زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 19990
تحميل: 2053


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19990 / تحميل: 2053
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

زيارتها والإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد. فمعنى «ثمّ» الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها وعاينها شيء يستبعد في العادات والطباع. وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحقّ، من تليت عليه وسمعها، كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها.

( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ) أي: كأنّه، فخفّفت وحذف ضمير الشأن. والجملة في موضع الحال، أي: يصرّ مثل غير السامع.( فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) على إصراره.

والبشارة للتهكّم، أو على الأصل، فإنّها ما يظهر أثره على البشرة مهما كان، وإن غلب استعماله في السرور.

قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامّة في كلّ من كان مضارّا لدين الله.

( وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً ) وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنّه منها( اتَّخَذَها هُزُواً ) لذلك العلم، من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، وليري العوام أنّه لا حقيقة لها، كما فعله أبو جهل حين سمع قوله:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) (١) . أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس. والضمير لـ «آياتنا». ولم يقل: اتّخذه راجعا إلى «شيئا» ـ كما هو مقتضى الظاهر ـ إشعارا بأنّه إذا سمع كلاما وعلم أنّه من الآيات، بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلّها، ولم يقتصر على ما سمعه، لفرط العناد والتوغّل في اللجاج. أو الضمير راجع إلى «شيئا» وتأنيثه لأنّه بمعنى الآية.

( أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ) من قدّامهم، لأنّهم متوجّهون إليها. أو من خلفهم، لأنّها بعد آجالهم، فإنّ الوراء اسم للجهة الّتي يواريها الشخص من خلف أو قدّام.( وَلا يُغْنِي ) ولا يدفع( عَنْهُمْ ما كَسَبُوا ) من الأموال والأولاد

__________________

(١) الدخان: ٤٣ ـ ٤٤.

٣٠١

( شَيْئاً ) من عذاب الله( وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ) أي: الأصنام( وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) لا يتحمّلونه.

( هذا هُدىً ) الإشارة إلى القرآن، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد: كامل في الرجوليّة. ويدلّ عليه قوله:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) أي: القرآن( لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) . وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع «أليم». والرجز أشدّ العذاب.

( اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) )

ثمّ نبّه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال :

( اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ) بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، ولا يمنع الغوص فيه( لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ) بتسخيره وأنتم راكبوها( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) ولتطلبوا بركوبها في أسفاركم من الأرباح، بالتجارة وغوص اللآلئ والجواهر وصيد اللحم الطريّ، وغير ذلك من المنافع( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) هذه النعم.

( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ) من الشمس، والقمر، والنجوم، والمطر، والثلج، والبرد، وغير ذلك( وَما فِي الْأَرْضِ ) من الجمادات، والنباتات، والحيوانات( جَمِيعاً ) خلقها جميعا لانتفاعنا بها، فهي مسخّرة لنا من حيث إنّا ننتفع بها على الوجه الّذي نريده( مِنْهُ ) حال من «ما» أي: كائنة منه، حاصلة من

٣٠٢

عنده. يعني: أنّه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته، ثمّ مسخّرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هي جميعا منه. أو خبر لـ «ما في السموات»، و «سخّر لكم» تكرير للتأكيد.( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في صنائعه.

( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) )

ولـمّا بيّن وحدانيّته وعلمه وحكمته، خاطب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ) حذف المقول لدلالة الجواب عليه. والمعنى: قل لهم اغفروا يغفروا، أي: يصفحوا.( لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) لا يتوقّعون وقائعه بأعدائه. من قولهم: أيّام العرب لوقائعهم. أو لا يأملون الأوقات الّتي وقّتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. قيل: إنّها منسوخة بآية القتال(١) .( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) علّة للأمر. والقوم هم المؤمنون، أو الكافرون، أو كلاهما. فيكون التنكير للتعظيم، أو التحقير، أو الشيوع. والكسب: المغفرة، أو الإساءة، أو ما يعمّهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي بالنون.

( مَنْ عَمِلَ صالِحاً ) طاعة وبرّا( فَلِنَفْسِهِ ) إذ ثواب ذلك العمل عائد إليه( وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) إذ وبال إساءته وعقابه عليه( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) أي: يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد النفع والضرّ والنهي والأمر غيره سبحانه، فيجازيكم على قدر أعمالكم.

__________________

(١) التوبة: ٥ و٢٩.

٣٠٣

( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) )

ولـمّا تقدّم ذكر النعم ومقابلتهم إيّاها بالكفران والطغيان، بيّن عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم بالكفران، فقال :

( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) التوراة( وَالْحُكْمَ ) والحكمة النظريّة والعمليّة في الدين. أو فصل الخصومات.( وَالنُّبُوَّةَ ) إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. وقد روي أنّه كان فيهم ألف نبيّ.( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ممّا أحلّ الله لهم من أنواع الأرزاق( وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) على عالمي زمانهم، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

وقيل: فضّلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم، وإن كان أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل منهم في كثرة المطيعين المخبتين الأخيار من آله، وكثرة المطيعين لله والمجتهدين العلماء فيهم. وهذا كما يقال: هذا أفضل في علم النحو ،

٣٠٤

وذاك في علم الفقه. والفضل الخير الزائد على غيره. فأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل بفضل محمّد وآله، وكثرة العلماء الراسخين منهم.

( وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ) أدلّة في أمر الدين. ويندرج فيها المعجزات. وقيل: آيات من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مبيّنات لصدقه( فَمَا اخْتَلَفُوا ) في ذلك الأمر( إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) ما هو موجب لزوال الخلاف، وهو العلم بحقيقة الحال.

( بَغْياً بَيْنَهُمْ ) عداوة وحسدا، وطلبا للرئاسة، وأنفة من الإذعان للحقّ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) بالمؤاخذة والمجازاة له.

( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ) على طريقة ومنهاج من أمر الدين بعد موسى وقومه، فإنّ الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية، كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء. فهي علامة منصوبة على الطريق ـ من الأمر والنهي ـ يؤدّي إلى الجنّة، كما يؤدّي ذلك إلى الوصول إلى الماء.

( فَاتَّبِعْها ) فاتّبع شريعتك الثابتة بالحجج، واعمل بها( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) آراء الجهّال التابعة للشهوات، من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم، وحبّا للرئاسة، واستتباعا للعوام.

( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا ) لن يدفعوا( عَنْكَ مِنَ اللهِ ) من عذابه( شَيْئاً ) ممّا أراد بك إن اتّبعت أهواءهم( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) إذ الجنسيّة علّة الضمّ، فلا توالهم باتّباع أهوائهم( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) ناصرهم وحافظهم. فلا تشغل قلبك بتناصرهم وتعاديهم عليك، فإنّ الله ينصرك ويحفظك. فواله بالتقى واتّباع الشريعة.

( هذا ) أي: القرآن، أو اتّباع الشريعة( بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) بيّنات تبصّرهم أمور دينهم. جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا وحياة( وَهُدىً ) من الضلالة( وَرَحْمَةٌ ) ونعمة من الله( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يطلبون اليقين، لأنّهم هم المنتفعون به.

٣٠٥

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) )

ثمّ قال سبحانه للكفّار على سبيل التوبيخ لهم:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ) «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. والاجتراح: الاكتساب. ومنه: الجوارح. وفلان جارحة أهله، أي: كاسبهم.( أَنْ نَجْعَلَهُمْ ) أن نصيّرهم( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) أي: مثلهم. وهو ثاني مفعولي «نجعل». والجملة الّتي هي قوله:( سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ) بدل من الكاف، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ألا ترى لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم، كان سديدا، كما تقول: ظننت زيدا أبوه منطلق.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص: سواء بالنصب ـ بمعنى: مستويا ـ على البدل، ومحياهم ومماتهم على الفاعليّة. فكان مفردا غير جملة. أو على الحال من الضمير في الكاف، أو المفعوليّة، والكاف حال.

والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء، حيث ينصر الله المؤمنين في الدنيا، ويمكّنهم من المشركين، ولا ينصر الكافرين، ولا يمكّنهم من المسلمين، وينزّل الملائكة عند

٣٠٦

الموت على المؤمنين بالبشرى، وعلى الكافرين بضرب وجوههم وأدبارهم. أو حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم.

وقيل: معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحّة، وإنّما يفترقون في الممات.

وقيل: سواء محياهم ومماتهم كلام مستأنف، على معنى: أنّ محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم، فإنّ كلّا يموت على حسب ما عاش عليه، فلا يكون حال هؤلاء مساوية لهؤلاء.

وقيل: الضمير للكفّار. والمعنى: أنّهم يتساوون محيا ومماتا، لأنّ الحيّ متى لم يفعل الطاعة فهو بمنزلة الميّت.

( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) ساء حكمهم هذا. أو بئس شيئا حكموا به ذلك.

وعن تميم الداري: أنّه كان يصلّي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردّدها إلى الصباح.

وعن الفضيل: أنّه بلغها فجعل يردّدها ويبكي ويقول: يا فضيل، ليت شعري من أيّ الفريقين أنت.

( وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) أي: لم يخلقهما عبثا، وإنّما خلقهما لنفع خلقه، بأن يكلّفهم ويعرّضهم للثواب الجزيل. وهذا كالدليل على الحكم السابق، من حيث إنّ خلق ذلك بالحقّ المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المسيء والمحسن في المحيا وبعد الممات.

( وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) عطف على «بالحقّ» لأنّه في معنى العلّة. أو على علّة محذوفة، مثل: ليدلّ بها على قدرته. أو ليعدل ولتجزى.( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب.

٣٠٧

( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) بأن يكون مطواعا لهوى النفس، يتّبع كلّ ما تدعوه إليه، فيترك متابعة الهدى رأسا إلى مطاوعة الهوى، فلا يهوى شيئا إلّا ركبه، فكأنّه يعبده كما يعبد الرجل إلهه( وَأَضَلَّهُ اللهُ ) وخذله وخلّاه( عَلى عِلْمٍ ) عالما بأنّ اللطف لا يجديه، ويستحقّ التخلية والخذلان. أو مع علمه بوجوه الهداية، وإحاطته بأنواع الألطاف المحصّلة والمقرّبة.

( وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) خذلانا. فلا يبالي بالمواعظ، ولا يتفكّر في الآيات.( وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ) تخلية. فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار. ومرّ تفسير(١) الطبع والختم والإضلال والغشاوة غير مرّة. وقرأ حمزة والكسائي: غشوة.

( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) من بعد إضلاله ومنع ألطافه.( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أَفلا تتّعظون بهذه المواعظ؟ وهذا استبطاء بالتذكّر منهم.

( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) )

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٦٠، ذيل الآية ٧ من سورة البقرة، وغيرها.

٣٠٨

ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال:( وَقالُوا ما هِيَ ) ما الحياة أو الحال( إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الّتي نحن فيها( نَمُوتُ وَنَحْيا ) أي: نكون أمواتا نطفا وما قبلها، ونحيا بعد ذلك. أو نموت بأنفسنا، ونحيا ببقاء أولادنا. أو يموت بعضنا، ويحيا بعضنا. أو يصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة. ويحتمل أنّهم أرادوا به التناسخ، فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.

( وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا مرور الزمان. وهو في الأصل مدّة بقاء العالم، من: دهره إذا غلبه.

والمعنى: أنّهم قالوا: المؤثّر في هلاك أنفسنا ليس إلّا مرور الزمان، وكرور الليالي والأيّام. فينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواح بأمر الله. وكانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر والزمان. وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان. ومنه قولهعليه‌السلام : «لا تسبّوا الدهر هو الله». أي: فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.

( وَما لَهُمْ بِذلِكَ ) بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلّق بها( مِنْ عِلْمٍ ) أي: ما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظنّ وتخمين( إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) إذ لا دليل لهم عليه، وإنّما قالوه بناء على التقليد.

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ) واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم. أو مبيّنات له.( ما كانَ حُجَّتَهُمْ ) ما كان لهم ما يتمسّك به في مقابلتها( إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا ) أي: أحيوهم حتّى نعلم أنّ الله قادر على بعثنا( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وإنّما سمّاه حجّة وليس بحجّة، لأنّه في حسبانهم حجّة، فساقه مساقها. أو لأنّه في أسلوب قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع(١) . كأنّه قيل: إلّا ما ليس بحجّة.

__________________

(١) لعمرو بن معد يكرب. وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.

وتقدّم شرحه في ج ٢ ص ٢٨٨.

٣٠٩

والمراد نفي أن يكون لهم حجّة البتّة. فسمّيت حجّة على سبيل التهكّم.

وإنّما لم يجبهم الله إلى ذلك، لأنّهم إنّما قالوا ذلك متعنّتين مقترحين، لا طالبين الرشد. ولهذا خاطب سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رادّا عليهم قولهم بقوله:( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ) في دار الدنيا، لأنّه لا يقدر على الإحياء أحد سواه( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) عند انقضاء آجالكم( ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) بأن يبعثكم ويعيدكم أحياء( لا رَيْبَ فِيهِ ) لقيام الحجّة على أنّ من قدر على فعل الحياة في وقت، قدر على فعلها في كلّ وقت. فلمّا كان يقدر على الإبداء، فلا ريب أنّه يقدر على الإعادة، بل كانت أهون عليه من الإبداء. وأيضا الحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مرّ مرارا، والوعد المصدّق بالآيات دلّ على وقوعها، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم، لكنّ الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء.

( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) لقلّة تفكّرهم، وقصور نظرهم على ما يحسّونه.

( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ

٣١٠

لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧) )

( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) تعميم المقدرة بعد تخصيصها( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) أي: ويخسر العادلون عن الحقّ الفاعلون للباطل يوم تقوم الساعة. و «يومئذ» بدل منه.

( وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ) مجتمعة. من الجثوة، وهي الجماعة. وجمعها: جثيّ. وفي الحديث: «من جثى جهنّم»(١) .

أو باركة مستوفزة(٢) على الركب.( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) صحائف أعمالها. فاكتفى باسم الجنس، كقوله :

__________________

(١) هذه قطعة من حديث الحرث بن الحرث الأشعري قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم ...»: وجثى جمع الجثوة، وهي: الحجارة المجموعة. انظر مسند أحمد ٤: ١٣٠.

(٢) استوفز في قعدته: قعد غير مطمئن، كأنه يتهيأ للوثوب.

٣١١

( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) (١) . وقرأ يعقوب: كلّ، على أنّه بدل الأولى.

و «تدعى» صفة، أو مفعول ثان.( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) محمول على القول، تقديره: يقال لهم هذا القول. وإضافة الكتاب إليهم للملابسة، فإنّ أعمالهم مثبتة فيه. وقيل: المراد كتابها المنزل على رسولها ليسألوا عمّا عملوا به.

( هذا كِتابُنا ) أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه، لأنّه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ) نستكتب الملائكة( ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أعمالكم.

وعن ابن عبّاس: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يشهد بما قضي فيه من خير وشرّ. وعلى هذا ؛ فيكون معنى «نستنسخ»: أنّ الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوّن عنده من أحوال العباد، من الكافرين والمؤمنين.

( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) في جنّته( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) الفلاح الظاهر، لخلوصه عن الشوائب.

( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي ) أي: فيقال لهم: ألم يأتكم رسلي، فلم تكن آياتي( تُتْلى عَلَيْكُمْ ) فحذف القول والمعطوف عليه، اكتفاء بالمقصود، واستغناء بالقرينة( فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) عن الإيمان بها، وتعظّمتم عن قبولها( وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) أي: كافرين، كما قال:( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) (٢) .

( وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ ) يحتمل الموعود به، أي: ما وعد الله به من الثواب والعقاب. أو المصدر.( حَقٌ ) كائن هو أو متعلّقه لا محالة( وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) في حصولها. إفراد للمقصود، عطفا على محلّ «إنّ» واسمها. وقرأ حمزة بالنصب، عطفا على اسمها.

__________________

(١) الكهف: ٤٩.

(٢) القلم: ٣٥.

٣١٢

( قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) أيّ شيء الساعة؟ استغرابا لها( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ) أصله: نظنّ ظنّا، فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظنّ ونفي ما عداه، كأنّه قال: ما نحن إلّا نظنّ ظنّا. أو لنفي ظنّهم فيما سوى ذلك مبالغة. ثمّ أكّده بقوله:( وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي: لإمكانه.

( وَبَدا لَهُمْ ) ظهر لهم( سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) على ما كانت عليه، بأن عرفوا قبحها، وعاينوا وخامة عاقبتها. أو جزاؤها. وتسميته بها من قبيل( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (١) .( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي: جزاء استهزائهم.

( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ) نترككم في العذاب ترك ما ينسى( كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) كما تركتم مقتضى عدته، ولم تبالوا به. وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، كمعنى إضافة المكر في قوله:( مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) (٢) أي: نسيتم لقاء جزاء الله في يومكم هذا.( وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) يخلّصونكم منها، ويدفعونها عنكم.

( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً ) استهزأتم بها، ولم تتفكّروا فيها( وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) بحسنها وزينتها، فحسبتم أن لا حياة سواها( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها ) وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضمّ الراء.( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم ـ أي: يرضوه ـ لفوات أوانه. يقال: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرّتي راجعا عن الإساءة.

( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) إذ الكلّ نعمة منه، ودالّ على كمال قدرته. فاحمدوه، فإنّ مثل هذه الربوبيّة العامّة يوجب الحمد والثناء على كلّ مربوب.

__________________

(١) الشورى: ٤٠.

(٢) سبأ: ٣٣.

٣١٣

( وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) إذ ظهر فيها آثار كبريائه وعظمته. فكبّروه، فإنّ حقّ مثله أن يكبّر ويعظّم. وفي الحديث: «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنّم».( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) الّذي لا يغلب( الْحَكِيمُ ) فيما قدّر وقضى. فاحمدوه، وكبّروه، وأطيعوا له.

٣١٤

(٤٦)

سورة الأحقاف

مكّيّة. قال ابن عبّاس وقتادة: إلّا آية منها نزلت بالمدينة:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (١) في عبد الله بن سلام.

وهي خمس وثلاثون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الأحقاف، أعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات».

وعن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه الله بروعة في الدنيا، وآمنه من فزعه يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا

__________________

(١) الأحقاف: ١٠.

٣١٥

مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) )

ولـمّا ختم الله سورة الجاثية بذكر التوحيد، وذمّ أهل الشرك والوعيد، افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) قد مرّ(١) تفسيره( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) إلّا خلقا ملتبسا بالحقّ. وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة. وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، والبعث للمجازاة، على ما قرّرناه مرارا.( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) وبتقدير أجل مسمّى ينتهي إليه الكلّ. وهو يوم القيامة. أو أجل كلّ واحد. وهو آخر مدّة بقائه المقدّرة له.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا ) أنذروه من هول ذلك اليوم الّذي لا بدّ لكلّ خلق من انتهائه إليه. ويجوز أن تكون «ما» مصدريّة، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم.

__________________

(١) راجع ص ٢٩٨، ذيل الآية ٢ من سورة الجاثية.

٣١٦

( مُعْرِضُونَ ) عادلون عن أن يتفكّروا فيه، ويستعدّوا لحلوله.

( قُلْ ) لهؤلاء الكفرة( أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) من الأصنام( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمّل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم، فتستحقّ به العبادة؟ وتخصيص الشرك بالسماوات احتراز عمّا يتوهّم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفليّة.

( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ) من قبل هذا الكتاب، يعني: القرآن، فإنّه ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، فإنّه ما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلّا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحّة ما أنتم عليه من عبادة غير الله.

( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أو بقيّة من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين. هل فيها ما يدلّ على استحقاقهم للعبادة؟ من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي: على بقيّة شحم كانت بها.( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في دعواكم، أي: هاتوا إحدى هذه الحجج الثلاث. أولاها: دليل العقل. والثانية: الكتاب. والثالثة: الخبر المتواتر. فإذا لم يمكنكم شيء من ذلك فقد وضح بطلان دعواكم.

( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ) من الجنّ والإنس والأوثان. ومعنى الاستفهام فيه: إنكار أن يكون أحد أضلّ من المشركين، حيث تركوا عبادة السميع المجيب الخبير، القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، إلى عبادة( مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ) دعاءه، فضلا أن يعلم سرائره، ويراعي مصالحه( إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) أي: أبدا ما دامت الدنيا( وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ) لأنّهم إمّا جمادات، وإمّا عباد مشتغلون بأحوالهم.

( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) يضرّونهم ولا ينفعونهم، كقوله تعالى :

٣١٧

( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) (١) ( وَكانُوا ) وكانت آلهتهم( بِعِبادَتِهِمْ ) بعبادة عبدتهم( كافِرِينَ ) مكذّبين بلسان الحال أو المقال. وقيل: الضمير للعابدين. وهو كقوله:( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (٢) . وعلى الأوّل كنّي عن الآلهة بالواو والنون، لأنّه أضيف إليها ما يكون للعقلاء، كقوله:( رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (٣) .

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ) حجج وشواهد من القرآن، وسائر المعجزات الّتي ظهرت على يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( بَيِّناتٍ ) واضحات، أو مبيّنات( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ ) لأجله وفي شأنه. فاللام فيه كما في قوله:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ) (٤) . والمراد بالحقّ الآيات، وبالّذين كفروا المتلوّ عليهم. فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليها بالحقّ، وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة( لَمَّا جاءَهُمْ ) أي: بادروه بالجحود ساعة أتاهم وأوّل ما سمعوه، من غير نظر وتأمّل، عنادا ولجاجا( هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ظاهر بطلانه.

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إضراب عن ذكر تسميتهم إيّاه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه، وهو إسناد الافتراء إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومعنى الهمزة الإنكار والتعجيب. كأنّه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر الموجب للتعجّب. وذلك أنّ محمدا كان لا يقدر عليه حتّى يقوله ويفتريه على الله، وذلك باطل، لأنّه قدر عليه دون أمّة العرب، فكانت قدرته عليه معجزة، لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدّق الكاذب، فلا يكون مفتريا.

( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ) على الفرض( فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي: إن

__________________

(١) مريم: ٨٢.

(٢) الأنعام: ٢٣.

(٣) يوسف: ٤.

(٤) الأحقاف: ١١.

٣١٨

عاجلني الله بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرض نفسي للعقاب، من غير توقّع نفع ولا دفع ضرّ من قبلكم؟!( هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ) تندفعون فيه من القدح في آياته، بتسميتها سحرا تارة وافتراء اخرى( كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار. وهو وعيد بجزاء إفاضتهم.( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرأتهم.

( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) )

روي: أنّهم كانوا يقترحون عليه الآيات، ويسألونه عمّا لم يوح به إليه من الغيوب، فنزلت :

( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) البدع بمعنى البديع، كالخفّ بمعنى الخفيف. والمعنى: ما كنت بديعا ـ أي: لست بأوّل رسول بعث ـ فآتيكم بكلّ ما تقترحونه، وأخبركم بكلّ ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلّا بما أوحى إليهم، ولم يقدروا على المقترحات إلّا بمشيئة الله، فكيف أقدر على مقترحاتكم؟!

( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا. فلا أدري أَأموت أم أقتل؟ ولا أدري أيّها المكذّبون أَترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم؟ أو غير ذلك من أنواع العقاب على الأمم المكذّبة في الدنيا، إذ لا علم لي بالغيب. وأمّا في الآخرة ؛ فإنّه قد علم أنّه في الجنّة، وأنّ من كذّبه في النار. وهذا الوجه منقول عن الحسن والسدّي.

٣١٩

وعن الكلبي: قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه ـ وقد ضجروا من أذى المشركين ـ: حتّى متى نكون على هذا؟ فقال: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أَأترك بمكّة، أم أؤمر بالمهاجرة عنها إلى بلد آخر؟».

وعن ابن عبّاس معناه: لا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. ثمّ قال: هي منسوخة بقوله:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (١) .

ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصّلة، أي: لا أدري ما يصنع بي وبكم على التفصيل؟ لأنّه عالم بحاله وحالهم على الإجمال.

واعلم أنّ لفظة «لا» مزيدة لتأكيد النفي المشتمل على «ما يفعل بي». و «ما» إمّا موصولة منصوبة، أو استفهاميّة مرفوعة.

( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ ) لا أتجاوزه. وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عمّا لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من أذى المشركين.( وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ ) من عقاب الله( مُبِينٌ ) بيّن الإنذار بالشواهد المبيّنة والمعجزات المصدّقة.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) )

روي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا قدم من مكّة إلى المدينة، نظر ابن سلام إلى وجهه، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب. وتأمّله فتحقّق أنّه هو النبيّ المنتظر. وقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ. ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟

__________________

(١) الفتح: ٢.

٣٢٠