زبدة التفاسير الجزء ٣

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
المشاهدات: 12969
تحميل: 1893


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 637 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12969 / تحميل: 1893
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-05-1
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مكرهم يضمحلّ عند نزول العذاب بهم، فقال:( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) بأنبيائهم والمؤمنين منهم( فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ) إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، فإنّه يردّ مكرهم ويعذّبهم من حيث لا يشعرون.

( يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ) فلا يخفى عليه ما يكتسبه الإنسان من خير وشرّ، لأنّه عالم بجميع المعلومات، فيعدّ جزاءها.

وقيل: يعلم ما يمكرونه في أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيبطل أمرهم، ويظهر أمره ودينه.

( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) من الحزبين حيثما يأتيهم من العذاب المعدّ لهم، وهم في غفلة منه. وهذا كالتفسير لمكر الله تعالى بهم، لأنّ من علم ما تكسب كلّ نفس وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كلّه، لأنّه يأتيهم من حيث لا يشعرون ممّا يراد بهم. واللام تدلّ على أنّ المراد بالعقبى العاقبة المحمودة، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: الكافر على إرادة الجنس.

وفي الآية تهديد لهم بأنّهم سوف يعلمون من تكون عاقبته الجنّة، حين يدخل المؤمنون الجنّة والكافرون النار.

وقيل: معناه: سيعلمون لمن العاقبة المحمودة، لكم أم لهم، إذا اظهر الله دينه.

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ) قيل: المراد بهم رؤساء اليهود( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فإنّه أظهر من الدلالات على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز.

أو علم التوراة، وهو ابن سلام وأضرابه. أو علم اللوح المحفوظ، وهو الله تعالى.

والمعنى: كفى بالّذي يستحقّ العبادة، وبالّذي لا يعلم ما في اللوح المحوظ إلّا هو، شهيدا بيني وبينكم، فيخزى الكاذب منّا. وارتفاع علم الكتاب بالظرف، فإنّه معتمد

٤٦١

على الموصول.

وروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب عليّ بن أبي طالب وأئمّة الهدىعليهم‌السلام ».

روى بريد بن معاوية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: «إيّانا عنى، وعلي أوّلنا، وأفضلنا، وخيرنا بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وروى عنه عبد الله بن كثير: «أنّه وضع يده على صدره ثمّ قال: عندنا والله علم الكتاب كملا».

ويؤيّد ذلك ما روي عن الشعبي أنّه قال: ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبيّ من عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

وروى عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا أقرأ من عليّ بن أبي طالب للقرآن.

٤٦٢

(١٤)

سورة إبراهيم

مكّية، وهي اثنتان وخمسون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة إبراهيمعليه‌السلام أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من عبد الأصنام، وبعدد من لم يعبدها».

وروى عيينة بن مصعب عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة إبراهيم في ركعتين جميعا في كلّ جمعة، لم يصبه فقر ولا جنون ولا بلوى».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) )

٤٦٣

ولـمّا ختم الله سورة الرعد بإثبات الرسالة وإنزال الكتاب، افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة والكتاب، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر ) أنا الله أعلم وأرى. وباقي الوجوه فيه مزبور في أوّل سورة البقرة.

( كِتابٌ ) أي: هو كتاب( أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) بدعائك إيّاهم إلى ما تضمّنه( مِنَ الظُّلُماتِ ) من أنواع الضلال( إِلَى النُّورِ ) إلى الهدى( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) بتيسيره وتسهيله. مستعار من الإذن الّذي هو تسهيل الحجاب. والمراد ما يمنحهم من التوفيق والألطاف. وهذا صلة «لتخرج»، أو حال من فاعله أو مفعوله.

( إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) بدل من قوله: «إلى النور» بتكرير العامل. أو استئناف على أنّه جواب لمن يسأل عنه. وإضافة الصراط إلى الله تعالى، إمّا لأنّه مقصده، أو المظهر له. وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنّه لا يذلّ سالكه، ولا يخيب سابله.

( اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) قرأ نافع وأبو عمرو بالرفع، على أنّه مبتدأ والموصول خبره، أو خبر مبتدأ محذوف والموصول صفته، أي: هو الله الّذي. وقرأ الباقون بالجرّ، على أنّه عطف بيان للعزيز، لأنّه كالعلم ـ كما غلّب النجم في الثريّا ـ لاختصاصه بالمعبود على الحقّ.

ثمّ أوعد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور، فقال:( وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) الويل نقيض الوأل، وهو النجاة. وأصله النصب، لأنّه مصدر، إلّا أنّه لم يشتقّ منه فعل، لكنّه رفع لإفادة الثبات، كما يقال: سلام عليك. والمعنى: أنّهم يولولون من عذاب شديد، ويضجّون منه فيقولون: يا ويلاه، كقوله:( دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ) (١) .

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) يختارونها عليها، فإنّ المختار

__________________

(١) الفرقان: ١٣.

٤٦٤

للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها من غيره( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) بتعويق الناس عن الإيمان( وَيَبْغُونَها عِوَجاً ) ويبغون لها زيغا ونكوبا عن الحقّ ليقدحوا فيه. فحذف الجارّ وأوصل الفعل إلى الضمير. والموصول بصلته يحتمل الجرّ صفة للكافرين، والنصب على الذمّ، والرفع عليه، أو على أنّه مبتدأ خبره( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) أي: ضلّوا عن الحقّ، ووقفوا دونه بمراحل. والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنّه متباعد عن الطريق، فوصف به فعله للمبالغة، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذي بعد، أو للأمر الّذي به الضلال، فوصف به للملابسة.

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) )

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ) إلّا بلغة قومه الّذي هو منهم وبعث فيهم( لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ما أمروا به، فيفقهوه عنه بيسر وسرعة، ثمّ ينقلوه ويترجموه لغيرهم، فإنّهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم، وأحقّ بأن ينذرهم، ولذلك أمر

٤٦٥

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنذار عشيرته أوّلا. ولو نزّل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقلّ ذلك بنوع من الإعجاز، ولكن أدّى إلى اختلاف الكلمة، وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلّم الألفاظ ومعانيها والعلوم المتشعّبة منها، وما في إتعاب القرائح وكدّ النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب.

وقيل: الضمير في «قومه» لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه تعالى أنزل الكتب كلّها بالعربيّة، ثمّ ترجمها جبرئيلعليه‌السلام أو كلّ نبيّ بلغة المنزل عليهم.

( فَيُضِلُّ اللهُ ) فيخلّي في الضلال خذلانا، بمنع الألطاف وأسباب التوفيق( مَنْ يَشاءُ ) من هو راسخ في الكفر ومصمّم على العناد( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) ويوفّق للهداية من هو طالب الرشاد والصواب، مثل قوله:( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (١) ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) فلا يغلب على مشيئته( الْحَكِيمُ ) فلا يخذل إلّا أهل الخذلان، ولا يلطف إلّا بأهل اللطف.

ثمّ ذكر سبحانه إرسال موسىعليه‌السلام تخصيصا بعد التعميم، فقال:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ) يعني: اليد والعصا وسائر معجزاته( أَنْ أَخْرِجْ ) «أن» مفسّرة، فمعناه: أي أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، فكأنّه قال: أرسلناه وقلنا له: أن أخرج( قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ ) ظلمات الكفر( إِلَى النُّورِ ) إلى نور الإسلام. ويجوز أن تكون مصدريّة، أي: بأن أخرج، فإنّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصحّ أن توصل بها «أن» الناصبة.

( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ ) بوقائعه الّتي وقعت على الأمم الدارجة، ومنه أيّام العرب، أي: حروبها وملاحمها. وعن ابن عبّاس: هي نعماؤه وبلاؤه.( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ ) يصبر على بلائه( شَكُورٍ ) يشكر على نعمائه، فإنّه إذا سمع بما نزل على من قبله من البلاء، وأفيض عليهم من النعماء، اعتبر وتنبّه لـما يجب عليه

__________________

(١) التغابن: ٢.

٤٦٦

من الصبر والشكر.

وقيل: المراد لكلّ مؤمن، وإنّما عبّر عنهم بذلك تنبيها على أنّ الصبر والشكر عنوان المؤمن ومن سجاياه، فإنّ التكليف لا يخلو من الصبر والشكر.

( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه إيّاكم. ويجوز أن ينتصب بـ «عليكم» إن جعلت مستقرّة غير صلة للنعمة، لأنّه إذا كان صلة لم يعمل فيه، أي: اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم وقت إنجائكم، وذلك إذا أريدت بها العطيّة دون الإنعام. ويجوز أن يكون بدلا من «نعمة الله» بدل الاشتمال، أي: اذكروا وقت إنجائكم.

وقوله:( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ) أحوال من آل فرعون، أو من ضمير المخاطبين. والمراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة البقرة(١) والأعراف(٢) ، لأنّه ثمّ مفسّر بالتذبيح والقتل، ومعطوف عليه التذبيح هنا. وهو إمّا جنس العذاب، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقّة.

( وَفِي ذلِكُمْ ) من حيث استعبادهم بإقدار الله تعالى إيّاهم، وتمكينهم وإمهالهم فيه( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ابتلاء منه. ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء. والمراد بالبلاء النعمة.

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ

__________________

(١) البقرة: ٤٩.

(٢) الأعراف: ١٤١.

٤٦٧

حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) )

ولـمّا تقدّم ذكر النعم أتبعه سبحانه بذكر ما يلزم عليها من الشكر، فقال:( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) هو ايضا من كلام موسىعليه‌السلام . و «تأذّن» بمعنى: آذن، كـ: توعّد وأوعد، غير أنّه أبلغ، لـما في التفعّل من معنى التكلّف والمبالغة، ولا بدّ في «تفعّل» من زيادة معنى ليس في «أفعل». كأنّه قال: وإذ أذن ربّكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك.

( لَئِنْ شَكَرْتُمْ ) يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) نعمة إلى نعمة( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ) جحدتم نعمتي( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) بمعنى: أعذّبكم على الكفران عذابا شديدا. ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرّح بالوعد ويعرّض بالوعيد.

والجملة مقول قول مقدّر، أو مفعول «تأذّن»، على أنّه جار مجرى «قال»، لأنّه ضرب منه.

( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من الثقلين( فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ ) عن شكركم، وأنتم محاويج إليه( حَمِيدٌ ) مستحقّ للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة، وتنطق بنعمته ذرّات المخلوقات، فما ضررتم بكفرانكم إلّا أنفسكم، حيث حرّمتموها مزيد الإنعام، وعرّضتموها للعذاب الشديد.

قال أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام في هذه الآية: «أيّما عبد أنعمت عليه نعمة فأقرّ بها بقلبه، وحمد الله تعالى عليها بلسانه، لم ينفذ كلامه حتّى يأمر الله له بالزيادة».

٤٦٨

( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ) من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من الله خطابا لأمّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) جملة وقعت اعتراضا. أو( الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) في محلّ الجرّ عطفا على قوم نوح، و «لا يعلمهم» اعتراض. والمعنى: أنّهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى. ولذلك قال ابن مسعود حين قرأ هذه الآية: كذب النسّابون.

وقيل: إنّ بين عدنان وإسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون. وقيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يجاوز في انتسابه معد بن عدنان.

( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) فعضّوا على أصابع أيديهم من شدّة الغيظ والضجر ممّا جاءت به الرسل، كقوله:( عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ) (١) . أو وضعوها عليها تعجّبا منه، أو استهزاء عليه، كمن غلبه الضحك، أو إسكاتا للأنبياء وأمرا لهم بإطباق الأفواه، أي: اسكتوا عمّا تدعوننا إليه. أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به، من قولهم: إنّا كفرنا، تنبيها على أن لا جواب لهم سواه، أوردوها في أفواه الأنبياءعليهم‌السلام يمنعونهم من التكلّم.

وقيل: الأيدي بمعنى الأيادي، أي: ردّوا أيادي الأنبياء الّتي هي أجلّ النعم، وهي مواعظهم وما أوحي إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم، لأنّهم إذا كذّبوها ولم يقبلوها فكأنّهم ردّوها إلى أفواههم، ورجعوها إلى حيث جاءت منه، على طريق المثل.

( وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) على زعمكم( وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ ) من الإيمان( مُرِيبٍ ) موقع في الريبة، أو ذي ريبة. وهي قلق النفس بحيث لا تطمئنّ إلى شيء.

__________________

(١) آل عمران: ١١٩.

٤٦٩

( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) )

( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ ) ادخلت همزة الإنكار على الظرف، لأنّ الكلام في المشكوك فيه وأنّه لا يحتمل الشكّ، لا في الشكّ، أي: إنّما يدعوكم إلى الله، وهو لا يتطرّق إليه الشكّ، لكثرة الأدلّة، وظهور دلالتها عليه. وأشاروا إلى ذلك بقولهم:( فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) صفة أو بدل. و «شكّ» مرتفع بالظّرف.

( يَدْعُوكُمْ ) إلى الإيمان ببعثه إيّانا( لِيَغْفِرَ لَكُمْ ) أو يدعوكم إلى المغفرة، كقولك: دعوته لينصرني، على إقامة المفعول له مقام المفعول به( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) بعض ذنوبكم، وهو ما بينكم وبينه، فإنّ الإسلام يجبّه دون المظالم. وقيل: جيء بـ «من» في خطاب الكفّار دون المؤمنين في جميع القرآن، تفرقة بين الخطابين.

ويحتمل أن يكون المعنى فيه: أنّ المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفّار مرتّبة على الإيمان، وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنّب عن المعاصي، فتتناول الخروج عن المظالم.

( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلى وقت سمّاه الله تعالى، وجعله آخر أعماركم.

وفي هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر والشرك، وإنّما يريد الخير والإيمان، وأنّه إنّما بعث الرسل إلى الكفّار رحمة وفضلا، وإنعاما عليهم ليؤمنوا، فإنّه قال:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ) إلى آخرها.

( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) لا فضل لكم علينا، فلم تخصّون بالنبوّة دوننا؟

٤٧٠

ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل، وهم الملائكة( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) بهذه الدعوى( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) يدلّ على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزيّة، أو على صحّة ادّعائكم النبوّة. وقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات والحجج لكن لم يعتبروها عنادا، واقترحوا عليهم آية اخرى تعنّتا ولجاجا.

( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) )

ثمّ حكى جواب الرسل للكفّار، فقال:( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ ) سلّموا مشاركتهم إيّاهم في البشريّة، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوّة فضل الله تعالى ومنّه عليهم، ولم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، فاقتصروا على قولهم: «وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ »( مِنْ عِبادِهِ ) بالنبوّة، لأنّه قد علم أنّه لا يختصّهم بتلك الكرامة إلّا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم.

( وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) أي: ليس إلينا الإتيان بالآيات، ولا يستبدّ به استطاعتنا حتّى نأتي بما اقترحتموه، وإنّما هو أمر يتعلّق بمشيئة الله تعالى، فيخصّ كلّ نبيّ بنوع من الآيات.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) عمّموا الأمر بالتوكّل للإشعار بما يوجب

٤٧١

التوكّل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوّليّا، وأمروها به، كأنّهم قالوا: ومن حقّنا أن نتوكّل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، ولهذا قالوا بعد ذلك:( وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ ) أي: أيّ عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه( وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ) وقد فعل بنا ما يوجب توكّلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كلّ واحد منّا إلى السبيل الّذي يجب عليه سلوكه في الدين. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا وفي العنكبوت(١) .

( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) جواب قسم محذوف، أكّدوا توكّلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفّار عليهم( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) فليثبت المتوكّلون على ما استحدثوه من توكّلهم المسبّب عن إيمانهم. فالمراد بالتوكّل الأوّل استحداثه، وبالثاني التوكّل عليه.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) )

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) حلفوا

__________________

(١) العنكبوت: ٦٩.

٤٧٢

على أنّه لا بدّ من أحد الأمرين: إمّا إخراجهم للرسل من بلادهم، أو عودهم إلى ملّتهم. والعود هاهنا بمعنى الصيرورة، لأنّهم لم يكونوا على ملّتهم قطّ. ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ رسول ولمن آمن معه، فغلّبوا الجماعة على الواحد.

( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ ) إلى رسلهم( رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) على إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجراه، لأنّه نوع منه.

( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: أرضهم وديارهم، كقوله:( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) (١) . وفي الحديث: «من آذى جاره ورّثه الله داره».

( ذلِكَ ) إشارة إلى الموحى به، وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين( لِمَنْ خافَ مَقامِي ) موقفي، وهو الموقف الّذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة. أو قيامي عليه، وحفظي لأعماله. وقيل: المقام مقحم.

( وَخافَ وَعِيدِ ) أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفّار.

( وَاسْتَفْتَحُوا ) سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم، من الفتاحة، كقوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ ) (٢) . وهو معطوف على «فأوحى». والضمير للأنبياء. وقيل: للكفرة، ظنّا منهم بأنّهم على الحقّ والرسل على الباطل. وقيل: للفريقين، فإنّ كلّهم سألوه أن ينصر المحقّ ويهلك المبطل.

( وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) أي: ففتح لهم فأفلح المؤمنون، وخاب كلّ جبّار عات متكبّر على اللهعزوجل معاند للحقّ فلم يفلح.

( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ) أي: من بين يدي هذا الجبّار، فإنّه مرصد بها، واقف على

__________________

(١) الأعراف: ١٣٧.

(٢) الأعراف: ٨٩.

٤٧٣

شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها في الآخرة. وقيل: من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك.( وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ) عطف على محذوف تقديره: من ورائه جهنّم يلقى فيها ما يلقى، ويسقى من ماء( صَدِيدٍ ) عطف بيان لـ «ماء». وهو ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم.

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : «هو الدم والقيح من فروج الزواني في النار».

وهذا قول أكثر المفسّرين.

روى أبو امامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) ، قال: «يقرّب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة(١) رأسه، وإذا شرب قطع أمعاءه حتّى يخرج من دبره.

يقول الله تعالى:( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٢) . ويقول:( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) (٣) ».

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن مات وفي بطنه شيء من ذلك كان حقّا على اللهعزوجل أن يسقيه من طينة خبال، وهي صديد أهل النار، وما يخرج من فروج الزناة، يجمع ذلك في قدور جهنّم، فيشربه أهل النار، فيصهر به ما في بطونهم والجلود». رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادقعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( يَتَجَرَّعُهُ ) يتكلّف جرعه. وهو صفة لـ «ماء»، أو حال من الضمير في «يسقى».( وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ) ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه؟ كقوله:( لَمْ يَكَدْ يَراها ) (٤) أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ بل يغصّ به فيطول عذابه.

__________________

(١) الفروة: جلدة الرأس بشعرها.

(٢) محمد: ١٥.

(٣) الكهف: ٢٩.

(٤) النور: ٤٠.

٤٧٤

والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول نفس.

( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) أي: أسبابه من الشدائد، فتحيط به من جميع الجهات. وقيل: من كلّ مكان من جسده، حتّى من أصول شعره وإبهام رجله.

( وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ) فيستريح( وَمِنْ وَرائِهِ ) ومن بين يديه( عَذابٌ غَلِيظٌ ) يستقبل في كلّ وقت عذابا أشدّ وأغلظ ممّا هو عليه. عن ابن عبّاس: هو الخلود في النار.

وعن الفضيل: هو حبس الأنفاس.

وقيل: الآية منقطعة عن قصّة الرسل، نازلة في أهل مكّة، طلبوا الفتح الّذي هو المطر في سنيّ القحط الّتي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله، فخيّب رجاءهم فلم يسقهم، ووعد لهم أن يسقيهم صديد أهل النار في جهنّم بدل سقياهم في الدنيا.

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) )

ثمّ أخبر سبحانه عمّا ينال الكفّار من الحسرة فيما تكلّفوه من الأعمال، فقال:( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يتلى عليكم صفتهم الّتي هي مثل في الغرابة. وقوله:( أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ ) جملة مستأنفة لبيان مثلهم، على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وقيل: أعمالهم بدل من المثل، والخبر «كرماد».

( اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ) حملته وأسرعت الذهاب به. وقرأ نافع: الرياح.( فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) العصف اشتداد الريح. وصف به زمانه للمبالغة، كقولهم: يوم ماطر، ونهاره صائم، وليله قائم. شبّه صنائعهم ـ من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم، في حبوطها، لبنائها على غير أساس من

٤٧٥

معرفة الله والتوجّه بها إليه ـ أو أعمالهم للأصنام، برماد طيّرته الريح العاصف، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرّق والانتفاع به، فكذلك هؤلاء الكفّار.

( لا يَقْدِرُونَ ) يوم القيامة( مِمَّا كَسَبُوا ) من أعمالهم( عَلى شَيْءٍ ) لحبوطه، فلا يرون له أثرا من الثواب. وهو فذلكة التمثيل.( ذلِكَ ) إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنّهم محسنون( هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) فإنّه الغاية في البعد عن طريق الحقّ.

وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة، لأنّه أضاف العمل إليهم، ولو كان مخلوقا له سبحانه لـما صحّ إضافته إليهم.

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) )

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما خلق الخلق ليعبدوه وليؤمنوا به، لا ليكفروا، فقال:( أَلَمْ تَرَ ) خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد به أمّته. وقيل: لكلّ واحد من الكفرة على التلوين.( أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) بالحكمة والوجه الّذي يحقّ أن تخلق عليه، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة. وقرأ حمزة والكسائي: خالق السماوات.

٤٧٦

( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) يعدمكم( وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) ويخلق مكانكم خلقا آخر. رتّب ذلك على كونه خالقا للسماوات والأرض استدلالا به عليه، فإنّ من خلق أصولهم وما يتوقّف عليه تخليقهم، ثمّ كوّنهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع، قدر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع عليه ذلك، كما قال:( وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) بمتعذّر أو متعسّر، بل هو يسير، فإنّه قادر لذاته، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يعبد ويؤمن به، رجاء لثوابه، وخوفا من عقابه يوم الجزاء.

( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) أي: يبرزون من قبورهم ويخرجون منها يوم القيامة لأمر الله ومحاسبته. أو لله على ظنّهم، فإنّهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش، ويظنّون أنّها تخفى على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم، وعلموا أنّ الله لا تخفى عليه خافية. وإنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. ونحوه قوله تعالى:( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ) (١) .

ونظائره. والمعنى: وبرّزهم الله، والله لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له كما ظنّوا.

( فَقالَ الضُّعَفاءُ ) أي: الأتباع، جمع ضعيف. يريد به ضعاف الرأي، وإنّما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو.( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) لرؤسائهم الّذين استتبعوهم واستغووهم، وصدّوهم عن الاستماع إلى الأنبياء( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ) في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم. وهو جمع تابع، كغائب وغيب. أو مصدر، نحو خادم وخدم، نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف، أي: ذوي تبع.

__________________

(١) الأعراف: ٤٤.

٤٧٧

( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا ) دافعون عنّا( مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) «من» الأولى للبيان واقعة موقع الحال، والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، أي: بعض الشيء الّذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض، أي: بعض شيء هو بعض عذاب الله. والإعراب ما سبق. ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا، أي: فهل أنتم مغنون عنّا بعض العذاب بعض الإغناء.

( قالُوا ) أي: الّذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع، واعتذارا عمّا فعلوا بهم( لَوْ هَدانَا اللهُ ) للإيمان( لَهَدَيْناكُمْ ) ولكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا. وهذا كقوله تعالى:( لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ) (١) .( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (٢) . يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولون ذلك في الدنيا. أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، وسلكنا بكم طريق النجاة، وانقطعت حيلتنا ويئسنا من النجاة، ولكن سدّ دوننا طريق النجاة.

( سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ) مستويان علينا الجزع والصبر. فالهمزة و «أم» للتسوية. ونحوه( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) (٣) .( ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) أي: منجى ومهرب من العذاب. من الحيص، وهو العدول على جهة الفرار. وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت والمضيف، ومصدرا كالمغيب والمشيب. ويجوز أن يكون قوله:( سَواءٌ عَلَيْنا ) من كلام الفريقين. ويؤيّده ما روي أنّهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثمّ يقولون: سواء علينا.

__________________

(١) الأنعام: ١٤٨.

(٢) النحل: ٣٥.

(٣) الطور: ١٦.

٤٧٨

( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) )

ولـمّا تقدّم وعيد الكفّار ووصف يوم الحشر، وما يجري فيه من الجدال بين الأتباع والمتبوعين، عقّب ذلك سبحانه بكلام الشيطان في ذلك اليوم، فقال:( وَقالَ الشَّيْطانُ ) وهو إبليس باتّفاق المفسّرين( لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ) أحكم وفرغ منه، ودخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار، خطيبا في الأشقياء من الثقلين:( إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ ) وعدا من حقّه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، وهو الوعد بالبعث والجزاء( وَوَعَدْتُكُمْ ) وعد الباطل، وهو أن لا بعث ولا حساب، وإن كانا فالأصنام تشفع لكم( فَأَخْلَفْتُكُمْ ) لم أوف بما وعدتكم. جعل تبيّن خلف وعده كالإخلاف منه.

( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ) تسلّط، فأقسركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم إليها( إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) إلّا دعائي إيّاكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني.

وليس الدعاء من جنس السلطان والقهر والقسر، ولكنّه على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا.( فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) أسرعتم إجابتي.

( فَلا تَلُومُونِي ) بوسوستي، فإنّ من صرّح العداوة لا يلام بأمثال ذلك( وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) حيث أطعتموني، إذ دعوتكم من غير دليل وبرهان، ولم تطيعوا

٤٧٩

ربّكم لـما دعاكم بالأدلّة الواضحة والحجج الباهرة.

وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الّذي يختار الشقاوة أو السعادة، ويحصّلها لنفسه، وليس من الله إلّا التمكين، ولا من الشيطان إلّا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه.

لا يقال: هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسّك به في بطلان قول المجبّرة.

لأنّا نقول: لو كان صدور هذا القول من الشيطان باطلا لبيّن الله بطلانه، وأظهر إنكاره، فتقريره دالّ على صحّته.

( ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ) بمغيثكم من العذاب( وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ ) بمغيثي.

وقرأ حمزة بكسر الياء، على الأصل في التقاء الساكنين. وهو أصل مرفوض في مثله، لـما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات. مع أنّ حركة ياء الإضافة هي الفتح، فإذا لم تكسر وقبلها ألف ـ نحو: عصاي ورحاي ـ فبالحريّ أن لا تكسر وقبلها ياء.

( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) «ما» إمّا مصدريّة، و «من» متعلّقة بـ «أشركتموني»، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيّاي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا، بمعنى: تبرّأت منه واستنكرته، كقوله:( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) (١) . أو موصولة، بمعنى «من»، نحو «ما» في قولهم: سبحان ما سخّركنّ لنا، و «من» متعلّقة بـ «كفرت»، أي: كفرت بالّذي أشركتمونيه ـ وهو الله تعالى ـ بطاعتكم إيّاي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم، حين رددت أمره بالسجود لآدم. و «أشركت» منقول من: شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. فتقول: شركت زيدا، ثمّ تقول: أشركنيه فلان، أي: جعلني له شريكا.

__________________

(١) فاطر: ١٤.

٤٨٠