زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 14570
تحميل: 2168


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14570 / تحميل: 2168
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) ) ثمّ خاطب سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال:( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) يعني: القرآن، و «من» للتبيين. أو الجنس، و «من» للتبعيض.( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) لـما تقدّمه من الكتب السماويّة. حال مؤكّدة، لأنّ الحقّ لا ينفكّ عن هذا التصديق، أي: حقّيّته تستلزم موافقته إيّاه في العقائد وأصول الأحكام.

( إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) عالم بالبواطن والظواهر. فخبّرك وبصّر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحي إليك. فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوّة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز، الّذي هو عيار على سائر الكتب. وتقديم «الخبير» للدلالة على أنّ العمدة في ذلك الأمور الروحانيّة.

( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ) أي: إنّا أوحينا إليك الكتاب، أي: القرآن، ثمّ حكمنا بتوريثه منك. أو نورّثه، فعبّر عنه بالماضي لتحقّقه. أو المعنى: أورثناه من الأمم السالفة. ومعنى الإرث: انتهاء الحكم إليهم، ومصيره لهم، كما قال:( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ

٤٨١

الَّتِي أُورِثْتُمُوها ) (١) . والعطف على( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ) . و( الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) اعتراض لبيان كيفيّة التوريث.

( الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) يعني: علماء الأمّة، من أهل البيت، وسائر الصحابة، ومن بعدهم. أو الأمّة بأسرهم، فإنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، كقوله :

( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) (٢) . واختصّهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الّذي هو أفضل الكتب.

وقيل: هم الأنبياء، اختارهم الله برسالته وكتبه.

وقيل: هم المصطفون الداخلون في قوله:( إِنَّ اللهَ اصْطَفى ) إلى قوله:( وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ ) (٣) .

والمرويّ عن الباقر والصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: «هي لنا خاصّة، وإيّانا عنى».

وهذا أقرب الأقوال، لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاختصاص والاجتباء، وإيراث علم الأنبياء. وهم الّذين كانوا متعبّدين بحفظ القرآن وبيان حقائقه، العارفين بجلائله ودقائقه.

( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) بالتقصير في العمل به( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) يعمل به في أغلب الأوقات( وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) بضمّ التعليم والإرشاد إلى العمل.

وقيل: الظالم: الجاهل. والمقتصد: المتعلّم. والسابق: العالم.

وقيل: الظالم: المجرم. والمقتصد: الّذي خلط الصالح بالسيّء. والسابق: الّذي ترجّحت حسناته، بحيث صارت سيّئاته مكفّرة. وهو معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا الّذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب. وأمّا الّذين اقتصدوا

__________________

(١) الزخرف: ٧٢.

(٢) البقرة: ١٤٣.

(٣) آل عمران: ٣٣.

٤٨٢

فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا. وأمّا الّذين ظلموا أنفسهم، فأولئك يحبسون في طول المحشر، ثمّ يتلقّاهم الله برحمته».

وقيل: الظالم: الكافر، على أنّ الضمير للعباد. وعند أكثر المفسّرين الضمير يعود إلى المصطفين من العباد. ثمّ اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين: أحدهما: أنّ جميعهم ناج.

ويؤيّد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في الآية: «أمّا السابق فيدخل الجنّة بغير حساب. وأمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. وأمّا الظالم لنفسه، فيحبس في المقام، ثمّ يدخل الجنّة. فهم الّذين قالوا:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) (١) ».

وعن عائشة: أنّها قالت: كلّهم في الجنّة. أمّا السابق: فمن مضى على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشهد له رسول الله بالجنّة. وأمّا المقتصد: فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق به. وأمّا الظّالم: فمثلي ومثلكم.

وروي عنها أيضا قالت: السابق: الّذي أسلم قبل الهجرة. والمقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. والظالم: نحن.

وقيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. والمقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. والظالم: نحن.

وقيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. والمقتصد: الّذي يستوي ظاهره وباطنه. والسابق: الّذي باطنه خير من ظاهره.

وقيل: منهم ظالم لنفسه بالصغائر، ومنهم مقتصد في الطاعات في الدرجات الوسطى، ومنهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا.

وروى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز، عن جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام. والمقتصد منّا العارف بحقّ الإمام.

والسابق بالخيرات هو الامام. وهؤلاء كلّهم مغفور لهم».

__________________

(١) فاطر: ٣٤.

٤٨٣

وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفرعليه‌السلام : «أمّا الظالم لنفسه منّا فمن عمل عملا صالحا وآخر سيّئا. وأمّا المقتصد فهو المتعبّد المجتهد. وأمّا السابق بالخيرات فعليّ والحسن والحسين، ومن قتل من آل محمّد شهيدا».

وعن قتادة: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة. والمقتصد أصحاب الميمنة.

والسابق هم السابقون المقرّبون من الناس كلّهم. كما قال سبحانه:( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) (١) .

وقال عكرمة، عن ابن عبّاس: إنّ الظالم هو المنافق. والمقتصد والسابق من جميع الناس.

وروي أيضا: أنّ الفرقة الظالم لنفسها غير ناجية.

وتقديم الظالم لكثرة الظالمين، وقلّة المقتصدين بالإضافة إليهم. والسابقين أقلّ القليل.

وقيل: إنّما قدّم الظالم لئلّا ييأس من رحمته، وأخّر السابق لئلّا يعجب بعلمه.

ولأنّ الظلم متضمّن الجهل والركون إلى الهوى، وهو مقتضى الجبلّة، والاقتصاد والسبق عارضان.

وقيل: إنّما رتّبهم هذا الرتيب على مقامات الناس، لأنّ أحوال العباد ثلاث: معصية وغفلة، ثمّ التوبة، ثمّ القربة. فإذا عصى فهو ظالم. وإذا تاب فهو مقتصد. وإذا صحّت توبته، وكثرت مجاهدته، اتّصل بالله، وصار من جملة السابقين.

( بِإِذْنِ اللهِ ) بأمره وتوفيقه ولطفه( ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) إشارة إلى التوريث، أو الاصطفاء، أو السبق.

ثمّ فسّر الفضل، فقال على وجه الاستئناف:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) كأنّه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنّات عدن. أو «جنّات» مبتدأ، خبره

__________________

(١) الواقعة: ٧.

٤٨٤

«يدخلونها». ويجوز أن يكون بدلا منه. وذلك لأنّه لـمّا كان السبب في نيل الثواب، نزّل منزلة المسبّب، كأنّه هو الثواب، ففسّرت أو أبدلت عنه «جنّات عدن». وضمير الجمع باعتبار أنّ السابق للجنس.

وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين، ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله.

وقيل: الضمير للفرق الثلاث. والظالم والمقتصد إنّما يدخلانها بفضل الله، أو بالشفاعة.

وقرأ أبو عمرو: يدخلونها، على بناء المفعول.

( يُحَلَّوْنَ فِيها ) خبر ثان، أو حال مقدّرة( مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) «من» الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين( وَلُؤْلُؤاً ) عطف على «ذهب» أي: من ذهب مرصّع باللؤلؤ. أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ. ونصبه نافع وعاصم عطفا على محلّ «من أساور».( وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ) وهو الاسم المحض.

( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ ) اعترافا منهم بنعمته، لا على وجه التكليف( الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) همّهم من خوف زوال النعم. أو من أجل المعاش وآفاته. أو من وسوسة إبليس وغيرها.

وقيل: إنّهم كانوا يخافون دخول النار، وكانوا مستحقّين لذلك، فإذا تفضّل الله عليهم بإسقاط عقابهم، وأدخلهم الجنّة، حمدوه على ذلك وشكروه.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبورهم، ولا في محشرهم، ولا في مسيرهم. وكأنّي بأهل لا إله إلّا الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن وجوههم، ويقولون: «الحمد لله الّذي اذهب عنّا الحزن».

( إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ ) للمذنبين( شَكُورٌ ) يقبل محاسن المطيعين، فإنّ شكره

٤٨٥

سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له والقيام بطاعته.

( الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ ) دار الإقامة. يقال: أقمت إقامة ومقاما ومقامة.

والمراد دار الخلود، فيقيمون فيها أبدا، لا يموتون ولا يتحوّلون عنها.( مِنْ فَضْلِهِ ) من عطائه وإفضاله. من قولهم: لفلان فضول على قومه وفواضل. وليس من الفضل الّذي هو التفضّل، لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحقّ، والتفضّل كالتبرّع.

( لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ) تعب( وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ) كلال، إذ لا تكليف فيها ولا كدّ. والفرق بين النصب واللغوب: أنّ النصب التعب والمشقّة الّتي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. وأمّا اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب.

فالنصب نفس المشقّة، واللغوب نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة. فأتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ

٤٨٦

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠))

ولـمّا قدّم سبحانه ذكر ما أعدّه لأهل الجنّة من أنواع الثواب، عقّبه بذكر ما أعدّه للكفّار من أليم العقاب، فقال :

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ ) لا يحكم عليهم بموت ثان( فَيَمُوتُوا ) فيستريحوا. ونصبه بإضمار «أن».( وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ) ولا يسهل عليهم عذاب النار، بل كلّما خبت زيد إسعارها( كَذلِكَ ) مثل ذلك الجزاء( نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) مبالغ في الكفر، أو الكفران.

وقرأ أبو عمرو: يجزى، على بناء المفعول. وإسناده إلى «كلّ».

( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ) يستغيثون. يفتعلون من الصراخ، وهو الصياح.

استعمل في الاستغاثة، لجهر المستغيث صوته.( رَبَّنا أَخْرِجْنا ) من عذاب النار( نَعْمَلْ صالِحاً ) نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، أي: ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات الّتي تأمرنا بها( غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) من المعاصي. وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسّر على ما عملوه من غير الصالح، والاعتراف به، والإشعار بأنّ استخراجهم لتلافيه، وأنّهم كانوا يحسبون أنّه صالح، والآن تحقّق لهم خلافه.

فوبّخهم الله تعالى فقال:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) أو لم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن تتفكّروا وتتذكّروا. و( ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ ) متناول كلّ عمر يمكن المكلّف فيه من التفكّر والتذكّر والعمل الصالح.

٤٨٧

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «العمر الّذي أعذر الله فيه ابن آدم ستّون سنة». ومصداقه ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوعا أنّه قال: «من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه».

وعن ابن عبّاس: هو أربعون سنة. وقيل: هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة.

وروي ذلك عن الصادقعليه‌السلام ، ومأثور عن وهب وقتادة. وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستّين.

( وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ) عطف على معنى( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ) فإنّه للتقرير. كأنّه قيل: عمّرناكم وجاءكم النذير. وهو النبيّ، أو الكتاب. وقيل: الشيب، أو موت الأقارب.

( فَذُوقُوا ) فذوقوا العذاب وحسرة الندم( فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) يدفع العذاب عنهم.

( إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لا يخفى عليه شيء ممّا يغيب عن الخلائق علمه، فلا تخفى عليه أحوالهم( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) بما فيها من المضمرات. وهذا تعليل له، لأنّه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى ما يكون، كان أعلم بغيرها. والذات تأنيث «ذو». وهو موضوع لمعنى الصحبة. والمعنى: مضمرات تصحب الصدور.

( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ ) أي: جعلكم معاشر الكفّار، أمّة بعد أمّة، وقرنا بعد قرن( فِي الْأَرْضِ ) بأن أحدثكم بعدهم فيها، وأورثكم ما كان لهم، فملّككم مقاليد التصرّف، وسلّطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها، لتشكروه بالتوحيد والطاعة. يقال للمستخلف: خليفة وخليف. والخليفة تجمع: خلائف، والخليف :خلفاء.

( فَمَنْ كَفَرَ ) وغمط مثل هذه النعمة السّنيّة( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فواقع عليه جزاء كفره.

٤٨٨

ثمّ بيّن جزاءه بقوله:( وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ) وهو أشدّ البغض، بحيث لا يكون وراءه خزي وصغار. ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتي، لكونه ممقوتا في كلّ قلب.

( وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً ) أي: خسار الآخرة وهلاكها. والتكرير للدلالة على أنّ اقتضاء الكفر لكلّ واحد من الأمرين، مستقلّ باقتضاء قبحه ووجوب التجنّب عنه.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) يعني: آلهتهم. والإضافة إليهم لأنّهم جعلوهم شركاء لله، أو لأنفسهم فيما يملكونه.( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) بدل من «أرأيتم» بدل الاشتمال، لأنّه بمعنى: أخبروني. كأنّه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء، وعمّا استحقّوا به الإلهيّة والشركة، أروني أيّ جزء من الأرض استبدّوا بخلقه دون الله؟

( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أم لهم شركة مع الله في خلق السّماوات، فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة ذاتيّة؟( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ) ينطق على أنّا اتّخذناهم شركاء( فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) على حجّة واضحة من ذلك الكتاب، بأنّ لهم استحقاق شركة لنا. وجميع ذلك محال، لا يمكنهم إقامة حجّة ولا شبهة على شيء منه.

وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر: بيّنات. فيكون إيماء إلى أنّ الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل.

ولـمّا قرّر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه بقوله:( بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً ) يعني: ما حملهم على اتّخاذ الشركاء إلّا تغرير الأسلاف الأخلاف، أو الرؤساء الأتباع، بأنّهم شفعاء عند الله يشفعون لهم بالتقرّب إليه، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

٤٨٩

( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) )

ثمّ بيّن سبحانه عظيم قدرته المغنية عن اعتضاد شريك، وسعة مملكته المتقنة الدالّة على كمال غنائه عمّا سواه، فقال :

( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) بمحض القدرة التامّة، من غير علاقة فوقها، ولا عماد تحتها.

عن ابن عبّاس أنّه قال لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب، أما ترك يهوديّته بعد؟! ثمّ قرأ:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

( أَنْ تَزُولا ) كراهة أن تزولا، فإنّ الممكن حال بقائه لا بدّ له من حافظ. أو يمنعهما أن تزولا، لأنّ الإمساك منع.

( وَلَئِنْ زالَتا ) وإن قدّر أن تزولا عن مراكزهما( إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) من بعد الله، أو من بعد الزوال. والجملة سادّة مسدّ جواب القسم وجواب الشرط. و «من» الأولى زائدة. والثانية للابتداء.

( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا، لعظم كلمة الشرك، كما قال:( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) (١) .

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) مريم: ٩٠.

٤٩٠

وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) )

روي: أنّ قريشا لـمّا بلغهم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، قالوا: لعن الله اليهود والنصارى، لو أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم، أي: اليهود والنصارى وغيرهم. فلمّا بعث رسول الله كذّبوه، فحكى الله سبحانه من قولهم وفعلهم بقوله :

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) يعني: كفّار مكّة حلفوا بالله قبل أن يأتيهم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيمان غلاظ، غاية وسعهم وطاقتهم( لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ ) من جهة الله( لَيَكُونُنَّ أَهْدى ) إلى قبول قوله واتّباعه( مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) أي: من واحدة منهم.

أو من الأمّة الّتي يقال لها: هي إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة.

( فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ) يعني: محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ما زادَهُمْ ) أي: النذير. أو مجيئه، على الإسناد المجازي تسبّبا، لأنّه هو السبب، كقوله:( فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) (١) ( إِلَّا نُفُوراً ) تباعدا عن الحقّ، وهربا منه.

( اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ) عتوّا على الله، وأنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم.

وهذا بدل من «نفورا». أو مفعول له، أي: لاستكبارهم في الأرض. أو حال، بمعنى: مستكبرين. وكذا قوله:( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) أصله: وأن مكروا المكر السيّئ برسول الله وأصحابه. فحذف الموصوف استغناء بوصفه بدل «أن»، مع الفصل بالمصدر، ثمّ أضيف. والدليل عليه قوله:( وَلا يَحِيقُ ) ولا يحيط( الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) وهو الماكر. وقد حاق بهم يوم بدر.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تمكروا، ولا تعينوا ماكرا، فإنّ الله يقول: «ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله» ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا، لقوله تعالى :

__________________

(١) التوبة: ١٢٥.

٤٩١

( إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (١) .

وعن كعب أنّه قال لابن عبّاس: قرأت في التوراة: من حفر مغواة(٢) وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى. وقرأ هذه الآية.

وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا.

( فَهَلْ يَنْظُرُونَ ) ينتظرون( إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ) سنّة الله وعادته في الأمم الماضية، بأن يهلكهم إذا كذّبوا رسله، وينزل بهم العذاب.

( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ) إذ لا يبدّل عادته، من عقوبة من كفر نعمته وجحد ربوبيّته، بأن يجعل غير التعذيب تعذيبا( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) ولا يحوّلها، بأن ينقله من المكذّبين إلى غيرهم. فالتبديل: تصيير الشيء مكان غيره.

والتحويل: تصيير الشيء في غير المكان الّذي كان فيه. وأمّا التغيير: تصيير الشيء على خلاف ما كان.

( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥) )

__________________

(١) يونس: ٢٣.

(٢) المغواة: المضلّة. يقال: حفر لأخيه مغواة، أي: ورّطه.

٤٩٢

ثمّ استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق، من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم، بقوله :

( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام واليمن( فَيَنْظُرُوا ) في علامات الهلاك( كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) مثل عاد وثمود وقوم لوط، فيعتبروا بهم( وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ ) ليسبقه ويفوته( فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً ) بالأشياء كلّها( قَدِيراً ) عليها.

ثمّ منّ الله سبحانه على خلقه بتأخيره العقاب عنهم، فقال :

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ) من الشرك والمعاصي( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ) ظهر الأرض( مِنْ دَابَّةٍ ) من نسمة تدبّ عليها بشؤم معاصيهم.

وعن ابن مسعود: كاد الجعل يعذّب في جحره بذنب ابن آدم. ثمّ تلا هذه الآية.

وعن أنس: إنّ الضبّ ليموت في جحره بذنب بني آدم.

وقيل: يحبس المطر، فيهلك كلّ شيء.

وقيل: المراد بالدابّة الإنس وحده، لقوله:( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو يوم القيامة( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) فيجازيهم على أعمالهم. وهذا وعيد بالجزاء.

٤٩٣
٤٩٤

(٣٦)

سورة يس

مكّيّة وهي ثلاث وثمانون آية. أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة يس يريد بها اللهعزوجل ، غفر الله له، واعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرّة. وفي رواية اخرى: اثنتين وعشرين مرّة. وأيّما مريض قرئت عنده سورة يس، نزل عليه بعدد كلّ حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا، ويستغفرون له، ويشهدون قبضه، ويتّبعون جنازته، ويصلّون عليه، ويشهدون دفنه.

وأيّما مريض قرأها وهو في سكرات الموت، أو قرئت عنده، جاءه رضوان خازن الجنّة بشربة من شراب الجنّة، فسقاه إيّاها وهو على فراشه، فيشرب فيموت، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريّان، ويمكث في القبر وهو ريّان، ويبعث ريّان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء، حتّى يدخل الجنّة وهو ريّان».

وقالعليه‌السلام : «إنّ في القرآن سورة يشفّع قائلها، ويستغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس».

أبو بكر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة. قيل: وما المعمّة؟ قال: تعمّ صاحبها خير الدنيا والآخرة، وتكابد عنه بلوى الدنيا، وتدفع عنه أهاويل الآخرة. وتدعى المدافعة والقاضية، تدفع عن صاحبها كلّ شرّ، وتقضي له كلّ حاجة. ومن قرأها عدلت له عشرين حجّة. ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله. ومن كتبها ثمّ شربها أدخلت جوفه ألف دواء، وألف نور، وألف يقين، وألف بركة، وألف رحمة. ونزعت عنه كلّ داء وغلّة».

٤٩٥

أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ لكلّ شيء قلبا، وقلب القرآن يس».

وعنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفّف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات».

وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «إنّ لكلّ شيء قلبا، وقلب القرآن يس.

فمن قرأها في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتّى يمسي.

ومن قرأها في ليله قبل أن ينام، وكلّ به ألف ملك كلّهم يستغفرون له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له.

فإذا أدخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون الله، وثواب عبادتهم له. وفسح له في قبره مدّ بصره، وأمن من ضغطة القبر. ولم يزل له في قبره نور ساطع إلى أعنان السماء، إلى أن يخرجه الله من قبره.

فإذا أخرجه لم تزل ملائكة الله معه يشيّعونه ويحدّثونه، ويضحكون في وجهه، ويبشّرونه بكلّ خير، حتّى يجوزوا به الصّراط والميزان، ويوقفوه من الله موقفا لا يكون عند الله خلق أقرب منه، إلّا ملائكة الله المقرّبون وأنبياؤه المرسلون.

وهو مع النّبيين واقف بين يدي الله، لا يحزن مع من يحزن، ولا يهتمّ مع من يهتمّ، ولا يجزع مع من يجزع.

ثمّ يقول له الربّ تعالى: اشفع عبدي أشفّعك في جميع ما تشفع. وسلني عبدي أعطك جميع ما تسأل. فيسأل فيعطى. ويشفع فيشفّع. ولا يحاسب فيمن يحاسب. ولا يذلّ مع من يذلّ. ولا يبكّت بخطيئة، ولا بشيء من سوء عمله، ويعطى كتابا منشورا. فيقول الناس بأجمعهم: سبحان الله ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة! ويكون من رفقاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «إنّ لرسول الله اثني عشر اسما، خمسة منها في القرآن: محمّد، وأحمد، وعبد الله، ويس، ونون».

٤٩٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) )

واعلم أنّه لـمّا ذكر سبحانه في آخر سورة فاطر، أنّهم أقسموا بالله ليؤمننّ إن جاءهم نذير، افتتح هذه السورة بأنّهم لم يؤمنوا وقد جاءهم النذير، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس ) قد مضى الكلام في الحروف المقطّعة عند مفتتح السور في أوّل سورة البقرة، واختلاف الأقوال فيها.

وعن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين: أنّ معنى «يس»: يا إنسان في لغة طيّ.

على أنّ أصله: يا أنيسين، فاقتصر على شطره، لكثرة النداء به، كما قيل في القسم

٤٩٧

في «أيمن الله»: من الله.

وقيل: معناه: يا سيّد الأوّلين والآخرين. وهذا ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وأبي جعفر الباقرعليه‌السلام .

وقيل: معناه: يا رجل.

وأمال الياء حمزة والكسائي وحفص وروح. وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر وورش ويعقوب النون في الواو.

( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) أي: ذو الحكمة. أو إنّه دليل ناطق بالحكمة، كالحيّ. أو إنّه كلام حكيم يوصف بوصف المتكلّم. والواو واو القسم، أو العطف إن جعل «يس» مقسما به.

( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) لمن الّذين أرسلوا على صراط مستقيم. وهو التوحيد والاستقامة في الأمور. ويجوز أن يكون «على صراط» خبرا ثانيا، أو حالا من المستكن في الجارّ والمجرور. وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحا، وإن دلّ عليه «لمن المرسلين» التزاما.

( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) خبر مبتدأ محذوف. والمصدر بمعنى المفعول.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالنصب، بإضمار: أعني، أو بفعله المقدّر، أعني: ننزّله.

( لِتُنْذِرَ قَوْماً ) متعلّق بـ «تنزيل»، أو بمعنى «لمن المرسلين». والمعنى: إرسالك لتنذر قوما.( ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ) قوما لم يأت آباءهم من ينذرهم بالكتاب ـ يعني: آباءهم الأقربين ـ لتطاول مدّة الفترة بين عيسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فيكون صفة مبيّنة لشدّة حاجتهم إلى إرساله. أو الّذي أنذر به. أو شيئا أنذره به آباؤهم الأبعدون.

فيكون مفعولا ثانيا لـ «تنذر». وعلى هذا «ما» موصولة، أو موصوفة. ويجوز أن تكون مصدريّة، أي: لتنذر إنذار آبائهم.

٤٩٨

( فَهُمْ غافِلُونَ ) متعلّق بالنفي على الأوّل، أي: لم ينذروا فبقوا غافلين. يعني: عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. أو بقوله:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) على الوجوه الآخر، أي: أرسلناك إليهم لتنذرهم، فإنّهم غافلون عمّا أنذر الله من نزول العذاب.

ثمّ أقسم سبحانه مرّة اخرى فقال:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ ) أي: وجب وثبت قولنا( عَلى أَكْثَرِهِمْ ) يعني قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) لأنّهم ممّن علم أنّهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتوغّلهم في الجحود.

ثمّ قرّر تصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم، بحيث لا يغني عنهم الآيات والنذر، بتمثيلهم بالّذين غلّت أعناقهم، فقال :

( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ ) أي: فالأغلال واصلة( إِلَى الْأَذْقانِ ) إلى أذقانهم، فلا تخلّيهم يطأطئون رؤوسهم له( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) رافعون رؤوسهم، غاضّون أبصارهم. يقال: قمح البعير فهو قامح، إذا روى فرفع رأسه، فغضّ بصره ترفّها. والمعنى: أنّهم لا يلتفتون لفت الحقّ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، بل كانوا رافعين رؤوسهم، لاوين أعناقهم، شامخين بأنوفهم، لا ينظرون إلى الأرض، فصاروا كأنّما جعلت الأغلال في أعناقهم.

ثمّ بتمثيلهم بالّذين أحاط بهم سدّان، فغطّى أبصارهم بحيث لا يبصرون ما قدّامهم ووراءهم، فقال :

( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ ) فأغشينا أبصارهم( فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) يعني: أنّهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، لتسليمهم أنفسهم إلى الوساوس الشيطانيّة، والهواجس النفسانيّة.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص: سدّا بالفتح. وهو لغة فيه. وقيل: ما كان بفعل

__________________

(١) هود: ١١٩.

٤٩٩

الناس فبالفتح، وما كان بخلق الله فبالضمّ.

وإنّما أضاف ذلك إلى نفسه، لأنّ عند تلاوة القرآن عليهم، ودعوته إيّاهم، صاروا بهذه الصفة، فكأنّه سبحانه فاعل ذلك. أو لأنّ ذلك عبارة عن خذلان الله إيّاهم لـمّا كفروا عنادا. فكأنّه قال: تركناهم مخذولين، فصاروا مثل من جعلنا في عنقه غلّا، ومن بين يديه سدّا، وخلفه سدّا، وأغشينا بصره، فلا يقدر أن ينظر إلى الأرض ويبصر شيئا.

وقيل: الآيتان في بني مخزوم. وذلك أنّ أبا جهل حلف إن رأى محمدا يصلّي ليرضخنّ(١) رأسه. فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر ليدمغه، فلمّا رفع يده انثنت ولويت يده إلى عنقه، ولزق الحجر بيده، حتّى فكّوه عنها بجهد. فرجع إلى قومه فأخبرهم. فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعماه الله. فجعل يسمع صوته ولا يراه. فرجع إلى أصحابه فلم يرهم، حتّى نادوه ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته، وحال بيني وبينه كهيئة الفعل يخطر بذنبه، ولو دنوت منه لأكلني.

وروى أبو حمزة الثمالي، عن عمّار بن عاصم، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود: أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إليهم، فطرح التراب على رؤوسهم وهم لا يبصرونه. قال عبد الله: هم الّذين سحبوا في قليب بدر.

وروى أبو حمزة عن مجاهد، عن ابن عبّاس: أنّ قريشا اجتمعوا فقالوا: لئن دخل محمد لنقومنّ إليه. فدخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل الله من بين أيديهم سدّا، ومن خلفهم سدّا، فلم يبصروه. فصلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أتاهم، فجعل ينثر على رؤوسهم التراب وهم لا يرونه، فلمّا خلّى عنهم رأوا التراب، وقالوا: هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

__________________

(١) أي: ليكسرنّ.

٥٠٠