زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20091
تحميل: 2091


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20091 / تحميل: 2091
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التفرقة بين المذكّر والمؤنّث في الأسماء غير الصفات ـ نحو: حمار وحمارة ـ غريب، وهي في «أيّ» أغرب، لإبهامه. والمعنى: أيّ آية من تلك الآيات( تُنْكِرُونَ ) فإنّها لظهورها لا تقبل الإنكار. وهو ناصب «أيّ»، إذ لو قدّرته متعلّقا بضميره كان الأولى رفعه.

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥) )

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الّذين جحدوا آيات الله، وأنكروا أدلّته الدالّة على توحيده:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ) ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما.

وقيل: آثار أقدامهم في الأرض، لعظم أجرامهم.( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) نافية، أو استفهاميّة منصوبة بـ «أغنى»، أي: أيّ شيء أغنى عنهم؟!( ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) موصولة، أو مصدريّة مرفوعة به، أي: مكسوبهم، أو كسبهم.

( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات( فَرِحُوا

١٦١

بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) واستحقروا علم الرسل. والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، كقوله تعالى:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) (١) . وهو قولهم: لا نبعث ولا نعذّب.( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) (٢) .( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) (٣) . وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البيّنات وعلم الأنبياء، كما قالعزوجل ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (٤) . وسمّاها علما على زعمهم تهكّما بهم.

أو(٥) العلوم الطبيعيّة والفلسفة والتنجيم، وعلوم الدهريّين من بني يونان. وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم.

وعن سقراط: أنّه سمع بموسىعليه‌السلام ، وقيل له: لو هاجرت إليه. فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.

أو علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى:( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) (٦) .( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) (٧) . فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات ـ وهي أبعد شيء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، وذمّ الملاذّ والشهوات ـ لم يلتفتوا إليها، وصغّروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنّه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

أو علم الأنبياء. وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به. ويؤيّده( وَحاقَ )

__________________

(١) النمل: ٦٦.

(٢) فصّلت: ٥٠.

(٣) الكهف: ٣٦.

(٤) الروم: ٣٢.

(٥) عطف على قوله: والمراد بالعلم عقائدهم ...، في بداية الفقرة السابقة.

(٦) الروم: ٧.

(٧) النجم: ٣٠.

١٦٢

وحلّ ونزل( بِهِمْ ما كانُوا بِهِ ) جزاء ما كانوا به( يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وقيل: الفرح أيضا للرسل، فإنّهم لـمّا رأوا تمادي جهل الكفّار وسوء عاقبتهم، فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) شدّة عذابنا. ومنه قوله تعالى:( بِعَذابٍ بَئِيسٍ ) (١) .( قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) يعنون أصنامهم.

( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) لامتناع قبوله حينئذ، لأنّ فعل الملجأ لا يقبل، ولا يستحقّ به المدح. ولذلك قال:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ ) بمعنى: لم يصحّ ولم يستقم. ولم يقل: فلم ينفعهم إيمانهم.

وترادف هذه الفاءات، أمّا في قوله:( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) فلأنّه نتيجة قوله:( كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ) . وأمّا في قوله:( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) فجار مجرى البيان والتفسير لقوله:( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ) . كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) تابع لقوله( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ ) . كأنّه قال: فكفروا، فلمّا رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ ) تابع لإيمانهم لـمّا رأوا بأس الله.

( سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) أي: سنّ الله ذلك سنّة ماضية في العباد. والمراد الطريقة المستمرّة من فعله بأعدائه الجاحدين. وهي من المصادر المؤكّدة.( وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) أي: وقت رؤيتهم البأس. اسم مكان استعير للزمان.

__________________

(١) الأعراف: ١٦٥.

١٦٣
١٦٤

(٤١)

سورة حم السجدة «فصّلت»

مكّيّة. وهي أربع وخمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ حم السجدة أعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات».

وروى ذريح المحاربي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره وسرورا، وعاش في هذه الدنيا محمودا مغبوطا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) )

١٦٥

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المؤمن بذكر المنكرين لآيات الله، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ) إن جعل اسما للسورة كان مبتدأ، وخبره( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . وإن جعل تعديدا للحروف، فـ «تنزيل» خبر محذوف.

أو مبتدأ، لتخصّصه بالصفة، وخبره( كِتابٌ ) . وهو على الأوّلين بدل منه، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. وقد تقدّم(١) القول فيه.

وقيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع بـ «حم» وتسميتها به: إنّها مصدّرة ببيان الكتاب، متشاكلة في النظم والمعنى. وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للدلالة على أنّه مناط المصالح الدينيّة والدنيويّة.

( فُصِّلَتْ آياتُهُ ) ميّزت باعتبار اللفظ، وجعلت تفاصيل في معان مختلفة، من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك.

( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) نصب على المدح أو الحال من «فصّلت». وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه.

( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصّلة المبيّنة بلسانهم العربيّ المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. أو لأهل العلم والنظر.

وهو صفة اخرى لـ «قرآنا». أو صلة لـ «تنزيل» أو لـ «فصّلت» أي: تنزيل من الله لأجلهم، أو فصّلت آياته لهم. والأجود أن يكون صفة، لوقوعه بين الصفات. والمعنى: قرآنا عربيّا كائنا لقوم يعلمون.

( بَشِيراً ) للعاملين به( وَنَذِيراً ) للمخالفين له( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) عن تدبّره وقبوله( فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) سماع تأمّل وطاعة، فكأنّهم لا يسمعونه رأسا. من قولك: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي. ولقد سمعه، ولكنّه لـمّا لم يقبله ولم يعمل

__________________

(١) راجع ص ٥٤، ذيل الآية ١ من سورة الزمر.

١٦٦

بمقتضاه فكأنّه لم يسمعه.

( وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) أغطية جمع كنان، وهو الغطاء( مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ) صمم. وأصله الثقل.( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) يمنعنا عن التواصل. «من» لإفادة أنّ الحجاب ابتدأ منّا وابتدأ منك، بحيث استوعب المسافة المتوسّطة، ولم يبق فراغ.

وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم، كأنّها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله:( وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ) (١) . ومجّ أسماعهم له، كأنّ بها صمما عنه. وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . يعني: لأجل تباعد المذهبين كأنّ بينهم وما هم عليه، وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما هو عليه، حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل ونحوه.

( فَاعْمَلْ ) على دينك، أو في إبطال أمرنا( إِنَّنا عامِلُونَ ) على ديننا، أو في إبطال أمرك. قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمد أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك، إنّنا عاملون على ديننا ومذهبنا.

( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) لست ملكا ولا جنّيّا لا يمكنكم التلقّي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع، وإنّما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدلّ عليهما دلائل العقل وشواهد النقل.

( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) فاستقيموا في أفعالكم متوجّهين إليه. أو فاستووا إليه بالتوحيد والإخلاص، غير ذاهبين يمينا وشمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان( وَاسْتَغْفِرُوهُ ) وتوبوا إليه ممّا أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل.

ثمّ هدّدهم على ذلك بقوله:( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) من فرط جهالتهم

__________________

(١) البقرة: ٨٨.

١٦٧

واستخفافهم بالله تعالى( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) لبخلهم، وعدم إشفاقهم على الخلق، وحرصهم على حبّ الدنيا، وذلك من أعظم الرذائل، وأقرب الأسباب إلى، الكفر.

وفيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، وحثّ شديد على أداء الزكاة، وتخويف بليغ من منعها، حيث جعله مقرونا بالكفر.

وعن عطاء عن ابن عبّاس أنّ معناه: لا يفعلون ما يزكّي أنفسهم، وهو الإيمان والطاعة.

( وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) حال مشعرة بأنّ امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم الآخرة، فإنّ المال أحبّ الأشياء إلى الإنسان، فإذا بذله في سبيل الله دلّ ذلك على ثباته في الدين وصدق نيّته.

وعن الفرّاء: أن ذكر الزكاة في هذا الموضع لأجل أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ وتسقيهم، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) )

ثمّ عقّب ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) لا يمنّ به عليهم. من المنّ، وأصله القطع، من: مننت الحبل إذا قطعته.

١٦٨

وقيل: نزلت في المرضى والهرمى والزمنى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون.

( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ) بتحقيق الهمزتين، أو الثانية بين بين، أو بألف بينهما. والاستفهام للتعجيب. والمعنى: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن خلق الأرضين السبع( فِي يَوْمَيْنِ ) في مقدار يومين. أو نوبتين، بأن خلق في كلّ نوبة ما خلق في أسرع ما يكون.

ويحتمل أن يكون المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، ومن خلقها في يومين أنّه خلق لها أصلا مشتركا، ثمّ خلق لها صورا بها صارت أنواعا، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته.

( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) أمثالا وأشباها، ولا يصحّ أن يكون له ندّ( ذلِكَ ) الّذي خلق الأرض في يومين( رَبُّ الْعالَمِينَ ) خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربّيها، ومالك التصرّف فيهم.

( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ) جبالا ثابتات. استئناف غير معطوف على «خلق» للفصل بما هو خارج عن الصلة.( مِنْ فَوْقِها ) مرتفعة عليها ليظهر ما فيها من وجوه الاستبصار، وتكون منافعها معرّضة للطلّاب، حاضرة لمحصّليها.

وليبصر أنّ الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلّها مفتقرة إلى ممسك لا بدّ لها منه، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته. ولو كانت تحتها كالأساطين لاستقرّت الأرض عليها، أو كانت مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان. وأيضا لفاتت الفوائد المذكورة.

( وَبارَكَ فِيها ) وأكثر خيرها وأنماها، بأن خلق فيها أنواع النباتات والحيوانات( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، بأن عيّن لكلّ نوع ما يصلحه ويعيش به. أو أقواتا تنشأ منها، بأن خصّ حدوث كلّ

١٦٩

قوت بقطر من أقطارها.

( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق. فاليومان الأوّلان داخلان فيها، كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام، وإلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمّة خمسة عشر. ولم يقل: في يومين كما في الأوّل، للإشعار باتّصالهما باليومين الأوّلين، والتصريح على الفذلكة لمدّة خلق الله الأرض وما فيها.

( سَواءً ) أي: استوت سواء، بمعنى استواء. والجملة صفة «أيّام». ويدل عليه قراءة يعقوب بالجرّ. والمعنى: أربعة أيّام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.

وقيل: حال من الضمير في «أقواتها» أي: قدّر الأقوات في الأرض حال كون الأرض مستوية في هذا الحكم.

( لِلسَّائِلِينَ ) متعلّق بمحذوف تقديره: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو بـ «قدّر» أي: قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها، المحتاجين إليها من المقتاتين.

وإنّما خلق الأرض وما فيها في هذه المدّة على التأنّي والتدريج، مع أنّه كان قادرا على إيجادها لحظة واحدة، ليعلم أنّ من الصواب التأنيّ في الأمور، وترك الاستعجال فيها، كما في الحديث: «التأنّي من الرحمن، والعجلة من الشيطان».

وليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار عالم بالمصالح وبوجوه الأحكام، إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.

وروى عكرمة عن ابن عبّاس، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الشجرة والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء. فتلك أربعة أيّام. وخلق يوم الخميس السماوات، وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم».

١٧٠

( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) )

ولـمّا بيّن خلق الأرض وما فيها، ذكر خلق السماوات، فقال:( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ) قصد نحوها. من قولهم: استوى إلى مكان كذا، إذا توجّه إليه توجّها لا يلوي على غيره. وهو من الاستواء الّذي هو ضدّ الاعوجاج. ونحوه قولهم: استقام إليه وامتدّ إليه. ومنه قوله تعالى:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) (١) .

والمعنى: ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صارف يصرفه عن ذلك. والظاهر أنّ «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين، لا للتراخي في المدّة، لقوله:( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) (٢) . ودحوها متقدّم على خلق الجبال من فوقها.

( وَهِيَ دُخانٌ ) ظلمانيّ. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على

__________________

(١) فصّلت: ٦.

(٢) النازعات: ٣٠.

١٧١

الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثمّ فتقها فجعلها أرضين، ثمّ خلق السماء من الدخان المرتفع.

ويحتمل أنّه أراد بالدخان مادّتها والأجزاء المتصغّرة الّتي تركّبت منها.

( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا ) بما خلقت فيكما من التأثير والتأثّر، وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوّعة. والمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم. أو ائتيا في الوجود، على أنّ الخلق السابق بمعنى التقدير.

وقيل: إتيان السماء حدوثها، وإتيان الأرض أن تصير مدحوّة.

ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كلّ واحدة منكما صاحبتها الإتيان الّذي أريده وتقتضيه حكمتي وتدبيري، من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض.

( طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) أي: شئتما ذلك أو أبيتما. والمراد إظهار كمال قدرته، ووجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع والكره لهما. وهما مصدران وقعا موقع الحال، أي: طائعين أو كارهين.

( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) منقادين بالذات. والأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما، وتأثّرهما بالذات عن قدرته، من غير أن يحقّق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقّني؟ قال الوتد: سل من يدقّني فلم يتركني. أو تمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع، كقوله: «كن فيكون». فمعنى إتيانهما وامتثالهما: أنّه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. فهو من المجاز الّذي يسمّى التمثيل. وما قيل: إنّه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب

١٧٢

إنّما يتصوّر على الوجه الأوّل والأخير لا المتوسّط، لأنّ الإقدار فرع الوجود.

وإنّما قال: «طائعين» ولم يقل: طائعتين على اللفظ، أو طائعات على المعنى، لأنّهما سماوات وأرضون، باعتبار كونهما مخاطبتين، فتكونا كقوله:( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (١) .

( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) فخلقهنّ خلقا إبداعيّا، وأتقن أمرهنّ. والضمير للسماء على المعنى، أو مبهم. و «سبع سموات» حال على الأوّل، وتمييز على الثاني.( فِي يَوْمَيْنِ ) قيل: خلق السماوات يوم الخميس، والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة.( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) شأنها وما يتأتّى منها، بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. وقيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.

( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) فإنّ الكواكب كلّها ترى كأنّها تتلألأ عليها( وَحِفْظاً ) وحفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا. وقيل: مفعول له على المعنى، كأنّه قال: وخصّصنا السماء الدّنيا بمصابيح زينة وحفظا.( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) البالغ في القدرة والعلم.

( فَإِنْ أَعْرَضُوا ) عن الإيمان بعد هذا البيان( فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً ) مهلكة تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم. أو فحذّرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنّه صاعقة.( مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) .

( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ) حال من( صاعِقَةِ عادٍ ) . ولا يجوز جعله صفة لـ «صاعقة»، أو ظرفا لـ «أنذرتكم»، لفساد المعنى.( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أتوهم من جميع جوانبهم، واجتهدوا بهم من كلّ جهة. أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عمّا أعدّ لهم في الآخرة. وكلّ من اللفظين يحتملهما. أو من قبلهم ومن بعدهم، إذ قد بلغهم خبر

__________________

(١) يوسف: ٤.

١٧٣

المتقدّمين، وأخبرهم هود وصالح عن المتأخّرين، داعيين إلى الإيمان بهم أجمعين.

ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة، كقوله تعالى:( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) (١) .

( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) بأن لا تعبدوا. أو أي: لا تعبدوا. أو مخفّفة من الثقيلة، أصله: بأنّه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا.

( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا ) إرسال الرسل( لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) برسالته( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) على زعمكم( كافِرُونَ ) إذ أنتم بشر مثلنا، لا فضل لكم علينا.

( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) )

( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) فتعظّموا فيها على أهلها بغير استحقاق( وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) اغترارا بقوّتهم وشوكتهم. قيل: كان من قوّتهم أنّ الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده.( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً )

__________________

(١) النحل: ١١٢.

١٧٤

قدرة، فإنّه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قويّ على ما لا يقدر عليه أحد غيره( وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) يعرفون أنّها حقّ فينكرونها. وهو عطف على «فاستكبروا».

( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ) باردة تهلك بشدّة بردها. من الصرّ، وهو البرد الّذي يصرّ، أي: يجمع. أو شديدة الصوت في هبوبها. من الصرير.( فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) جمع نحسة، من: نحس نحسا، نقيض: سعد سعدا. وقرأ الحجازيّان والبصريّان بالسكون، على التخفيف، أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر.

وقيل: كنّ آخر الشوّال، من الأربعاء إلى الأربعاء. وما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء.

( لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) أضاف العذاب إلى الخزي ـ وهو الذلّ ـ على قصد وصفه به، من إضافة الموصوف إلى الصفة، لقوله:( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) وهو في الأصل صفة المعذّب، وإنّما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة.( وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) بدفع العذاب عنهم.

( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ) فدللناهم على الحقّ، بنصب الحجج وإرسال الرسل( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) فاختاروا الضلالة على الهدى، والكفر على الإيمان( فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ ) صاعقة من السماء فأهلكتهم. وإضافتها إلى العذاب ووصفه بالهون للمبالغة، أو بحذف المضاف، أي: ذي الهون، وهو الهوان ـ أي: العذاب ـ الّذي يهينهم.( بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) من اختيار الضلالة والكفر.

( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) من تلك الصاعقة.

( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)

١٧٥

وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) )

( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ) وقرأ نافع: نحشر، بالنون المفتوحة وضمّ الشين، ونصب «أعداء».( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) يحبس أوّلهم على آخرهم لئلّا يتفرّقوا. وهو عبارة عن كثرة أهل النار.

( حَتَّى إِذا ما جاؤُها ) إذا حضروها. و «ما» مزيدة لتأكيد اتّصال الشهادة بالحضور.( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) بأن ينطقها الله، أو يظهر عليها آثارا تدلّ على ما اقترف بها، فينطق بلسان الحال.

( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) سؤال توبيخ أو تعجّب. ولعلّ المراد بالجلود النفس الحيوانيّة.( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) أي: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء. أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الّذي أنطق كلّ حيّ. ولو أوّل الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عامّا في الموجودات الممكنة.( وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود، وأن يكون استئنافا.

١٧٦

( وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) أي: كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أنّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقّق أنّه لا يمرّ عليه حال إلا وهو عليه رقيب.( وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

( وَذلِكُمْ ) إشارة إلى ظنّهم هذا. وهو مبتدأ، وقوله:( ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ) خبران له. ويجوز أن يكون «ظنّكم» بدلا، و «أرداكم» خبرا.

( فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.

( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) لا خلاص لهم عنها( وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ) يسألوا العتبى. وهي الرجوع إلى ما يحبّون.( فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) المجابين إليها.

ونظيره قوله تعالى حكاية:( أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) (١) .

( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما

__________________

(١) إبراهيم: ٢١.

١٧٧

كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) وَقَيَّضْنا ) أي: قدّرنا( لَهُمْ ) للكفرة( قُرَناءَ ) أخدانا(١) من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، وهو القشر. وقيل: أصل القيض البدل.

ومنه: المقايضة للمعاوضة.( فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) من أمر الدنيا واتّباع الشهوات( وَما خَلْفَهُمْ ) من أمر الآخرة وإنكاره. فدعوهم إلى التكذيب به، وأن لا جنّة ولا نار، ولا بعث ولا حساب.

( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) أي: كلمة العذاب( فِي أُمَمٍ ) في جملة أمم بالخسران والهلاك. وهو حال من الضمير المجرور في «عليهم».( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) وقد عملوا مثل أعمالهم( إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) وعارضوه بالهذيان. أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوّشوه على القارئ. يقال: لغي يلغى، ولغا يلغو، إذا هذى.( لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) أي: تغلبونه على قراءته.

( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ) المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامّة الكفّار( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) جزاء سيّئات أعمالهم. وقد سبق مثله.

( ذلِكَ ) إشارة إلى الأسوأ، مبتدأ( جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ ) خبره( النَّارُ ) عطف بيان للجزاء، أو خبر محذوف( لَهُمْ فِيها ) في النار( دارُ الْخُلْدِ ) فإنّها دار إقامتهم. وهو كقولك: في هذه الدار دار سرور، وتعني بالدار عينها، على أنّ المقصود هو

__________________

(١) أخدان جمع خدن، وهو الحبيب والصاحب.

١٧٨

الصفة.( جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) ينكرون الحقّ. أو يلغون، وذكر الجحود الّذي هو سبب اللغو.

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) يعني: شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل: هما إبليس وقابيل، فإنّهما سنّا الكفر والقتل.

وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي: أرنا بالتخفيف، كفخذ في فخذ. وقرأ الدوري باختلاس(١) كسرة الراء.

( نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ) ندوسهما انتقاما منهما. وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل.( لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) مكانا، أو ذلّا.

( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ

__________________

(١) اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. ويقابله الإشباع. وهو تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.

١٧٩

(٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) )

ولـمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار، عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ) اعترافا بربوبيّته، وإقرارا بوحدانيّته( ثُمَّ اسْتَقامُوا ) ثبتوا على الإقرار ومقتضياته، من فعل الأعمال الصالحة، وترك الأفعال السيّئة. و «ثمّ» لتراخي الاستقامة عن الإقرار في الرتبة وفضلها عليه، من حيث إنّ الإقرار مبدأ الاستقامة، أو لأنّها عسر قلّما تتبع الإقرار.

وعن عليّعليه‌السلام معناه: «أدّوا الفرائض بعد الإقرار».

وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: «قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به.

قال: قل: ربّي الله ثمّ استقم. قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف عليّ. فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسان نفسه فقال: هذا».

وعن أنس قال: قرأ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ثمّ قال: «قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم. فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها».

وروى محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام عن الاستقامة، فقال: هي والله ما أنتم عليه».

( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم( أَلَّا تَخافُوا ) ما تقدمون عليه( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما خلّفتم. والخوف: غمّ يلحق لتوقّع المكروه. والحزن: غمّ يلحق لوقوعه، من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: إنّ الله كتب لكم الأمن من كلّ غمّ، فلن تذوقوه أبدا. و «أن» مصدريّة، أو مخفّفة مقدّرة بالباء. وأصله: بأنّه لا تخافوا. أو مفسّرة.( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) في الدنيا على لسان الرسل.

١٨٠