زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20086
تحميل: 2090


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20086 / تحميل: 2090
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تقديم المفعول عوضا منه.( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) إنعامه عليك. وفيه إشارة إلى موجب اختصاص العبادة له.

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) )

ولـمّا كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حقّ معرفته، وقدّره في نفسه حقّ تقديره، عظّمه حقّ تعظيمه، قيل:( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي: ما قدروا عظمته في أنفسهم حقّ عظمته، حيث جعلوا له شركاء، ووصفوه بما لا يليق به.

ثمّ قال:( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) تنبيها على عظمته، وحقارة الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، ودلالة على أنّ تخريب العالم أهون شيء عليه، على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا.

والقبضة المرّة من القبض، كقوله:( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) (١) .

أطلقت بمعنى القبضة، وهي المقدار المقبوض بالكفّ، تسمية بالمصدر، أو بتقدير: ذات قبضة.

وتأكيد الأرض بالجميع لأنّ المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية(٢) والغائرة.

والطيّ: ضدّ النشر، كما قال تعالى :

__________________

(١) طه: ٩٦.

(٢) البادية: الصحراء. والغائرة: ما انحدر واطمأن من الأرض.

١٠١

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (١) .

وذكر اليمين مبالغة في الاقتدار، لأنّ معظم القدرة يصدر منه. وهذا كما قال:( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (٢) أي: ما كانت تحت قدرتكم. وليس على معناه الحقيقي، إذ ليس الملك يختصّ باليمين دون الشمال وسائر الجسد.

وكذلك حكم ما يروي: «أنّ حبرا من الأحبار جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا أبا القاسم إنّ الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع. ثمّ يهزّهنّ فيقول: أنا الملك، أين المتكبّرون والجبّارون؟ فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجّبا ممّا قال، ثمّ قرأ تصديقا له:( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٣) .

وإنّما ضحك أفصح العرب وتعجّب، لأنّه لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان، من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة الّتي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأنّ الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأذهان ولا تكتنهها الأوهام، هيّنة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل. ولا ترى بابا في علم البيان أدقّ ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات، من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماويّة وكلام الأنبياء.

( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عن إشراكهم. أو عمّا يضاف إليه من الشركاء.

__________________

(١) الأنبياء: ١٠٤.

(٢) النساء: ٣.

(٣) انظر صحيح البخاري ٦: ١٥٧.

١٠٢

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) )

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) يعني: المرّة الأولى. وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل. ووجه الحكمة في ذلك أنّها علامة جعلها الله تعالى ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف، فشبّه ذلك بما يتعارفوه من بوق الرحيل والنزول.

( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) خرّوا ميّتا، أو مغشيّا عليهم من شدّة تلك الصيحة. يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.

( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) قيل: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فإنّهم لا يموتون بهذه الصيحة بعد. وقيل: حملة العرش.

وعن ابن عبّاس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية من الّذي لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش».

( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ) نفخة اخرى. وهي تدلّ على أنّ المراد بالأولى نفخة واحدة، كما نصّ به في مواضع(١) أخر. وقال قتادة: إنّ ما بين النفختين أربعين سنة.

( فَإِذا هُمْ قِيامٌ ) قائمون من قبورهم. أو متوقّفون في مكانهم لتحيّرهم( يَنْظُرُونَ ) حال من ضمير «قيام». والمعنى: يقلّبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، أو ينتظرون ما يفعل بهم. وفي ذكر «إذا» المفاجأة إخبار عن سرعة إيجادهم. يعني: إذا

__________________

(١) الحاقّة: ١٣.

١٠٣

نفخ النفخة الثانية أعادهم الله تعالى عقيب ذلك دفعة يقومون من قبورهم أحياء.

( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) بما أقام فيها من العدل. سمّاه نورا، لأنّه يزيّن البقاع ويظهر الحقوق، كما سمّى الظلم ظلمة. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. وفي الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة». وأضاف اسمه إلى الأرض، لأنّه يزيّنها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحقّ بين أهلها. ولعمري إنّك لا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. أو المراد نور خلق فيها بلا توسّط أجسام مضيئة، ولذلك أضافه إلى نفسه.

( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) للحساب والجزاء. من: وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه. أو صحائف الأعمال الّتي كتبتها الملائكة على بني آدم توضع في أيديهم ليقرأوا منها أعمالهم. واكتفي باسم الجنس عن الجمع. وقيل: اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف.

( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ) للأمم وعليهم، من الملائكة والأوصياء وخيار المؤمنين. وقيل: المستشهدون في سبيل الله، فإنّهم عدول الآخرة، يشهدون على الأمم بما شاهدوا.( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بين العباد( بِالْحَقِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب، على ما جرى به الوعد.

( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ) أي: جزاء ما عملت، على حذف المضاف( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) فلا يفوته شيء من أفعالهم.

١٠٤

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

ثمّ فصّل التوفية بقوله:( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ويساقون سوقا في عنف وهوان( إِلى جَهَنَّمَ ) كما يفعل بالأسارى إذا سيقوا إلى حبس أو قتل( زُمَراً ) أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة.

وهي جمع زمرة. واشتقاقها من الزّمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه. أو من قولهم: شاة زمرة: قليلة الشعر، ورجل زمر: قليل المروءة، فإنّ كلّ زمر قليل بالنسبة إلى كلّ الزمر.

( حَتَّى إِذا جاؤُها ) انتهوا إلى جهنّم( فُتِحَتْ أَبْوابُها ) ليدخلوها. وهي سبعة أبواب، لقوله:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) (١) الآية. و «حتّى» هي الّتي تحكي بعدها

__________________

(١) الحجر: ٤٤.

١٠٥

الجمل. والجملة المحكيّة بعدها هي الشرطيّة. وقرأ الكوفيّون: فتحت بتخفيف التاء.

( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) تقريعا وتوبيخا( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) من جنسكم( يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ) حججه وما يدلّ على معرفته( وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) أي: لقاء وقتكم هذا. وهو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيّام مستفيضا في أوقات الشدّة.

( قالُوا بَلى ) أتونا وتلوا علينا( وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) أي: كلمة الله بالعذاب علينا. وهي قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) لسوء أعمالنا، كما قالوا:( غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) (٢) . فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب، وهو الكفر والضلال. والمعنى: وجب العقاب على من كفر بالله، لأنّه أخبر بذلك، وعلم من يكفر ويوافي بكفره، فقطع على عقابه، فلم يكن شيء يقع منه خلاف ما علمه وأخبر به، فصار كوننا في جهنّم موافقا لـما أخبره به تعالى ولـما علمه. ووضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على اختصاص تلك الكلمة بالكفرة.

( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) اللام فيه للجنس. والمخصوص بالذمّ مخصوص سبق ذكره، وهو جهنّم. ولا ينافي إشعاره بأنّ مثواهم في النار لتكبّرهم عن الحقّ أن يكون دخولهم فيها، لأنّ كلمة العذاب حقّت عليهم، فإنّ تكبّرهم وسائر مقابحهم مسبّبة عنه.

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ) يساقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة

__________________

(١) هود: ١١٩.

(٢) المؤمنون: ١٠٦.

١٠٦

والرضوان، كما يفعل بمن يشرّف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك، فشتّان بين سوقهم وسوق أهل النار. وقيل: سيق مراكبهم، إذ لا يذهب بهم إلّا راكبين.

ويجوز أن يكون ذكر السوق هاهنا على وجه الزواج والمقابلة لسوق الكافرين إلى النار.( زُمَراً ) على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلوّ الطبقة.

( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ) وهي ثمانية، كما نقل عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ في الجنّة ثمانية أبواب، منها باب يسمّى باب الريّان، لا يدخله إلّا الصائمون». رواه البخاري ومسلم في الصحيحين(١) .

وحذف جواب «إذا» للدلالة على أنّ لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف. ولم يحذف الواو لتكون «فتحت» جزاء الشرط، للدلالة على أنّ أبواب الجنّة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين. وقرأ الكوفيّون: فتحت بالتخفيف.

( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) عند استقبالهم( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) سلمتم من الآفات، إذ لا يعتريكم بعد مكروه( طِبْتُمْ ) طابت أنفسكم بدخول الجنّة. أو طبتم بالعمل الصالح في الدنيا، وطابت أعمالكم الصالحة وزكت. أو طهرتم من دنس المعاصي.

وروي: أنّهم إذا قربوا من الجنّة يردون على عين من الماء فيغتسلون بها، ويشربون منها، فيطهّر الله أجوافهم، فلا يكون بعد ذلك منهم حدث وأذى، ولا تتغيّر ألوانهم، فيقول الملائكة لهم: طبتم.

( فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) مقدّرين الخلود فيها. والفاء للدلالة على أنّ الطهارة عن المعصية سبب لدخولهم وخلودهم. فما هي إلّا دار الطيّبين ومثوى الطاهرين، لأنّها دار طهّرها الله من كلّ دنس، وطيّبها من كلّ قذر، فلا يدخلها إلّا مناسب لها، موصوف بصفتها. فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلّا أن يهب لنا الوهّاب الكريم، ويوفّقنا الغفّار الرحيم، توبة نصوحا

__________________

(١) صحيح البخاري ٤: ١٤٥، صحيح مسلم ٢: ٨٠٨ ح ١٦٦.

١٠٧

تنقّي(١) أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب. وحينئذ لا يمنع دخول العاصي بعفوه المطهّر للذنوب المكفّر للمعاصي.

( وَقالُوا ) إذا دخلوها اعترافا بنعم الله تعالى عليهم( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) على ألسنة الرسل بالبعث والثواب( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) يريدون المكان الّذي استقرّوا فيه على الاستعارة، فإنّ إيراثها هاهنا بمعنى تمليكها. يعني: يمكّننا من التصرّف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. وقيل: ذكر الإيراث لأنّهم ورثوها عن أهل النار.( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) أي: يتبوّأ كلّ منّا في أيّ مقام أراده من جنّته الواسعة. وفي الحديث: أقلّ منازل المؤمن فيها على سعة الدنيا سبع مرّات.( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) الجنّة.

( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ ) أي: ومن عجائب أمور الآخرة أنّك ترى الملائكة( حَافِّينَ ) محدقين( مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) «من» لابتداء الحفوف. وقيل: مزيدة، أي: حوله.( يُسَبِّحُونَ ) ينزّهون الله عمّا لا يليق به( بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية، أو مقيّدة للأولى.

والمعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه، متلذّذين به لا متعبّدين. وفيه إشعار بأنّ منتهى درجات العلّيين، وأعلى لذائذهم، هو الاستغراق في صفات الحقّ. وقد عظّم الله سبحانه أمر القضاء في الآخرة بنصب العرش، وقيام الملائكة حوله معظّمين له سبحانه ومسبّحين، كما أنّ السلطان إذا أراد الجلوس للمظالم يفعل كذلك تعظيما لأمره، وإن استحال كونه عزّ وعلا على العرش، والجلوس على العرش من صفات الأجسام، تعالى الله عن ذلك.

( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) فصل بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنّة. أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فإنّ الملائكة

__________________

(١) أي: تنظّف. والدرن: الوسخ. وتميط أي: تذهب. والوضر: الوسخ.

١٠٨

وإن كانوا معصومين جميعا، لكن يفاضل بين مراتبهم على حسب مراتبهم في عبادتهم.( بِالْحَقِ ) قضاء بالحقّ والعدل( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي: على ما قضي بيننا بالحقّ. والقائلون هم المؤمنون من المقضيّ بينهم، أي: المؤمنون قالوا: الحمد لله على قضائه بيننا، وإنزال كلّ منّا منزلته الّتي هي حقّه. أو القائلون الملائكة. وطيّ ذكرهم لتعيّنهم وتعظيمهم.

وقيل: إنّه من كلام الله تعالى. فقال في ابتداء الخلق: الحمد لله الّذي خلق السماوات والأرض. وقال بعد إفناء الخلق وبعثهم، واستقرار أهل الجنّة في الجنّة: الحمد لله ربّ العالمين. فوجب الأخذ بأدبه في ابتداء كلّ أمر بالحمد وختمه بالحمد.

١٠٩
١١٠

(٤٠)

سورة المؤمن

مكّيّة. وهي خمس وثمانون آية.

روى أبو بريرة الأسلمي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليقرأ الحواميم في صلاة الليل».

أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «الحواميم ديباج القرآن».

ابن عبّاس قال: لكلّ شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم.

ابن مسعود قال: إذا وقعت في «آل حم» وقعت في روضات دمثات(١) ، أتأنّق فيهنّ.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة حم المؤمن، لم يبق روح نبيّ ولا صدّيق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه، واستغفروا له».

وروى أبو بشير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «الحواميم ريحان القرآن، فاحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها. وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم، فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر(٢) والعنبر. وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه، وكلّ حميم أو قريب له. وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسيّ وملائكة الله المقرّبون».

__________________

(١) الدمث والدمث: المكان الليّن السهل. وأرض دمثاء: ليّنة سهلة.

(٢) أي: طيّب الريح.

١١١

وروى أبو الصباح عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ حم المؤمن في كلّ ثلاث، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وألزمه التقوى، وجعل الآخرة خيرا له من الدنيا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ختم سورة الزمر بذكر الملائكة والجنّة والنار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال جلّ وعزّ :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ) قد مضى ذكر الأقوال في الحروف المقطّعة في مفتتح سورة البقرة.

وقال القرظي: ها هنا أقسم الله سبحانه بحلمه وملكه، لا يعذّب من عاذ به، وقال: لا إله إلّا الله مخلصا من قلبه.

وعن عطاء الخراساني: هو افتتاح أسمائه: حليم، حميد، حيّ، حكيم، حنّان، ملك، مجيد، مبدئ، معيد.

وعن الكلبي: معناه: حمّ أي: قضي في اللوح المحفوظ ما هو كائن من الحقائق وكتب فيه.

وأمال ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ألف «حا» إمالة محضة. ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين. وغيرهم فتحها.

( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يحتمل أن يكون تخصيص الوصفين ،

١١٢

لما في القرآن من الإعجاز والحكم الدالّ على كمال القدرة الكاملة والحكمة البالغة.

( غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ ) صفات أخر لتحقيق ما في القرآن من الترغيب والترهيب، والحثّ على ما هو المقصود منه. والإضافة فيها حقيقيّة، لأنّه لم يرد بها زمان مخصوص من ماض ومضارع، بل إنّما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمها حكم: إله الخلق وربّ العرش. فيوافق موصوفها، لإفادتها التعريف.

و «شديد العقاب» وإن كان في تقدير النكرة ـ أعني: شديد عقابه، لا ينفكّ من هذا ـ ولكن يؤول إلى: الشديد عقابه، فحذف اللام ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا. وقد غيّروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج.

أو أبدال(١) . وجعل «شديد العقاب» وحده بدلا مشوّش للنظم.

وتوسيط الواو بين الأوّلين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة.

أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهّم الاتّحاد. أو لتغاير موقع الفعلين، لأنّ الغفر هو الستر، فيكون لذنب باق، وذلك لمن لم يتب، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

والتّوب مصدر، كالتوبة. وهو والثّوب والأوب أخوات في معنى الرجوع. وقيل: جمع التوبة. والطّول: التفضّل بترك العقاب المستحقّ. يقال: طال عليه وتطوّل إذا تفضّل. وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: «غافر الذنب» لمن قال: لا إله إلّا الله. «شديد العقاب» لمن لم يقل: لا إله إلّا الله. «ذي الطول» ذي الغنى عمّن لم يقل.

__________________

(١) عطف على قوله: صفات أخر ...، في بداية الفقرة السابقة.

١١٣

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) أي: هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره، ولا يستحقّ العبادة سواه، فيجب الإقبال الكلّي على عبادته( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) المرجع للجزاء، فيجازي المطيع والعاصي. والمعنى: أنّ الأمور تؤول إلى حيث لا يملك أحد النفع والضرّ والأمر والنهي غيره تعالى، وذلك يوم القيامة.

( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) )

ولـمّا حقّق أمر التنزيل سجّل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن، فقال:( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ ) أي: لإدحاض الحقّ، لقوله:( وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) (١) ( إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) فإنّ الجدال فيه لحلّ مشكلاته، واستنباط حقائقه، وإيضاح ملتبساته، وقطع تشبّث أهل الزيغ به، وردّ مطاعنهم فيه، فمن أعظم الطاعات. ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ جدالا في القرآن كفر» بالتنكير، فإنّ إيراده منكّرا تمييز بين جدال وجدال.

ولـمّا كان الكفّار مشهودا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر لا أحد أشقى منه

__________________

(١) المؤمن: ٥.

١١٤

عند الله، وجب على من تحقّق ذلك أن لا ترجّح أحوالهم في عينه، ولا يغرّه إقبالهم في دنياهم بوسيلة المكاسب المربحة. ولهذا عطف ذلك على بيان مجادلتهم بالفاء العاطفة، فقال :

( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) أي: إمهالهم في دنياهم، وتقلّبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات المربحة، لأنّهم مأخوذون عمّا قريب بكفرهم أخذ من قبلهم، كما قال :

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ ) والّذين تحزّبوا على الرسل وناصبوهم، كعاد وثمود( مِنْ بَعْدِهِمْ ) بعد قوم نوح( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ ) من هؤلاء( بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) ليتمكّنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل. من الأخذ بمعنى الأسر.

( وَجادَلُوا بِالْباطِلِ ) بما لا حقيقة له( لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) ليزيلوه به( فَأَخَذْتُهُمْ ) يعني: أنّهم قصدوا أخذ رسولهم، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم بالإهلاك. ثمّ قرّر ذلك فقال تعجيبا:( فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) فإنّكم تمرّون على ديارهم، فتعاينون أثر ذلك.

( وَكَذلِكَ حَقَّتْ ) أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب( كَلِمَةُ رَبِّكَ ) أي: وعيده، أو قضاؤه بالعذاب( عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) بكفرهم( أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) لأنّ علّة واحدة ـ وهي الكفر ـ تجمعهم أنّهم من أصحاب النار. وهذا بدل من «كلمة ربّك» بدل الكلّ على إرادة اللفظ، أي: وجب أنّهم أصحاب النار. أو الاشتمال على إرادة المعنى.

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ

١١٥

تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) )

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين، وأنّه يستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند الله، فحالهم بخلاف أحوال من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال :

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) على عواتقهم امتثالا لأمر الله( وَمَنْ حَوْلَهُ ) من الملائكة المطيفين. وهم الكرّوبيّون سادة طبقات الملائكة. وحملهم العرش وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له. أو كناية عن فرط قربهم من ذي العرش، ومكانتهم عنده، وتوسّطهم في نفاذ أمره.

روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم».

وأيضا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتفكّروا في عظم ربّكم، ولكن تفكّروا فيما خلق الله من الملائكة». فإنّ خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق(١) رأسه من سبع سماوات. وإنّه ليتضاءل من عظمة الله حتّى يصير كأنّه الوصع(٢) .

وفي الحديث: «إنّ الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام

__________________

(١) أي: خرج.

(٢) الوصع: طائر أصغر من العصفور.

١١٦

على حملة العرش، تفضيلا لهم على سائر الملائكة».

وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.

وقيل: حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهلّلين مكبّرين. ومن ورائهم سبعون ألف صفّ قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير. ومن ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلّا وهو يسبّح بما لا يسبّح به الآخر.

وعن مجاهد: بين الملائكة وبين العرش سبعون حجابا من نور.

( يُسَبِّحُونَ ) ينزّهونه عمّا يصفه به هؤلاء المجادلون، ملتبسين( بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) أي: يذكرون الله بمجامع الثناء، من صفات الجلال والإكرام. وجعل التسبيح أصلا والتحميد حالا، لأنّ الحمد مقتضى حالهم، لإيجاد الله إيّاهم، وتوفيقهم في العبادة، دون التسبيح.

( وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ) أخبر عنهم بالإيمان لإظهار شرفه وفضله والترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في مواضع من كتابه بالصلاح، لإظهار شرفه. ولـمّا وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكلّ من غاب عن ذلك المقام سواء، في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير. وأنّه لا طريق إلى معرفته إلّا هذا. وأنّه منزّه عن صفات الأجسام والأجرام.

وزعم الزمخشري(١) والعلّامة الرازي(٢) أنّ في الآية ردّا على المجسّمة، كما أورده النيشابوري في تفسيره قائلا: «قال في الكشّاف: فيه تكذيب المجسّمة، فإنّ الأمر لو كان كما زعموا لكان الملائكة يشاهدونه، فلا يوصفون بالإيمان، لأنّه لا

__________________

(١) الكشّاف ٤: ١٥٢.

(٢) التفسير الكبير ٢٧: ٣٢ ـ ٣٣.

١١٧

يوصف بالإيمان إلّا الغائب، فعلم أنّ إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكلّ سواء، في أنّ إيمانهم بطريق النظر والاستدلال.

واستحسن هذا الكلام الامام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتّى ترحّم عليه، وقال: «لو لم يكن في كتابه إلّا هذه النكتة لكفى به فخرا وشرفا».

وأنا أقول: لا نسلّم أنّ الإيمان لا يكون إلّا بالغائب، وإلّا لم يكن الإيمان بالنبيّ وقت تحدّيه وبالقرآن. وإن شئت فتأمّل قوله تعالى:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (١) . فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله: «بالغيب» فائدة. على أنّه يحتمل أن يشاهد الربّ وينكر كونه ربّا وإلها. ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوبا عن ذلك الشيء. فمن أين يلزم تكذيب المجسّمة؟

وزعم الإمام فخر الدين أنّ في الآية دلالة اخرى على إبطال قول أهل التجسيم أنّ الإله على العرش، فإنّه لو كان كما زعموا ـ وحامل الشيء حامل لكلّ ما على ذلك الشيء ـ لزم أن يكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، والحافظ أولى بالإلهيّة من المحفوظ.

قلت: لا شكّ أنّ هذه مغالطة، جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم، كيف يلزم منه ذلك؟! وهل يزعم عاقل أنّ الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه»(٢) .

انتهى كلامه المصرّح بتخطئتهما. والحقّ أنّهما زلقا وعثرا، سيّما الرازي، فإنّه خبط خبط عشواء، وركب متن عمياء، وإن ذيّل النيشابوري كلامه بقوله: «وإنّما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين، مع وفور فضلهما وبعد غورهما، لا لأنّي مائل في المسألة إلى غير معتقدهما».

__________________

(١) البقرة: ٣.

(٢) غرائب القرآن للنيسابوري ٦: ٢٣.

١١٨

ولأجل أنّ المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس، لأنّها أقوى المناسبات، كما قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (١) ، يطلب الملائكة من الله المغفرة لأهل الإيمان من الثقلين، كما قال عزّ اسمه:( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) كأنّه قيل: ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم من أهل الأرض، وإن تباعدت الأماكن بينهم وبين الثقلين. فبين قوله:( وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) غاية التناسب والتجانس.

( رَبَّنا ) أي: يقولون ربّنا. وهذا بيان لـ «يستغفرون» مرفوع المحلّ مثله.( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) أي: وسعت رحمتك وعلمك، فأزيل الكلام عن أصله، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم. وأخرجا منصوبين على التمييز، للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأنّ ذاته رحمة وعلم واسعان كلّ شيء. وتقديم الرحمة على العلم، لأنّها المقصودة بالذات هاهنا.

( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) للّذين علمت منهم التوبة واتّباع سبيل الحقّ. وهو دين الإسلام. فما بعد الفاء مشتمل على حديث الرحمة والعلم، لا الغفران وحده. فيطابق قوله:( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) .

( وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) واحفظهم عنه. وهو تصريح بعد إشعار، للتأكيد والدلالة على شدّة العذاب. والفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون: زيادة الكرامة والثواب. أو الدلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من الله تعالى، إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج إلى مسألتهم، بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة.

( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) إيّاها على ألسن الرسل( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) عطف على «هم» الأوّل، أي: أدخل هؤلاء

__________________

(١) الحجرات: ١٠.

١١٩

معهم ليتمّ سرورهم. أو الثاني، لبيان عموم الوعد.( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) الملك الّذي لا يغلب، ولا يمتنع عليه مقدور( الْحَكِيمُ ) الّذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة، ومن ذلك الوفاء بالوعد.

( وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ) العقوبات. أو جزاء السيّئات، فحذف المضاف. وهذا تعميم بعد تخصيص، أو مخصوص بمن صلح. والوقاية منها: التكفير، أو قبول التوبة. أو المعاصي نفسها في الدنيا. وعلى هذا، معنى قوله:( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) من تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة. كأنّهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبّب. وعلى الأوّل: ومن تق العقوبات أو جزاء المعاصي يوم القيامة فقد رحمته.( وَذلِكَ ) يعني: الرحمة، أو الوقاية، أو مجموعهما( هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) )

ثمّ عاد الكلام إلى من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ ) أي: يناديهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم:( لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) أي: لمقت الله أنفسكم أشدّ ممّا تمقتون اليوم وأنتم في النار من مقتكم أنفسكم الأمّارة بالسوء. والمقت: أشدّ البغض. فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشدّه.

١٢٠