زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20032
تحميل: 2074


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20032 / تحميل: 2074
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله أهل مكّة.

فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم كما مرّ، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقّروا وتحلّموا.

ولـمّا ذمّ الكفّار بالحميّة، ومدح المؤمنين بلزوم الكلمة والسكينة، بيّن علمه ببواطن سرائرهم وما ينطوي عليه عقد ضمائرهم، فقال :

( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ) بالتوفيق وإعطاء اللطف. وهي كلمة: بسم الله الرحمن الرحيم ومحمّد رسول الله، فاختارها لهم. أو كلمة الشهادة. وعن الحسن: هي الوفاء بالعهد، والثبات عليه. وإضافة الكلمة إلى التقوى، لأنّها سببها وأساسها.

أو كلمة أهلها.( وَكانُوا أَحَقَّ بِها ) من غيرها، وأولى بالهداية من غيرهم( وَأَهْلَها ) ومستأهلها( وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) فيعلم أهل كلّ شيء وييسّره له.

( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ

٤٠١

وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩) )

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكّة آمنين وقد حلقوا وقصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا، وحسبوا أنّهم داخلوها في عامهم. وقالوا: إنّ رؤيا رسول الله حقّ. فلمّا تأخّر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحارث: والله ما حلقنا، ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت :

( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) أي: صدّقه في رؤياه، ولم يكذّبه. فحذف الجارّ وأوصل الفعل، كقوله تعالى:( ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) (١) ( بِالْحَقِ ) ملتبسا به، فإنّ ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدّر، وهو العام القابل. وهو إمّا متعلّق بـ «صدق» أي: صدّقه فيما رأى، وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحقّ، أي: بالغرض الصحيح والحكمة البالغة. وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمنين المخلصين، وبين من في قلبه مرض نفاق.

ويجوز أن يتعلّق بالرؤيا حالا منها، أي: صدّقه الرؤيا ملتبسة بالحقّ، على معنى أنّها لم تكن من أضغاث الأحلام.

ويجوز أن يكون «بالحقّ» قسما. إمّا بالحقّ الّذي هو نقيض الباطل. أو بالحقّ الّذي هو من أسمائه تعالى.

__________________

(١) الأحزاب: ٢٣.

٤٠٢

( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) يعني: العام المقبل. وهو جواب القسم. وعلى الأوّل جواب قسم محذوف.( إِنْ شاءَ اللهُ ) تعليق للعدة بالمشيئة، تعليما للعباد أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدّبين بأدب الله، ومقتدين بسنّته. أو إشعارا بأنّ بعضهم لا يدخل، لموت أو غيبة. والمعنى: لتدخلنّ جميعا إن شاء الله، ولم يمت منكم أحدا. أو حكاية لـما قاله ملك الرؤيا أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه.

( آمِنِينَ ) حال من الواو، والشرط معترض( مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) أي: محلّقا بعضكم، ومقصّرا آخرون( لا تَخافُونَ ) حال مؤكّدة، أو استئناف، أي: لا تخافون بعد ذلك.

( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا ) من الحكمة( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ ) من دون دخولكم المسجد الحرام، أو فتح مكّة( فَتْحاً قَرِيباً ) وهو فتح خيبر، ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسّر الموعود.

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ) ملتبسا بالدليل الواضح والحجّة الساطعة.

وقيل: بالقرآن، أو بسببه، أو لأجله.( وَدِينِ الْحَقِ ) وبدين الإسلام( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ليغلبه على جنس الدين كلّه. يريد الأديان المختلفة، من المشركين والجاحدين وأهل الكتاب. وذلك بنسخ ما كان حقّا، وإظهار فساد ما كان باطلا. أو بتسليط المؤمنين على أهله، إذ ما من أهل دين إلّا وقد قهرهم المسلمون. وفيه تأكيد لـما وعده من الفتح. قيل: إنّ تمام ذلك عند خروج المهديّعليه‌السلام ، فلا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام.( وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) على أنّ ما وعده كائن لا محالة. أو على نبوّته بإظهار المعجزات.

( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) جملة مبيّنة للمشهود به. ويجوز أن يكون «رسول الله» صفة و «محمّد» خبر محذوف. أو مبتدأ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) معطوف عليه، وخبرهما( أَشِدَّاءُ ) جمع شديد( عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ ) جمع رحيم( بَيْنَهُمْ ) . والمعنى: أنّهم

٤٠٣

يغلظون على من خالف دينهم، ويتراحمون فيما بينهم، كقوله:( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) (١) .

وعن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفّار أنّهم كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم. وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنّه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه. ومن حقّ المؤمنين في كلّ زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطّف، فيتشدّدوا على من ليس على ملّتهم ودينهم ويتحاموه، ويعاشروا إخوتهم في الإيمان، متعطّفين بالبرّ والصلة، وكفّ الأذى، والمعونة، والأخلاق الكريمة.

( تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) لأنّهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ) يلتمسون بذلك زيادة نعمة من الله، ويطلبون مرضاته( سِيماهُمْ ) علامتهم( فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) يريد السمة الّتي تحدث في جبهة السجّاد من كثرة السجود. فعلى، من: سامه إذا أعلمه. و( مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) بيانها. أو حال من المستكن في الجارّ. وكان عليّ بن الحسين يقال له: ذو الثفنات، لأنّ كثرة سجوده أحدثت في مواقعه منه أشباه ثفنات(٢) البعير.

وقيل: السيماء هو صفرة الوجه من خشية الله.

وعن الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى.

وعن سعيد بن المسيّب: ندى الطهور، وتراب الأرض.

وعن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية: هو التراب على الجباه، لأنّهم يسجدون على التراب لا على الأثواب.

__________________

(١) المائدة: ٥٤.

(٢) ثفنات جمع ثفنة. وهي من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ، كالركبتين.

٤٠٤

وعن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».

روي عن ابن عبّاس وعطيّة معناه: علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا.

وقال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر.

( ذلِكَ ) إشارة إلى الوصف المذكور، أو إشارة مبهمة يفسّرها «كزرع»( مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ) صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها( وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) عطف عليه، أي: ذلك مثلهم في الكتابين. وقوله:( كَزَرْعٍ ) تمثيل مستأنف، أو تفسير( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) فراخه. يقال: أشطأ الزرع إذا فرّخ(١) . وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان: شطأه بفتحات. وهو لغة.( فَآزَرَهُ ) فقوّاه. من المؤازرة، وهي المعاونة. أو من الإيزار، وهي الإعانة. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان: فئازره، كأجر في: آجر.

( فَاسْتَغْلَظَ ) فصار من الدقّة إلى الغلظة( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) فاستقام على قصبه. جمع ساق. وعن ابن كثير: سؤقه بالهمزة. وقيل: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) بغلظه وكثافته وو قوّته وحسن منظره. وهو مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقّيه في الزيادة يوما فيوما إلى أن قوي واستحكم، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام وحده، ثمّ قوّاه الله بمن آمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها ممّا يتولّد منها. فكثر المؤمنون، واستحكم دين الإسلام، فترقّى أمرهم بحيث أعجب الناس.

__________________

(١) الشطء والشطأ: ورق الزرع. وفرّخ الشجر: نبتت فراخه. والفراخ جمع الفرخ: ما يخرج في أصول الشجر من صغار الورق.

٤٠٥

قال الواحدي: «الزرع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشطء أصحابه، والمؤمنون حوله. وكانوا في ضعف وقلّة، كما يكون أوّل الزرع دقيقا ثمّ غلظ وقوي وتلاحق، كذلك المؤمنون في بدء الإسلام قليلون، ثمّ بعضهم عاون بعضا في نصرة دين الله، حتّى استغلظوا واستووا على أمرهم»(١) .

( لِيَغِيظَ بِهِمُ ) بتوافرهم وتظاهرهم واتّفاقهم على إطاعة الله( الْكُفَّارِ ) وهذا علّة لتشبيههم بالزرع في نمائهم وترقّيهم في الزيادة والقوّة. أو لقوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) فإنّ الكفّار لـمّا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة، من مغفرة الذنوب والثواب العظيم والنعيم المقيم، مع ما يعزّهم به في الدنيا، غاظهم ذلك. و «منهم» للبيان، كقوله:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير الوسيط ٤: ١٤٧.

(٢) الحجّ: ٣٠.

٤٠٦

(٤٩)

سورة الحجرات

مدنيّة. وعن ابن عبّاس: إلّا آية قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ ) (١) . وهي ثماني عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الحجرات، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم، كان من زوّار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الفتح بذكر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، وما يختصّ به من الإجلال والإعظام، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ) أي: لا تقدّموا أمرا ،

__________________

(١) الحجرات: ١٣.

٤٠٧

فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كلّ ما يمكن. أو ترك ليقصد توجّه النهي إلى نفس التقدمة، فيكون المقصود نفي التقدّم رأسا، كأنّه قيل: لا تقدّموا على التلبّس بهذا التقدّم، ولا تجعلوه منكم بسبيل. ويجوز أن يكون من: قدّم بمعنى: تقدّم، كوجّه وبيّن بمعنى: توجّه وتبيّن، كأنّه قيل: لا تتقدّموا. ومنه: مقدّمة الجيش لمتقدّميهم. ويؤيّده قراءة يعقوب: لا تقدموا.

( بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أمامهما. مستعار لـما بين الجهتين المسامتتين ليمين الإنسان وشماله قريبا منه. فسمّيت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسّعا، كما يسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه. فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يجاوره. وفي ضمن هذه الاستعارة فائدة جليلة ليست في الكلام الحقيقي. وهي: تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء(١) على أمثلة الكتاب والسنّة. والمعنى: لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به ويأذنا فيه.

وقيل: المراد بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وذكر الله تعظيم له، وإشعار بأنّه من الله بمكان ومزيد تقرّب يوجب إجلاله. فهذا يجري مجرى قولك: سرّني زيد وحسن حاله، وأعجبني عمرو وكرمه.

( وَاتَّقُوا اللهَ ) في التقديم، أو مخالفة الحكم( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ) لأقوالكم( عَلِيمٌ ) بأفعالكم، وحقّ مثله أن يتّقى عمّا نهاه.

عن ابن عبّاس: نهوا بهذه الآية أن يتكلّموا قبل كلامه، أي: إذا كنتم جالسين في مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسئل عن مسألة، فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا.

وعن السدّي معناه: لا تسبقوه بقول ولا فعل حتّى يأمركم به.

__________________

(١) احتذى مثال فلان وعلى مثاله: اقتدى وتشبّه به.

٤٠٨

وقال الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد، فأمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعادة.

وقيل: معناه: لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الّذي أمر الله ورسوله به، حتّى إنّه قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.

وقيل: معناه: لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول الله، بل كونوا تبعا له، وأخّروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله.

والأولى حمل الآية على الجميع، فإنّ كلّ شيء كان خلافا لله ورسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي الله ورسوله، وذلك ممنوع منه.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) )

ولـمّا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الله من المكان الّذي لا يخفى، ومن أحظاه الله بهذه الأثرة، واختصّه بهذا الاختصاص القويّ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت، ويخافت له بالكلام، نهى عباده أن يرفعوا

٤٠٩

أصواتهم فوق صوت نبيّه المكرّم لديه نهاية القصوى، ورسوله المقرّب بين يديه غاية الزلفى، فقال :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ ) أي: إذا كلّمتموه وكلّمكم فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته عند المكالمة، لأنّ فيه أحد شيئين: إمّا نوع استخفاف به، فهو الكفر، وإمّا سوء الأدب، فهو خلاف التعظيم المأمور به. وتكرير النداء استدعاء مزيد الاستبصار، أو تجديده عند كلّ خطاب وارد. والمبالغة في الاتّعاظ، لئلّا يفتروا ويغفلوا عن تأمّلهم. والدلالة على استقلال المنادى له، وهو النهي عن رفع الصوت، وزيادة الاهتمام به.

( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ ) أي: جهرا مثل جهر بعضكم( لِبَعْضٍ ) أي: إذا كلّمتموه وهو صامت فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض، بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتّى تكون مزيّته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، محاماة على التعظيم، ومراعاة للأدب. فالصوت الّذي لا يستلزم سوء الأدب وتأذّي النبيّ لا يكون منهيّا عنه، كرفعه منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ، وما أشبه ذلك. ففي الحديث أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للعبّاس بن عبد المطّلب لـمّا انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس». وكان العبّاس أجهر الناس صوتا. يروى أنّ غارة أتتهم يوما فصاح العبّاس: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته.

وقيل: معناه: ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا، وخاطبوه بالنبيّ والرسول، لـما روي عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ الآية نزلت في نفر من بني العنبر كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصاب من ذراريهم، فأقبلوا في فدائهم، فقدموا المدينة ودخلوا المسجد، وعجلوا أن يخرج إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلوا يقولون: يا محمّد اخرج إلينا.

٤١٠

وقال محمد بن إسحاق: نزلت في وفد تميم. وهم: عطارد بن حاجب بن زرارة، في أشراف من بني تميم، منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهثم، وقيس بن عاصم، في وفد عظيم. فلمّا دخلوا المسجد نادوا رسول الله من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمّد. فآذى ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إليهم. فقالوا: جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا.

فقال: قد أذنت.

فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الّذي جعلنا ملوكا، الّذي له الفضل علينا، والّذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل بها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق، وأكثر عددا وعدّة. فمن مثلنا في الناس؟ فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا. ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنّا نستحي من الإكثار. ثمّ جلس.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه.

فقام فقال: الحمد لله الّذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يكن شيء قطّ إلّا من فضله. ثمّ كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمهم نسبا، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسبا. فأنزل عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله على العالمين. ثمّ دعا الناس إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسنهم وجوها. فكان أوّل الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله نحن. فنحن أنصار رسول الله وردؤه(١) ، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا. فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن نكث جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد. وأجابه حسّان بن ثابت.

__________________

(١) الردء: الناصر والعون.

٤١١

فلمّا فرغ حسّان بن قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا.

فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأحسن جوائزهم، وأسلموا. فنهاهم الله سبحانه عن أن ينادوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه.

( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ ) كراهة أن تحبط. فيكون علّة للنهي. أو لأن تحبط، على أنّ النهي عن الفعل المعلّل باعتبار التأدية والعاقبة، لأنّه لـمّا كان بصدد الأداء إلى الحبوط كأنّه فعل لأجله، وكأنّه العلّة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى:( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ) (١) . فإنّ في الجهر ورفع الصوت عنده أو ندائه باسمه استخفافا، وقد يؤدّي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضمّ إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة.( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) أنّها محبطة.

والحبوط من: حبطت الإبل إذا أكلت الخضر، فنفخ بطونها، وربّما هلكت. والمفعول له ـ أعني: «أن تحبط» ـ متعلّق بالفعل الثاني عند البصريّين، مقدّر إضماره عند الفعل الأوّل، كقوله تعالى:( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) (٢) . وعند الكوفيّين بالعكس. وأيّهما كان ؛ فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل.

واعلم أنّ المراد بحبوط العمل حبوط ثواب ذلك العمل، لا للأعمال الصالحة السابقة على هذا العمل، إذا لم يستلزم الكفر لقصد الاستخفاف والإهانة. والمعنى: أنّهم لو أوقعوا العمل على وجه تعظيم النبيّ وتوقيره لاستحقّوا الثواب، فلمّا فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب.

__________________

(١) القصص: ٨.

(٢) الكهف: ٩٦.

٤١٢

روي عن أنس: أنّ ثابت بن قيس كان في أذنه وقر(١) ، وكان جهوريّا، فلمّا نزلت تخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتفقّده ودعاه فسأله، فقال: يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية، وإنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لست هناك، إنّك تعيش بخير وتموت بخير، وإنّك من أهل الجنّة».

ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله ويوقّره، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ ) يخفضون( أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ) مراعاة للأدب إجلالا له، أو مخافة عن مخالفة النهي( أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) جرّبها( لِلتَّقْوى ) ومرّنها عليها. من قولك: امتحن فلان لأمر كذا، وجرّب له، ودرّب للنهوض به، فهو مضطلع به، غير وان(٢) عنه. والمعنى: أنّهم صابرون على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقّها.

وقيل: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقّق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها. وحينئذ تكون اللام متعلّقة بمحذوف. فكأنّه قيل: عرفها كائنة للتقوى، خالصة لها. ويجوز أن تكون متعلّقة بالفعل باعتبار الأصل، إذ المعنى: ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقّة لأجل التقوى. لأنّ حقيقة التقوى لا تعلم إلّا عند المحن والشدائد، والاصطبار على التقوى. أو أخلصها للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه وميّز إبريزه(٣) من خبثه ونقّاه.

( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) لذنوبهم( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) لغضّهم وسائر طاعاتهم.

واعلم أنّ هذه الآية بنظمها الّذي رتّبت عليه، من إيقاع الغاضّين أصواتهم اسما لـ «إنّ» المؤكّدة، وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا، والمبتدأ اسم الإشارة، ثمّ استئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد

__________________

(١) وقرت أذنه وقرا: ثقلت أو ذهب سمعه.

(٢) ونى يني: فتر وضعف وكلّ وأعيا، فهو: وان.

(٣) الإبريز: الذهب الخالص. وهي كلمة يونانيّة.

٤١٣

الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظرة(١) في الدلالة على غاية الإحماد والاعتداد والارتضاء لـما فعل الّذين وقّروا رسول الله من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزّة رسول الله وقدر شرف منزلته. وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم، واستيجابهم ضدّ ما استوجب هؤلاء.

( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ ) وهم الجفاة من بني تميم وأجلافهم( مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ) من خارجها، خلفها أو قدّامها، فإنّ الوراء الجهة الّتي يواريها عنك الشخص بظلّه من خلف أو قدّام. و «من» ابتدائيّة، فإنّ المناداة من جهة الوراء. وفائدتها الدلالة على أنّ المنادى داخل الحجرة، إذ لا بدّ وأن يختلف المبتدأ والمنتهى.

والحجرات جمع حجرة. وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. ولذلك يقال لحظيرة الإبل: حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول، كالغرفة والقبضة. والمراد حجرات نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت لكلّ منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها بأنّهم أتوها حجرة فنادوه من ورائها. أو بأنّهم تفرّقوا على الحجرات متطلّبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكلّ.

وقيل: إنّ الّذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وفدا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد، فقالا: يا محمّد اخرج إلينا. وإنّما أسند إلى جميعهم، لأنّهم رضوا بذلك، أو أمروا به، أو لأنّه وجد فيما بينهم.

( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة، سيّما لمن كان بهذا المنصب. والإخبار عن أكثرهم بأنّهم لا يعقلون يحتمل أن يكون فيهم

__________________

(١) خبر «أنّ هذه الآية ...» في بداية الفقرة.

٤١٤

من قصد المحاشاة(١) المفهومة من قوله: «وأكثرهم». وأن يكون الحكم بقلّة العقلاء فيهم قصدا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإنّ القلّة تقع موقع النفي في كلامهم.

وورود الآية على النمط الّذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر، من بيّنات إكبار محلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإجلاله.

منها: مجيئها على النظم المسجّل على الصائحين به بالسفه والجهل لـما أقدموا عليه.

ومنها: لفظ الحجرات، وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله(٢) مع بعض نسائه.

ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الّذي تبيّن به ما استنكر عليهم. يعني: لم يصف الحجرات بأنّها موضع خلوة ومقيل، بل اقتصر على الحجرات.

ومنها: التعريف باللام دون الإضافة.

ومنها: أن شفع ذمّهم في خاتمة الآية باستجفائهم، واستركاك عقولهم، وقلّة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسلية له، وإماطة لـما تداخله من إيحاش سوء أدبهم.

وهلمّ جرّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور الّتي تنتمي إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلّها، من غير حصر ولا تقييد. ثمّ أردف ذلك النهي عمّا هو من جنس التقديم، من رفع الصوت والجهر، كأنّ الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره. ثمّ ذكر ما هو ثناء على الّذين تحاموا ذلك فغضّوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثمّ جيء على عقب ذلك بما هو

__________________

(١) أي: التنزّه والابتعاد عن سوء الأدب.

(٢) المقيل: موضع القيلولة، أو النوم والاستراحة في الظهيرة.

٤١٥

أطمّ(١) وهجنته أتمّ، من الصياح برسول الله في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه، لأنّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتّى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الّذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب.

ثمّ أدّبهم الله تعالى بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا ) في محلّ الرفع على الفاعليّة، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم، فإنّ «أنّ» وإن دلّت بما في حيّزها على المصدر، دلّت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) (٢) . وهاهنا المفعول محذوف. والتقدير: ولو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات( حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ) أي: الصبر مغيّا بخروجه.

والمعنى: أنّ خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرهم دون الانتهاء إليها، فإنّ «حتّى» مختصّة بغاية الشيء في نفسه، ولذلك تقول: أكلت السمكة حتّى رأسها، ولا تقول: حتّى نصفها، بخلاف «إلى» فإنّها عامّة. وفي «إليهم» إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتّى يفاتحهم بالكلام، أو يتوجّه إليهم.

( لَكانَ ) الصبر( خَيْراً لَهُمْ ) من الاستعجال، لـما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسؤول، إذ روي أنّهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ، فأطلق النصف وفادى النصف، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلّهم بغير فداء.

__________________

(١) أي: أعظم. والهجنة: العيب والقبح.

(٢) الكهف: ٢٨.

٤١٦

( وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) بليغ الغفران والرحمة، حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) )

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان لأمّه ـ وهو الّذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلّى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان ـ مصدّقا ـ أي: آخذا للصدقة ـ إلى بني المصطلق، وكانت بينه وبينهم في الجاهليّة إحنة(١) ، فلمّا شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فرحين بقدومه، فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّ أن يغزوهم. فوردوا وقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتّهمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتمادا على قول الوليد، فقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل

__________________

(١) الإحنة: الحقد والعداوة.

٤١٧

مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم». ثمّ ضرب بيده على كتف عليّعليه‌السلام . وقيل: بعثه إليهم بعد رجوع الوليد، فوجدهم منادين بالصلوات متهجّدين، فسلّموا إليه الصدقات، فرجع. فنزلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) بخبر. وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم، كأنّه قال: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ.( فَتَبَيَّنُوا ) فتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الّذي هو نوع منه. والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه: قفست البيضة، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا: قفست الشيء، إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه. ثمّ استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحقّ.

وقرأ حمزة والكسائي: فتثبّتوا، أي: فتوقّفوا إلى أن يتبيّن لكم الحال. والتثبّت والتبيّن متقاربان. وهما: طلب الثبات والبيان والتعرّف.

ولـمّا كان رسول الله والّذين معه بالمنزلة الّتي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلّا في الندرة، قيل: إن جاءكم، بحرف الشكّ. وفيه أن على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلّا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور.

واستدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا، من حيث إنّ الله أوجب التوقّف في خبر الفاسق، فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه.

وهذا لا يصحّ، لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا وعند أكثر المحقّقين.

( أَنْ تُصِيبُوا ) كراهة إصابتكم( قَوْماً بِجَهالَةٍ ) جاهلين بحالهم( فَتُصْبِحُوا ) فتصيروا( عَلى ما فَعَلْتُمْ ) من إصابتهم بالخطإ( نادِمِينَ ) مغتمّين

٤١٨

غمّا لازما، متمنّين أنّه لم يقع، ولا يمكنكم تداركه. وتركيب الحروف الثلاثة في «ندم» دائر مع اللزوم والدوام، فإنّه عبارة عن غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنّه كلّما تذكّر المتندّم عليه راجعه الغمّ. من الندام(١) ، وهو لزام الشريب ودوام صحبته. ومن مقلوباته: أدمن الأمر، أدامه. ومدن بالمكان، أقام به. ومنه: المدينة.

( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ ) «أنّ» بما في حيّزه سادّ مسدّ مفعولي «اعلموا». وفائدة تقديم خبر «أنّ» على اسمها القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين، على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه، لانصباب الغرض إليه.

وقوله:( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) لا يكون كلاما مستأنفا، لأنّه حينئذ لم يظهر للأمر فائدة. فلا بدّ أن يكون متّصلا بما قبله، حالا من أحد ضميري «فيكم». وهو المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. وكلاهما مذهب سديد.

والمعنى: أنّ فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. وهي: أنّكم تريدون أن يتّبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك لعنتّم، أي: لوقعتم في الجهد والهلاك. من العنت. يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك.

وفائدة إيثار «يطيعكم» على: أطاعكم، الدلالة على أنّه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه، وأنّه كلّما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه، بدليل قوله:( فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ ) ، كقوله: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، تريد: أنّه ممّا اعتاده ووجد منه مستمرّا.

وفيه إشعار بأنّ بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول

__________________

(١) نادم نداما فلانا على الشراب: جالسه عليه.

٤١٩

الوليد. وأنّ بعضهم كانوا يتصوّنون، ويزعهم(١) جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك. وهم الّذين استثناهم بقوله:( وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) جعل الإيمان محبوبا إليكم، بأن أقام الأدلّة على صحّته، وبما وعد عليه من الثواب( وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) بالألطاف الداعية إليه( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ) بوجوه الألطاف الصارفة عنه.

والحاصل: أنّ هذا استدراك بصفة من لم يفعل ذلك منهم، إحمادا لفعلهم، وتعريضا بذمّ من فعل.

وقيل: استدراك ببيان عذرهم في استصواب الإيقاع ببني المصطلق. يعني: أنّهم من فرط حبّهم للإيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لـمّا سمعوا قول الوليد.

ويؤيّد الأوّل( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) أي: أولئك المستثنون هم الّذين أصابوا الطريق السويّ من الرشد. وهو الاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّب فيه. من الرشادة، وهي الصخرة.

وشريطة حرف الاستدراك ـ وهي: مخالفة ما بعدها لـما قبلها نفيا وإثباتا ـ وإن كانت منتفية لفظا، لكن حاصلة معنى، لأنّ الّذين حبّب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المقدّم ذكرهم، فوقعت «لكنّ» في حاقّ موقعها من الاستدراك.

ومعنى تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق كما مرّ. فسبيله الكناية. وكلّ ذي لبّ وصاحب بصيرة لا يغبى(٢) عليه أنّ الرجل لا يمدح بغير فعله. وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثنى عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا

__________________

(١) أي: يمنعهم ويكفّهم.

(٢) أي: لا يخفى عليه ولا يجهل. من: غبا الشيء عليه: لم يفطن له أو جهله.

٤٢٠