زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 14564
تحميل: 2163


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14564 / تحميل: 2163
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المسبّب لها وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لقولكم: نخشى الفقر( الْعَلِيمُ ) بما في ضمائركم.

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) )

ثمّ عجّب سبحانه رسوله والمؤمنين من إيمان المشركين بالباطل، مع اعترافهم بأنّ الله هو خالق كلّ شيء، فقال:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) سألت أهل مكّة( مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ومن ذلّلهما وسيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف( لَيَقُولُنَّ اللهُ ) في جواب ذلك، لـما تقرّر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟!( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) يوسّعه( لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) يحتمل أن يكون الموسّع له والمضيّق عليه واحدا، على أنّ البسط والقبض على التعاقب

٢٤١

حسب المصلحة. وأن يريد ويقدّر لمن يشاء. فوضع الضمير موضع من يشاء، لأنّ من يشاء منهم غير معيّن، فكان الضمير مبهما مثله.( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) يعلم مصالحهم ومفاسدهم.

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ) معترفين بأنّه الموجد للممكنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثمّ إنّهم يشركون به بعض مخلوقاته الّذي لا يقدر على شيء من ذلك.

( قُلِ ) يا محمّد عند ذلك( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على ما عصمك من مثل هذه الضلالة. أو على تصديقك وإظهار حجّتك.( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فيتناقضون، حيث يقرّون بأنّه المبدئ لكلّ ما عداه، ثمّ إنّهم يشركون به الأصنام. وقيل: لا يعقلون ما تريد بقولك: الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟! ولـمّا كانت الدنيا وما فيها ـ مع عظم سعتها ـ لا تزن عند الله جناح بعوضة، أشار إليها تحقيرا وإزراء بقوله:( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) ما هي ـ لسرعة زوالها عن أهلها ـ إلّا كما يلعب ويلهى به الصبيان، يجتمعون عليه، ويبتهجون به ساعة، ثمّ يتفرّقون متعبين.

( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) يعني: الجنّة( لَهِيَ الْحَيَوانُ ) لهي دار الحياة، أو ذات الحياة الحقيقيّة، لامتناع طريان الموت عليها. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو جعلت في ذاتها حياة للمبالغة.

والحيوان مصدر: حيي. سمّي به ذو الحياة. وقياسه: حييان، فقلبت الياء الثانية واوا. وهو أبلغ من الحياة، لـما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة، كما أنّ الموت سكون، ولذلك اختير عليها هاهنا.

( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) لم يؤثروا عليها الدنيا الّتي أصلها عدم الحياة، والحياة فيها عارضة سريعة الزوال.

٢٤٢

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) )

( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) متّصل بما دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، أي: هم على ما وصفوا به من الشرك، فإذا ركبوا في السفن في البحر، وهاجت به الرياح، وتلاطمت به الأمواج، وخافوا الهلاك( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلّا الله، ولا يدعون معه إلها آخر، لعلمهم بأنّه لا يكشف الشدائد إلّا هو، فلم يطلبوا من شركائهم إنجاءهم. وفي تسميتهم مخلصين ضرب من التهكّم.

( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ) وأمنوا من الهلاك( إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) فاجئوا المعاودة إلى الشرك.

( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ) اللام فيه لام «كي» أي: يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة( وَلِيَتَمَتَّعُوا ) وليكونوا قاصدين التمتّع بها والتلذّذ لا غير، ومجتمعين على عبادة الأصنام وتوادّهم، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة، إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا

٢٤٣

نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد طاعة الله بالإخلاص، لا إلى التمتّع والتلذّذ.

أو لام الأمر على التهديد. ونحوه قوله تعالى:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١) . ويؤيّده قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي، وقالون عن نافع: وليتمتّعوا بالسكون.

( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) عاقبة ذلك حين يعاقبون.

( أَوَلَمْ يَرَوْا ) يعني: أهل مكّة( أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ) أي: جعلنا بلدهم آمنا أهله عن القتل والسبي، مصونا عن النهب والتعدّي( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ ) ويختلسون قتلا وسبيا( مِنْ حَوْلِهِمْ ) إذ كانت العرب حول مكّة يغزو بعضهم بعضا، ويتغاورون ويتناهبون، وأهل مكّة قارّون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم، مع قلّتهم وكثرة العرب. فذكّرهم الله هذه النعمة الخاصّة عليهم، ليذعنوا له بالطاعة، وينزجروا عن عبادة غيره.

( أَفَبِالْباطِلِ ) أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها ممّا لا يقدر عليه إلّا الله بالصنم أو بالشيطان( يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) حيث أشركوا به غيره. وتقديم الصلتين للاهتمام، أو الاختصاص على طريق المبالغة.

ثمّ وبّخهم بقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) بأن زعم أنّ له شريكا( أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ) يعني: الرسول، أو الكتاب. وفي «لمّا» تسفيه لهم بأن لم يتوقّفوا ولم يتأمّلوا قطّ حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أوّل ما سمعوه.

( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) تقرير لثوائهم. وحقيقته أنّ الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله تعالى، وكذّبوا بالحقّ مثل هذا التكذيب؟! أو تقرير

__________________

(١) فصّلت: ٤٠.

٢٤٤

لاجترائهم، أي: ألم يعلموا أنّ في جهنّم مثوى للكافرين، حتّى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟!( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) في حقّنا، ومن أجلنا، ولوجهنا خالصا. وأطلق المجاهدة ولم يقيّدها بمفعول، ليعمّ جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه. فكأنّه قال: والّذين جاهدوا الكفّار ابتغاء مرضاتنا وطاعة لنا، وجاهدوا أنفسهم في هواها خوفا منّا.

( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) سبل السير إلينا، والوصول إلى غاية التقرّب لنا. أو لنزيدنّهم هداية إلى سبيل الخير، وتوفيقا لسلوكها، كقوله:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) (١) . وفي الحديث: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لا يعلم».

وعن بعضهم: إنّ الّذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنّما هو من تقصيرنا فيما نعلم.( وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) بالنصر والإعانة.

__________________

(١) محمّد: ١٧.

٢٤٥
٢٤٦

(٣٠)

سورة الروم

مكّيّة. وهي ستّون آية. عن أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ملك سبّح لله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) )

ولـمّا أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين، فصّله في هذه السورة، فقال :

٢٤٧

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) أقرب أرض العرب منهم، لأنّ الأرض المعهودة عندهم أرضهم. وهي أطراف الشام. أو في أدنى أرضهم من العرب، على إنابة اللام مناب المضاف إليه. وقال مجاهد: هي أرض الجزيرة. وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عبّاس: الأردن وفلسطين.

( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ) من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: من بعد غلبة فارس إيّاهم( سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) وهو ما بين ثلاث إلى العشر.

روي: أنّه احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم.

فبلغ الخبر مكّة، فشقّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين، لأنّ فارس مجوس لا كتاب لهم، والروم أهل الكتاب. وفرح المشركون وشمتوا، وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أمّيّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، فسنظهرنّ نحن عليكم كما ظهرت فارس على الروم.

فقال لهم أبو بكر: لا يقرّنّ الله أعينكم، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين.

فقال له أبيّ بن خلف: كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه. والمناحبة: المراهنة. وهي غير محرّمة في مبدأ الإسلام.

فناحبه على عشر قلائص(١) من كلّ واحد منهما. وجعلا الأجل ثلاث سنين.

فأخبر أبو بكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال البضع: ما بين الثلاث إلى العشر. فزايده في الخطر، ومادّه في الأجل ـ والخطر هو السبق الّذي بين المتراهنين ـ فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين.

ومات أبيّ من جرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم احد. وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين.

فأخذ أبو بكر الخطر من ذريّة أبيّ، وجاء

__________________

(١) القلائص جمع القلوص، وهي الأنثى الشابّة من الإبل.

٢٤٨

به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: تصدّق به.

وهذه الآية من الآيات البيّنة الشاهدة على صحّة النبوّة، وأنّ القرآن من عند الله، لأنّها إنباء عمّا سيكون، وهو الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله.

( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ) من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين( وَمِنْ بَعْدُ ) ومن بعد كونهم مغلوبين، وهو وقت كونهم غالبين، أي: له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون، ليس شيء منهما إلّا بقضائه، وتلك الأيّام نداولها بين الناس.

وعن أبي سعيد الخدري قال: التقينا مع رسول الله ومشركي العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على مشركي العرب، ونصر الروم على المجوس، ففرحنا بنصر الله إيّانا على المشركين، ونصر أهل الكتاب على المجوس. فذلك قوله:( وَيَوْمَئِذٍ ) ويوم تغلب الروم على فارس( يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ) إيّاهم، ومن له كتاب على من لا كتاب له، لـما فيه من انقلاب التفاؤل، وظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين، وغلبتهم في رهانهم، وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم، ولأنّهم مقدّمة لنصرهم على المشركين.

وقيل: بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. أو بأنّه ولّى بعض الظالمين بعضا، وفرّق بين كلمتهم، حتّى تفانوا وتناقصوا، وفلّ(١) هؤلاء شوكة هؤلاء، وفي ذلك قوّة للإسلام.

وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر، وفي هذا اليوم نصر المؤمنون.

( يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ) فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء اخرى( وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة، ويتفضّل عليهم بنصرهم اخرى.

( وَعْدَ اللهِ ) مصدر مؤكّد لنفسه، أي: وعد الله ذلك وعدا، لأنّ ما قبله في معنى الوعد، كقولك: له عليّ ألف درهم اعترافا( لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) بظهور الروم

__________________

(١) أي: كسر.

٢٤٩

على فارس، لامتناع الكذب عليه( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ) أكثر أهل مكّة، وهم كفّارهم( لا يَعْلَمُونَ ) وعده، ولا صحّة وعده، لجهلهم، وعدم تفكّرهم.

ثمّ ذمّهم الله تعالى بأنّهم بصراء بأمور الدنيا، يعلمون منافعها ومضارّها على الوجه الأتمّ، وبله(١) في أمر الدين، فقال:( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) ما يشاهدونه منها، فيبلغون في التجارات وأنواع المكاسب أبلغ المراتب، فيتمتّعون بزخارفها وملاذّها. وعن الحسن: بلغ من علم أحدهم بدنياه أنّه يقلّب الدرهم على ظهره، فيخبرك بوزنه، وينقره(٢) بإصبعه، فيعلم أردئ هو أم جيّد؟ وما يحسن أن يصلّي.

( وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ ) الّتي هي غايتها والمقصود منها( هُمْ غافِلُونَ ) لا تخطر ببالهم. و «هم» الثانية تكرير للأولى. أو مبتدأ، و «غافلون» خبره، والجملة خبر «هم» الأولى. وهو على الوجهين مناد على تمكّن غفلتهم عن الآخرة، المحقّقة لمقتضى الجملة المتقدّمة المبدلة من قوله: «لا يعلمون» تقريرا لجهالتهم، وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها، فإنّ من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها، وكيفيّة صدورها منها، وكيفيّة التصرّف فيها. ولذا قال «ظاهرا» بالتنكير. وأمّا باطنها، فإنّها مجاز إلى الآخرة، ووصلة إلى نيلها، وأنموذج لأحوالها. وإشعارا بأنّه لا فرق بين عدم العلم، والعلم الّذي يختصّ بظاهر الدنيا.

( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ

__________________

(١) بله بلها: ضعف عقله وعجز رأيه. فهو أبله. وجمعه: بله.

(٢) أي: يضربه.

٢٥٠

يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) )

ثمّ حثّ سبحانه على التفكّر والتدبّر فيما يدلّ على توحيده، من خلق السماوات والأرض، ثمّ أحوال القرون الخالية والأمم الماضية، فقال:( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) أو لم يحدثوا التفكّر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر. فالجارّ والمجرور ظرف للفعل. ويحتمل أن يكون صلة له. ومعناه: أو لم يتفكّروا في خلق أنفسهم، فإنّها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها، ليتحقّق لهم قدرة مبدعها على إعادتها، كقدرته على إبدائها.

وقوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) متعلّق بقول أو علم محذوف يدلّ عليه الكلام. تقديره: أو لم يتفكّروا فيقولوا أو فيعلموا هذا القول.

والمعنى: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، بل إنّما خلقها مقرونة بالحقّ، مصحوبة بالحكمة.

( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) وبتقدير أجل مقرّر مقدّر لا بدّ لها من أن تنتهي إليه، ولا تبقى بعده. وهو وقت قيام الساعة.

( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ ) بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمّى، أو قيام الساعة( لَكافِرُونَ ) جاحدون، يحسبون أنّ الدنيا أبديّة، وأنّ

٢٥١

الآخرة لا تكون.

ثمّ نبّههم سبحانه دفعة اخرى، فقال:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) تقرير لسيرهم في أقطار الأرض، ونظرهم في آثار المدمّرين من قبلهم.( كانُوا ) هم( أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) كعاد وثمود، لأنّهم كانوا أطول أعمارا، وأكثر عددا وعددا.

( وَأَثارُوا الْأَرْضَ ) وقلّبوا وجهها، لاستنباط المياه، واستخراج المعادن، وزرع البزور، وغيرها. وسمّي الثور ثورا لإثارته الأرض، وبقرة لبقرها، وهو الشقّ.

( وَعَمَرُوها ) وعمروا الأرض( أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ) من عمارة أهل مكّة إيّاها، فإنّهم حفروا الأنهار، وغرسوا الأشجار، وبنوا الدور، وشيّدوا القصور، ثمّ تركوها وصاروا إلى الهلاك والقبور. وأهل مكّة هم أهل واد غير ذي زرع، لا تبسّط لهم في غيرها.

وفيه تهكّم بهم، من حيث إنّهم مغترّون بالدنيا، مفتخرون بها. وهم أضعف حالا فيها، إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، والتسلّط على العباد، والتصرّف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجئون إلى واد لا نفع لها.

( وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) بالمعجزات، أو الآيات الواضحات( فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) ليفعل بهم ما يفعله الظلمة، فيدمّرهم من غير جرم ولا تذكير( وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم، من الإشراك بالله وجحد الرسل.

وهذه الآية ناطقة بما ذهب إليه الإماميّة، من وقوع الأعمال من العباد بمشيئتهم وإرادتهم.

وفسّر النيشابوريّ الظلم الواقع في هذه الآية الكريمة، بوضع الأنفس

٢٥٢

الشريفة في موضع خسيس، وهو عبادة الأصنام. ثمّ ذكر توجيه أهل البدعة والضلالة لهذه الآية المتقنة، قائلا: «قال أهل السنّة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته، لكنّه صدر عنهم، فأضيف إليهم»(١) انتهى كلامه.

وحاصله: أنّهم حملوا الإسناد على المجاز دون الحقيقة. ومرادهم أنّه سبحانه أراد الظلم وعبادة الأوثان من بعض البريّة.

ولا يخفى فساده على من له أدنى مسكة ودرية، ولكن لا حيلة لمن حاد(٢) عن الجادّة النبويّة إلّا القول بنحو هذه التأويلات الرديّة، وإثبات دينه بمشتبهات السنّة. فسحقا لهم ؛ تأوّلوا الآية المحكمة لإثبات الظلم للحضرة المقدّسة. وأيم الله هم العادلون عن الكتاب والسنّة، المتابعون للأهواء المضلّة، الظالمون الّذين أشار سبحانه إلى عاقبتهم بقوله :

( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى ) أي: عاقبتهم العقوبة أو الخصلة السوأى. فوضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، وأنّهم جاءوا بمثل أفعالهم. والسّوأى تأنيث الأسوأ، بمعنى الأقبح، كالحسنى. أو مصدر، كالبشرى، نعت به.

والمعنى: أنّهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثمّ كانت عاقبتهم العقوبة الّتي هي أسوأ العقوبات وأقبحها في الآخرة، وهي جهنّم الّتي أعدّت للكافرين.

( أَنْ كَذَّبُوا ) لأن كذّبوا( بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) فـ «أن» منصوب المحلّ على العلّة. ويجوز أن يكون بدلا أو عطف بيان للسوأى. أو خبر «كان» و «السوأى» مصدر: أساؤا، أو مفعوله، بمعنى: ثمّ كان عاقبة الّذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم حتّى كذّبوا الآيات واستهزؤا بها. أو تكون «السوأى» صلة

__________________

(١) تفسير غرائب القرآن ٥: ٤٠٤.

(٢) أي: مال وعدل.

٢٥٣

الفعل، و «أن كذّبوا» تابعها، والخبر محذوف للإبهام والتهويل. وأن تكون «أن» مفسّرة، بمعنى: أي، لأنّه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء، كانت في معنى القول، نحو: نادى وكتب، وما أشبه ذلك.

وقرأ ابن عامر والكوفيّون: عاقبة بالنصب، على أنّ الاسم «السوأى»، و «أن كذّبوا» يكون على الوجوه المذكورة.

( اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) )

ثمّ ذكر سبحانه قدرته على الإعادة فقال:( اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ) ينشئهم( ثُمَّ يُعِيدُهُ ) يبعثهم بعد الموت أحياء كما كانوا( ثُمَّ إِلَيْهِ ) إلى ثوابه وعقابه( تُرْجَعُونَ ) والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وروح بالياء على الأصل.

( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) يسكتون متحيّرين آيسين. يقال: ناظرته فأبلس، إذا سكت وأيس من أن يحتجّ. ومنه: الناقة المبلاس الّتي لا ترغو(١) .

__________________

(١) أي: لا تصوّت ولا تضجّ. من: رغا البعير، إذا صوّت وضجّ.

٢٥٤

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ) ممّن أشركوهم بالله( شُفَعاءُ ) يجيرونهم من عذاب الله، كما زعموا أنّا نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى. ومجيئه بلفظ الماضي لتحقّقه.

( وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ) يكفرون بآلهتهم، ويجحدونها، ويتبرّءون منها حين يئسوا منهم. وقيل: كانوا في الدنيا كافرين بسببهم.

وكتب في المصحف: شفعواء، وعلماء بني إسرائيل، بالواو قبل الألف.

وكذلك كتب السوأى بالألف قبل الياء، إثباتا للهمزة على صورة الحرف الّذي منه حركتها.

( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) أي: يتفرّق المؤمنون والكافرون، لقوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ ) أرض ذات أزهار وأنهار. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه.( يُحْبَرُونَ ) يسرّون سرورا تهلّلت له وجوههم. يقال: حبره إذا سرّه سرورا ظهر أثره في الوجه. قال ابن عبّاس: يحبرون بمعنى: يكرمون. وقيل: يلذّذون بالسماع.

عن أبي امامة الباهلي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ما من عبد يدخل الجنّة إلّا ويجلس عند رأسه ثنتان من الحور العين، تغنّيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجنّ، وليس بمزمار الشيطان، ولكن بتمجيد الله وتقديسه».

وعن أبي الدرداء قال: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر الناس، فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم، وفي آخر القوم أعرابيّ، فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنّة من سماع؟

قال: نعم يا أعرابي، إنّ في الجنّة لنهرا حافّتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانيّة، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ، فذلك أفضل نعيم الجنّة».

٢٥٥

والخوصانيّة: المرهفة(١) الأعلى، الضخمة الأسفل. قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح.

وعن إبراهيم: إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة، فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

ثمّ أخبر عن حال الكافرين، فقال:( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ) مدخلون لا يغيبون عنه. ولفظ الإحضار لا يستعمل إلّا فيما يكرهه الإنسان. يقال: أحضر فلان مجلس القضاء، إذا جيء به لـما لا يؤثره.

( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) )

__________________

(١) أي: دقيقة الأعلى ضامرته.

٢٥٦

ولـمّا ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد، وينجي من الوعيد، فقال :

( فَسُبْحانَ اللهِ ) إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه. والمعنى: سبّحوه ونزّهوه عمّا لا يليق به، أو ينافي تعظيمه من صفات النقص، بأن تصفوه بما يليق به من الصفات والأسماء.( حِينَ تُمْسُونَ ) حين تدخلون في المساء، وهو مجيء ظلام الليل( وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) حين تدخلون في الصباح.

( وَلَهُ الْحَمْدُ ) وله الثناء والحمد( فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي: هو المستحقّ لحمد أهلهما لإنعامه عليهما( وَعَشِيًّا ) وفي وقت العشيّ. وهو آخر النهار. من: عشي العين، إذا نقص نورها. وكأنّه لعدم مجيء الفعل من العشيّ ترك «حين» في «عشيّا».( وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) وحين تدخلون في الظهيرة، وهي نصف النهار.

وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح، لأنّ آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر.

وتخصيص الحمد بالعشيّ الّذي هو بقيّة النهار، والظهيرة الّتي هي وسطه، لأنّ تجدّد النعم فيهما أكثر. ويجوز أن يكون «عشيّا» معطوفا على «حين تمسون»، وقوله:( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ ) اعتراضا.

وعن ابن عبّاس ومجاهد: إنّ الآية جامعة للصلوات الخمس. «تمسون» صلاة المغرب والعشاء. و «تصبحون» صلاة الفجر. و «عشيّا» صلاة العصر.

و «تظهرون» صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنّها مدنيّة، لأنّه كان يقول: كان الواجب بمكّة ركعتين في أيّ وقت اتّفقتا، وإنّما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنّها فرضت بمكّة.

( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة( وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ ) كالنطفة والبيضة. أو يعقّب الحياة الموت، وبالعكس. وعن مجاهد: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.( وَيُحْيِ الْأَرْضَ ) بالنبات

٢٥٧

( بَعْدَ مَوْتِها ) يبسها( وَكَذلِكَ ) ومثل ذلك الإخراج( تُخْرَجُونَ ) من قبوركم، فإنّه أيضا تعقيب للحياة الموت. وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء. والباقون بضمّها وفتح الراء.

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى، فليقل:( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ) الآية».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال حين يصبح:( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ) ـ إلى قوله ـ( تُخْرَجُونَ ) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته».

( وَمِنْ آياتِهِ ) الدالّة على وحدانيّته وكمال قدرته( أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ) أي :في أصل الإنشاء، لأنّه خلق أصلهم منه، وهو أبوهم آدم( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) ثمّ فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، متصرّفين على ظهرها، متفرّقين في أطرافها، كقوله تعالى:( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) (١) .

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم، وسائر النساء خلقن من نطف الرجال. أو لأنّهنّ من جنسهم لا من جنس آخر.

( لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) لتطمئنّوا وتميلوا إليها، وتألفوا بها، ويستأنس بعضكم ببعض.

يقال: سكن إليه إذا مال إليه. ولا شكّ أنّ الجنسيّة علّة للضمّ، والاختلاف سبب للتنافر.

( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ ) أي: بين الرجال والنساء، أو بين أفراد الجنس( مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التحابّ والتعاطف، من قرابة أو رحم. أو بأنّ تعيّش الإنسان متوقّف على التعارف والتعاون، المحوج إلى التوادّ والتراحم.

وعن الحسن: المودّة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال :

__________________

(١) النساء: ١.

٢٥٨

( وَرَحْمَةً مِنَّا ) (١) . وقال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) (٢) .

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) في خلق الأزواج مشاكلة للرجال( لَآياتٍ ) لدلالات واضحات( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) )

ثمّ نبّه على آية اخرى فقال:( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وما فيهما من عجائب خلقه، وبدائع صنعه، من النجوم والشمس والقمر، وجريها في مجاريها على غاية الاتّساق والنظام، وأنواع الجمادات والنباتات والحيوانات المخلوقة على

__________________

(١) مريم: ٢١ و ٢.

(٢) مريم: ٢١ و ٢.

٢٥٩

وجه الإحكام.

( وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ ) لغاتكم، بأن علّم كلّ صنف لغته، أو ألهمه وضعها، وأقدره عليها. أو أجناس نطقكم وأشكاله، فإنّك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفيّة.

( وَأَلْوانِكُمْ ) أي: اختلافها، من بياض الجلد وسواده، وحمرته وصفرته وسمرته. أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها، ليقع التمايز والتعارف، حتّى إنّ التوأمين مع توافق موادّهما وأسبابهما، والأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شيء من ذلك لا محالة. وما ذلك إلّا للتراكيب البديعة، واللطائف العجيبة، الدالّة على كمال قدرته وحكمته. ولو اتّفقت الألوان، وتشاكلت التخطيطات، بحيث كانت ضربا واحدا، لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطّلت مصالح كثيرة.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ) لأدلّة واضحة( لِلْعالِمِينَ ) لا تكاد تخفى على عاقل، من ملك أو إنس أو جنّ. وقرأ حفص: للعالمين بكسر اللام. ويؤيّده قوله:( وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) (١) .

( وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) هذا من باب اللفّ والنشر. وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار. إلّا أنّه ضمّ بين الزمانين والفعلين بعاطفين، إشعارا بأنّ كلّا من الزمانين ـ مع أنّه مختصّ بأحدهما عرفا ـ صالح للآخر عند مسّ الحاجة إليه.

ويجوز أن يكون المعنى: ومن آياته منامكم في الزمانين، لاستراحة القوى النفسانيّة، وقوّة القوى الطبيعيّة، وطلب معاشكم فيهما.

ويؤيّد الأوّل سائر الآيات الواردة فيه. وأسدّ المعاني ما دلّ عليه القرآن.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) سماع تفهّم فانّ الانتفاع منها إنّما يظهر

__________________

(١) العنكبوت: ٤٣.

٢٦٠