زبدة التفاسير الجزء ٣

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
المشاهدات: 12959
تحميل: 1892


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 637 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12959 / تحميل: 1892
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-05-1
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) )

ثمّ بيّن سبحانه صحّة نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال:( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) من القصص. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، كما تقول لعبدك: إن كنت عبدي فأطعني، ولأبيك: إن كنت والدي فتعطّف عليّ، ولولدك: إن كنت ابني فبرّ بي، ويريد بذلك المبالغة.( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) فاسأل علماء أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وتميم الداري وغيرهم، فإنّه محقّق عندهم، ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك. والمراد تحقيق ذلك، والاستشهاد بما في الكتب المتقدّمة، وأنّ القرآن مصدّق لـما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحّة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته، كما ازداد إبراهيم بمعاينة إحياء الموتى، لا إمكان وقوع الشكّ له، ولذلك قالعليه‌السلام : «لا أشكّ ولا أسأل».

وعن الصادقعليه‌السلام : «لم يشكّعليه‌السلام ولم يسأل».

وقيل: الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد أمّته أو كلّ من يسمع، أي: إن كنت أيّها السامع في شكّ ممّا أنزلنا على لسان نبيّنا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلّها بالرجوع إلى أهل العلم.

وعلى المعنى المذكور أيضا قوله:( لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي: ثبت عندك بالآيات القاطعة والبراهين الساطعة أنّ ما أتاك هو الحقّ الواضح الّذي لا مدخل للمرية فيه( فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) بالتزلزل عمّا أنت عليه من الحزم واليقين.

٢٤١

( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) هذا أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع الكفّار عنه، كقوله:( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) (١) .

( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ) ثبتت( عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) قول الله الّذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة من أنّهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب( لا يُؤْمِنُونَ ) إذ لا يكذّب كلامه.

( وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ) كلّ معجزة ودلالة واضحة ممّا يقترحونها( حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) فيصيروا ملجئين إلى الإيمان، وحينئذ لا ينفعهم كما لم ينفع فرعون.

( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) )

ولـمّا ذكر سبحانه أنّ إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب، وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونسعليه‌السلام قبيل نزول العذاب، فقال:( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ ) فهلّا كانت قرية ـ أي: أهل قرية ـ من القرى الّتي أهلكناها( آمَنَتْ ) وقت بقاء التكليف قبل معاينة العذاب، ولم يؤخّروا التوبة إليها كما أخّر فرعون( فَنَفَعَها إِيمانُها ) بأن يقبله الله تعالى منها ويكشف العذاب عنها( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) لكن قوم يونس( لَمَّا آمَنُوا ) أوّل ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخّروه إلى حلوله( كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمّن حرف التحضيض معناه ،

__________________

(١) القصص: ٨٦.

٢٤٢

فيكون الاستثناء متّصلا، لأنّ المراد من القرى أهاليها، كأنّه قال: ما من أهل قرية من القرى العاصية الهالكة أهلها حين مشاهدة العذاب فنفعهم إيمانهم إلّا قوم يونس لـمّا آمنوا رفعنا عنهم العذاب( وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) إلى آجالهم.

روي أنّ يونسعليه‌السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فكذّبوه وأصرّوا عليه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، وقيل: إلى أربعين، فذهب عنهم مغاضبا، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنّا بك. فلمّا مضى اثنان أو مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا، ثمّ يهبط حتّى يغشى مدينتهم، ويسوّد سطوحهم، فهابوا وطلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدوابّ وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرّعوا، فرحمهم‌الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.

وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتّى إنّ الرجل كان ليأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيردّه.

وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلّا أنت. فقالوها فكشف عنهم العذاب.

وعن الفضيل بن عياض: قالوا: إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلّت، وأنت أعظم منها وأجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله.

وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، قال: «قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : كان فيهم رجلان، اسم أحدهما مليخا عابد، والآخر اسمه روبيل عالم، وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول له: لا تدع عليهم، فإنّ الله يستجيب لك، ولا يحبّ هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد ،

٢٤٣

فدعا عليهم، فأوحى الله تعالى إليهم أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا.

فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيهم. فلمّا كان اليوم الّذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم: افزعوا إلى الله لعلّه يرحمكم ويردّ العذاب عنكم، واخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوانات وأولادها، ثمّ ابكوا وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب، وكان قد نزل وقرب منهم.

ومرّ يونس على وجهه مغاضبا كما حكى الله تعالى عنه حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت(١) وأرادوا أن يدفعوها، فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه، فلمّا توسّط البحر بعث الله عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة، فتساهموا فوقع سهم يونس، وأخرجوه فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت ومرّ به في الماء»(٢) .

وقيل: إنّ الملّاحين قالوا: نقرع فمن أصابته القرعة ألقيناه في الماء، فإنّ ها هنا عبدا عاصيا آبقا، فوقعت القرعة سبع مرّات على يونس. فقام وقالعليه‌السلام : أنا العبد الآبق، وألقى نفسه في الماء وابتلعه الحوت، فأوحى الله إلى ذلك الحوت: لا تؤذ شعرة منه، فإنّي جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك، فلبث في بطنه ثلاثة أيّام، وقيل: سبعة أيّام، وقيل: أربعين يوما.

وقد سأل بعض اليهود أمير المؤمنينعليه‌السلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه. فقال: يا يهوديّ هو الحوت الّذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر قلزم، ثمّ خرج إلى مصر، ثمّ سار منها إلى بحر طبرستان، ثمّ خرج من الدجلة.

قال عبد الله بن مسعود: ابتلع الحوت حوت آخر، فأهوى به إلى قرار الأرض، فكان في بطنه أربعين ليلة، فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين. فاستجاب الله له، فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر ،

__________________

(١) أي: ملئت.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ١: ٣١٧.

٢٤٤

وهو كالفرخ المتمعّط(١) ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظلّ تحتها، ووكلّ الله به وعلا(٢) يشرب من لبنها. فيبست الشجرة، فبكى عليها، فأوحى الله تعالى إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن أهلكهم. فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت؟ قال: من قوم يونس.

قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنّك لقيت يونس. فأخبرهم الغلام، وردّ الله عليه بدنه، ورجع إلى قومه وآمنوا به. وقيل: إنّهعليه‌السلام أرسل إلى قوم غير قومه الأوّلين.

( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) )

ولـمّا تقدّم أنّ إيمان الملجأ غير نافع، بيّن سبحانه أنّ ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه، فقال:( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ) مشيئة إلجاء وقسر( لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ ) بحيث لا يشذّ منهم أحد( جَمِيعاً ) مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه، كما قال:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) (٣) . ولكنّ الإلجاء مناف للتكليف الاختياري الّذي هو مناط الأعمال ومدارها. ولو كان المراد بالمشيئة مشيئة أزليّة ـ كما قال الأشاعرة ـ لم يصحّ تعليقها بالشرط، ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لو علم سبحانه ولو قدر، كما صحّ: لو شاء ولو أراد.

__________________

(١) أي: الساقط شعره، من: تمعّط الشعر، أي: سقط.

(٢) الوعل: تيس الجبل، له قرنان.

(٣) الشعراء: ٤.

٢٤٥

( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يعني: إنّما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو سبحانه لا أنت. وإيلاء حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنّما المكره هو وحده لا يشارك فيه، لأنّه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.

روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حريصا على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت هذه الآية.

( وَما كانَ لِنَفْسٍ ) من النفوس الّتي علم الله أنّها تؤمن( أَنْ تُؤْمِنَ ) بالله( إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) أي: بتسهيله ومنح الطافه وتوفيقه وتمكينه منه، ودعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ) العذاب أو الخذلان، فإنّه سببه( عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات عنادا ولجاجا.

قابل الإذن بالرّجس وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالّذين لا يعقلون، وهم المصرّون على الكفر، كقوله:( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (١) .

( قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) )

ثمّ بيّن سبحانه ما يزيد في تنبيه القوم وإرشادهم، فقال:( قُلِ انْظُرُوا

__________________

(١) البقرة: ١٧١.

٢٤٦

تفكّروا( ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) من عجائب صنعه، كاختلاف الليل والنهار، ومجاري النجوم والأفلاك، وما خلق من الجبال والبحار، وأنبت من الأشجار والثمار، وأخرج من أنواع الحيوانات وغيرها، لتدلّكم على وحدته وكمال قدرته، فإنّ النظر في افرادها وجملتها يدعو إلى الإيمان إلى معرفة الصانع ووحدانيّته وعلمه وحكمته وقدرته. و «ماذا» إن جعلت استفهاميّة علّقت «انظروا» عن العمل.

( وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ ) الرسل المنذرون أو الإنذارات( عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) أي: لا يتوقّع إيمانهم، لعنادهم ولجاجهم ومكابرتهم. و «ما» نافية، أو استفهاميّة في موضع النصب.

( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم، إذ لا يستحقّون غيره، من قولهم: أيّام العرب لوقائعها( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) لذلك. أو فانتظروا هلاكي، إنّي معكم من المنتظرين هلاككم.

( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) عطف على محذوف دلّ عليه( إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا ) . كأنّه قيل: نهلك الأمم ثمّ ننجّي رسلنا ومن آمن بهم، على حكاية الحال الماضية.( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي: كذلك الإنجاء، أو إنجاء كذلك ننجّي محمدا وصحبه حين نهلك المشركين. و «حقّا علينا» اعتراض، ونصبه بفعله المقدّر، أي: حقّ ذلك علينا حقّا. وقيل: بدل من «كذلك». وقرأ حفص والكسائي: ننجي مخفّفا.

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

٢٤٧

(١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) )

ثمّ أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبراءة عن كلّ معبود سواه، فقال:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ ) خطاب لأهل مكّة( إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ) أي: من صحّته( فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا، فأعرضوها على العقل الصرف، وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحّتها، وهو أنّي لا أعبد ما تخلقونه ـ كالأصنام المنحوتة من الحجارة والخشب ـ وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم الّذي هو يوجدكم ويتوفّاكم. وإنّما خصّ التوفّي بالذكر للتهديد.( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) المصدّقين بالتوحيد الّذي دلّ عليه العقل، ونطق به الوحي. وحذف الجارّ من «أن» و «أنّ» مطّرد، ومع غيرهما غير مطّرد، كقوله: أمرتك الخير، أي: بالخير.

( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) عطف على «أن أكون» غير أنّ صلة «أن» محكيّة بصيغة الأمر، ولا فرق بينهما في الغرض، لأنّ المقصود وصلها بما يتضمّن معنى المصدر لتدلّ معه عليه، وصيغ الأفعال كلّها كذلك، سواء الخبر منها والطلب.

والمعنى: وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه، وبإقبالي عليه، قائما بأعباء الرسالة وتحمّل أمر الشريعة، من أداء الفرائض والانتهاء عن القبائح غير عوج عنه، أو في الصلاة باستقبال القبلة( حَنِيفاً ) حال من الدين أو الوجه، أي: مستقيما في الدين( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

٢٤٨

( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ ) إن أطعته( وَلا يَضُرُّكَ ) إن عصيته وتركته( فَإِنْ فَعَلْتَ ) فإن دعوته( فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) جزاء للشرط، وجواب لسؤال مقدّر عن تبعة الدعاء، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة غير الله. وجعل من الظالمين، لأنّه لا ظلم أعظم من الشرك،( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) . والخطاب وإن كان متوجّها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الظاهر لكنّ المراد به أمّته.

( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) )

ثمّ عقّب النهي عن عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ، بأنّ الله هو الضارّ والنافع الّذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلّا هو، وإن أرادك بخير لم يردّه أحد، فقال:( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ) وإن يصبك بضرر، كالمرض والفقر( فَلا كاشِفَ لَهُ ) برفعه( إِلَّا هُوَ ) إلّا الله( وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ) كالصحّة والغنى( فَلا رَادَّ ) فلا دافع( لِفَضْلِهِ ) الّذي أرادك به، فهو الحقيق بأن يعبد دون الأوثان.

ولعلّه ذكر الإرادة مع الخير والمسّ مع الضرّ مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أنّ الخير مراد بالذات، وأنّ الضرّ إنّما مسّهم لا بالقصد الأوّل. ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنّه متفضّل بما يريد بهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه.

( يُصِيبُ بِهِ ) بالخير( مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ ) لذنوب عباده( الرَّحِيمُ ) بهم. فتعرّضوا لرحمته بالطاعة، ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية. والمراد بالمشيئة مشيئة المصلحة.

__________________

(١) لقمان: ١٣.

٢٤٩

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩) )

ثمّ ختم الله سبحانه السورة بالموعظة الحسنة، تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والوعد للمؤمنين والوعيد للمشركين، فقال:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ ) أي: الرسول أو القرآن( مِنْ رَبِّكُمْ ) فلم يبق لكم عذر، ولا لكم على الله حجّة( فَمَنِ اهْتَدى ) بالإيمان والمتابعة( فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) لأنّ نفعه لها( وَمَنْ ضَلَ ) بالكفر بهما( فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) لأنّ وبال الضلال عليها. واللام و «على» دليلان على معنى النفع والضرّ.( وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) بحفيظ موكول إلى أمركم لأحملكم على ما أريد، وإنّما أنا بشير ونذير، فليس عليّ إلّا البلاغ، ولا يلزمني أن أجعلكم مهتدين، وأن أنجيكم من النار، كما يجب على من وكّل على متاع أن يحفظه من الضرر.

( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ) بالامتثال والتبليغ( وَاصْبِرْ ) على دعوتهم وتحمّل أذيّتهم( حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ ) بالأمر بالقتال( وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) لا يحكم إلّا بالحقّ والعدل، إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطّلاعه على السرائر اطّلاعه على الظواهر.

٢٥٠

(١١)

سورة هود

مكّيّة، وهي مائة وثلاث وعشرون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذّب به، وبهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى، وكان يوم القيامة من السعداء».

وروى الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: «قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك الشيب، قال: شيّبتني سورة هود وأخواتها».

وفي رواية اخرى عن أنس بن مالك، عن أبي بكر قال: «قلت: يا رسول الله عجّل إليك الشيب. قال: شيّبتني سورة هود وأخواتها: الحاقّة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتيك حديث الغاشية».

وروى العيّاشي عن الحسن بن عليّ بن الوشّاء، عن ابن سنان، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة هود في كلّ جمعة بعثه الله يوم القيامة في زمرة النبيّين، وحوسب حسابا يسيرا، ولم يعرف له خطيئة عملها يوم القيامة»(١) .

__________________

(١) تفسير العيّاشى ٢: ١٣٩ ح ١.

٢٥١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة يونس بذكر الوحي في قوله:( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ) افتتح هذه السّورة ببيان ذلك الوحي، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ ) مبتدأ وخبر، أو «كتاب» خبر محذوف( أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) نظمت ظما محكما لا يعرضه نقض، ولا يعتريه خلل من جهة اللفظ والمعنى، كالبناء المحكم. أو منعت من الفساد والنسخ. من: أحكم الدابّة وضع عليها الحكمة(١) لتمنعها من الجماح، أو جعلت حكيمة، منقول من: حكم بالضمّ إذا صار حكيما، لأنّها مشتملة على أمّهات الحكم النظريّة والعمليّة.

( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) بالفوائد، من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص. أو بجعلها سورة سورة وآية آية. أو بالإنزال نجما نجما. أو فصّل فيها ولخّص ما يحتاج إليه العباد. و «ثمّ» للتفاوت في الحال، كما تقول: هي

__________________

(١) الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه يمنعه من مخالفة راكبه.

٢٥٢

محكمة أحسن الإحكام ثمّ مفصّلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثمّ كريم الفعل.

( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ ) أحكمها( خَبِيرٍ ) فصّلها وبيّنها. هذه صفة اخرى لـ «كتاب»، أو خبر بعد خبر، أو صلة لـ «أحكمت» أو «فصّلت». وهو تقرير لإحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي، باعتبار ما ظهر أمره وما خفي.

( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) مفعول له، أي: لأن لا تعبدوا. وقيل: «أن» مفسّرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنّه قيل: قال لا تعبدوا إلّا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلّا الله، أي: أمركم بالتوحيد. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد، أو الأمر بالتبرّي من عبادة الغير، كأنّه قيل: ترك عبادة غير الله، بمعنى: الزموه.( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ) من الله( نَذِيرٌ ) بالعقاب على الشرك( وَبَشِيرٌ ) بالثواب على التوحيد.

( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) عطف على «أَلَّا تَعْبُدُوا »( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) ثمّ توصّلوا إلى مطلوبكم بالتوبة، فإن المعرض عن طريق الحقّ لا بدّ له من الرجوع.

والمعنى: استغفروا من الشرك ثمّ توبوا إلى الله تعالى بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثمّ أخلصوا التوبة ـ الّتي هي الاستغفار ـ واستقيموا عليها. فإيراد «ثمّ» لتفاوت ما بين الأمرين.

( يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً ) يعيّشكم في الدنيا بالنعم السابغة، والمنافع المتتابعة الدينيّة والماليّة( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو آخر أعماركم المقدّرة، كقوله:( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) (١) . أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال. والأرزاق والآجال وإن كانت متعلّقة بالأعمار، كما ورد في الحديث أنّ الصدقة تزيد

__________________

(١) النحل: ٩٧.

٢٥٣

في العمر وتلاوة القرآن تزيد في الرزق، لكنّها مسمّاة بالإضافة إلى كلّ واحد فلا تتغيّر.

( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) ويعط كلّ ذي فضل في دينه وعمله جزاء فضله في الدنيا والآخرة لا يبخس منه، أو فضله في الثواب والدرجات تتفاضل في الجنّة على قدر تفاضل الطاعات. وهو وعد للموحّد التائب بخير الدارين.

( وَإِنْ تَوَلَّوْا ) وإن تتولّوا عمّا أمرتم به( فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) أي: كبير شأنه. وهو يوم القيامة. وقيل: يوم الشدائد. وقد ابتلوا بالقحط حتّى أكلوا الجيفة.

( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ ) رجوعكم في ذلك اليوم. وقياس المصدر الميمي أن يكون على وزن مفعل بالفتح، نحو مدخل، فالمرجع شاذّ عن القياس.

( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فيقدر على تعذيبكم أشدّ عذاب، وكأنّه تقرير لكبر اليوم.

( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) )

روي أنّ طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمّد كيف يعلم؟ وهذا من شدّة جهلهم بالله، فظنّوا أنّهم إذا ثنوا صدورهم على سبيل الإخفاء لم يعلم الله تعالى أسرارهم، فنزلت:( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) يطوونها ويعطفونها على الكفر وعداوة النبيّ( لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) من الله بسرّهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه.

وقيل: إنّ الأخنس بن شريق كان حلو الكلام، يلقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما

٢٥٤

يحبّ وينطوي بقلبه على ما يكره، ويضمر خلاف ما يظهر، فنزلت هذه الآية.

وقيل: نزلت في المنافقين. وفيه نظر، إذ الآية مكّيّة والنفاق حدث بالمدينة.

ويؤيّد الأوّل ما روى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «أخبرني جابر بن عبد الله أنّ المشركين إذا مرّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طأطأ أحدهم رأسه وولّى ظهره وغطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية».

( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ) أي: حين يتغطّون بثيابهم( يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ ) في قلوبهم( وَما يُعْلِنُونَ ) بأفواههم. يعني: يستوي في علمه سرّهم وعلنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه؟!( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) بأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب وأحوالها.

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) )

ثمّ بيّن أنّه عالم بجميع المعلومات كلّها، تقريرا لعلمه بأسرار العباد وإعلانهم، فقال:( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ) غذاؤها ومعاشها، لتكفّله إيّاه تفضّلا ورحمة. ولـمّا ضمن سبحانه أن يتفضّل بالرزق عليهم وتكفّل به صار التفضّل واجبا، فلذلك جاء بلفظ الوجوب، كالنذور الواجبة على العباد.

( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها ) مواضع قرارها ومسكنها من الأرض( وَمُسْتَوْدَعَها ) حيث كانت مودعة. قيل: الاستقرار في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات. أو المراد منهما أماكنهما في الحياة والممات.( كُلٌ ) كلّ واحد من الدوّاب وأحوالها( فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) مذكور في اللوح المحفوظ.

٢٥٥

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) )

ثمّ بين كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد، فقال:( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) أي: خلقهما وما فيهما مقدار ستّة أيّام، لأنّها لم تكن هناك بعد، فإنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الشمس وغروبها. أو ما في جهتي العلوّ والسفل. وجمع السموات دون الأرض، لاختلاف العلويّات بالذات دون السفليّات.

( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) قبل خلقهما، لم يكن حائل بينهما، لا أنّه كان موضوعا على متن الماء. واستدلّ به على إمكان الخلا، وأنّ الماء أوّل حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم، وأنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض، وأنّ الماء قائم بقدرة الله تعالى على غير موضع قرار، بل كان الله يمسكه بكمال قدرته. وقيل: كان الماء على متن الريح. وكيف كان، فالله ممسك كلّ ذلك بقدرته.

( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) متعلّق بـ «خلق» أي: خلق ذلك ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون؟ فإنّ جملة ذلك أسباب وموادّ لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل وأمارات تستدلّون بها وتستنبطون منها.

٢٥٦

وإنّما جاء تعليق فعل البلوى بـ «خلق» لـما فيه من معنى العلم، من حيث إنّه طريق إليه، كالنظر والاستماع، كما في قولك: أنظر أيّهم أحسن وجها واسمع أيّهم أحسن صوتا. وإنّما ذكر صيغة التفضيل والاختبار شامل لفرق المكلّفين باعتبار الحسن والقبح، للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقّي دائما في مراتب العلم والعمل، فإنّ المراد بالعمل ما يعمّ عمل القلب والجوارح، ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله تعالى؟».

والمعنى: أيّكم أكمل علما وعملا؟

( وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ) فتوقّعوه( لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا ) أي: ما البعث، أو القول به. أو القرآن المتضمّن لذكره( إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) إلّا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة والكسائي: إلّا ساحر، على أنّ الإشارة إلى قائل هذا القول، وهو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ) الموعود( إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) إلى جماعة متعاقبة من الأوقات قليلة.

روي عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام : «أنّ الأمّة المعدودة هم أصحاب المهدي في آخر الزمان، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، كعدّة أهل بدر، يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع(١) الخريف».

( لَيَقُولُنَ ) استهزاء( ما يَحْبِسُهُ ) أيّ شيء يمنعه من الوقوع استعجالا( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ) كيوم بدر( لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) ليس العذاب مدفوعا عنهم. و «يوم» منصوب بخبر «ليس» مقدّم عليه. وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها، وذلك لأنّه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلّا حيث يقع العامل.

__________________

(١) القزع: قطع من السحاب صغار متفرّقة.

٢٥٧

( وَحاقَ بِهِمْ ) وأحاط بهم. وإنّما وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد.( ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي: العذاب الّذي كانوا به يستعجلون. فوضع «يستهزءون» موضع: يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان استهزاء.

( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) )

ثمّ بيّن سبحانه حال الإنسان فيما قابل به نعمه من الكفران، فقال:( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ) ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذّتها( ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ) ثمّ سلبنا تلك النعمة منه( إِنَّهُ لَيَؤُسٌ ) قطوع رجاءه من فضل الله تعالى أن يعود إليه تلك النعمة المنزوعة، لقلّة صبره وعدم ثقته به( كَفُورٌ ) مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة.

( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ) كصحّة بعد سقم، وغنى بعد فقر. وفي إسناد إذاقة النعماء إليه تعالى في قوله: «أذقناه» دون الضرّاء في قوله «مسّته» إيماء إلى أنّ النعمة من جانبه تعالى مقصود أصليّ له، والضرّاء كداء ساقه إليهم سوء أفعالهم.

( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ) أي: المصائب الّتي ساءتني( إِنَّهُ لَفَرِحٌ ) بطر بالنعم مغترّ بها( فَخُورٌ ) على الناس بما أنعم الله عليه، مشغول عن الشكر والقيام بحقّها. وفي لفظ الإذاقة والمسّ تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لـما يجده في الآخرة، وأنّه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء ،

٢٥٨

لأنّ الذوق إدراك أوّل الطعم، والمسّ مبدأ الوصول.

( إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) على الضرّاء، إيمانا بقدره واستسلاما لقضائه( وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) شكرا لآلائه السابقة واللاحقة( أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) لذنوبهم( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) أقلّه الجنّة. والاستثناء من الإنسان، لأنّ المراد به الجنس، فإذا كان محلّى باللام أفاد الاستغراق. ومن حمله على الكافر، لسبق ذكرهم، جعل الاستثناء منقطعا.

( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) )

روي عن ابن عبّاس: أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوّة، فنزلت:( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ ) أي: تترك( بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ) وهو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقّع الشيء ـ لوجود ما يدعو إليه ـ وقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه ـ وهو عصمة الرسل من الخيانة في الوحي، والثقة في التبليغ ـ مانعا.

( وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) أي: عارض لك أحيانا ضيّق صدرك، بأن تتلوه

٢٥٩

عليهم مخافة ـ فللدلالة على أنّه ضيق عارض غير ثابت عدل عن ضيّق إلى ضائق ـ( أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ) ينفقه في الاستتباع كالملوك( أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ) يصدّقه. وقيل: الضمير في «به» مبهم يفسّره «أن يقولوا».( إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ) ليس عليك إلّا الإنذار بما أوحي إليك، ولا عليك ردّوا أو اقترحوا، فما بالك يضيق به صدرك؟!( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) فتوكّل عليه، فإنّه عالم بحالهم، وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم.

روى العيّاشي بإسناده إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام : «أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : إنّي سألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل. فقال بعض القوم: والله لصاع من تمر في شنّ(١) بال أحبّ إلينا ممّا سال محمّد ربّه، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستغني به على فاقته، فأنزل الله تعالى هذه الآية».

ثمّ قال:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) «أم» منقطعة، والهاء لـ «ما يوحى»( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ ) كلّ واحدة منها( مِثْلِهِ ) في البيان وحسن النظم. تحدّاهم أوّلا بعشر سور، ثمّ لـمّا عجزوا عنها سهّل الأمر عليهم وتحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل مقام الأمثال باعتبار كلّ واحدة، لأنّه أراد مماثلة كلّ واحدة منها له.( مُفْتَرَياتٍ ) مختلقات من عند أنفسكم، إن صحّ أنّي اختلقته من عند نفسي كما زعمتم، فإنّكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر، لتعلّمكم القصص والأشعار، وتعوّدكم نسق النظم وإنشاء الكلام المنثور الّذي كاللآلي( وَادْعُوا ) في المعاونة على المعارضة( مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أنّه مفترى.

( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ) بإتيان ما دعوتم إليه. وجمع الضمير لأنّ المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم، وكان أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متناولا لهم، من حيث إنّه يجب

__________________

(١) الشّنّ: القربة الخلق الصغيرة.

٢٦٠