زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20073
تحميل: 2087


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20073 / تحميل: 2087
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعن ابن عبّاس: الوتر بعد العشاء. وقيل: الوتر بعد التهجّد. وروي ذلك عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

وقرأ الحجازيّان بكسر الهمزة، من: أدبرت الصلاة إذا انقضت. يعني: وقت انقضاء السجود.

وقال في كنز العرفان بعد نقل الأقوال المذكورة: «وعندي أنّ حمله على العموم أولى»(١) .

( وَاسْتَمِعْ ) لـما أخبرك به من أهوال يوم القيامة. وفيه تهويل وتعظيم لشأن المخبر به.( يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ) نصب بما دلّ عليه( ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) أي: يوم يناد المنادي يخرجون من القبور. والمنادي هو إسرافيل. فيقول: أيّتها العظام البالية، والأوصال المنقطعة، واللحوم المتمزّقة، والشعور المتفرّقة، إنّ الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ، وجبرئيل ينادي بالحشر.( مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) بحيث يصل نداؤه إلى الكلّ على سواء. قيل: هو صخرة بيت المقدس. وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم. ولعلّ هذا في الإعادة نظير لفظة «كن» في الإبداء.

( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ ) بدل من «يوم يناد». والصيحة: النفخة الثانية.

( بِالْحَقِ ) متعلّق بالصيحة. والمراد به البعث للجزاء.( ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) من القبور إلى أرض الموقف. وهو من أسماء يوم القيامة. وقد يقال للعيد.

( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ) في الدنيا( وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) للجزاء في الآخرة.

( يَوْمَ تَشَقَّقُ ) تتشقّق. وقرأ الكوفيّون وأبو عمرو بالتخفيف(٢) .

__________________

(١) كنز العرفان ١: ٧٨.

(٢) أي: بتخفيف الشين.

٤٦١

( الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ) حال من المجرور، أي: مسرعين إلى الداعي بلا تأخير( ذلِكَ حَشْرٌ ) بعث وجمع بالسوق من كلّ جهة( عَلَيْنا يَسِيرٌ ) هيّن غير متعذّر، مع تباعد ديارهم وقبورهم. وتقديم الظرف للاختصاص، فإنّ ذلك الأمر العظيم لا يتيسّر إلّا على العالم القادر لذاته، الّذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى:( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) (١) .

ثمّ سلّى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهدّد قومه بقوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) متسلّط قادر على قلوبهم، فتقسرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنّما أنت داع. وقيل: أريد التحلّم عنهم، وترك الغلظة عليهم. ويجوز أن يكون من: جبره على الأمر بمعنى: أجبره، أي: ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان.

و «على» بمنزلة قولك: هو عليهم، إذا كان وإليهم ومالك أمرهم.

( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) فإنّه لا ينتفع به غيره. وهذا كقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) (٢) .

__________________

(١) لقمان: ٢٨.

(٢) النازعات: ٤٥.

٤٦٢

(٥١)

سورة الذاريات

مكّيّة. وهي ستّون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ريح هبّت وجرت في الدنيا».

وروى داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة والذاريات في يومه أو ليلته أصلح الله له معيشته، وأتاه برزق واسع، ونوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) )

٤٦٣

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة ق بالوعيد، افتتح هذه السورة بتحقيق الوعيد، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ) يعني: الرياح، لأنّها تذروا التراب وغيره. قال الله تعالى:( تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) (١) . أو النساء الولود، فإنّهنّ يذرين الأولاد.

أو الأسباب الّتي تذري الخلائق، من الملائكة وغيرهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال.

( فَالْحامِلاتِ وِقْراً ) فالسحب الحاملة للأمطار، أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك. والوقر: ثقل الحمل على ظهر أو في بطن.

( فَالْجارِياتِ يُسْراً ) فالسفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب السبعة الّتي تجري في منازلها. وهي: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمرّيخ، والزهرة، وعطارد. و «يسرا» صفة مصدر محذوف تقديره: جريا ذا يسر، أي: ذا سهولة.

( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ) الملائكة الّتي تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، أو ما يعمّهم وغيرهم من أسباب القسمة.

وعن مجاهد: تتولّى الملائكة تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ.

وقيل: الرياح يقسّمن الأمطار بتصريف السحاب.

وعن عليّعليه‌السلام أنّه قال وهو على المنبر: «سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي. فقام ابن الكوّاء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال: فالحاملات وقرا؟ قال: السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال: فالمقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة». وكذا عن ابن عبّاس.

واعلم أنّ هذه الصفات إن حملت على ذوات مختلفة، فالفاء لترتيب الأقسام

__________________

(١) الكهف: ٤٥.

٤٦٤

بها، باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، وإلّا فالفاء لترتيب الأفعال، إذ الريح مثلا تذرو الأبخرة إلى الجوّ حتّى تنعقد سحابا، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به، فتقسّم المطر.

وعن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام أنّه «لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا بالله، والله سبحانه يقسم بما شاء من خلقه».

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:( إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ) أي: الّذي توعدون به ذو صدق، كقوله:( عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (١) . أو فاعل وضع موضع المصدر.

ويجوز أن يكون «ما» مصدريّة، أي: إنّ وعد الله لكم لذو صدق.

( وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ) وإنّ الجزاء حاصل البتّة. كأنّه استدلّ باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة، على اقتداره على البعث للجزاء الموعود.

( وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) ذات الطرائق، مثل حبك الرمل والماء إذا ضربته الريح. ويقال: الدرع محبوكة، لأنّها مطرقة بطرائق مدوّرة. ويقال: إنّ خلقة السماء كذلك. أو المراد الطرائق المحسوسة الّتي هي مسير الكواكب، أو المعقولة الّتي يسلكها النظّار، ويتوصّل بها إلى المعارف. أو النجوم، فإنّ لها طرائق، أو أنّها تزيّنها كما تزيّن الموشى(٢) طرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها(٣) وإحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم(٤) ، أي: محكمها. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه. وهو جمع حبيكة، كطريقة وطرق، أو حباك، كمثال ومثل.

وروي عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن

__________________

(١) الحاقّة: ٢١، القارعة: ٧.

(٢) وشى الثوب: حسّنه بالألوان ونمنمه ونقشه، فهو موشى. والوشي: نقش الثوب.

(٣) أي: كثافتها. من: صفق الثوب صفاقة: كثف نسجه.

(٤) المعاقم: المفاصل وملتقى أطراف العظام. والواحد: معقم.

٤٦٥

الرضاعليه‌السلام قال: «قلت له: أخبرني عن قول اللهعزوجل :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ) .

فقال: محبوكة إلى الأرض. وشبّك بين أصابعه.

فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ) (١) ؟

فقال: سبحان الله أليس يقول:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ؟

قلت: بلى.

قال: فثمّ عمد ولكن لا ترى؟

قلت: فكيف ذلك جعلني الله فداك؟

قال: فبسط كفّه اليسرى، ثمّ وضع اليمنى عليها، فقال: هذه أرض الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبّة. والأرض الثانية فوق السماء الدنيا، والسماء الثانية فوقها قبّة. والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّة. ثمّ هكذا إلى الأرض السابعة فوق السماء السادسة، والسماء السابعة فوقها قبّة. وعرش الرحمن فوق السماء السابعة. وهو قوله:( خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ ) (٢) . فصاحب الأمر هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والوصيّ من بعده قائم على وجه الأرض، وإنّما يتنزّل الأمر إليه من فوق، من بين السماوات والأرضين.

قلت: فما تحتنا إلّا أرض واحدة؟

قال: ما تحتنا إلّا أرض واحدة، وإنّ السّتّ لفوقنا».

( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) في الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو قولهم تارة إنّه شاعر، وتارة إنّه ساحر، وتارة إنّه مجنون. أو في القرآن، إنّه شعر وسحر وأساطير الأوّلين. أو في القيامة، أو أمر الديانة. ولعلّ النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها

__________________

(١) الرعد: ٢.

(٢) الطلاق: ١٢.

٤٦٦

وتنافي أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف غاياتها.

( يُؤْفَكُ عَنْهُ ) يصرف عن الرسول، أو القرآن، أو الإيمان( مَنْ أُفِكَ ) من صرف الصرف الّذي لا صرف أشدّ منه وأعظم، فكأنّه لا صرف بالنسبة إليه، كقوله: لا يهلك على الله إلّا هالك.

وقيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أي: علم فيما لم يزل أنّه مأفوك عن الحقّ لا يرعوي.

ويجوز أن يكون الضمير للقول، على معنى: يصدر إفك من أفك عن القول المختلف وبسببه، كقوله: ينهون عن أكل وعن شرب(١) ، أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. وحقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما. أو لـ «ما توعدون». أو للدّين، بأن أقسم بالذاريات على أنّ وقوع أمر القيامة حقّ، ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاكّ ومنهم جاحد، ثم قال: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.

( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ، من أصحاب القول المختلف. واللام إشارة إليهم، كأنّه قيل: قتل هؤلاء الخرّاصون. وأصله الدعاء عليهم بالقتل والهلاك، أجري مجرى اللعن، كقوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (٢) .

( الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ) في جهل يغمرهم( ساهُونَ ) غافلون عمّا أمروا به. قيل: إنّ أوّل مراتب الجهل السهو، ثمّ الغفلة، ثمّ الغمرة. فتكون الغمرة عبارة عن

__________________

(١) وعجزه: مثل المها يرتعن في خصب.

والمها جمع مهاة، وهي البقرة الوحشيّة. وخصب المكان خصبا: كثر فيه العشب والخير. يصف الشاعر أضيافا بتناهي سمنهم بسبب الأكل والشرب. وشبّههم بالمها اللّاتي يرتعن في الكلأ والمكان الخصب.

(٢) عبس: ١٧.

٤٦٧

المبالغة في الجهل، أي: إنّهم في غاية الجهل ساهون عن الحقّ.

( يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ) أي: يقولون: متى يوم الجزاء؟ أي: وقوعه. فوقع «أيّان» ظرفا للوقوع لا اليوم، لأنّ الأحيان ظروف للحدث.

( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) يحرقون. ومنه: الفتين. وهي: الحرّة(١) ، لأنّ حجارتها كأنّها محرقة. وهذا جواب سؤالهم. والمعنى: يقع يوم هم على النار يفتنون. أو هو يوم هم على النار يفتنون.

( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) في محلّ الحال. والفتنة العذاب الشديد، أي: مقولا لهم هذا القول( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) أي: هذا العذاب هو الّذي كنتم به تستعجلون في الدنيا تكذيبا به. ويجوز أن يكون «هذا» بدلا من «فتنتكم» و «الّذي» صفته، أي: ذوقوا هذا العذاب.

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) )

__________________

(١) الحرّة: أرض ذات حجارة سود، كأنّها أحرقت بالنار.

٤٦٨

ثمّ ذكر سبحانه ما أعدّه لأهل الجنّة فقال:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) قابلين لـما أعطاهم، راضين به. يعني: أنّه ليس فيما آتاهم إلّا ما هو متلقّى بالقبول، مرضيّ غير مسخوط، لأنّ جميعه حسن طيّب. ومنه قوله تعالى:( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) (١) أي: يقبلها ويرضاها.

ثمّ علّل استحقاقهم بالجملة المستأنفة، فقال:( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ ) قد أحسنوا أعمالهم.

ثمّ فسّر إحسانهم بقوله:( كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ) «ما» مزيدة، أي: يهجعون في طائفة من الليل هجوعا قليلا. أو مصدريّة، أي: في قليل من الليل هجوعهم. أو موصولة، أي: ما يهجعون فيه. مرفوع المحلّ بأنّه فاعل «قليلا». ولا يجوز أن تكون نافية، والمعنى: أنّهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كلّه، لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب. ولا تقول: زيدا ما ضربت. والمعنى: في أكثر الليل يصلّون ذاكرون.

وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم، من ذكر القليل، والليل الّذي هو وقت السبات(٢) والراحة، والهجوع الّذي هو الفرار من النوم، وزيادة «ما» المؤكّدة لذلك.

( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) أي: إنّهم مع قلّة هجوعهم وكثرة تهجّدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر».

وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنّهم أحقّاء بالاستغفار، لوفور علمهم بالله، وخشيتهم منه.

وبعد ذكر عباداتهم البدنيّة بيّن عباداتهم الماليّة بقوله:( وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ )

__________________

(١) التوبة: ١٠٤.

(٢) السبات: النوم، أو أوّله.

٤٦٩

نصيب يستوجبونه على أنفسهم، تقرّبا إلى الله، وإشفاقا على الناس( لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) للمستجدي والمتعفّف الّذي يظنّ غنيّا، فيحرم الصدقة. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان. قالوا: فما هو؟ قال: الّذي لا يجد ولا يتصدّق عليه».

وقيل: المحروم الّذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف الّذي لا يكاد يكسب.

ثمّ بيّن وحدانيّته وكمال علمه وقدرته، ومزيد إفضاله، وفيضان إحسانه على العباد، ترغيبا في الطاعات، وحثّا على العبادات، فقال :

( وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ ) دلائل بيّنات وحجج نيّرات على كمال علمه وقدرته وحكمته، وبديع صنعه، وعجيب تدبيره، فإنّها مدحوّة كالبساط والمهاد لـما فوقها، كما قال:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) (١) . وفيها مسالك فجاجا للمتقّلبين فيها، والماشين في مناكبها. مجزّأة بالأجزاء المختلفة، من سهل وجبل وبرّ وبحر. وقطع متجاورات، من صلبة ورخوة، وطيّبة وسبخة. ثابتة فيها ألوان النباتات، وأنواع الأشجار المثمرة بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح، مع أنّها تسقى بماء واحد. كلّها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم، في صحّتهم واعتلالهم. وما فيها من العيون المتفجّرة، والمعادن المفتنة(٢) ، والدوابّ المنبثّة في برّها وبحرها، المختلفة الصور والأشكال والأفعال، من الوحشيّ والإنسيّ والهوامّ، وغيرها من المنافع العجيبة والمصالح الغريبة.

( لِلْمُوقِنِينَ ) الموحّدين الّذين سلكوا الطريق السويّ البرهانيّ الموصل إلى المعرفة، نظّارين بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلّما رأوا آية تأمّلوا فيها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم.

__________________

(١) طه: ٥٣.

(٢) أي: المحرقة. يقال للحرّة: فتين، كأنّ حجارتها محرقة.

٤٧٠

( وَفِي أَنْفُسِكُمْ ) أي: وفي أنفسكم آيات في حال ابتدائها وتنقّلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها، من عجائب الفطر وبدائع الخلق، ما تتحيّر فيه الأذهان. وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وخصّت به من أصناف المعاني، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف، وبالأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح. وما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثنّي، فإنّه إذا جسا(١) شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذلّ. وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الهيئات النافعة، والمناظر البهيّة، والتركيبات العجيبة، والتمكّن من الأفعال الغريبة، واستنباط الصنائع المختلفة، واستجماع الكمالات المتنوّعة. ومع ذلك ما في العالم شيء إلّا وفي الإنسان له نظير، من الآيات الساطعة، والبيّنات الجمّة القاطعة على حكمة المدبّر الحكيم، وصنعة القدير العليم، فتبارك الله أحسن الخالقين.( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) تنظرون نظر من يعتبر.

( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ) المراد بالسماء السحاب، وبالرزق المطر، فإنّه سبب الأقوات. وعن الحسن: أنّه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنّكم تحرمونه لخطاياكم.( وَما تُوعَدُونَ ) من الثواب، لأنّ الجنّة فوق السماء السابعة تحت العرش. أو أراد: أنّ ما ترزقونه في الدنيا، وما توعدون به في العقبى، كلّه مقدّر مكتوب في أمّ الكتاب، أعني: اللوح المحفوظ، وهو في السماء.

وقيل: إنّ قوله:( ما تُوعَدُونَ ) مستأنف، خبره( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ ) وعلى هذا فالضمير لـ «ما». وعلى الأوّل يحتمل أن يكون له، ولـما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد.( مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) أي: مثل نطقكم. يعني: كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون، ينبغي أن لا تشكّوا في تحقّق ذلك. ونصبه على الحال من المستكن في «لحقّ»، أو الوصف لمصدر محذوف، أي: إنّه لحقّ حقّا مثل

__________________

(١) أي: صلب ويبس.

٤٧١

نطقكم. وقيل: إنّه مبنيّ على الفتح، لإضافته إلى غير متمكّن، وهو لفظة «ما» إن كانت بمعنى: شيء، و «أنّ» بما في حيّزها إن جعلت زائدة، كما نصّ الخليل عليه.

وهذا كقولك: إنّ هذا لحقّ كما أنّك ترى وتسمع. ومحلّه الرفع على أنّه صفة «لحقّ». ويؤيّده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر بالرفع.

وعن الأصمعي: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابيّ على قعود(١) له، فقال: من الرجل؟

قلت: من بني أصمع.

قال: من أين أقبلت؟

قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن.

قال: اتل عليّ.

فتلوت «والذاريات». فلمّا بلغت قوله:( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ ) قال: حسبك.

فقام إلى ناقته فنحرها، ووزّعها على من أقبل وأدبر، وعمد الى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى. فلمّا حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابيّ قد نحل واصفرّ، فسلّم عليّ واستقرأ السورة، فلمّا بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.

ثمّ قال: وهل غير هذا؟ فقرأت( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) .

فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الّذي أغضب الجليل حتّى حلف، لم يصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين. قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه.

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ

__________________

(١) القعود: البكر من الإبل إلى أن يثني.

٤٧٢

سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) )

ولـمّا قدّم الوعد والوعيد، عقّب ذلك بذكر بشارة إبراهيم ومهلك قوم لوط، تبشيرا لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتخويفا للكفّار أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، فقال :

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) هذا اللفظ يستعمل إذا أخبر الإنسان بخبر ماض فيه شأن، فيقال: هل أتاك خبر كذا؟ وإن علم أنّه لم يأته. ففيه تفخيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنّه ليس من علم رسول الله، وإنّما عرفه بالوحي.

والضيف في الأصل مصدر: ضافه، ولذلك يطلق على الواحد والمتعدّد ،

٤٧٣

كالزور والصوم(١) . وكانوا اثني عشر ملكا. وقيل: تسعة، وعاشرهم جبرئيل. وقيل: ثلاثة: جبرئيل، وميكائيل، وملك آخر قيل: هو إسرافيل. وسمّاهم ضيفا، لأنّهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنّهم كانوا في حسبانه كذلك.

( الْمُكْرَمِينَ ) عند الله، أو عند إبراهيم، إذ خدمهم بنفسه وأخدمهم امرأته. أو لأنّهم في أنفسهم مكرمون. ونظيره قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ) (٢) .

( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ) نصب بالحديث، أو بما في «ضيف» من معنى الفعل، أو بالمكرمين، أو بإضمار: اذكر( فَقالُوا سَلاماً ) أي: نسلّم عليك سلاما( قالَ سَلامٌ ) أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات، حتّى تكون تحيّته أحسن من تحيّتهم. وهذا أيضا من إكرامه لهم. وقرأ حمزة والكسائي: قال سلم.

( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) أي: أنتم قوم. وإنّما أنكرهم لأنّه ظنّ أنّهم بنو آدم ولم يعرفهم. أو لأنّ السلام لم يكن تحيّتهم، فإنّه علم الإسلام. أو لأنّه رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم. وهو كالتعرّف عنهم، أي: أنتم قوم منكرون، فعرّفوني من أنتم؟

( فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ) فذهب إليهم في خفية من ضيفه، فإنّ من أدب المضيف أن يبادر بالقرى، حذرا من أن يكفّه الضيف أو يعذره أو يصير منتظرا( فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) لأنّه كان عامّة ماله البقر.

( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) بأن وضعه بين أيديهم( قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) أي: منه. وهو مشعر بكونه حنيذا(٣) . والهمزة فيه للعرض والحثّ على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله المضيف أوّل ما وضعه عند الضيف، وللإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.

__________________

(١) الزور: الزائر للمفرد والمثنّى والجمع. والصوم: الصائم للمفرد والجمع.

(٢) الأنبياء: ٢٦.

(٣) أي: مشويّا. من: حنذ اللحم: شواه وأنضجه.

٤٧٤

( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) فأضمر منهم خوفا لـمّا رأى إعراضهم عن طعامه، وظنّ أنّهم يريدون به سواء. وعن ابن عبّاس: وقع في نفسه أنّهم ملائكة أرسلوا للعذاب.( قالُوا لا تَخَفْ ) إنّا رسل الله. قيل: مسح جبرئيل العجل بجناحه، فقام يدرج حتّى لحق بأمّه، فعرفهم وأمن منهم( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) يكمل علمه إذا بلغ. والمبشّر به هو إسحاق. وهو أكثر الأقاويل وأصحّها، لأنّه من سارة، والصفة صفتها في هذه القصّة، لا هاجر. وعن مجاهد: هو إسماعيل.

( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ ) سارة إلى بيتها، وكانت في زاوية تنظر إليهم( فِي صَرَّةٍ ) في صيحة. من: صرّ القلم والباب. ومنه: الصرير. وقيل: صرّتها قولها: أوّه. وعن عكرمة: رنّتها(١) . والمعنى: أخذت تصيح وتولول، كما قال:( قالَتْ يا وَيْلَتى ) (٢) .

ومحلّه النصب على الحال، أي: فجاءت صارّة، أو المفعول إن أوّل «أقبلت» بـ: أخذت.( فَصَكَّتْ وَجْهَها ) فلطمت بأطراف الأصابع بعد بسط يديها جبهتها، فعل المتعجّب. وأصل الصكّ ضرب الشيء بالشيء العريض ،. وقيل: وجدت حرارة دم الطمث فلطمت وجهها من الحياء.( وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) أي: أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟

( قالُوا كَذلِكَ ) مثل ذلك الّذي بشّرنا به( قالَ رَبُّكِ ) أي: إنّما نخبرك به عنه، والله قادر على ما تستبعدين( إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) فيكون قوله حقّا، وفعله محكما. وروي: أنّ جبرئيل قال لها في حال استبعادها: انظري إلى سقف بيتك. فنظرت فإذا جذوعه مورّقة مثمرة.

ولـمّا علم إبراهيمعليه‌السلام أنّهم ملائكة، وأنّهم لا ينزلون مجتمعين إلّا لأمر عظيم( قالَ فَما خَطْبُكُمْ ) فما شأنكم وما طلبكم( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) .

__________________

(١) الرنّة: الصوت عموما، أو الصوت الحزين.

(٢) هود: ٧٢.

٤٧٥

( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) عاصين لله، كافرين لنعمه، استحقّوا العذاب والهلاك. وأصل الجرم القطع. فالمجرم القاطع للواجب بالباطل. فهؤلاء أجرموا، بأن قطعوا الإيمان بالكفر. يعنون قوم لوط.

( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ) يريد السجّيل، فإنّه طين طبخ كما يطبخ الآجرّ حتّى صار في صلابة الحجارة( مُسَوَّمَةً ) مرسلة. من: اسيمت الماشية إذا أرسلت للرعي. أو معلمة، من السومة. وهي العلامة، على كلّ واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنّها من حجارة العذاب. وقيل: بعلامة تدلّ على أنّها ليست من حجارة الدنيا.( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) المجاوزين الحدّ في الفجور. قيل: أرسلت الحجارة على الغائبين، وقلبت القرية بالحاضرين.

( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها ) في قرى قوم لوط. وإضمارها، ولم يجر ذكرها، لكونها معلومة.( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ممّن آمن بلوط. وذلك قوله:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ) (١) الآية. وذلك أنّ الله تعالى أمر لوطا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين لئلّا يصيبهم العذاب.

( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ ) غير أهل بيت( مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قيل: هم لوط وابنتاه. وقيل: أهل بيته الّذين نجوا ثلاثة عشر. واستدلّ به على اتّحاد الإسلام والإيمان. وهو ضعيف، لأنّ ذلك لا يقتضي إلّا صدق المؤمن والمسلم على من اتّبعه، وذلك لا يقتضي اتّحاد مفهوميهما، لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

( وَتَرَكْنا فِيها ) وأبقينا في قرى قوم لوط( آيَةً ) علامة( لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) أي: علامة تدلّ على أنّ الله أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم، فإنّهم المعتبرون بها دون القاسية قلوبهم. وهي تلك الأحجار، أو صخرة منضودة فيها، أو ماء أسود منتن.

__________________

(١) هود: ٨١.

٤٧٦

( وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) )

ثمّ بيّن ما نزل بالأمم الاخرى، فقال مبتدأ بقصّة موسى وفرعون الّتي هي أشهر القصص وأكثرها عبرة، فقال عطفا على( وَفِي الْأَرْضِ ) (١) :( وَفِي مُوسى ) أي: وفي موسى أيضا آية. أو على( وَتَرَكْنا فِيها ) أي: وجعلنا في موسى، كقوله: علفتها تبنا وماء باردا( إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) بحجّة ظاهرة. وهي: معجزاته، كاليد والعصا.

( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) أي: فأعرض عن الايمان بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه، فإنّ الركن اسم لـما يركن إليه الشيء ويتقوّى به. أو تولّى عن الإيمان، كقوله:( وَنَأى بِجانِبِهِ ) (٢) . فالباء للتعدية.( وَقالَ ساحِرٌ ) أي: هو ساحر

__________________

(١) الذاريات: ٢٠.

(٢) الإسراء: ٨٣.

٤٧٧

( أَوْ مَجْنُونٌ ) كأنّه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوبا إلى الجنّ، وتردّد في أنّه حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما.

( فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ ) فأغرقناهم في البحر( وَهُوَ مُلِيمٌ ) آت بما يلام عليه من الكفر والعناد. والجملة حال من الضمير في «فأخذناه».

( وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) أي: الريح الّتي لا خير فيها، وعقمت عن أن تأتي بخير، من تنشئة سحاب، أو تلقيح شجر، أو تذرية طعام، أو نفع حيوان، فهي كالمرأة الممنوعة عن الولادة. أو هي ريح الهلاك. وسمّاها عقيما إمّا لأنّها قطعت دابرهم، أو لأنّها لم تتضمّن منفعة.

وعن ابن عبّاس: هي الدبور. وعن ابن المسيّب: هي الجنوب. وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام : هي النكباء(١) .

( ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ) ما تترك هذه الرّيح شيئا مرّت عليه( إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) كالشيء الهالك البالي. وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. من: رمّ إذا بلى وتفتّت.

( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ) تفسيره قوله:( تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ) (٢) .

( فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) فاستكبروا عن امتثاله( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) أي: العذاب بعد الثلاث. وقرأ الكسائي: الصعقة. وهي المرّة، من مصدر: صعقتهم الصاعقة. والصاعقة: النازلة نفسها.( وَهُمْ يَنْظُرُونَ ) إليها، فإنّها جاءتهم معاينة بالنهار. روي: أنّ العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرّتهم.

__________________

(١) ريح نكباء: انحرفت عن مهابّ الرياح ووقعت بين ريحين، مثلا بين الصبا والشمال.

(٢) هود: ٦٥.

٤٧٨

( فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ) كقوله:( فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) (١) . وقيل: هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه.( وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ) ممتنعين من العذاب. وقيل: ما كانوا طالبين ناصرا يمنعهم من عذاب الله.

( وَقَوْمَ نُوحٍ ) أي: وأهلكنا قوم نوح، لأنّ ما قبله يدلّ عليه. أو اذكر. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالجرّ، عطفا على محلّ «في عاد». والمعنى: وفي قوم نوح.( مِنْ قَبْلُ ) من قبل عاد وثمود( إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان، فاستحقّوا لذلك الإهلاك.

( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) )

ولـمّا قال: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ » «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ »، بيّن بعد ذلك أنّ السماء والأرض من مصنوعنا، فهما وما وقع بينهما الدلائل الملجئة إلى الاعتراف بأنّ لهما صانعا عالما قادرا، فقال:( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي: بقوّة، فإنّ الأيد والآد القوّة. يقال: قد آد يئيد، وهو أيّد.( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) لقادرون. من الوسع بمعنى الطاقة. وعن الحسن: الموسعون الرزق بالمطر. وقيل: معناه: جعلنا بينها وبين الأرض سعة.

__________________

(١) الأعراف: ٧٨.

٤٧٩

( وَالْأَرْضَ فَرَشْناها ) مهّدناها لتستقرّوا عليها( فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ) أي: نحن.

( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) من الحيوان( خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) ذكرا وأنثى. أو ومن كلّ شيء من الأجناس خلقنا نوعين. ويؤيّده ما روي عن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبرّ والبحر، والموت والحياة. فعدّد أشياء أخر وقال: كلّ اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له.( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي: فعلنا ذلك كلّه، من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج، إرادة أن تتذكّروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه، وتعلموا أنّ التعدّد من خواصّ الممكنات، وأنّ الواجب بالذات لا يقبل التعدّد والانقسام.

( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) أي: قل يا محمد: ففرّوا من معصيته وعقابه إلى رحمته وثوابه، بوسيلة الإيمان والتوحيد وإخلاص الطاعة وملازمة العبادة. وقيل: ففرّوا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته، ويقطعكم عمّا أمركم به. وعن الصادقعليه‌السلام معناه: حجّوا.( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ ) من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى( نَذِيرٌ مُبِينٌ ) بيّن كونه منذرا من الله بالمعجزات. أو مبين ما يجب أن يحذر عنه.

( وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إفراد لأعظم ما يجب أن يفرّ به( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تكرير للتأكيد. أو الأوّل مرتّب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك.

( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ

٤٨٠