زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20090
تحميل: 2091


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20090 / تحميل: 2091
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من لدنّا.

( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) بدل من( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) أي: إنّا أنزلنا القرآن لأنّ من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا.

( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) لأجل الرحمة عليهم. ووضع الربّ موضع الضمير، إشعارا بأنّ الربوبيّة تقتضي الرحمة على المربوبين، فإنّه أعظم أنواع التربية. أو علّة لـ «يفرق» أو «أمرا». و «رحمة» مفعول به.( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) يسمع أقوال العباد( الْعَلِيمُ ) ويعلم أحوالهم. وهو بما بعده تحقيق لربوبيّته، وإيذان بأنّها لا تحقّ إلّا لمن هذه صفاته.

( رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) خبر آخر، أو استئناف. وقرأ الكوفيّون بالجرّ بدلا من «ربّك».( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أي: إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم.

أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟ فقلتم: الله، علمتم أنّ الأمر كما قلنا، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه، إن بلغك حديثه وحدّثت بقصّته. وفائدة الشرطيّة التنبيه للمخاطب بأنّ من حقّك أن تكون عالما به، ولا تكون غافلا عن مثله. أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) لا يستحقّ العبادة غيره، إذ لا خالق سواه( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) كما تشاهدون( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

ثمّ ردّ أن يكونوا موقنين بقوله:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) أي: إقرارهم غير صادر عن علم وتيقّن، ولا عن جدّ وحقيقة، بل قول مخلوط بهزء ولعب.

( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ) فانتظرهم في هذا اليوم. ويجوز أنّه منصوب بأنّه مفعول به. يقال: رقبته وارتقبته، نحو: نظرته وانتظرته، أي: انتظر يوم تأتي السماء( بِدُخانٍ مُبِينٍ ) أي: يوم شدّة ومجاعة، فإنّ الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره. أو لأنّ الهواء يظلم عام القحط، لقلّة الأمطار وكثرة

٢٨١

الغبار. أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، وقد قحطوا حتّى أكلوا جيف الكلاب وعظامها.

ويروى أنّه قيل لابن مسعود: إنّ قاصّا عند أبواب كندة يقول: إنّه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق. فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: الله أعلم. ثمّ قال: ألا وسأحدّثكم أنّ قريشا لـمّا استعصت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليهم فقال: أللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فأصابهم الجهد حتّى أكلوا الجيف والعلهز(١) . وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم.

وإسناد الإتيان إلى السماء لأنّها تكفّ الأمطار الّتي هي سبب الغبار الّذي يشبهه الدخان. أو المراد يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة، لـما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا قال: «أوّل الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر». قال حذيفة: ما الدخان يا رسول الله؟ فتلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة. أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام. وأمّا الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره».

وروي أيضا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، يدخل في أسماع الكفرة، حتّى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ(٢) .

__________________

(١) العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم ووبر البعير في زمن المجاعة.

(٢) الحنيذ: المشويّ.

٢٨٢

ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام. وتكون الأرض كلّها كبيت أو قد فيه خصاص»(١) .

( يَغْشَى النَّاسَ ) يحيط بهم. في محلّ الجرّ على أنّه صفة للدخان. وقوله:( هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي: قائلين ذلك( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ ) منصوب المحلّ بفعل مضمر، وهو: يقولون. و «يقولون» منصوب على الحال.( إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ) من أين لهم وكيف يتذكّرون بهذه الحالة( وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ) بيّن لهم ما هو أعظم من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة.

( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ) فلم يذّكّروا( وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) فقال بعضهم: يعلّمه عداس، غلام أعجميّ لبعض ثقيف. وقال آخرون: إنّه مجنون.

( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ ) بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه لـمّا دعا رفع القحط( قَلِيلاً ) كشفا قليلا، أو زمانا قليلا، وهو ما بقي من أعمارهم( إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) إلى الكفر غبّ الكشف. ومن فسّر الدخان بما هو من الأشراط قال: إذا جاء الدخان غوّث(٢) الكفّار بالدعاء، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدّون لا يتمهّلون. ومن فسّره بما في يوم القيامة أوّله بالشرط. والتقدير:( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ) يوم القيامة، أو يوم بدر. ظرف لفعل دلّ عليه( إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) لا لـ «منتقمون» فإنّ «إنّ» تحجزه عنه. أو بدل من «يوم تأتي». والبطش هو شدّة الألم.

( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ

__________________

(١) الخصاص: الفرج في البناء وما شاكله.

(٢) أي: قالوا: وا غوثاه.

٢٨٣

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) )

ثمّ شبّه حالهم بحال المعاندين الّذين كانوا من قبلهم، فقال:( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) امتحنّاهم بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم، ليشكروا على ما أنعمنا عليهم ويطيعونا، فبدّلوا الشكر بالكفران، وعصوا أمرنا بالثبات على الكفر( وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه، لشرف نسبه وفضل حسبه، لأنّ الله لم يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه وكرامهم.

( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ) بأن أدّوهم إليّ، وأرسلوهم معي. وهم بنو إسرائيل، كقوله تعالى:( أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) (١) . ولا تعذّبهم. أو بأن أدّوا إليّ حقّ الله، من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله. ويجوز أن تكون «أن» مخفّفة، أي: وجاءهم بأنّ الشأن أدّوا إليّ. أو مفسّرة، لأنّ مجيء الرسول متضمّن لمعنى القول، لأنّه لا يجيئهم إلّا مبشّرا ونذيرا وداعيا إلى الله.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) غير متّهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان الله إيّاه على وحيه. وهو علّة الأمر.( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ) ولا تتكبّروا عليه. بالاستهانة بوحيه ورسوله.

و «أن» كالأولى في وجهيها.( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها. وهذا علّة للنهي. ولذكر الأمين مع الأداء، والسلطان المبين مع العلاء ،

__________________

(١) الشعراء: ١٧.

٢٨٤

شأن لا يخفى.

فلمّا قال ذلك توعّدوه بالقتل والرجم، فقال:( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ) التجأت إليه توكّلا عليه( أَنْ تَرْجُمُونِ ) أن تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: عتّ بالإدغام(١) .

( وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) فكونوا بمعزل منّي، واقطعوا أسباب الوصلة عنّي. أو فخلّوني واتركوني لا عليّ ولا لي، ولا تتعرّضوا لي بسوء، فإنّه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم.

( فَدَعا رَبَّهُ ) بعد ما كذّبوه ويئس من أن يؤمنوا به( أَنَّ هؤُلاءِ ) بأنّ هؤلاء( قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به، ولذلك سمّاه دعاء.

قيل: كان دعاؤه: أللّهمّ عجّل لهم ما يستحقّونه بإجرامهم. وقيل. هو قوله:( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢) . وما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك.

( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ) أي: فقال: أسر. أو قال: إن كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل. وقرأ ابن كثير ونافع بوصل الهمزة، من: سرى.( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) يتّبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.

( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) مفتوحا ذا فجوة واسعة. أو ساكنا على هيئته، قارّا على حاله، من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا بعد ما جاوزته، ولا تضربه بعصاك، ولا تغيّر منه شيئا ليدخله القبط، ويطمع فرعون في دخوله. فقد روي: أنّ موسىعليه‌السلام لـمّا جاوز البحر أراد أن يضربه بعصا فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال سبحانه: اتركه يا موسى.( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) أي: سيغرقهم الله.

__________________

(١) أي: بإدغام الذال في التاء.

(٢) يونس: ٨٥.

٢٨٥

( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) )

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم، فقال:( كَمْ تَرَكُوا ) كثيرا تركوا( مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ) محافل مزيّنة ومنازل حسنة. وعن ابن عبّاس: منابر الخطباء.( وَنَعْمَةٍ ) أي: تنعّم( كانُوا فِيها فاكِهِينَ ) متنعّمين كما يتنعّم الآكل بأنواع الفواكه.

( كَذلِكَ ) مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. أو الأمر كذلك.( وَأَوْرَثْناها ) عطف على الفعل المقدّر، أو على «تركوا». وإيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقّة، كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة. فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك إيراثا من الله لهم.( قَوْماً آخَرِينَ ) لبسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء. وهم بنو إسرائيل، كانوا متسخّرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله على أيديهم، وأورثهم ملكهم وديارهم. وقيل: غيرهم، لأنّهم لم يعودوا إلى مصر.

( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ) مجاز عن عدم المبالاة بهلاكهم، وعدم الاعتداد بوجودهم، كما قالت العرب على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب البكاء والجزع على موت رجل خطير وتعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح وأظلمت له الشمس، في نقيض ذلك. ومنه ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه، إلّا بكت عليه

٢٨٦

السماء والأرض».

وكذلك يروى عن ابن عبّاس: أنّ المؤمن ليبكي عليه مصلّاه، وموضع عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه.

وعن السدّي: لـمّا قتل الحسين بن عليّعليه‌السلام بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها.

وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريّا وعلى الحسين بن عليّعليه‌السلام أربعين صباحا، ولم تبك إلّا عليهما. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء».

وقيل: تقديره: فما بكت عليهم أهل السماء والأرض، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.

( وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة.

( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ

٢٨٧

الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) )

( وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم( مِنْ فِرْعَوْنَ ) بدل من «العذاب» على حذف المضاف، أي: عذاب فرعون. أو على جعل فرعون نفس العذاب، لإفراطه في التعذيب. أو حال من «المهين» يعني: واقعا من جهته.( إِنَّهُ كانَ عالِياً ) متكبّرا متغلّبا( مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) المجاوزين الحدّ في العتوّ والشرارة. وهو خبر ثان، أي: كان متكبّرا مسرفا. أو حال من الضمير في «عاليا» أي: كان رفيع الطبقة في الإسراف حال كونه من بينهم.

( وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ ) اخترنا بني إسرائيل بالنجاة عن الغرق، وإعطاء التوراة، وكثرة الأنبياء منهم( عَلى عِلْمٍ ) عالمين بأنّهم أحقّاء بذلك. أو مع علم منّا بأنّهم يزيغون في بعض الأحوال.( عَلَى الْعالَمِينَ ) على عالمي زمانهم( وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ) كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى( ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ) نعمة جليّة، أو اختبار ظاهر.

( إِنَّ هؤُلاءِ ) يعني: كفّار قريش، لأنّ الكلام فيهم. وقصّة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنّهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، والإنذار عن مثل ما حلّ بهم.( لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ) أي: إذا قيل لهم: إنّكم تموتون موتة يتعقّبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقّبتها حياة، قالوا: إن هي إلّا موتتنا الأولى، أي: ما الموتة الّتي من شأنها أن يتعقّبها حياة إلّا الموتة الأولى للحياة الدنيويّة دون الموتة الثانية( وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) بمبعوثين. يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم.

( فَأْتُوا بِآبائِنا ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين، أي :

٢٨٨

فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربّكم ذلك( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في وعدكم، ليكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حقّ.

وقيل: كانوا يطلبون من المؤمنين أن يدعوا الله فينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه، فإنّه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشؤن.

ولـمّا تركوا الحجّة، وعدلوا إلى الشبهة جهلا، عدل سبحانه في إجابتهم إلى الوعيد والوعظ، فقال:( أَهُمْ خَيْرٌ ) أَمشركو قريش خير في القوّة والمنعة والعدد والعدد( أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ) هو تبّع الحميري. وكان مؤمنا وقومه كافرين، ولذلك ذمّهم دونه. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أدري أَكان تبّع نبيّا أو غير نبيّ».

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا تبّعا، فإنّه كان قد أسلم».

وعن ابن عبّاس: كان نبيّا. وقيل: نظر ابن عبّاس إلى قبرين بناحية حمير فقال: هذا قبر رضوى، وقبر حبى بنت تبّع، ولا تشركان بالله شيئا. وقيل: هو الّذي كسا البيت.

وعن الصادقعليه‌السلام : «إنّ تبّع قال للأوس والخزرج، كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبيّ. أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه».

وهو الّذي سار بالجيوش، وحيّر الحيرة، وبنى سمرقند. وقيل: هدمها ثمّ بناها. وكان إذا كتب قال: بسم الله الّذي ملك برّا وبحرا، وضحّا(١) وريحا. وسمّي تبّعا لكثرة أتباعه من الناس. وقيل: لأنّه تبع من قبله من ملوك اليمن. واسمه أسعد أبو كرب. وقيل لملوك اليمن: التبابعة، كما قيل: الأقيال، لأنّهم يتقيّلون، أي: يتبعون. وسمّي الظلّ تبعا، لأنّه يتبع الشمس.

( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كعاد وثمود( أَهْلَكْناهُمْ ) استئناف بمآل قوم تبّع

__________________

(١) الضحّ: الشمس.

٢٨٩

والّذين من قبلهم، هدّد به كفّار قريش. أو حال بإضمار «قد». أو خبر من الموصول إن استؤنف به.( إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) كافرين. فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك. وهذا بيان للجامع المقتضي للإهلاك.

( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما ) وما بين الجنسين( لاعِبِينَ ) لاهين، بل خلقناهما لغرض حكمي، وهو أن ننفع المكلّفين بذلك ونعرّضهم للثواب. وهو دليل على صحّة الحشر، كما مرّ في سورة الأنبياء(١) وغيرها.

( ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) إلّا بسبب الحقّ الّذي اقتضاه الدليل، من الإيمان والطاعة، أو البعث والجزاء. أو بالأمر والنهي، والتمييز بين المحسن والمسيء.

( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) صحّة ما قلناه، لعدولهم عن النظر فيه والاستدلال على صحّته.

( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ) فصل الحقّ عن الباطل. أو المحقّ عن المبطل بالجزاء. أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبّائه.( مِيقاتُهُمْ ) وقت موعدهم( أَجْمَعِينَ ) وهو يوم القيامة.

ولـمّا ذكر سبحانه أنّ يوم الفصل ميقات الخلق يحشرهم فيه، بيّن أيّ يوم هو، فقال :

( يَوْمَ لا يُغْنِي ) بدل من «يوم الفصل» أو صفة لـ «ميقاتهم». أو ظرف لـما دلّ عليه «الفصل» لا له، للفصل. تقديره: يفصل الحقّ من الباطل يوم لا يدفع عذاب الله.( مَوْلًى ) هو الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معونة صاحبه على أموره، من قريب وحليف وغيرهما ممّن هذه صفته( عَنْ مَوْلًى ) أيّ مولى كان( شَيْئاً ) من الإغناء، أي: قليلا منه( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) الضمير لـ «مولى» الأوّل باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كلّ مولى.

__________________

(١) الأنبياء: ١٦.

٢٩٠

( إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ) رحمة بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، من فسّاق أهل الإيمان. وشفعاؤهم الأنبياء والأوصياء وصلحاء المؤمنين. ومحلّه الرفع على البدل من الواو، أي: لا يمنع من العذاب إلّا منرحمه‌الله . أو النصب على الاستثناء.( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ) لا ينصر منه من أراد تعذيبه( الرَّحِيمُ ) لمن أراد أن يرحمه.

( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) )

ثمّ وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين، فقال:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) قد سبق تفسيره في سورة الصّافّات(١) . وقد مرّ فيها أيضا أنّ ابن الزبعرى قال: إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر التزقّم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد وقال: تزقّموا، فإنّ هذا هو الّذي يخوّفكم به محمّد. فنزلت:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ) .( طَعامُ الْأَثِيمِ ) الفاجر الكثير الآثام. والمراد به الكافر، لدلالة ما قبله وما بعده عليه.

( كَالْمُهْلِ ) وهو ما يمهل في النار حتّى يذوب، من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضّة. وقيل: درديّ(٢) الزيت.( يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ) إذا حصلت في أجواف أهل النار. وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء، على أنّ الضمير للطعام أو الزقّوم لا للمهل، إذ الأظهر أنّ الجملة حال من أحدهما، لأنّ المهل إنّما ذكر للتشبيه

__________________

(١) راجع ج ٥ ص ٥٥٤ ـ ٥٥٥، ذيل الآية: ٦٢ من سورة الصافّات.

(٢) الدرديّ من الزيت ونحوه: الكدر الراسب في أسفله.

٢٩١

به في الذوب( كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) غليانا مثل غلي الحميم. وهو الماء الحارّ الّذي انتهى غليانه.

ثمّ يقال للزبانية:( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ ) فجرّوه. والعتل: الأخذ بمجامع الشيء وجرّه بقهر. وعن مجاهد: جرّوه على وجهه. وقرأ الحجازيّان وابن عامر ويعقوب بالضمّ. وهما لغتان.( إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) وسطه. سمّي وسط الشيء سواء، لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به. والسواء العدل.

( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ) كان أصله: يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم، لأنّ الحميم حقيقة هو المصبوب لا عذابه. فقيل استعارة: يصبّ من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم للمبالغة. ثمّ أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف. وزيد «من» للدلالة على أنّ المصبوب بعض هذا النوع، فيكون أهول وأهيب.

وعن مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه، فيذهب رأسه عن دماغه، ويقول له استهزاء وتقريعا على ما كان عليه من التعزّز والتكرّم على قومه:( ذُقْ ) أي: ذق هذا العذاب الشديد( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) على قومك، أو على زعمك.

وروي: أنّ أبا جهل قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بين جبليها ـ يعني: جبلي أبي قبيس وثور ـ أعزّ ولا أكرم منّي، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا.

وقيل: إنّك أنت الذليل المهين، إلّا أنّه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به.

وقرأ الكسائي: أنّك بالفتح، أي: ذق لأنّك، أو عذاب أنّك. وعن الحسن بن عليعليه‌السلام : أنّه قرأ بفتح «أنّك» على المنبر.

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)

٢٩٢

يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) )

( إِنَّ هذا ) أي: إنّ هذا العذاب( ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) تشكّون وتمارون فيه.

وبعد ذكر وعيد الكافرين المعاندين، وعد المؤمنين المطيعين، فقال:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ ) في موضع القيام. والمراد المكان. وهو من الخاصّ الّذي وقع مستعملا في معنى العموم، أي: في جميع الأمكنة وإن لم يكن ثمّة قيام. وقرأ نافع وابن عامر بضمّ الميم. وهو موضع الإقامة.( أَمِينٍ ) يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال. من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. وهو ضدّ الخائن. فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنّما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.

( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) بدل من «مقام» جيء به للدلالة على نزاهته، واشتماله على ما يستلذّ به من المآكل والمشارب.

( يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) خبر ثان. أو حال من الضمير في الجارّ والمجرور. أو استئناف. والسندس ما رقّ من الحرير. والإستبرق ما غلظ منه. وهو تعريب استبر. وإذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا، لأنّ معنى التعريب أن يجعل عربيّا بالتصرّف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب، فلا يلزم أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ أعجميّ. وقيل: هو مشتقّ من البراقة. فعربيّ محض.( مُتَقابِلِينَ ) في مجالسهم، ليستأنس بعضهم ببعض. وقيل: متقابلين بالمحبّة، لا متدابرين بالبغضة.

( كَذلِكَ ) الأمر كذلك. أو آتيناهم مثل ذلك.( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ )

٢٩٣

قرنّاهم بهنّ. ولذلك عدّي بالباء. والحور جمع الحوراء، بمعنى البيضاء. والعين جمع العيناء، بمعنى عظيمة العينين. واختلف في أنّهنّ نساء الدنيا أو غيرهنّ.

( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، لا يتخصّص شيء منها بمكان ولا زمان( آمِنِينَ ) من نفادها ومضرّتها.

( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ) بل يحيون فيها دائما. والاستثناء منقطع أو متّصل. والضمير للآخرة. والموت أوّل أحوالها. أو الجنّة، والمؤمن يشاهدها عنده، فكأنّه فيها. أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت، فكأنّه قال: لا يذوقون فيها الموت إلّا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل.

فهو من باب التعليق بالمحال. وشبّه الموت بالطعام الّذي يذاق ويتكرّه عند المذاق، ثمّ نفى أن يكون ذلك في الجنّة.

وإنّما خصّهم بأنّهم لا يذوقون الموت، مع أنّ جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت، لـما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنّة، فأمّا من يكون فيما هو كالموت في الشدّة، فإنّه لا يطلق له هذه الصفة، لأنّه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة.

( وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) وصرف عنهم عذاب النار. وهذه الآية مختصّة بمن لا يستحقّ دخول النار فلا يدخلها، أو بمن استحقّ النار فتفضّل الله عليه بالعفو فلم يدخلها. ويجوز أن يكون المراد: ووقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد، أو على الوجه الّذي يعذّب عليه الكفّار. وعلى أحد هذه الوجوه ؛ ليس للمعتزلة أن يتمسّكوا بها على أنّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار، لأنّه يكون قد وقي النار.

( فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ) أي: أعطوا كلّ ذلك عطاء وتفضّلا منه( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) لأنّه خلاص عن المكاره، وفوز بالمطالب.

٢٩٤

( فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ) سهّلناه حيث أنزلناه بلغتك. وهو فذلكة للسورة. ومعناها: ذكّرهم بالكتاب المبين.( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) إرادة أن يفهمه قومك، فيتذكّروا ما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد. فلمّا لم يتذكّروا به( فَارْتَقِبْ ) فانتظر ما يحلّ بهم من عذاب الله( إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ) منتظرون ما يحلّ بك، متربّصون بك الدوائر.

٢٩٥
٢٩٦

(٤٥)

سورة الجاثية

وتسمّى أيضا سورة الشريعة، لقوله فيها:( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) (١) .

وهي مكّيّة. وآيها سبع وثلاثون آية، كوفي.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته، وسكّن روعته عند الحساب».

وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، ولا يسمع زفير جهنّم ولا شهيقها، وهو مع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) )

__________________

(١) الجاثية: ١٨.

٢٩٧

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ) إن جعلتها اسما مبتدأ، وخبرها( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) احتجت إلى إضمار مثل: تنزيل حم. وإن جعلتها تعديدا للحروف، كان «تنزيل» مبتدأ خبره( مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ ) القادر الّذي لا يغالب( الْحَكِيمِ ) العالم الّذي أفعاله كلّها حكمة وصواب. وعلى الأوّل الجارّ صلة للتنزيل.

وقيل: «حم» مقسم به، و( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) صفته، وجواب القسم( إِنَّ فِي السَّماواتِ ) وهو يحتمل أن يكون على ظاهره الذوات. وأن يكون المعنى: إنّ في خلق السماوات( وَالْأَرْضِ لَآياتٍ ) لدلالات واضحات على أنّ لهما مدبّرا صانعا قادرا عالما( لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنتفعين بالآيات.

ويؤيّد الاحتمال الثاني قوله:( وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ ) عطف على «خلقكم». ولا يحسن عطفه على الضمير المجرور، لأنّهم استقبحوا أن يقال: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو.

ولا شبهة أنّ في بثّ الدوابّ وتنوّعها ومنافعها، والمقاصد المطلوبة منها في المعاش( آياتٌ ) دلائل على وجود الصانع المختار( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يطلبون علم اليقين بالتفكّر والتدبّر. ورفعه محمول على محلّ «إنّ» واسمها.

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم، كقولك: إنّ زيدا في الدار وعمرا في السوق، أو عمرو في السوق.

( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئهما على وتيرة واحدة. أو في اختلاف حالهما من الطول والقصر. أو في اختلافهما في أنّ أحدهما نور والآخر ظلمة.

( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ ) من مطر. وسمّاه رزقا لأنّه سببه.( فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) يبسها.

( وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ) باختلاف جهاتها وأحوالها. وقرأ حمزة والكسائي :

٢٩٨

وتصريف الريح.( آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فيه القراءتان. ويلزمهما العطف على عاملين مختلفين، وهما: «في» والابتداء، أو «إنّ». وهذا على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه. وقد أباه سيبويه. فتوجيه الآية عنده أن يكون على إضمار: في، أو ينصب «آيات» على الاختصاص، أو يرفع بإضمار: هي.

ولعلّ اختلاف الفواصل لاختلاف الآيات في الدقّة والظهور، فإنّ معنى الآيات الثلاث أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة، وأنّه لا بدّ لها من صانع، فآمنوا بالله وأقرّوا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقّلها من حال إلى حال، وهيئة إلى هيئة، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان، ازدادوا إيمانا وأيقنوا، وانتفى عنهم اللبس.

فإذا نظروا في سائر الحوادث الّتي تتجدّد في كلّ وقت، كاختلاف الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بها بعد موتها، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا، وقبولا ودبورا، عقلوا واستحكم علمهم، وخلص يقينهم.

( تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) )

٢٩٩

ولـمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة، عقّب. ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها ولم يتفكّر فيها، فقال :

( تِلْكَ آياتُ اللهِ ) أي: تلك الآيات دلائله الّتي نصبها للمكلّفين( نَتْلُوها عَلَيْكَ ) حال، وعاملها معنى الإشارة( بِالْحَقِ ) ملتبسين به، أو ملتبسة به( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ) أي: بعد آياته. وتقديم اسم «الله» للمبالغة والتعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد: أعجبني كرم زيد. أو بعد حديث الله، وهو القرآن، كقوله:( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) (١) . وآياته دلائله المتلوّة، أو القرآن.

والعطف لتغاير الوصفين، فإنّ الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيّن الحقّ من الباطل، والآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الصحيح والفاسد. وقرأ الحجازيّان وحفص وأبو عمرو وروح: يؤمنون بالياء، ليوافق ما قبله.

( وَيْلٌ ) كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار ومستحقّو العذاب. وقيل: هو واد سائل من صديد جهنّم.( لِكُلِّ أَفَّاكٍ ) كذّاب. ويطلق ذلك على من يكثر كذبه، أو يعظم كذبه، وإن كان في خبر واحد، ككذب مسيلمة في ادّعاء النبوّة( أَثِيمٍ ) كثير الآثام.

( يَسْمَعُ آياتِ اللهِ ) آيات القرآن الّتي فيها الحجّة( تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ ) يقيم على كفره( مُسْتَكْبِراً ) عن الإيمان بالآيات، مزدريا لها، معجبا بما عنده. و «ثمّ» للاستبعاد والإصرار بعد سماع الآيات، كقوله: يرى غمرات الموت ثمّ يزورها(٢) .

وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها، وأمّا

__________________

(١) الزمر: ٢٣.

(٢) لجعفر بن علبة الحارثي. وصدره :

لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّة

يرى غمرات

وابن حرّة كناية عن الكريم. والغمّاء: الداهية. وغمرات الموت: شدائده، كأحوال المعركة الشديدة. وعطف بـ «ثمّ» لـمافي لقاء الأهوال والغمرات وزيارتها بعد رؤيتها من الاستبعاد.

٣٠٠