زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 14566
تحميل: 2165


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14566 / تحميل: 2165
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كقولنا: أللّهمّ صلّ على آل محمّد، بل الواحد منهم لا غير، أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك. وقال الجمهور بكراهيته، لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له، فلا تطلق على غيره، ولإيهامه الرفض.

والحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه :

الأوّل: قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافّة:( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) (١) . وهو نصّ في الباب.

الثاني: قوله:( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (٢) . ولا ريب أنّ أهل البيت أصيبوا بأعظم المصائب، الّتي من جملتها غصب مقام إمامتهم منهم.

والثالث: أنّه لـمّا أتى أبو أوفى زكاته، قال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللّهمّ صلّ على أبي أوفى وآل أبي أوفى.

فيجوز على أهل البيت بطريق أولى.

الرابع: إنّ الصلاة من الله بمعنى الرحمة، ويجوز الرحمة عليهم إجماعا، فيجوز مرادفها، لـما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.

الخامس: قولهم: إنّها صارت شعارا للرسول، فلا تطلق على غيره. فاسد، لأنّها كما دلّت على الاعتناء برفع شأنه، كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه. ويكون الفرق بينهم وبينه: وجوبها في حقّه كلّما ذكر كما قيل، أو تأكيد استحباب في قول آخر.

السادس: إنّ قولهم: إنّ ذلك يوهم الرفض، محض تعصّب وعناد. نظير قولهم: من السنّة تسطيح القبور، لكن لـمّا اتّخذته الرفضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم. فعلى هذا كان يجب عليهم أنّ كلّ مسألة قالت بها الإماميّة أن يفتوا

__________________

(١) الأحزاب: ٤٣.

(٢) البقرة: ١٥٦ ـ ١٥٧.

٤٠١

بخلافها. وما ذلك إلّا محض العناد وكمال التعصّب. نعوذ بالله من الأهواء المضلّة، والآراء الفاسدة.

( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) )

ولـمّا أمر الله سبحانه العباد بالصلاة والسلام على نبيّه، هدّدهم إن آذوه بالألسن والأيدي، فقال :

( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) يرتكبون ما يكرهانه ولا يرضيان به، من الكفر والمعاصي، قولا وفعلا. أو يؤذون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكسر رباعيته، وقولهم: شاعر مجنون.

وقيل: ذكر الله للتعظيم له. فجعل أذى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذى له، تشريفا له وتكريما. فكأنّه يقول: لو جاز أن يناله أذى من شيء لكان ينالني من هذا.

وقيل: أذى الله هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد الله مغلولة، وثالث ثلاثة، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.

وقيل: قول الّذين يلحدون في أسمائه وصفاته.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما حكى عن ربّه: «شتمني ابن آدم، ولم ينبغ له أن يشتمني. وآذاني، ولم ينبغ له أن يؤذيني. فأمّا شتمه إيّاي فقوله: إنّي اتّخذت ولدا. وأمّا أذاه فقوله: إنّ الله لا يعيدني بعد أن بدأني».

وروي عن الخاصّة والعامّة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حقّ فاطمةعليها‌السلام :

٤٠٢

«فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله».

روى السيّد أبو الحمد قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، أنّه قال: حدّثنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن دارم الحافظ، قال: حدّثنا عليّ بن أحمد العجليّ، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، قال: حدّثنا أرطاة بن حبيب، قال: حدّثنا أبو الخالد الواسطي وهو آخذ بشعره، قال: حدّثني زيد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام وهو آخذ بشعره، قال: حدّثني عليّ بن الحسينعليه‌السلام وهو آخذ بشعره، قال: حدّثني الحسين بن عليّعليه‌السلام وهو آخذ بشعره، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وهو آخذ بشعره، قال: حدّثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بشعره، فقال: «من آذى شعرة منك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله». كما قال جلّ اسمه:( لَعَنَهُمُ اللهُ ) أبعدهم من رحمته( فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) يهينهم مع الإيلام.

( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) بغير جناية استحقّوا بها الإيذاء. ترك هذا القيد في أذى الله ورسوله، لأنّ أذاهما لا يكون إلّا غير حقّ أبدا.( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً ) أي: احتملوا مثل عقوبة البهتان الّذي هو من أعظم العقوبات. وقيل: يعني بذلك اذيّة اللسان الّتي هي مظنّة البهتان.( وَإِثْماً مُبِيناً ) ظاهرا. روي أنّها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليّاعليه‌السلام . وقيل: في أهل الإفك على عائشة. وقيل: في زناة كانوا يتّبعون النساء وهنّ كارهات.

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ

٤٠٣

لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) )

ثمّ رجع إلى حكم آخر لنسائهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ ) يغطّين وجوههنّ وأبدانهنّ بملاحفهنّ إذا برزن لحاجة. والجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله على صدرها. و «من» للتبعيض، فإنّ المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفّع(١) ببعض، حتّى تتميّز من الأمة.

وروي: أنّ النساء كنّ في أوّل الإسلام يبرزن في درع وخمار، بلا فرق بين الحرّة والأمة. وكان الفسّاق يتعرّضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل والغيطان(٢) ، وربّما تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة، يقولون: حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيّهنّ عن زيّ الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهنّ طامع، بخلاف الإماء اللّاتي يخرجن مكشّفات الرؤوس والجباه.

وذلك قوله:( ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ ) أقرب إلى أن يعرفن بزيّهنّ أنّهنّ حرائر ولسن بإماء. وعن الجبائي: معناه: ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح فلا يتعرّض لهنّ، لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها.( فَلا يُؤْذَيْنَ ) فلا يؤذيهنّ أهل الريبة بالتعرّض لهنّ( وَكانَ اللهُ غَفُوراً ) لـما سلف

__________________

(١) تلفّعت المرأة بالثوب: اشتملت به وتغطّت.

(٢) الغيطان جمع الغوطة، وهي المكان المطمئنّ والمنخفض من الأرض.

٤٠٤

( رَحِيماً ) بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتّى الجزئيّات منها.

ثمّ أوعد سبحانه هؤلاء الفسّاق بقوله:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ) عن نفاقهم( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) ضعف إيمان وقلّة ثبات عليه. أو فجور صادر عن تزلزلهم في الدين، من قوله تعالى:( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (١) .

( وَالْمُرْجِفُونَ ) الّذين كانوا يرجفون( فِي الْمَدِينَةِ ) بأخبار السوء عن سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. وأصل الإرجاف: التحريك، من الرجفة، وهي الزلزلة. سمّي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت.

وفي الكلام حذف، تقديره: إن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عمّا يؤلّفون من أخبار السوء.( لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) لنأمرنّك بقتالهم. وقد حصل الإغراء لهم بقوله:( جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) (٢) .

وبإجلائهم، وبما يضطرّهم إلى طلب الجلاء.( ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها ) لا يساكنونك في المدينة. عطف على «لنغرينّك». و «ثمّ» للدلالة على أنّ الجلاء ومفارقة جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم ما يصيبهم، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه.( إِلَّا قَلِيلاً ) زمانا أو جوارا قليلا.

( مَلْعُونِينَ ) نصب على الشتم، أو الحال. والاستثناء شامل له أيضا، كقوله:( إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ ) (٣) . أي: لا يجاورونك إلّا ملعونين مبعدين عن الرحمة. وقيل: ملعونين على ألسنة المؤمنين. ولا يجوز أن ينتصب عن «أخذوا» في قوله:( أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ) لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. والمعنى: أينما وجدوا وظفر بهم أخذوا وقتّلوا أبلغ القتل.

__________________

(١) الأحزاب: ٣٢.

(٢) التوبة: ٧٣.

(٣) الأحزاب: ٥٣.

٤٠٥

( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) مصدر مؤكّد، أي: سنّ الله ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل الّذين نافقوا الأنبياء، وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه حيثما ثقفوا. والسنّة: الطريقة في تدبير الحكم. وسنّة رسول الله: طريقته الّتي أجراها بأمر الله تعالى، فأضيفت إليه. ولا يقال: سنّته إذا فعلها مرّة أو مرّتين، لأنّ السنّة الطريقة الجارية المستمرّة.( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) لأنّه لا يبدّلها، ولا يقدر أحد أن يبدّلها.

( يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) )

روي: أنّ المشركين كانوا يسألون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا، لأنّ الله تعالى عمّى وقتها في التوراة وفي كلّ كتاب، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بأنّه علم قد استأثره الله لنفسه، لم يعلّمه أحدا، فقال :

( يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ) عن وقت قيامها، استهزاء وتعنّتا، أو امتحانا( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ ) لم يطلع عليه ملكا ولا نبيّا.

٤٠٦

ثمّ بيّن لرسوله أنّها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، وإسكاتا للممتحنين، فقال:( وَما يُدْرِيكَ ) أيّ شيء يعلمك من أمر الساعة ومتى قيامها، أي: أنت لا تعرفها( لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ) أي: شيئا قريبا مجيئها. ويجوز أن يكون التذكير لأنّ الساعة في معنى اليوم.

( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ) نارا شديدة الاتّقاد والالتهاب( خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ) يحفظهم( وَلا نَصِيراً ) يدفع العذاب عنهم.

( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) تصرف من جهة إلى جهة، كاللحم الّذي يدور في القدر إذا غلت، فترامى به الغليان من جهة إلى اخرى. أو تغيّر من حال إلى حال، وهيئة إلى هيئة، فتسودّ وتصفرّ، وتصير كالحة بعد أن لم تكن. أو تطرح في النار مقلوبين منكوسين. وخصّت الوجوه بالذكر، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.

وناصب الظرف( يَقُولُونَ ) . أو محذوف، هو: اذكر. وإذا نصب بالمحذوف كان «يقولون» حالا، أي: قائلين( يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ ) فيما أمرنا به ونهانا عنه( وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ) فيما دعانا إليه، فلا نبتلى بهذا العذاب.

( وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا ) فيما فعلناه( سادَتَنا وَكُبَراءَنا ) يعنون قادتهم الّذين لقّنوهم الكفر وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب: ساداتنا على جمع الجمع، للدلالة على الكثرة.( فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) بما زيّنوا لنا. يقال: ضلّ السبيل، وأضلّه إيّاه. والألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر. وفائدتها الوقف، والدلالة على أنّ الكلام قد انقطع، وأنّ ما بعده مستأنف. وقد مرّ اختلاف القرّاء فيه.

( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ) مثلي ما آتيتنا منه، ضعفا لضلالهم، وضعفا لإضلالهم، فإنّهم ضلّوا وأضلّوا( وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) كثير العدد. وقرأ عاصم بالباء(١) ، أي: لعنا هو أشدّ اللعن وأعظمه.

__________________

(١) أي: كبيرا، والقراءة الاخرى: كثيرا.

٤٠٧

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

ثمّ خاطب سبحانه المظهرين للإيمان، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ) أي: لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى، فإنّ حقّ النبيّ أن يعظّم ويبجّل، لا أن يؤذى( فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ) فأظهر براءته من قولهم، أي: من مقولهم، يعني: مؤدّاه ومضمونه، وهو الأمر المورث للعيب.

فلا يقال: إنّ لفظة «ما» إمّا مصدريّة أو موصولة، وأيّهما كان فكيف تصحّ البراءة منه؟

واختلفوا فيما أوذي به موسىعليه‌السلام . فعند بعضهم أنّ قارون حرّض امرأة على قذفه بنفسها، فعصمه الله، كما مرّ في القصص(١) .

__________________

(١) راجع ص ١٩٨، ذيل الآية ٨١ من سورة القصص.

٤٠٨

وعن عليّعليه‌السلام وابن عبّاس: أنّ بني إسرائيل اتّهموه بقتله هارون حين صعد الجبل، ومات هارون هناك، فحملته الملائكة، ومرّوا به عليهم ميّتا، وتكلّمت الملائكة بموته، حتّى عرفوا أنّه قد مات حتف أنفه.

وعن أبي هريرة مرفوعا: أنّ الله سبحانه أحياه، فأخبرهم ببراءة موسى.

وعن أبي العالية: أنّهم قذفوه بعيب في بدنه من برص أو ادرة(١) . وذلك أنّ موسىعليه‌السلام كان حييّا ستيرا يغتسل وحده، فقالوا: ما يتستّر منّا إلّا لعيب بجلده، إمّا برص أو ادرة. فذهب مرّة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، فمرّ الحجر بثوبه، فطلبه موسى، فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا، فبرّأه الله ممّا قالوا.

وعن أبي مسلم: أنّهم آذوه من حيث نسبوه إلى السحر والجنون والكذب، بعد ما رأوا العذاب.

( وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) ذا جاه ومنزلة ورفعة عنده. يقال: وجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر. ولوجاهته وعظم قدره يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه، لئلّا يلحقه وصم، ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة.

قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من مقالة بعض الناس.

ثمّ أمر سبحانه أهل الايمان والتوحيد بالتقوى والقول السديد، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) في ارتكاب ما يؤذي رسوله، وغيره من أنواع المعاصي( وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) قاصدا إلى الحقّ، فإنّ السداد القصد إلى الحقّ، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرمية، إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم

__________________

(١) الادرة: نفخة في الخصية.

٤٠٩

قاصد. والمراد: سداد القصد واللسان في كلّ باب، ومن ذلك حفظ اللسان عمّا خاضوا فيه من حديث زينب، من غير قصد وعدل في القول، لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كلّه.

والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنّكم إن فعلتم ذلك( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) يوفّقكم للأعمال الصالحة. أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها.( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ويجعلها مكفّرة باستقامتكم في القول والعمل( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) في الأوامر والنواهي( فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) يعيش في الدنيا حميدا، وفي الآخرة سعيدا.

ثمّ قرّر الوعد السابق بتعظيم أمر الطاعة وتفخيم شأنها بقوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ) أي: الطاعة. سمّاها أمانة من حيث إنّها واجبة الأداء، كالأمانة.( عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ) أي: الطاعة، لعظم شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذات شعور وإدراك( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ) من أن يؤدّين حقّها، حتّى يزول عن ذمّتهنّ. من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد: أنّه لا يؤدّيها إلى صاحبها، حتّى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها، فإنّ الأمانة كأنّها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حقّ، فإذا أدّاها لم تبق راكبة، ولا هو حاملا لها.( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ) مع ضعف بنيته، ورخاوة قوّته( إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً ) حيث لم يف ولم يراع حقّها( جَهُولاً ) بكنه عاقبتها. وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب.

واعلم أنّ الممثّل به في الآية مفروض، والمفروضات تتخيّل في الذهن كالمحقّقات. فمثّلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله، بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. ونحو

٤١٠

هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلّا على طرقهم وأساليبهم.

ومن ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوّي العوج. وكم لهم من هذه الأمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم وإن كان محالا، ولكنّ الغرض منه أنّ السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه، كما أنّ العجف(١) ممّا يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. فقد علمت من ذلك أنّ تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها، وثقل محملها، والوفاء بها، بما في الآية، لأجل تقريبه إلى الفهم.

وقيل: الآية على معناها الحقيقي، لـما روي أنّ الله سبحانه لـمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما، وقال لها: إنّي فرضت فريضة، وخلقت جنّة لمن أطاعني فيها، ونارا لمن عصاني. فقلن: نحن مسخّرات على ما خلقتنا، لا نحتمل فريضة، ولا نبتغي ثوابا ولا عقابا. ولـمّا خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله، وكان ظلوما لنفسه بتحمّله ما يشقّ عليها، جهولا بوخامة عاقبته.

ولعلّ المراد بالأمانة: العقل أو التكليف. وبعرضها عليهنّ اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهنّ. وبإبائهنّ الإباء الطبيعي الّذي هو عدم القابليّة والاستعداد. وبحمل الإنسان قابليّته واستعداده لها. وكونه ظلوما جهولا لـما غلب عليه من القوّة الغضبيّة والشهويّة. وعلى هذا يحسن أن يكون علّة للحمل عليه، فإنّ من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوّتين، حافظا لهما عن التعدّي ومجاوزة الحدّ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.

وقيل: المراد بالأمانة أمانات الناس والوفاء بالعهود.

__________________

(١) العجف: الضعف والهزال.

٤١١

واللام في قوله:( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) للتعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أنّ التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. وذكر التوبة في الوعد إشعارا بأنّ المؤمنين ـ مع كونهم مطيعين ـ لا يخلون عن فرطات صادرة عن مقتضى جبلّتهم.

( وَكانَ اللهُ غَفُوراً ) حيث تاب عن فرطاتهم( رَحِيماً ) حيث أثاب بالفوز على طاعاتهم.

٤١٢

(٣٤)

سورة سبأ

مكّيّة. وهي أربع وخمسون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة سبأ، لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا».

وروي عن ابن أذينة، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «من قرأ الحمدين جميعا: سبأ وفاطر، في ليلة، لم يزل ليلته في حفظ الله وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره، لم يصبه في نهاره مكروه، وأعطي من خير الدنيا وخير الآخرة، ما لم يخطر على قلبه، ولم يبلغ مناه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) )

واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ختم سورة الأحزاب ببيان الغرض في التكليف، وأنّه سبحانه يجزي المحسنين بإعطائهم مثوبة الآخرة، الّتي هي أجلّ النعم التي

٤١٣

توجب الحمد والشكر عليها، افتتح هذه السورة بالحمد له على نعمته وكمال قدرته، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) خلقا ونعمة. فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، وعلى تمام نعمته( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ) لأنّ ما في الآخرة أيضا كذلك. وليس هذا من عطف المقيّد على المطلق، لأنّ وصف ذاته بعد الحمد الأوّل بما يدلّ على أنّه المحمود بالنعم الدنيويّة قيّد الحمد بها.

وقال في الكشّاف: «لمّا قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ثمّ وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيويّة، كان معناه: أنّه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الّذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه. ولـمّا قال:( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ) علم أنّه المحمود على نعم الآخرة، وهو الثواب الدائمي»(١) .

وتقديم الصلة في الثاني للاختصاص، فإنّ النعم الدنيويّة قد تكون بواسطة من يستحقّ الحمد لأجلها، ولا كذلك نعم الآخرة.

واعلم أنّ الحمد في الدنيا واجب، لأنّه على نعمة متفضّل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة. والحمد في الآخرة ليس بواجب، لأنّه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقّها، فإنّما هو تتمّة سرور المؤمنين، وتكملة اغتباطهم، يلتذّون به كما يلتذّ من به العطش الشديد بالماء البارد.

( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) الّذي أحكم أمور الدارين، ودبّرها بحكمته( الْخَبِيرُ ) ببواطن الأشياء.

ثمّ ذكر ممّا يحيط به علما بقوله:( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ) ما يدخل فيها، كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات( وَما يَخْرُجُ مِنْها )

__________________

(١) الكشاف ٣: ٥٦٦.

٤١٤

كالحيوان، والنبات، والفلزّات، وماء العيون( وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ) كالملائكة، والكتب، وأنواع البركات، والمقادير، والأمطار، والصواعق، والأرزاق.

كقوله:( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ) (١) .( وَما يَعْرُجُ فِيها ) كالملائكة، وأعمال العباد، والأبخرة. وهو سبحانه يجري جميع ذلك على تقدير تقتضيه الحكمة، وتدبير توجبه المصلحة.

( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها. أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفانية للحصر. أو الرحيم بعباده مع علمه بما يعملون من المعاصي، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويمهلهم للتوبة. الغفور: الساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا، المتجاوز عنها في العقبى.

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) )

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) إنكار لمجيئها، أو استبطاء، استهزاء بالوعد به( قُلْ بَلى ) ردّ لكلامهم، وإثبات لـما نفوه( وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) تكرير

__________________

(١) الذاريات: ٢٢.

٤١٥

لإيجابه، مؤكّدا بالقسم.

ثمّ وصف المقسم به بصفات تقرّر إمكان مجيئها، وتنفي استبعاده، بقوله:( عالِمِ الْغَيْبِ ) وقرأ حمزة والكسائي: علّام الغيب، للمبالغة. ونافع وابن عامر ورويس: عالم الغيب بالرفع، على أنّه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) أي: لا يبعد عنه. من العزوب، وهو البعد.

يقال: روض عزيب: بعيد من الناس. وقرأ الكسائي: لا يعزب، بالكسر.( وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) جملة مؤكّدة لنفي العزوب. ورفعهما بالابتداء. ويؤيّده القراءة بالفتح على نفي الجنس.

ولا يجوز عطف المرفوع على «مثقال» والمفتوح على «ذرّة» بأنّه فتح في موضع الجرّ، لامتناع الصرف، لأنّ الاستثناء يمنعه. أللّهمّ إلا إذا جعل الضمير في «عنه» للغيب، وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه، لظهوره على المطالعين له.

فيكون المعنى: لا ينفصل عن الغيب شيء إلّا مسطورا في اللوح.

وتنقيح المبحث: أنّ قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، فحين أقسم باسمه سبحانه على إثبات قيام الساعة، وأنّه كائن لا محالة، ثمّ وصف بأنّه عالم الغيب، وأنّه لا يفوت علمه شيء من الخفيّات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فلأجل هذه الفائدة اختار لذاته هذه الصفة، ولم يورد صفات اخرى مقامها.

وقوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) علّة لقوله: «لتأتينّكم» وبيان لـما يقتضي إتيانها( أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) هنيء لا تنغيص فيه ولا تكدير، ولا تعب فيه، ولا منّ عليه.

ولـمّا لم يقتصر على اليمين، بل أتبعها الحجّة القاطعة، والبيّنة الساطعة، وهي قوله: «ليجزي» علّة لمجيء الساعة، فقد وضع الله في العقول، وركّب في الغرائز

٤١٦

وجوب الجزاء، وأنّ المحسن لا بدّ له من ثواب، والمسيء لا بدّ له من عقاب.

فلا يقال: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه. فهب أنّه حلف لهم بأغلظ الأيمان، وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبا، كيف تكون مصحّحة لـما أنكروه؟

( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا ) بالإبطال وتزهيد الناس عن قبولها( مُعاجِزِينَ ) مسابقين كي يفوتونا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: معجزين، أي: مثبّطين عن الإيمان من أراده( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ ) من سيّء العذاب( أَلِيمٌ ) مؤلم. ورفعه ابن كثير ويعقوب وحفص.

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) )

ثمّ ذكر سبحانه المؤمنين، واعترافهم بما جحده من تقدّم ذكرهم من الكافرين، فقال :

( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ويعلم أولوا العلم بالنظر والاستدلال من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن شايعهم من الأمّة، أو من مسلمي أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار وعبد الله بن سلام. وقيل: هم كلّ من أوتي العلم بالدين. وهذا أولى، لعمومه.

( الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يعني: القرآن. والموصول مع صلته المفعول الأوّل لـ «يرى». وقوله:( هُوَ الْحَقَ ) المفعول الثاني. والضمير للفصل. ومن قرأ بالرفع جعله مبتدأ، و «الحقّ» خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، و «يرى» مع مفعوله مرفوع مستأنف، للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات.

وقيل: «يرى» في موضع النصب، معطوف على «ليجزي» أي: ليعلم أولوا

٤١٧

العلم عند مجيء الساعة أنّه الحقّ عيانا، كما علموه حقّا برهانا.

( وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ ) القادر الّذي لا يغالب( الْحَمِيدِ ) المحمود على جميع أفعاله. وصراطه: التوحيد، والتدرّع بلباس التقوى.

وفي هذه الآية دلالة على فضيلة العلم، وشرف العلماء، وعظم أقدارهم.

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) )

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار، فقال:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال بعضهم لبعض، أو القادة للأتباع، استبعادا وتعجّبا( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ ) يعنون محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، لكن هنا نكّروه قصدا منهم إلى الطنز والسخريّة، فأخرجوه مخرج التحلّي ببعض الحكايات الّتي يحاكى بها للضحك والتلهّي، متجاهلين به وبأمره.

( يُنَبِّئُكُمْ ) يحدّثكم بأعجب الأعاجيب( إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي: يمزّق أجسادكم البلى كلّ ممزّق( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي: إنّكم تنشؤن خلقا جديدا، بعد أن تمزّق أجسادكم كلّ تمزيق ـ أي: تبدّدت أجزاؤكم كلّ تبديد ـ وتفرّق كلّ تفريق، بحيث تصير ترابا ورفاتا.

٤١٨

وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه. وعامله محذوف، دلّ عليه ما بعده، فإنّ ما قبله لم يقارنه، وما بعده مضاف إليه، أو محجوب بينه وبينه بـ «إنّ».

و «ممزّق» يحتمل أن يكون مكانا، بمعنى: إذا مزّقتم، وذهب بكم السيول كلّ مذهب، وطرحتكم الرياح كلّ مطرح.

و «جديد» عند البصريّين بمعنى فاعل، من: جدّ فهو جديد، كحديد من: حدّ، وقليل من: قلّ. وعند الكوفيّين بمعنى مفعول، من: جدّ النسّاج الثوب إذا قطعه.

( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) حيث زعم أنّا نبعث بعد الموت. وهو استفهام تعجّب وإنكار.( أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) جنون يوهمه ذلك، ويلقيه على لسانه، ولا يعلم ما يقول.

وإسقاط همزة الوصل في «افترى» وإثباتها في نحو: آلسحر، خوف التباس الاستفهام بالخبر في الثاني، لكون همزته مفتوحة كهمزة الاستفهام، بخلاف الأوّل، فإنّ همزة الوصل فيه مكسورة، تقديره: أافترى.

واستدلال من جعل بين الصدق والكذب واسطة، بجعلهم إيّاه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه، على أنّ بين الصدق والكذب واسطة، وهو كلّ خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه. ضعيف بيّن الضعف، لأنّ الافتراء أخصّ من الكذب، لأنّه كذب عن عمد، ولا عمد للمجنون، فلا يكون الثاني قسيما للكذب مطلقا، بل لـما هو أخصّ منه، أعني: الافتراء. فيكون حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه، أعني: الكذب عن عمد، والكذب لا عن عمد.

ثمّ ردّ الله عليهم ترديدهم، وأثبت لهم ما هو أفظع من القسمين، وهو الضلال البعيد عن الصواب، بحيث لا يرجى الخلاص منه، وما هو مؤدّاه من العذاب، فقال :

( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) جعل العذاب

٤١٩

رسيلا(١) له في الوقوع، ومقدّما عليه في اللفظ، للمبالغة في استحقاقهم له.

و «البعيد» في الأصل صفة الضالّ. يقال: ضلّ فلان، إذا بعد عن الجادّة. ووصف الضلال به على الإسناد المجازي.

ثمّ ذكّرهم بما يعاينونه ممّا يدلّ على كمال قدرة الله، وما يحتمل فيه، إزاحة لاستحالتهم الإحياء، حتّى جعلوه افتراء وتهديدا عليها، فقال :

( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض، ولم يتفكّروا أهم أشدّ خلقا أم هما؟( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البيّنات، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.

وقرأ حمزة والكسائي: يشأ، و «يخسف» و «يسقط» بالياء، لقوله:( أَفْتَرى عَلَى اللهِ ) . وحفص: كسفا بالتحريك.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) النظر إلى السماء والأرض، والتفكّر فيهما، وما يدلّان عليه من قدرة الله( لَآيَةً ) لدلالة( لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) وهو الراجع إلى ربّه المطيع له، فإنّ المنيب يكون كثير التأمّل في أمره، فهو الّذي ينظر ويتفكّر في آيات الله، على أنّه قادر على كلّ شيء، من البعث ومن عقاب من يكفر به، وإثابة من يؤمن به.

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) )

__________________

(١) الرسيل: الموافق لك في النضال ونحوه.

٤٢٠