زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 19595
تحميل: 1898


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19595 / تحميل: 1898
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

ملاحظة

هذا الكتاب

نشر الكترونياً وأخرج فنِيّاً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلميّة في الشبكة

٢

٣
٤

(٣٨)

سورة ص

مكّيّة. وهي ثمان وثمانون آية. عن أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة ص أعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّره الله لداود حسنات، وعصمه الله أن يصرّ على ذنب، صغيرا أو كبيرا».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة، أعطي من خير الدنيا والآخرة، ما لم يعط أحد من الناس، إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب، وأدخله الله الجنّة، وكلّ من أحبّ من أهل بيته، حتّى خادمه الّذي يخدمه، وإن كان ليس في حدّ عياله، ولا في حدّ من يشفع له».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) )

٥

واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ختم سورة الصافّات بذكر القرآن والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنكار الكفّار لـما دعاهم إليه، افتتح هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، والردّ عليهم أيضا، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص ) قد ذكر في أوّل سورة البقرة أنّ إيراد حروف التهجّي في أوائل السور على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز. ثمّ أتبعه القسم محذوف الجواب، لدلالة التحدّي عليه. كأنّه قال:( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) إنّه لكلام معجز. ويجوز أن تكون «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنّها اسم للسورة، كأنّه قال: هذه ص. يعني: هذه السورة الّتي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر. كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله. وكذلك إذا أقسم بها، كأنّه قال: أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنّه لمعجز. وإذا جعلتها مقسما بها، وعطفت عليها:( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كلّه، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة، والقرآن ذي الذكر. كما تقول: مررت بالرجل الكريم، وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل.

وقيل: «صاد» رمز لصدق محمّد. و «الذكر» الشرف والشهرة، كقولك: فلان مذكور. أو الذكرى والموعظة. أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص الأنبياء، والوعد والوعيد.

وما كفر به من كفر( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: كفروا به( فِي عِزَّةٍ ) أي: استكبار عن قبول الحقّ( وَشِقاقٍ ) خلاف لله ورسوله، ولذلك كفروا به. والتنكير فيهما للدلالة على شدّتهما.

ثمّ أوعدهم على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا ) استغاثة، أو توبة، أو استغفارا( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) أي: وليس الحين حين مناص. و «لا» هي المشبّهة بـ «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد، كما

٦

زيدت على «ربّ» و «ثمّ». وتغيّر بزيادة التاء حكم «لا»، حيث لم تدخل إلّا على الأحيان. ولم يبرز إلّا اسمها أو خبرها، وامتنع بروزهما جميعا.

وقيل: هي النافية للجنس، أي: ولا حين مناص لهم. وقيل: للفعل، والنصب بإضماره، أي: ولا أرى حين مناص. وتقف الكوفيّة على التاء بالهاء كالأسماء، والبصريّة بالتاء كالأفعال.

وقيل: إنّ التاء مزيدة على «حين» لاتّصالها به في الإمام. والمناص: الملجأ. من: ناصه ينوصه إذا فاته.

( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) بشر مثلهم، أو امّي من عدادهم( وَقالَ الْكافِرُونَ ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير إظهارا للغضب عليهم وذمّا لهم، وإشعارا بأنّ توغّلهم في الكفر وانهماكهم في الغيّ جسّرهم على هذا القول( هذا ساحِرٌ ) فيما يظهره معجزة( كَذَّابٌ ) فيما تقوّله على الله. وهل ترى كفرا أعظم وجهلا أبلغ من أن يسمّوا من صدّقه الله بوحيه كاذبا، ويتعجّبوا من التوحيد، وهو الحقّ الذي لا يصحّ غيره، ولا يتعجّبوا من الشرك، وهو الباطل الّذي لا وجه لصحّته أصلا؟! ثمّ بيّنوا تقوّله بقولهم:( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ) بأن جعل الالوهيّة الّتي كانت لآلهتنا لواحد. وذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع الله، ودعاهم إلى عبادة الله وحده. فتعجّبوا من ذلك، وقالوا: كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنّا نعبد آلهة؟

روي: أنّ عمر بن الخطّاب لـمّا أظهر الإسلام شقّ على قريش وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم، منهم: الوليد بن المغيرة، وهو أكبرهم، وأبو جهل، وأبيّ وأميّة ابنا خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، وأتوا عند أبي طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الّذين دخلوا في الإسلام، وجئناك لتقضي بيننا

٧

وبين ابن أخيك.

فاستحضر أبو طالب رسول الله وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كلّ الميل على قومك.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماذا يسألونني؟

قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ندعك وإلهك.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، أَمعطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟

قالوا: نعم وعشرا، أي: نعطيكها وعشر كلمات معها.

فقال: قولوا لا إله إلّا الله.

فقاموا وقالوا: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً »( إِنَّ هذا ) هذا الّذي يقوله محمّد من أنّ الإله واحد( لَشَيْءٌ عُجابٌ ) بليغ في العجب، فإنّه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا وما نشاهده، من أنّ الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعبر ثمّ قال: «يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتّى أنفذه، أو أقتل دونه». فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فو الله لا أخذلك أبدا.

( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) )

( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ) أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم

٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمعوا ما قال أبو طالب، قائلين بعضهم لبعض:( أَنِ امْشُوا ) اخرجوا من هذا المجلس( وَاصْبِرُوا ) واثبتوا( عَلى آلِهَتِكُمْ ) على عبادتها، وتحمّلوا المشاقّ لأجلها، فإنّه لا حيلة لكم في دفع أمر محمّد. و «أن» هي المفسّرة، لأنّ الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول.

وقيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول. «وامشوا» من: مشت المرأة إذا كثرت أولادها. ومنه: الماشية، أي: أكثروا واجتمعوا للتقوّل.

( إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ) هذا الأمر الّذي نراه ـ من زيادة أصحاب محمّد ـ من نوائب الزمان يراد بنا، فلا مردّ له، ولا انفكاك لنا منه. أو إنّ هذا الّذي يدّعيه من التوحيد، أو يقصده من الرئاسة والترفّع على العرب والعجم، لشيء يتمنّى، أو يريده كلّ أحد. أو إنّ دينكم يطلب ليؤخذ منكم.

( ما سَمِعْنا بِهذا ) الّذي يدعونا إليه محمّد من التوحيد وخلع الأنداد من الله( فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ) في الملّة الّتي أدركنا عليها آباءنا، أو في ملّة عيسى الّتي هي آخر الملل، فإنّ النصارى يثلّثون ولا يوحّدون. ويجوز أن يكون حالا من «هذا»، ولا يتعلّق بـ «ما سمعنا». والمعنى: أنّا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهّان أنّه يحدث التوحيد في الملّة الآخرة.( إِنْ هذا ) ما هذا الّذي يقوله محمّد( إِلَّا اخْتِلاقٌ ) كذب اختلقه.

ثمّ أنكروا أن يختصّعليه‌السلام بشرف النبوّة والوحي من بين رؤسائهم، وينزل عليه الكتاب دونهم، وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة، فقالوا :

( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) أي: كيف أنزل على محمّد القرآن من بيننا، وليس بأكبر سنّا منّا، ولا بأعظم شرفا؟ وهذا دليل على أنّ مبدأ تكذيبهم لم يكن إلّا الحسد، وقصور النظر على الحطام الدنيوي. وقرأ قالون بمدّ الأولى وتليين الثانية شبه واو. وكذلك ابن كثير وأبو عمرو، إلّا أنّهم يقصرونها.

٩

ثمّ ردّ الله عليهم قولهم بقوله:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) من القرآن أو الوحي، لميلهم إلى التقليد، وإعراضهم عن الدليل. وليس في عقيدتهم ما يبتّون به من قولهم: «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ » «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ».

ثمّ هدّدهم بقوله:( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكّهم. والمراد: أنّهم لا يصدّقون بالقرآن حتّى يمسّهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه.

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) )

ثمّ أجابهم عن إنكارهم نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ) بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرّفهم حتّى يصيبوا بها من شاؤا، ويصرفوها عمّن شاؤا، فيتخيّروا للنبوّة بعض صناديدهم، ويترفّعوا بها عن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وليس الأمر كذلك، فإنّ النبوّة عطيّة من الله يتفضّل بها على من يشاء من عباده، لا مانع له.

( الْعَزِيزِ ) الغالب الّذي لا يغلب( الْوَهَّابِ ) الّذي له أن يهب كلّ ما شاء على حسب المصالح، فيختار للنبوّة من يشاء من عباده. ونظيره قوله:( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ

١٠

عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) (١) .

ولـمّا أنكر عليهم التصرّف في نبوّته، بأن ليس عندهم خزائن رحمته الّتي لا نهاية لها، أردف ترشيحا لهذا المعنى( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) أي: ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الّذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرّفوا فيها؟

ثمّ تهكّم بهم غاية التهكّم، فقال: إن كان لهم ذلك( فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ ) فليصعدوا في المعارج والطرق الّتي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يستووا عليه، ويدبّروا أمر العالم، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون. والسبب في الأصل هو الوصلة. وقيل: المراد بالأسباب السماوات، لأنّها أسباب الحوادث السفليّة.

ثمّ استصغرهم واستحقرهم عن هذا الأمر الجليل والخطب العظيم، فقال:( جُنْدٌ ما ) «ما» مزيدة للتقليل، كقولك: أكلت شيئا ما، أي: هم جند قليل حقير جدّا( هُنالِكَ ) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول. أو إشارة إلى مصارعهم ببدر.( مَهْزُومٌ ) مكسور عمّا قريب( مِنَ الْأَحْزابِ ) من الكفّار المتحزّبين على الرسل، وأنت منصور عليهم مظفّر غالب، فمن أين لهم التدابير الإلهيّة والتصرّف في الأمور الربّانيّة؟ فلا تبال بما يقولون.

ثمّ هدّدهم باستئصال الأحزاب المكذّبين المعاندين في سالف زمانهم، فقال:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ) قبل هؤلاء الكفّار( قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ) ذو الملك الثابت بالأوتاد، كقوله :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد

مأخوذ من ثبات البيت المطنّب بأوتاده. أو ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأنّهم يشدّون ملكه، ويقرّون أمره. أو لأنّ بعضهم يشدّ بعضا، كالوتد يشدّ البناء. أو

__________________

(١) الدّخان: ٣٢.

١١

لكثرة أوتاد خيامهم.

وقيل: نصب أربع سوار، وكان يمدّ يدي المعذّب ورجليه إليها، ويضرب عليها أوتادا، ويتركه حتّى يموت.

وقيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه الحيّات والعقارب.

وعن ابن عبّاس وقتادة وعطاء: أنّه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها.

( وَثَمُودُ ) وهم قوم صالح( وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ) وأصحاب الغيضة(١) . وهم قوم شعيب. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: ليكة.

ولـمّا ذكر هؤلاء المكذّبين، أعلمنا أنّ مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب، فقال:( أُولئِكَ ) أي: أولئك المكذّبون المعاندون( الْأَحْزابُ ) هم المتحزّبون على الرسل الّذين جعل الجند المهزوم منهم.

ثمّ صرّح بما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام، فقال على أبلغ تأكيد:( إِنْ كُلٌ ) ما كلّ واحد من الأحزاب( إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ) كذّب جميع الرسل، لأنّهم إذا كذّبوا واحدا منهم فقد كذّبوهم جميعا. ويجوز أن يكون ذلك مقابلة الجمع بالجمع تسجيلا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبريّة أوّلا، وبالاستثنائيّة ثانيا، وما في الاستثنائيّة من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص، أنواع من المبالغة المسجّلة عليهم، باستحقاق أشدّ العقاب وأبلغه.

ولذلك رتّب عليه( فَحَقَّ عِقابِ ) أي: فوجب أن أعاقبهم حقّ عقابهم.

( وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ ) أي: وما ينتظر قومك أو الأحزاب، فإنّهم كالحاضرين، لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم الله( إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ) هي النفخة الأولى( ما لَها مِنْ فَواقٍ ) من توقّف مقدار فواق. وهو ما بين جلستي الحالب

__________________

(١) الغيضة: الأجمة، ومجتمع الشجر في مغيض الماء.

١٢

ورضعتي الراضع. يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى:( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) .

وعن ابن عبّاس: ما لها من رجوع وترداد. من: أفاق المريض إذا رجع إلى الصحّة. وفواق الناقة ساعة يرجع اللبن إلى الضرع. يريد: أنّها نفخة واحدة فحسب، لا تثنّى ولا تردّد. وقرأ حمزة والكسائي بالضمّ. وهما لغتان.

( وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) )

روي: أنّه لـمّا نزل( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) (٢) ، قالت قريش: زعمت يا محمّد أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجّل لنا كتبنا الّتي نقرؤها في الآخرة، استهزاء منهم بهذا الوعيد وتكذيبا به. فنزلت :

( وَقالُوا ) وقال هؤلاء الكفّار:( رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ) قسطنا من العذاب الّذي توعدنا به. أو الجنّة الّتي تعدها للمؤمنين. وهو من: قطّه إذا قطعه. فسمّي القسط القطّ، لأنّه قطعة من الشيء. ومنه قطّ الصحيفة الجائزة، لأنّه قطعة من القرطاس. وقد فسّر بهما، أي: عجّل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.( قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) .

__________________

(١) الأعراف: ٣٤.

(٢) الحاقّة: ١٩ و٢٥.

١٣

ولـمّا كانوا استعجلوا ذلك استهزاء قال:( اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) من تكذيبك، فإنّ وبال ذلك يعود عليهم( وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ) واذكر لهم قصّة داود، تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنّه مع علوّ شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات، وكمال زلفته عند الله سبحانه، لـمّا زلّ زلّة من ترك الأولى، وبّخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتّى تفطّن فاستغفر ربّه وأناب، ووجد منه ما يحكي عن بكائه الدائم وغمّه الواصب(١) ، ولا يزال مجدّدا للندم عليها، فما الظنّ بكم مع كفركم وفرط معاصيكم؟! أو تذكّر قصّته، وصن نفسك أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم وتحمّل أذاهم، فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهماله.

( ذَا الْأَيْدِ ) ذا القوّة في الدين والعبادة. يقال: رجل أيد وذو أيد وأياد، بمعنى ما يتقوّى به. وروي: أنّه يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشدّ الصوم.

وقيل: ذا القوّة على الأعداء وقهرهم. وذلك لأنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر رجل، فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله.

وقيل: معناه: ذا التمكين العظيم، والنعم الجليلة. وذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.

( إِنَّهُ أَوَّابٌ ) توّاب، رجّاع عن كلّ ما يكره الله إلى ما يحبّ. من: آب يؤوب إذا رجع. وهذا تعليل للأيد، ودليل على أنّ المراد به القوّة في الدين.

( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ ) قد سبق(٢) تفسير تسخير الجبال مع داود.

و «يسبّحن» حال وضع موضع: مسبّحات، لاستحضار الحال الماضية، والدلالة على تجدّد التسبيح من الجبال حالا بعد حال.

__________________

(١) أي: الدائم.

(٢) راجع ج ٤ ص ٣٤٣، ذيل الآية ٧٩ من سورة الأنبياء.

١٤

( بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ) وقت دخول الشروق. يقال: أشرقت الشمس ولـمّا تشرق. من: أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق. ومنه قوله تعالى:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (١) . وقول الجاهليّة: أشرق ثبير(٢) كيما نغير، أي: وادخل في الضوء لنغير. ويراد وقت صلاة الفجر، لانتهائه بالشروق.

والمعنى: يسبّحن الله إذا سبّح وقت الرواح والصباح. وذلك إمّا بأن خلق الله فيهنّ التسبيح، أو بنى فيها بنية يتأتّى منها التسبيح معجزة لهعليه‌السلام .

وكذلك قوله:( وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) مجموعة إليه من كلّ جانب. وإنّما لم يقل: يحشرن، مع أنّ فيه المطابقة بين الحالين، لأنّ الحشر جملة أدلّ على القدرة منه مدرّجا.

وعن ابن عبّاس: كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبّحته، فذلك حشر الطير.

( كُلٌّ لَهُ ) أي: كلّ واحد من الجبال والطير لأجل داود ـ أي: لأجل تسبيحه ـ( أَوَّابٌ ) رجّاع إلى التسبيح. ووضع الأوّاب موضع المسبّح، إمّا لأنّها كانت ترجّع التسبيح، والمرجّع رجّاع، لأنّه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع. وإمّا لأنّ الأوّاب ـ وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله تعالى وطلب مرضاته ـ من عادته أن يكثر ذكر الله، ويديم تسبيحه وتقديسه.

وقيل: الضمير لله، أي: كلّ منهما ومن داود مرجّع لله التسبيح. والفرق بينه وبين «يسبّحن» أنّه يدلّ على الموافقة في التسبيح، وهذا يدلّ على المداومة عليها.

( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) وقوّيناه بالحرس والجنود وكثرة العدد والعدّة والهيبة، بأن قذفنا في قلوب قومه هيبته.

__________________

(١) الحجر: ٧٣.

(٢) ثبير: اسم جبل بمكّة.

١٥

روي: أنّ رجلا ادّعى عنده بقرة على آخر، وعجز عن إقامة البيّنة، فأوحي إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه. فقال: هذا منام. فأعيد الوحي في اليقظة، فأعلم الرجل. فقال: صدقت، إنّ الله لم يأخذني بهذا الذنب، ولكن بأنّي قتلت أبا هذا غيلة، وأخذت البقرة. فقتله، فعظمت بذلك هيبته.

وقيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم(١) يحرسونه.

( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ ) النبوّة. أو كمال العلم وإتقان العمل. وقيل: كلّ كلام وافق الحقّ فهو حكمة.( وَفَصْلَ الْخِطابِ ) وفصل الخصام بتمييز الحقّ عن الباطل. وهو بمعنى المفعول، أي: كلام مفصول بعضه من بعض. فمعنى فصل الخطاب: الكلام المخلص الّذي ينبّه من يخاطب به على المقصود من غير التباس عليه. ومن فصل الخطاب أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل، والعطف والاستئناف، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، ونحوها.

ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، كالصوم(٢) والزور. والمعنى: الكلام الفاصل بين الخطاب الّذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحقّ والباطل، والصواب والخطأ.

وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك. وسمّي به «أمّا بعد» لأنّه يفصل المقصود عمّا سبق مقدّمة له، من الحمد والصلاة.

وقيل: هو الخطاب المتوسّط الّذي ليس فيه اختصار مخلّ، ولا إشباع مملّ.

كما جاء في وصف كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فصل، لا نزر، ولا هذر(٣) .

وعن عليّعليه‌السلام : «هو قوله: البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه».

روي: أنّه كان أهل زمان داودعليه‌السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته. وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روي

__________________

(١) أي: لابس اللأمة، وهي الدرع.

(٢) يقال: هو صوم، أي: صائم. ورجل زور، أي: زائر.

(٣) النزر: القليل. والهذر: الكلام الرديء الّذي لا يعبأ به.

١٦

أنّ الأنصار أيضا كانوا يواسون المهاجرين مثل ذلك. فاتّفق(١) أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا، وقيل: هو أخوه، فأحبّها، فسأله النزول له عنها، فاستحى أن يردّه ففعل، فتزوّجها، وهي أمّ سليمان. فعوتب بأنّك مع عظم منزلتك، وارتفاع مرتبتك، وكبر شأنك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلّا امرأة واحدة النزول، بل كان ملائم شأنك الرفيع مغالبة هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتحنت به. فعوتب على ذلك بنزول ملكين عليه، كما حكاه الله سبحانه، بعد أن أخبر أنّه أعطي الحكمة وفصل الخطاب.

( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ

__________________

(١) هذه الرواية رواها البيضاوي في (أنوار التنزيل ٥: ١٧) وغيره من المفسّرين. وليت المفسّرقدس‌سره لم يذكرها أصلا، لأنّها تتنافى وقداسة الأنبياءعليهم‌السلام وعصمتهم، وتتضمّن أفحش الافتراء والظلم على داودعليه‌السلام ، ونسبة الخلاعة والمجون ومعاشقة حلائل الناس إليه، ممّا يتعاطاه الفسقة والمستهترين بحرمات الله تعالى. وفي لفظ البيضاوي: فعشقها. مع أنّه روى ذيل هذه الرواية عن عليّعليه‌السلام : «أنّ من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين». وناهيك بهذا حكما قاطعا، وعقابا صارما، وهو إمام المتّقين، وأقضى الأمّة، على ما نطق به الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولعلّ جلد مائة وستّين حدّ الفرية على الأنبياء. فالرواية أشبه ما تكون من خرافات الجهّال والدجّالين، وأساطير القصّاص والمشعوذين. ورحم الله المفسّر، فما كان الأجدر والأليق به أن يطوي عن ذكرها كشحا، ويتركها في قفص المهملات والموضوعات.

١٧

(٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) )

( وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) معنى الاستفهام التعجيب، والتشويق إلى استماعه، والتنبيه على موضع إخلاله ببعض ما كان ينبغي أن يفعله. والخصم في الأصل مصدر يقع على الواحد والجمع، كالضيف في قول الله تعالى:( حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

والمعنى: هل بلغك خبر الخصماء( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) إذ تصعّدوا سور الغرفة، وهي مصلّاه. والسور الحائط المرتفع. ونظيره: تسنّمه إذا علا سنامه، وتفرّعه إذا علا فرعه(٢) .

و «إذ» متعلّق بمحذوف، أي: نبأ تحاكم الخصماء إذ تسوّروا. أو بالنبإ، على

__________________

(١) الذاريات: ٢٤.

(٢) الفرع من كلّ شيء: أعلاه المتفرّع من أصله.

١٨

أنّ المراد به الواقع في عهد داود، وأنّ إسناد «أتى» إليه على حذف مضاف، أي: قصّة نبأ الخصم. أو بالخصم، لـما فيه من معنى الفعل. لا بـ: أتى، لأنّ إتيانه الرسولعليه‌السلام لم يكن حينئذ.

و «إذ» في قوله:( إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ) بدل من الأولى، أو ظرف لـ «تسوّروا»( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) لأنّهم نزلوا عليه من فوق، في يوم الاحتجاب، والحرس على الباب، لا يتركون من يدخل عليه. فإنّه كان جزّأ زمانه على أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للوعظ، ويوما للاشتغال بخاصّته. فتسوّر عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة.

( قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ ) نحن فوجان متخاصمان، على تسمية مصاحب الخصم خصما( بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ) وهو على الفرض وقصد التعريض إن كانوا ملائكة، وهو المشهور( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) ولا تجر في الحكومة بالميل لأحدنا على صاحبه. من الشطط، وهو مجاوزة الحدّ.( وَاهْدِنا ) وأرشدنا( إِلى سَواءِ الصِّراطِ ) إلى وسط الطريق الّذي هو طريق العدل.

فقال أحد الخصمين له:( إِنَّ هذا أَخِي ) في الدين أو الصحبة( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) هي الأنثى من الضأن. وقد يكنّى بها عن المرأة، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود.( وَلِيَ ) قرأ حفص بفتح الياء( نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ) ملّكنيها. وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي. وقيل: معناه: اجعلها كفلي، أي: نصيبي.( وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) وغلبني في مخاطبته إيّاي محاجّة، بأن جاء بحجاج وجدال لم أقدر على ردّه. أو في مغالبته إيّاي في الخطبة. يقال: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث تزوّجها دوني.

قيل: إنّ الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما، إمّا

١٩

كانا خليطين في الغنم، وإمّا كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني معسرا ما له إلّا امرأة واحدة، فاستنزله عنها.

( قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) جواب قسم محذوف، قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه. ولعلّه قال ذلك بعد اعتراف المدّعى عليه، أو على تقدير صدق المدّعي. والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله. وتعديته إلى مفعول آخر بـ «إلى» لتضمّنه معنى الإضافة. كأنّه قال: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب.

( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ ) الشركاء الّذين خلطوا أموالهم. جمع خليط.( لَيَبْغِي ) ليتعدّى( بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) فإنّهم لا يظلم بعضهم بعضا( وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) وهم قليل جدّا. و «ما» مزيدة للإبهام والتعجّب من قلّتهم. والمقصود من ذلك القول: الموعظة الحسنة، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الّذين حكم لهم بالقلّة، وتكريه الظلم ـ الّذي أكثرهم عليه ـ إليهم، مع التأسّف على حالهم، وتسلية المظلوم عمّا جرى عليه من خليطه.

( وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ) ابتليناه بترك الأولى، أو امتحنّاه بتلك الحكومة هل يتنبّه بها؟ ولـمّا كان غلبة الظنّ كالعلم استعير له. والمعنى: وعلم داود وأيقن أنّما اختبرناه وابتليناه لا محالة.( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) لترك الأولى( وَخَرَّ راكِعاً ) ساجدا، على تسمية السجود ركوعا، لأنّه مبدؤه. أو خرّ للسجود راكعا، أي: مصلّيا، كأنّه أحرم بركعتي الاستغفار.( وَأَنابَ ) إليه. وقيل: سقط ساجدا لله تعالى ورجع إليه. وقد يعبّر عن السجود بالركوع.

وعن ابن مجاهد: مكث ساجدا أربعين يوما وليلة، لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لا بدّ منها. ولا يرقأ(١) دمعه حتّى نبت العشب من دمعه. ولم

__________________

(١) أي: لا يجفّ ولا ينقطع.

٢٠