زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20100
تحميل: 2094


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20100 / تحميل: 2094
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القبيح، وعن الإخلال بالواجب، بالندم عليهما، والعزم على أن لا يعاود.

وروى جابر: أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: أللّهمّ إنّي أستغفرك وأتوب إليك، وكبّر. فلمّا فرغ من صلاته قال له عليّعليه‌السلام : «يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة.

فقال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟

قال: اسم يقع على ستّة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربّيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كلّ ضحك ضحكته».

( وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ) عن الكبائر إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. أو يعفو عن الكبائر والصغائر مطلقا لمن يشاء تفضّلا.( وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) من خير وشرّ، فيجازيهم على ذلك، ويتجاوز عنهم على مقتضى حكمته. وقرأ حمزة وحفص والكسائي: ما تفعلون بالتاء.

( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) أي: يستجيب الله لهم، فحذف اللام كما حذف في( وَإِذا كالُوهُمْ ) (١) . والمراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة، فإنّها كدعاء وطلب لـما يترتّب عليها. ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الدعاء الحمد لله».

أو يستجيبون الله بالطاعة إذا دعاهم إليها.( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) على ما سألوا واستحقّوا من الثواب واستوجبوا له.

وروي عن ابن عبّاس: أنّ معنى( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ) أن يشفّعهم في إخوانهم.( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) يشفّعهم في إخوان إخوانهم.

وروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله في قوله:( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا».

__________________

(١) المطفّفين: ٣.

٢٢١

( وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضّل.

( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) )

ولـمّا بيّن سبحانه أنّه يزيد المؤمنين من فضله، أخبر عقيبه أنّ الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح، فقال :

( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء. أو لتكبّروا وأفسدوا فيها بطرا، فإنّ الغنى مبطرة مأشرة(١) . وكفى بحال قارون عبرة. وهذا على الغالب. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا وكثرتها».

وأصل البغي طلب التجاوز عن الاقتصاد فيما يتحرّى كمّيّة وكيفيّة.

( وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ) بتقدير( ما يَشاءُ ) كما اقتضته مشيئته( إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ ) عليم بخفايا أمرهم وجلايا حالهم( بَصِيرٌ ) بما يصلحهم وما يفسدهم في عواقب أمورهم. فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، كما توجبه الحكمة الربّانيّة. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.

__________________

(١) الأشر: البطر. والبطر: التكبّر عن الحقّ وعدم قبوله.

٢٢٢

قيل: نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنّوا سعة الرزق والغنى. قال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت، وذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنّيناها.

وقيل: نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا أجدبوا انتجعوا. ولا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فلو عمّ البسط لغلب البغي حتّى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن، فلأجل ذلك الفقراء أكثر من الأغنياء.

روى أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن جبرئيل، عن اللهعزوجل : «إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم، ولو صححته لأفسده. وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحّة، ولو أسقمته لأفسده. وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى، ولو أفقرته لأفسده.

وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر، ولو أغنيته لأفسده. وذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم.

ومتى قيل: نحن نرى كثيرا ممّن يوسّع عليه الرزق يبغي في الأرض.

قلنا: إذا علمنا على الجملة أنّه سبحانه يدبّر أمور عباده بحسب ما يعلم من مصالحهم، فلعلّ هؤلاء كان يستوي حالهم في البغي، وسّع عليهم أو لم يوسّع. أو لعلّهم لو لم يوسّع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي، فلذلك وسّع عليهم. والله أعلم بتفاصيل أحوالهم.

ثمّ بيّن حسن نظره بعباده، فقال:( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) المطر الّذي يغيثهم من الجدب، ولذلك خصّ بالنافع. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد.

( مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ) أيسوا منه. ووجه إنزاله بعد القنوط: أنّه أدعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه، والمعرفة بموقع إحسانه.( وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ) أي: يفرّق ويبسط بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كلّ شيء، من السهل والجبل والنبات

٢٢٣

والحيوان( وَهُوَ الْوَلِيُ ) الّذي يتولّى عباده بإحسانه ونشر رحمته( الْحَمِيدُ ) المستحقّ للحمد على ذلك.

( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فإنّها بذاتها وصفاتها تدلّ على وجود صانع قادر حكيم( وَما بَثَّ فِيهِما ) مجرور أو مرفوع عطفا على «السموات» أو «خلق»( مِنْ دابَّةٍ ) من حيّ، على إطلاق اسم المسبّب على السبب. أو ممّا يدبّ على الأرض. وما يكون في أحد الشيئين يصدق أنّه فيهما في الجملة، كقوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (١) . وإنّما يخرج من الملح. فلا يقال: لم قيل فيهما «من دابّة» والدوابّ في الأرض وحدها؟ وأيضا يجوز أن يكون للملائكةعليهم‌السلام مشي مع الطيران، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي. ولا يبعد أيضا أن يخلق في السماوات حيوانا يمشي فيها مشي الأناسي على الأرض. سبحان الّذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق.

( وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ ) حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم( إِذا يَشاءُ ) في أيّ وقت يشاء( قَدِيرٌ ) متمكّن منه. و «إذا» كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع. قال الله تعالى:( وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ) (٢) .

( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ

__________________

(١) الرحمن: ٢٢.

(٢) الليل: ١.

٢٢٤

فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) )

ولـمّا بيّن سبحانه عظيم نعمه على العباد، بيّن بعده أنّه لا يعاقبهم إلّا على معاصيهم، فقال :

( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ) من بلوى في نفس أو مال( فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) فبسبب معاصيكم. وذكر الفاء بناء على تضمين «ما» معنى الشرط. ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببيّة.( وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) من الذنوب، فلا يعاقب عليها. والآية مخصوصة بالمجرمين. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلّا بذنب». وأمّا ما أصاب غيرهم، من الأنبياء وسائر المعصومين من الأئمّة، ومن الأطفال والمجانين، فلأسباب أخر، منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.

وعن بعضهم: من لم يعلم أنّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربّه إليه.

وعن بعض آخر: العبد ملازم للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأنّ جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يطهّر عبده من جناياته بأنواع من المصائب، ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة.

وعن عليّعليه‌السلام ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة، ومن عوقب في الدنيا لم تثنّ عليه العقوبة في الآخرة».

٢٢٥

وعنهعليه‌السلام : «هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن».

( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) فائتين، أي: لا تعجزونني حيث ما كنتم، فلا تسبقونني هربا في الأرض عمّا قضي عليكم من المصائب( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ ) متولّ بالرحمة يحرسكم عنها( وَلا نَصِيرٍ ) يدفعها عنكم.

( وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ ) السفن الجارية( فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) كالجبال الطوال. قالت الخنساء :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ ) وقرأ نافع وحده: الرياح( فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ ) ثوابت لا تجري( عَلى ظَهْرِهِ ) ظهر البحر( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ ) على بلاء الله( شَكُورٍ ) لنعمائه. وهما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، فإنّه هو الّذي وكل همّته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكّر فيها. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر».

( أَوْ يُوبِقْهُنَ ) عطف على «يسكن» لأنّ أصل الكلام: أو يرسلها فيوبقهنّ، أي: يهلكهنّ بإرسال الريح العاصفة المغرقة، لأنّه قسيم «يسكن»، فاقتصر على المقصود.

وخلاصة المعنى: أنّه سبحانه إن يشأ يبتل المسافرين في البحر بإحدى بليّتين: إمّا أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهنّ من الجري، وإمّا أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهنّ إغراقا. والمراد إهلاك أهلها، لقوله:( بِما كَسَبُوا ) من المعاصي( وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) عطف على «يوبقهنّ». وأصل الكلام: أو يرسله عاصفة فيوبق ناسا بذنوبهم، وينج ناسا على طريق العفو منهم.

( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ) عطف على علّة مقدّرة، مثل: لينتقم منهم ويعلم. ونحوه في العطف على التعليل المذكور غير عزيز في القرآن. أو على

٢٢٦

الجزاء. ونصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستّة، نحو: إن تأتني آتك وأعطيك.

وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف.( ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) ملجأ يلجؤن إليه من العذاب.

( فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) )

ثمّ خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم، فقال:( فَما أُوتِيتُمْ ) أيّها المشركون( مِنْ شَيْءٍ ) من الغنى والبسطة( فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) تمتّعون به مدّة حياتكم ثمّ تموتون فيبقى عنكم، أو يهلك المال قبل موتكم( وَما عِنْدَ اللهِ ) من ثواب الآخرة

٢٢٧

( خَيْرٌ وَأَبْقى ) من هذه المنافع( لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) لخلوص نفعه ودوامه. و «ما» الأولى موصولة تضمّنت معنى الشرط، من حيث إنّ إيتاء ما أوتوا سبب للتمتّع بها في الحياة الدنيا، فجاءت الفاء في جوابها، بخلاف الثانية.

( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) عطف على( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أي: وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين المتوكّلين على ربّهم، المجتنبين الآثام الكبيرة، والأعمال الفاحشة، والأفعال القبيحة شرعا وعقلا( وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ ) ممّا يفعل بهم من الظلم( يَغْفِرُونَ ) يتجاوزون عنه. والإتيان بـ «هم» وإيقاعه مبتدأ، وإسناد «يغفرون» إليه، للدلالة على أنّهم الأخصّاء بالمغفرة في حال الغضب. ومثله «هم ينتصرون»(١) . وقرأ حمزة والكسائي: كبير الإثم. وعن ابن عبّاس: «كبير الإثم» هو الشرك. والمراد بالمغفرة ما يتعلّق بالإساءة إلى نفوسهم، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. فأمّا ما يتعلّق بحقوق الله والحدود الواجبة، فليس للإمام تركها ولا العفو عنها، فلا يجوز له العفو عن المرتدّ وعمّن جرى مجراه.

ثمّ زاد سبحانه في صفاتهم بقوله:( وَالَّذِينَ ) أي: وللّذين( اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإيمان به وطاعته، فاستجابوا له بالإيمان والإطاعة وإقامة الصلوات الخمس.

وكانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام وقبل قدوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمعوا وتشاوروا ثمّ عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بقوله:( وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ) ذو شورى، لا ينفردون برأي حتّى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبّرهم وتيقّظهم في الأمور. وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، وهو المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ.

وعن الضحّاك: هو تشاور الأنصار حين سمعوا بظهور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وورود

__________________

(١) الشورى: ٣٩.

٢٢٨

النقباء عليه، حتّى اجتمعوا في دار أبي أيّوب على الإيمان به والنصرة له.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشاد».

( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) في سبيل الخير.

( وَالَّذِينَ ) وللّذين( إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) ممّن بغى عليهم، على ما جعله الله لهم من القوّة والتسلّط، كراهة التذلّل. وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمّهات الفضائل. كما نقل عن النخعي أنّه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفسّاق. والمعنى: أنّه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال: أخزاك الله، قال: أخزاك الله، من غير أن يعتدي. وهو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنّه ينبئ عن عجز المغفور، والانتصار عن مقاومة الخصم. والحلم عن العاجز محمود، وعن المتغلّب مذموم، لأنّه إجراء وإغراء على البغي.

ثمّ عقّب وصفهم بالانتصار بقوله:( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) للمنع عن التعدّي. وسمّي الثانية سيّئة للازدواج، أو لأنّها تسوء من تنزل به.( فَمَنْ عَفا ) عمّاله المؤاخذة به( وَأَصْلَحَ ) بينه وبين عدوّه( فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) عدة مبهمة تدلّ على عظم الموعود( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) المبتدئين بالسيّئة، والمتجاوزين في الانتقام.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بإذن الله».

( وَلَمَنِ انْتَصَرَ ) لنفسه وانتصف( بَعْدَ ظُلْمِهِ ) أي: بعد ما ظلم، فإنّه من إضافة المصدر إلى المفعول( فَأُولئِكَ ) إشارة إلى معنى «من» دون لفظه( ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) بالمعاتبة والمعاقبة.

٢٢٩

( إِنَّمَا السَّبِيلُ ) أي: الإثم والعقاب( عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) يبتدؤنهم بالإضرار( وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) يطلبون ما لا يستحقّونه تجبّرا عليهم( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) على ظلمهم وبغيهم.

( وَلَمَنْ صَبَرَ ) على الظلم والأذى( وَغَفَرَ ) ولم ينتصر( إِنَّ ذلِكَ ) إنّ ذلك الصبر والتجاوز منه، فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به( لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) من ثابت الأمور الّتي أمر الله بها، فلم تنسخ.

وقيل: عزم الأمور هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والأجر.

ويحكي: أنّ رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن البصري، وكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثمّ قام فتلا هذه الآية. فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيّعها الجاهلون.

( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ

٢٣٠

حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) يخذله الله ويخلّيه بينه وبين نفسه( فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) من ناصر يتولّاه من بعد خذلان الله إيّاه( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) حين يرونه، فذكر بلفظ الماضي تحقيقا( يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) أي: إلى رجعة إلى الدنيا.

( وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ) على النار قبل دخولهم فيها. ويدلّ عليه العذاب.( خاشِعِينَ ) متذلّلين متقاصرين( مِنَ الذُّلِ ) ممّا يلحقهم من الذلّ( يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ ) أي: يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم خفيّ ضعيف بمسارقة، كالمصبور(١) ينظر إلى السيف. وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، ويملأ عينيه منها.

( وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ ) في الحقيقة( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالتعريض للعذاب المخلّد، وتفويتهم الانتفاع بنعيم الجنّة( وَأَهْلِيهِمْ ) وأولادهم وأزواجهم وأقاربهم، لا ينتفعون بهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) إمّا أن يتعلّق بـ «خسروا»، ويكون من قول المؤمنين في الدنيا. أو يتعلّق بـ «قال» أي: يقولون إذا رأوا عظيم ما نزل بالظالمين يوم القيامة( أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ) المقيم: الدائم الذي لا زوال له. هذا تمام كلامهم، أو تصديق من الله لهم.

( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ ) ممّا عبدوه وأطاعوه في المعصية نصّار( يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ ) يخذله تخلية( فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ) إلى الهدى، أو النجاة.

__________________

(١) المصبور: المحبوس للقتل.

٢٣١

( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ ) أجيبوا داعي ربّكم ـ يعني: محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما دعاكم إليه ورغّبكم فيه من المصير إلى طاعته( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) لا يردّه بعد ما حكم به. و «من» صلة لـ «مردّ». وقيل: صلة «يأتي» أي: من قبل أن يأتي يوم من الله لا يقدر أحد على ردّه( ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ ) مفرّ( يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) إنكار لـما اقترفتموه، أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئا منه، لأنّه مدوّن في صحائف أعمالكم، وتشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.

( فَإِنْ أَعْرَضُوا ) أعرض الكفّار، أي: عدلوا عمّا دعوتهم إليه( فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) رقيبا، أي: مأمورا بحفظهم لئلّا يخرجوا عمّا دعوتهم إليه، كما يحفظ الراعي غنمه لئلّا يتفرّقوا، فلا تحزن لإعراضهم( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) ليس عليك إلّا إيصال المعنى إلى أفهامهم، والبيان لـما فيه رشدهم، وقد بلّغت.

( وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ) أي: إذا أوصلنا إليه نعمة، من الصحّة والغنى والأمن( فَرِحَ بِها ) بطرا أو أشرا. وأراد بالإنسان الجنس لا الواحد، لقوله:( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) من المرض والفقر والمخاوف( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) أيدي المجرمين( فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ ) بليغ الكفران، ينسى النعمة رأسا، ويذكر البليّة ويعظّمها، ولا يتأمّل سببها. وهذا وإن اختصّ بالمجرمين، لكن جاز إسناده إلى الجنس، لغلبتهم واندراجهم فيه.

وتصدير الشرطيّة الأولى بـ «إذا» والثانية بـ «أن» لأنّ إذاقة النعمة محقّقة، من حيث إنّها عادة مقتضاة بالذات، بخلاف إصابة البليّة. وإقامة علّة الجزاء مقامه، ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية، للدلالة على أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، كما قال:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (١) .( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) (٢) .

__________________

(١) إبراهيم: ٣٤.

(٢) العاديات: ٦.

٢٣٢

( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) )

ولـمّا ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها، أتبع ذلك أنّ له الملك، وأنّه يقسّم النعمة والبلاء كيف أراد وفق الحكمة والمصلحة، فقال :

( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) له التصرّف فيهما وفيما بينهما بما تقتضيه الحكمة، فله أن يقسّم النعمة بين العباد كيف يشاء( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) من أنواع الخلق من غير مجال اعتراض. ثمّ قال إبدالا من «يخلق» إبدال البعض:( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ ) من خلقه( إِناثاً ) فلا يولد له ذكر( وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) فلا يولد له أنثى.

( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ) أو يجمع لهم بين البنين والبنات. تقول العرب: زوّجت إبلي، أي: جمعت بين صغارها وكبارها.( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ) لا يلد ولا يولد له.

وتنقيح المعنى: أنّه سبحانه يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة، فيهب لبعض إمّا صنفا واحدا من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جميعا، ويعقم آخرين.

ولعلّ تقديم الإناث لأنّها أكثر لتكثير النسل. أو لأنّ مساق الآية للدلالة على أنّ الواقع ما يتعلّق به مشيئة الله، لا مشيئة الإنسان والإناث كذلك. أو لأنّ الكلام في البلاء، والعرب تعدّهنّ بلاء. أو لتطييب قلوب آبائهنّ. ولـمّا أخّر الذكور لذلك، تدارك تأخيرهم وهم أحقّاء بالتقديم بتعريفهم، لأنّ التعريف تنويه وتشهير. ويحتمل أن يكون تأخير الذكور ثمّ تعريفهم لرعاية الفواصل.

٢٣٣

ثمّ قدّم الذكران على الإناث لإعطاء كلا الجنسين حقّه من التقديم، للإشعار بأنّ تقديمهنّ أوّلا لم يكن لتقدمهنّ، ولكن لمقتض آخر، فقال:( ذُكْراناً وَإِناثاً ) كما قال:( إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) (١) ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) (٢) .

وتغيير العاطف في ذكر تزويج الذكران والإناث، لأنّه قسيم المشترك بين القسمين. ولم يحتج إليه الرابع(٣) ، لإفصاحه بأنّه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدّمة.

( إِنَّهُ عَلِيمٌ ) بمصالح العباد( قَدِيرٌ ) على تكوين ما يصلحهم.

قيل: نزلت في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، حيث وهب لشعيب ولوط إناثا، ولإبراهيم ذكورا، ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكورا وإناثا، وجعل يحيى وعيسى عقيمين.

( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣) )

__________________

(١) الحجرات: ١٣.

(٢) القيامة: ٣٩.

(٣) وهو قوله تعالى:( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ) باعتباره الجملة الرابعة في الآية الشريفة.

٢٣٤

ثمّ ذكر ما كان أجلّ النعم المذكورة، وهي النبوّة، فقال:( وَما كانَ لِبَشَرٍ ) وما صحّ لأحد من البشر( أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) إلّا أن يوحي إليه وحيا، أي: كلاما خفيّا يدرك بسرعة. وهو عبارة عن الإلهام، أي: قذف المعنى وإلقاؤه في القلب يقظة أو نوما، كما أوحى إلى أمّ موسىعليه‌السلام ، وإلى إبراهيمعليه‌السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داودعليه‌السلام في صدره.

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أي: إلّا أن يكلّمه من ورائه، كما يكلّم الملك بعض خواصّه وهو من وراء الحجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه. ومنه الأحاديث المعراجيّة. أو يسمع الكلام الّذي يخلق في الأجسام الجماديّة، كما اتّفق لموسىعليه‌السلام في الطور.

( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) أي: إلّا أن يرسل ملكا من الملائكة( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) فيوحي الملك إلى الأنبياء ما يشاء الله، أي: يبلّغ وحيه على وفق ما أمره، كجبرئيل أرسل إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

واعلم أنّ «وحيا» وما عطف عليه منتصب بالمصدر، لأنّ «وحيا» نوع من الكلام كما فسّرنا به، و( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) صفة كلام محذوف، والمعطوف والمعطوف عليه واقعان موقع الحال. والتقدير: وما صحّ أن يكلّم أحدا إلّا موحيا، أو مسمعا من وراء الحجاب، أو مرسلا. والإرسال أيضا نوع من الكلام، كما تقول: لا أكلّمه إلّا جهرا وإلّا إخفاتا، لأنّ الجهر والإخفات ضربان من الكلام. وقرأ نافع: أو يرسل برفع اللام.

( إِنَّهُ عَلِيٌ ) عن الإدراك بالأبصار وسائر صفات المخلوقين( حَكِيمٌ ) يفعل ما تقتضيه حكمته من التكلّم بأحد الأنحاء الثلاثة.

وروي: أنّ اليهود قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تكلّم الله وتنظر اليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى ونظر إليه، فإنّا لن نؤمن لك حتّى تفعل ذلك؟ فقال: «لم ينظر موسى

٢٣٥

إلى الله» فنزلت.

وعن عائشة: من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية. ثمّ قالت: أولم تسمعوا ربّكم يقول: فتلتْ هذه الآية.

( وَكَذلِكَ ) ومثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك( أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) يعني: ما أوحي إليه. وسمّاه روحا، لأنّ القلوب تحيا به كما يحيا الجسد بالروح. وقيل: جبرئيل. والمعنى: أرسلناه إليك بالوحي.

وعن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام أنّهما قالا: «هو ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يصعد إلى السماء، وإنّه لفينا».

( ما كُنْتَ تَدْرِي ) قبل الوحي( مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) أي: الإيمان بما لا طريق إليه إلّا السمع من فروع الإسلام، فإنّه ما كان له فيه علم حتّى كسبه بالوحي، كالعلم بالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وغيرها. لا الإيمان الذي منشأه العقل، كالعلم بالصانع وصفاته وغيره من الأحكام العقليّة.

( وَلكِنْ جَعَلْناهُ ) أي: الروح، أو الكتاب، أو الإيمان( نُوراً ) لأنّه طريق النجاة( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ) بالتوفيق واللطف، فإنّ من لا لطف له ـ لفرط عناده والتوغّل في مكابرته ـ فلا هداية له( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هو الإسلام.

( صِراطِ اللهِ ) بدل من الأوّل( الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) خلقا وملكا( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) بارتفاع الوسائط والتعلّقات، فلا يملك ذلك غيره يوم القيامة. وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.

٢٣٦

(٤٣)

سورة الزخرف

مكّيّة. وهي تسع وثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الزخرف كان ممّن يقال له يوم القيامة:( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) (١) ادخلوا الجنّة بغير حساب».

وعن أبي بصير قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : «من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه الله في قبره من هو امّ الأرض، ومن ضمّة القبر، حتّى يقف بين يدي اللهعزوجل ، ثمّ جاءت حتّى تكون هي الّتي تدخله الجنّة بأمر الله سبحانه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) )

__________________

(١) الزخرف: ٦٨.

٢٣٧

ولـمّا ختم الله تعالى سورة حم عسق بذكر القرآن والوحي، افتتح هذه السورة بذلك، أيضا، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ( حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) أقسم بالقرآن على أنّه جعله قرآنا عربيّا. وهو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد. ونظيره قول أبي تمام: وثناياك إنّها إغريض(١) . وهو البرد. ولعلّ إقسام الله بالقرآن من حيث إنّه معجز مبيّن لطرق الهدى وما تحتاج إليه الأمّة في أبواب الديانة. أو أنّه بيّن للعرب ما يدلّ على أنّه تعالى صيّره قرآنا عربيّا.

( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) لكي تفهموا معانيه، لأنّه بلغتهم وأساليبهم. ويجوز أن يكون «جعلنا» بمعنى: خلقنا. وحينئذ «قرآنا عربيّا» حال من الضمير. و «لعلّ» مستعار لمعنى الإرادة ليلاحظ معناها ومعنى الترجّي. والمعنى: خلقناه عربيّا غير عجميّ إرادة أن تعقله العرب، ولئلّا يقولوا: لولا فصّلت آياته.

وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لأنّ المجعول هو المحدث بعينه.

( وَإِنَّهُ ) عطف على «إنّا»( فِي أُمِّ الْكِتابِ ) في اللوح المحفوظ، فإنّه أصل الكتب السماويّة، فإنّها كلّها تنسخ منه، وكتب فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

وقرأ حمزة والكسائي: أمّ الكتاب بالكسر.( لَدَيْنا ) محفوظا عندنا عن التغيير( لَعَلِيٌ ) رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها( حَكِيمٌ ) ذو حكمة بالغة. أو محكم لا ينسخه غيره.

واعلم أنّ «في أمّ الكتاب» متعلّق بـ «عليّ» واللام لا تمنعه. أو حال منه، و «لدينا» بدل منه، أو حال من «أمّ الكتاب».

__________________

(١) وعجزه: ولآل نوّار أرض وميض.

والنوّار: نور الشجر. والوميض: شديد البريق واللمعان.

٢٣٨

( أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ ) فننحّيه ونبعّده عنكم. مجاز من قولهم: ضرب الغرائب ـ أي: الإبل الغريبة ـ عن الحوض. ومنه قول الحجّاج: ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل. والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، أي: القرآن. و( صَفْحاً ) مصدر من غير لفظه. فإنّ تنحية الذكر عنهم إعراض. أو مفعول له. أو حال بمعنى: صافحين. وأصله: أن تولّي الشيء صفحة عنقك. وقيل: إنّه بمعنى الجانب. فيكون ظرفا، كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا. والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب.

( أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) أي: لأن كنتم. وهو في الحقيقة علّة مقتضية لترك الإعراض عنهم. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: إن بالكسر، على أنّ الجملة شرطيّة مخرجة للمحقّق مخرج المشكوك استجهالا لهم، وما قبلها دليل الجزاء. وذلك كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي، وهو عالم بذلك، ولكنّه يخيّل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحقّ، فعل من له شكّ في الاستحقاق مع وضوحه، استجهالا له.

( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)

٢٣٩

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) )

ثمّ سلّى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن استهزاء قومه بقوله:( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ) في الأمم الماضية( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) حكاية حال ماضية مستمرّة. يعني: من الأمم الخالية كفرت بالأنبياء وسخرت منهم، لفرط جهلهم، واستهزأت بهم كما استهزأ قومك بك، أي: فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم، بل كرّرنا الحجج وأعدنا الرسل.

( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ ) أي: من القوم المسرفين من قومك، لأنّه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبرا عنهم( بَطْشاً ) قوّة ومنعة، فلا يغترّ هؤلاء المشركون بالقوّة والنجدة( وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) وسلف في القرآن قصّتهم العجيبة الّتي حقّها أن تسير مسير المثل لغرابته. وفيه وعد للرسول، ووعيد لهم. يعني: لـمّا أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم وعملهم القبيح، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك.

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) سألت قومك( مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ ) القادر الّذي لا يقهر( الْعَلِيمُ ) بمصالح العباد. لعلّ ذلك لازم مقولهم، أو ما دلّ عليه إجمالا، أقيم مقامه تقريرا لإلزام الحجّة عليهم. فكأنّهم قالوا: الله، كما حكى عنهم في مواضع أخر. ومعناه: لينسبنّ خلقها إلى الّذي هذه أوصافه.

وهذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ اعترفوا بأنّ الله خالق السماوات والأرض، ثمّ عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث. ويجوز أن يكون هذا مقولهم، وما بعده استئناف.

٢٤٠