.

( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) أي: تذكّرا قليلا أو زمانا قليلا تذكّرون، حيث تتركون دين الله وتتّبعون غيره. و «ما» مزيدة لتأكيد القلّة. وإن جعلت مصدريّة لم ينتصب «قليلا» بـ «تذكّرون». وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: تذكرون، بحذف التاء وتخفيف الذال. وابن عامر: يتذكّرون بالغيبة، أي: ما يتذكّر هؤلاء يا محمد.

ومعنى التذكّر أن تأخذ في الذكر شيئا بعد شيء، مثل التفقّه والتعلّم.

( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) )

ولـمّا تقدّم الأمر منه سبحانه للمكلّفين باتّباع القرآن، والتحذير من مخالفته والتذكير، عقّب ذلك بتذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب، وتحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، فقال:( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ ) أي: وكثيرا من أهل القرى( أَهْلَكْناها ) أردنا إهلاك أهلها لفرط عصيانهم وعنادهم( فَجاءَها ) فجاء أهلها( بَأْسُنا ) عذابنا( بَياتاً ) بائتين، كقوم لوط. مصدر وقع موقع الحال.( أَوْ هُمْ قائِلُونَ ) عطف عليه، أي: قائلين نصف النهار، كقوم شعيب. يعني: فجاءهم عذابنا في هذين الوقتين: وقت البيات، ووقت القيلولة. وتخصيص هذين الوقتين لأنّهما وقت الغفلة

٤٩٣

والدعة، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ وأفظع.

وأصل القيلولة الراحة، ومنه الإقالة في البيع، لأنّه الإراحة منه بالإعفاء من عقده.

وإنّما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفي العطف، فإنّ واو الحال واو العطف في الأصل استعيرت للوصل، لا اكتفاء بالضمير، فإنّه غير فصيح. وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب.

( فَما كانَ دَعْواهُمْ ) أي: دعاؤهم واستغاثتهم، أو ما كانوا يدّعونه من دينهم( إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) إلّا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسّرا عليهم. و «دعواهم» خبر «كان»، و «أن قالوا» رفع لأنّه اسم له. ويجوز العكس.

( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) )

ولـمّا أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا، عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة، فقال:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) أي: المرسل إليهم ـ وهم الأمم ـ عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل( وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) عمّا أجيبوا به، وعمّا عملت أممهم فيما جاؤا به. والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم، والتقرير عليهم، وازدياد

٤٩٤

سرور المثابين بالثناء عليهم، وغمّ المعاقبين بإظهار قبائحهم. والمنفيّ في قوله:( وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) (١) سؤال استعلام. أو الأوّل في موقف الحساب، وهذا عند حصولهم على العقوبة.

( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ) على الرسل، أي: لنخبرنّهم حين يقولون:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) (٢) . أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه.( بِعِلْمٍ ) عالمين بظواهرهم وبواطنهم، أو بمعلومنا منهم( وَما كُنَّا غائِبِينَ ) عنهم، فيخفى علينا شيء من أحوالهم.

( وَالْوَزْنُ ) ووزن الأعمال والتمييز بين خفيفها وراجحها. أو المراد به القضاء الحقّ والحكم العدل. ورفعه بالابتداء، وقوله:( يَوْمَئِذٍ ) خبره، أي: الوزن الثابت يوم يسأل الله الأمم ورسلهم( الْحَقُ ) صفته. أو خبر محذوف، ومعناه: الوزن الحقّ، أي: العدل السويّ.

واختلفوا في كيفيّة الوزن، لأنّ الأعمال أعراض لا يجوز عليها الاعادة، ولا يكون لها وزن، ولا تقوم بأنفسها. فقيل: توزن الصحائف، فإنّ جمهور العلماء ـ من موافقينا ومخالفينا ـ على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفّتان ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، وتأكيدا للحجّة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم.

ويؤيّده ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلّا، كلّ سجلّ مدّ البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلّات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت(٣) السجلّات وثقلت البطاقة.

__________________

(١) القصص: ٧٨.

(٢) المائدة: ١٠٩.

(٣) طاش يطيش، أي: خفّ.

٤٩٥

وقيل: توزن الأشخاص، لـما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، لقوله:( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) (١) .

( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) فمن رجحت أعماله الموزونة الّتي لها وزن وقدر، وهي الحسنات. أو ما يوزن به حسناته. وحينئذ جمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدّد الوزن، بأن يكون لكلّ نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان. ويؤيّده ما جاء في الخبر: «أنّ الصلاة ميزان، فمن وفي استوفى».

فهو جمع موزون أو ميزان.

( فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الفائزون بالنجاة والثواب.

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ) فيكذّبون بدل التصديق، ويكتسبون ما عرّضوها للعذاب، فيضيّعون الفطرة السليمة الّتي فطرت عليها. والخسران ذهاب رأس المال، ومن أعظم رأس المال النفس، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.

( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) )

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على البشر، بالتمكين في الأرض وما خلق فيها من الأرزاق، مضافا إلى نعمه السابغة عليهم، بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فقال:( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي: جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو أقدرناكم على التصرّف فيها، وملّكناكم فيها.

( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) أسبابا تعيشون بها. جمع معيشة، وهي ما يعاش

__________________

(١) الكهف: ١٠٥.

٤٩٦

به من أنواع الرزق ووجوه النعم والمنافع، أو ما يتوصّل إلى ذلك. وعن نافع: أنّه همزه تشبيها بما الياء فيه زائدة، كصحائف.

( قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) زمانا أو شكرا قليلا تشكرون فيما صنعت إليكم.

( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) )

ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق، فقال:( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ) أي: خلقنا أباكم آدمعليه‌السلام طينا غير مصوّر، ثمّ صوّرناه. نزّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكلّ وتصويره. أو ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم، بأن خلقنا آدم ثمّ صوّرناه.

( ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) . قيل: ذكر «ثمّ» لتأخير الإخبار. ويمكن حملها على التراخي في الرتبة، لأنّ مقام الامتنان يؤذن أن يكون أبوهم بسجود الملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم.( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ

٤٩٧

السَّاجِدِينَ ) ممّن سجد لآدم.

( قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ) أي: أن تسجد و «لا» صلة، كما في:( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ) (١) ، فإنّه بمعنى: ليعلم، بدليل قوله:( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) (٢) . والفائدة في زيادتها توكيد معنى الفعل الّذي دخلت عليه وتحقيقه، كأنّه قيل: ما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك، والتنبيه على أنّ الموبّخ عليه ترك السجود. وقيل: الممنوع عن الشيء مضطرّ إلى خلافه، فكأنّه قيل: ما اضطرّك إلى أن لا تسجد( إِذْ أَمَرْتُكَ ) . فيه دليل على أنّ مطلق الأمر للوجوب والفور.

( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) وإنّما سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه، توبيخا له، وإظهارا لمعاندته وكفره وكبره، وافتخاره بأصله، وازدرائه بأصل آدم، وأنّه خالف أمر ربّه معتقدا أنّه غير واجب عليه، لـمّا رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب، ولهذا قال في جوابه: أنا خير منه. وحقيقة الجواب أن يقول: منعني كذا وكذا، إلّا أنّه أجاب بما يكون جوابا من حيث المعنى، استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله، كأنّه قال: المانع فيه أنّي خير منه، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به؟ يعني: من كان على مثل صفتي يستبعد أن يؤمر بما أمرت به. فهو الّذي سنّ التكبّر.

عن ابن عبّاس: قاس إبليس فأخطأ القياس، وهو أوّل من قاس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله بإبليس. وقال ابن سيرين: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس.

ثمّ بيّن علّة خيريّته وقال:( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) فهو تعليل لفضله على آدم. ومراده منه: أنّ النار أشرف من الطين، وهو خلق منها وآدم من الطين، فلم يجز أن يسجد الأشرف للأدون.

__________________

(١) الحديد: ٢٩.

(٢) ص: ٧٥.

٤٩٨

وقد غلط في ذلك، بأن رأى الفضل كلّه باعتبار العنصر، وغفل عمّا يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله:( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) (١) ، أي: بغير واسطة. وباعتبار الصورة، كما نبّه عليه بقوله:( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) (٢) . وباعتبار الغاية، وهو فضله من حيث علومه الجمّة، ولذلك أمر الملائكة بسجوده لـمّا بيّن لهم أنّه أعلم منهم، وأنّ له خواصّ ليست لغيره.

والآية دليل على الكون والفساد، وأنّ الشياطين أجسام كائنة. ولعلّ إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.

( قالَ فَاهْبِطْ ) فانزل وانحدر( مِنْها ) من السماء، أو الجنّة، أو عن الدرجة الشريفة الرفيعة الّتي للمطيعين إلى الدرجة الدنيّة الوضيعة الّتي للعاصين.( فَما يَكُونُ لَكَ ) فما يصحّ لك( أَنْ تَتَكَبَّرَ ) عن أمر الله( فِيها ) وتعصي، فإنّها مكان الخاشع والمطيع، وليست بموضع المتكبّرين، وإنّما موضعهم النار، كما قال:( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) (٣) . وفيه تنبيه على أنّ التكبّر لا يليق بأهل الجنّة، وأنّه تعالى إنّما طرده وأهبطه للتكبّر لا لمجرّد عصيانه.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تواضع رفعه الله، ومن تكبّر وضعه الله».

( فَاخْرُجْ ) من المكان الّذي أنت فيه( إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) ممّن أهانه الله ووضعه لكبره. وهذا الكلام إنّما صدر من الله سبحانه على لسان بعض الملائكة.

والآية لا تدلّ على أنّه يجوز التكبّر في غير الجنّة، فإنّ التكبّر لا يجوز على حال، لأنّه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء، وهذا في صفة العباد ذمّ، وفي صفة الله مدح، إلّا أنّ إبليس تكبّر على الله في الجنّة فأخرج منها قسرا، ومن تكبّر خارج الجنّة منع من ذلك بالأمر وبالنهي. ويؤيّده قوله تعالى:( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها

__________________

(١) ص: ٧٥.

(٢) الحجر: ٢٩.

(٣) الزمر: ٦٠.

٤٩٩

لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) (١) .

( قالَ أَنْظِرْنِي ) أمهلني وأخّرني في الأجل( إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) إلى يوم القيامة، فلا تمتني، أو لا تعجّل عقوبتي.

( قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) ظاهره يقتضي الإجابة إلى ما سأله، لكنّه محمول على ما جاء مقيّدا بقوله:( إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (٢) . وهو النفخة الأولى، أو وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله. وفي إنجاح مسئوله ابتلاء العباد، وتعريضهم للثواب بمخالفتهم إيّاه. وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف، وأنواع الملاذّ والملاهي، وما ركّب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

( قالَ ) بعد الإمهال( فَبِما أَغْوَيْتَنِي ) بسبب إغوائك إيّاي. والباء متعلّقة بفعل القسم المحذوف لا بـ «أقعدنّ»، فإن اللّام تصدّ عنه. وقيل: الباء للقسم. فعلى الأوّل الباء للسببيّة، والمقسم والمقسم عليه مقدّر. والتقدير: أحلف بالله بسبب إغوائك إيّاي. وعلى الثاني، تقديره: أقسم بإغوائك إيّاي.

والمراد بالإغواء تكليفه سبحانه إيّاه ما وقع به في الغيّ، ولم يثبت عليه كما ثبتت الملائكة.

وقيل: معناه: بسبب أمرك إيّاي بالسجود، فحملتني به الأنفة والاستنكاف على معصيتك، فتسبّب وقوعي في الغيّ. أو بما خيّبتني من رحمتك وجنّتك. أو بما حكمت بغوايتي، كما يقال: أضللتني، أي: حكمت بضلالتي. أو بما أهلكتني بلعنتك إيّاي، كما في قوله تعالى:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (٣) أي: هلاكا. وقالوا: غوى الفصيل إذا فقد اللبن فمات. والمصدر غوى مقصورا.

ولا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أنّ الله تعالى يغوي الخلق، بأن يضلّهم، ويكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشرّ. وعلى هذا يكون الإغواء على

__________________

(١) القصص: ٨٣.

(٢) الحجر: ٣٨.

(٣) مريم: ٥٩.

٥٠٠