زبدة التفاسير الجزء ٦

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-08-6
الصفحات: 645
المشاهدات: 20036
تحميل: 2077


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 645 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20036 / تحميل: 2077
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-08-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ نبّه سبحانه على دلالة أخرى، فقال:( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ) تقدحونها وتستخرجونها من الزناد. والعرب تقدح بعودين، تحكّ أحدهما على الآخر، ويسمّون الأعلى الزند، والأسفل الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة.

( أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها ) يعني: الشجرة الّتي منها الزناد( أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ) .

( نَحْنُ جَعَلْناها ) جعلنا نار الزناد( تَذْكِرَةً ) يتذكّر بها ويتفكّر فيها، ليعلم أنّ من قدر عليها وعلى إخراجها من الشجر الأخضر قدر على النشأة الآخرة، كما مرّ في سورة يس(١) . أو تبصرة في أمر المعاش، حيث علّقنا بها أسباب المعايش كلّها، وعمّمنا بالحاجة إليها البلوى. أو في الظلام. أو تذكيرا وأنموذجا لنار جهنّم، فينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، لـما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ناركم هذه الّتي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنّم».

( وَمَتاعاً ) ومنفعة( لِلْمُقْوِينَ ) للّذين ينزلون القواء، وهي القفر. أو للّذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. من: أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.

وقيل: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين. والمعنى: أنّهم يستضيئون بها في الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز. وعلى هذا ؛ يكون المقوي من الأضداد. فيكون المقوي هو الّذي صار ذا قوّة من المال والنعمة، والمقوي أيضا الذاهب ماله، النازل بالقواء من الأرض. فالمعنى: ومتاعا للأغنياء والفقراء.

__________________

(١) راجع ج ٥ ص ٥٣٥، ذيل الآية (٨٠) من سورة يس.

٥٨١

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) )

ولـمّا عدّد بدائع صنعه الدالّة على وحدانيّته وكمال قدرته وإنعامه على عباده، عقّبه بالتسبيح، فقال :

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) فأحدث التسبيح بذكر اسمه. أو بذكره عمّا لا يليق بعظمة شأنه، فإنّ إطلاق اسم الشيء ذكره. والعظيم صفة للاسم أو الربّ.

وتنقيح المعنى: قل: سبحان الله، إمّا تنزيها له عمّا يقول الظالمون الّذين يجحدون وحدانيّته ويكفرون نعمته. وإمّا تعجّبا من أمرهم في غمط(١) آلائه وأياديه الظاهرة. وإمّا شكرا لله على النعم الّتي عدّها ونبّه عليها. وقد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا نزلت قال: «اجعلوها في ركوعكم». يعني: قولوا فيه: سبحان ربّي العظيم.

( فَلا أُقْسِمُ ) إذ المقسم عليه أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو فأقسم، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله:( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ) (٢) . أو فلأنا أقسم، واللام لام الابتداء الّتي دخلت على المبتدأ والخبر، كقولك: لزيد منطلق، فحذف المبتدأ، وأشبع فتحة لام الابتداء. أو فلا رد لكلام يخالف المقسم عليه، وهو قول الكفّار: إنّ القرآن سحر وشعر وكهانة.

( بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) بمساقطها ومغاربها. وتخصيص المغارب لـما في غروبها

__________________

(١) غمط النعمة: لم يشكرها.

(٢) الحديد: ٢٩.

٥٨٢

من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثّر لا يزول تأثيره. أو بمنازلها ومجاريها.

ولعلّ لله سبحانه في آخر الليل إذا انحطّت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنّه وقت قيام المتهجّدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين، ونزول الرحمة والرضوان عليهم.

وروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «أنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين».

وقيل: النجوم نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها.

وقرأ حمزة والكسائي: بموقع النّجوم.

ثم استعظم ذلك القسم بقوله:( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) لـما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى. وهو اعتراض في اعتراض، فإنّه اعتراض بين المقسم والمقسم عليه، أعني: قوله:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) . و( لَوْ تَعْلَمُونَ ) اعتراض بين الموصوف والصفة.

( إِنَّهُ ) إنّ الّذي تلوناه عليك( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في إصلاح المعاد والمعاش. أو حسن مرضيّ في جنسه من الكتب. أو كريم على الله.( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) أثبت في كتاب مصون محفوظ، وهو اللوح.

( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي: لا يطّلع على اللوح إلّا المطهّرون من الكدورات الجسمانيّة، وهم الملائكة. هذا إن جعلت الجملة صفة لـ «كتاب مكنون». وإن جعلت صفة للقرآن، فالمعنى: لا ينبغي أن يمسّ القرآن ـ أي: مكتوبه إلّا المطهّرون من الأحداث الكبرى والصغرى. وهذا مرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ، وعطاء، وطاووس، وسالم. وهو مذهب مالك والشافعي أيضا. فيكون النفي بمعنى النهي. أو لا يطلبه إلّا المطهّرون من الكفر.

٥٨٣

( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) صفة ثالثة أو رابعة للقرآن. وهو مصدر نعت به، لأنّه نزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنّه في نفسه تنزيل. ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ.

( أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) )

ثمّ خاطب سبحانه أهل مكّة فقال:( أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ ) الّذي حدّثناكم به، وأخبرناكم فيه عن حوادث الأمور. وهو القرآن.( أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ) متهاونون به كمن يدهن في الأمر، أي: يليّن جانبه ولا يتصلّب فيه تهاونا به.

( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ) على حذف المضاف. والرزق: المطر الّذي هو سببه، تسمية للمسبّب باسم السبب. والمعنى: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث( أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) بكونه من الله حيث تنسبونه إلى الأنواء. فوضعتم التكذيب موضع الشكر.

عن ابن عبّاس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره، فدعاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت هذه الآية.

وقيل: معناه: أَتجعلون حظّكم من القرآن الّذي رزقكم الله التكذيب به.

( فَلَوْ لا ) فهلّا( إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) بلغت النفس الحلقوم عند الموت

٥٨٤

( وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ) ترون تلك الحال. والخطاب لمن حول المحتضر. والواو للحال.( وَنَحْنُ أَقْرَبُ ) ونحن أعلم( إِلَيْهِ ) إلى المحتضر( مِنْكُمْ ) عبّر عن العلم بالقرب الّذي هو أقوى سبب الاطّلاع( وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) لا تدركون كنه ما يجري عليه.

وقيل: معناه: ورسلنا الّذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون رسلنا القابضين روحه.

( فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) غير مجزيّين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من: دانه إذا أذلّه واستعبده. وأصل التركيب للذلّ والانقياد.

( تَرْجِعُونَها ) ترجعون النفس إلى مقرّها. وهو عامل الظرف. والمحضّض عليه بـ «لولا» الأولى، والثانية تكرير للتوكيد. وهي بما في حيّزها دليل جواب الشرط. والمعنى: إن كنتم غير مملوكين مجزيّين، كما دلّ عليه جحدكم أفعال الله وتكذيبكم بآياته( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في أباطيلكم، فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.

وتوضيح المعنى: إنّكم في جحودكم أفعال الله وآياته في كلّ شيء، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولا قلتم: ساحر كذّاب، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدّي إلى الإهمال والتعطيل. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم، إن لم يكن ثمّ قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟! وإذا لم تقدروا على ذلك، فاعلموا أنّه من تقدير مقدّر حكيم، وتدبير مدّبر عليم.

( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ

٥٨٥

(٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦) )

ثمّ ذكر سبحانه حال المخلوقات عند الموت، فقال:( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي: إن كان المحتضر الّذي بلغت روحه الحلقوم من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة( فَرَوْحٌ ) فله استراحة ولذّة( وَرَيْحانٌ ) ورزق طيّب. وقيل: هو الريحان المشموم من رياحين الجنّة. وقيل: الروح النجاة من النار، والريحان دخول دار القرار. وقيل: روح في القبر، وريحان في القيامة والجنّة.( وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) ذات تنعّم.

( وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ ) يا صاحب اليمين( مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) الّذين من إخوانك، يسلّمون عليك، كقوله تعالى:( إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (١) .

( وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ ) بالبعث والرسل( الضَّالِّينَ ) عن الهدى. يعني: أصحاب الشمال. وإنّما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، وإشعارا بما أوجب لهم ما أوعدهم به.( فَنُزُلٌ ) فنزلهم الّذي أعدّ لهم، من الطعام والشراب( مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها.

( إِنَّ هذا ) إنّ هذا الّذي ذكر في هذه السورة، أو في شأن الأصناف الثلاثة( لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) أي: الحقّ الثابت من اليقين الّذي لا شبهة معه.

( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) فنزّه اسمه تعالى عمّا لا يليق بعظمة شأنه.

__________________

(١) الواقعة: ٢٦.

٥٨٦

(٥٧)

سورة الحديد

مدنيّة. وهي تسع وعشرون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الّذين آمنوا بالله ورسوله».

وروى العرباض بن سارية، قال: «إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، ويقول: إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية».

وروى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يدرك القائمعليه‌السلام ، وإن مات كان في جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة الفريضة وأدمنها، لم يعذّبه الله أبدا حتّى يموت، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا، ولا خصاصة في بدنه».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ

٥٨٧

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الواقعة بالتسبيح، افتتح هذه السورة أيضا بالتسبيح، وعقّبه بالدلائل الموجبة للتسبيح، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) جاء التسبيح هاهنا وفي الحشر والصفّ بلفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأنّ من شأن ما أسند إليه التسبيح ـ من السماوات والأرض ـ أن يسبّحه في جميع أوقاته، لأنّه دلالة جبلّيّة لا تختلف باختلاف الحالات. ومجيء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ، من حيث إنّه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كلّ شيء وفي كلّ حال، من الملائكة والثقلين.

وإنّما عدّي هاهنا باللام، اشعارا بأنّ إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. ومثله: نصحت له، في: نصحته. فالمعنى: أحدث التسبيح والتنزيه من كلّ سوء خالصا لله. وأصل التسبيح التعدّي بنفسه، كما في قوله:( وَتُسَبِّحُوهُ ) (١) . لأنّ

__________________

(١) الفتح: ٩.

٥٨٨

معنى: سبّحته: بعّدته عن السوء. منقول من: سبّح إذا ذهب وبعد.

( ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ما يتأتّى منه التسبيح ويصحّ. أو يسبّح له ذو الروح وغيره. أمّا العقلاء فيسبّحونه قولا واعتقادا ولفظا ومعنى. وأمّا غير العقلاء من سائر الحيوانات والجمادات فتسبيحه ما فيه من الأدلّة الدالّة على وحدانيّته، وعلى الصفات الّتي باين بها جميع خلقه، وما فيه من الحجج على أنّه لا يشبه خلقه، وأنّ خلقه لا يشبهه، فعبّر سبحانه عن ذلك بالتسبيح.

( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح. والمعنى: وهو القادر الّذي لا يمتنع عليه شيء من الأشياء، المحكم لأفعاله، العليم بوجوه الصواب في التدبير.

( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فإنّه الموجد لهما، والمتصرّف فيهما، وليس لأحد منعه منه( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) استئناف، أو خبر لمحذوف، أو حال من المجرور في «له» والجارّ عامل فيها. ومعناه: يحيي النطف والبيض والموتى يوم القيامة، ويميت الأحياء.( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ) من الإحياء والإماتة وغيرهما( قَدِيرٌ ) تامّ القدرة.

( هُوَ الْأَوَّلُ ) القديم السابق على سائر الموجودات، من حيث إنّه موجدها ومحدثها( وَالْآخِرُ ) الباقي بعد فنائها، ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها. أو هو الأوّل الّذي تبتدأ منه الأسباب، وتنتهي إليه المسبّبات. أو الأوّل خارجا، والآخر ذهنا.

( وَالظَّاهِرُ ) وجوده بالأدلّة الدالّة عليه. أو الغالب على كلّ شيء. من: ظهر عليه إذا علاه وغلبه.( وَالْباطِنُ ) حقيقة ذاته، فلا تكتنهها العقول، ولا تدرك بالحواسّ. وفي هذا حجّة على من جوّز إدراكه في الآخرة بالحاسّة. أو العالم بباطن كلّ شيء.

٥٨٩

وقيل: الأوّل بالأزليّة، والآخر بالأبديّة، والظاهر بالأحديّة، والباطن بالصمديّة.

والواو الأولى للدلالة على أنّه الجامع بين الصفتين: الأوّليّة والآخريّة.

والثالثة على أنّه الجامع بين الظهور والخفاء. وأمّا الوسطى، فعلى أنّه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين.

( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) يستوي عنده الظاهر والخفيّ.

( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) لـما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شيء بعد شيء من جهته. ولـما في الإخبار به من المصلحة للمكلّفين.( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) استولى عليه استيلاء الملك على الملك، والمالك على الملك. وقد مرّ ذلك مرارا.

( يَعْلَمُ ما يَلِجُ ) ما يدخل( فِي الْأَرْضِ ) كالبذور( وَما يَخْرُجُ مِنْها ) كالزروع( وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ) كالأمطار والأرزاق( وَما يَعْرُجُ فِيها ) كالأبخرة وأعمال العباد والملائكة( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) لا ينفكّ علمه وقدرته عنكم بحال( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ ) من خير وشرّ( بَصِيرٌ ) عالم، فيجازيكم عليه. ولعلّ تقديم الخلق على العلم لأنّه دليل عليه.

( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يتصرّف فيهما كيف يشاء. ذكره مع الإعادة كما ذكره مع الإبداء، لأنّه كالمقدّمة لهما.( وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) يوم القيامة. يعني: أنّ جميع من ملّكه شيئا في الدنيا يزول ملكه عنه.

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) يدخل ما نقص من الليل في النهار، وما نقص من النهار في الليل، حسب ما دبّره فيه من مصالح عباده( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) بمكنونها، من أسرار خلقه، وما يخفونه من الضمائر والاعتقادات والإرادات والكراهات، لا يخفى عليه شيء منها. وفيه تحذير من المعاصي.

٥٩٠

( آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ

٥٩١

اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) )

ثمّ خاطب المكلّفين، فقال:( آمِنُوا بِاللهِ ) بوحدانيّته وإخلاص العبادة له( وَرَسُولِهِ ) وصدّقوا بنبوّته( وَأَنْفِقُوا ) في طاعة الله والوجوه الّتي أمركم بالإنفاق فيها( مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرّف فيها. فهي في الحقيقة له لا لكم، بسبب خلقه وإنشائه لها. وإنّما موّلكم إيّاها، وخوّلكم الاستمتاع بها، وما أنتم فيها إلّا بمنزلة الوكلاء والنوّاب.

أو المعنى: جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم فيما في أيديكم، بتوريثه إيّاكم. فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.

وفيه حثّ على الإنفاق، وتهوين له على النفس، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه.

( فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا ) منها في حقوق الله( لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) وعد فيه مبالغات: جعل الجملة اسميّة، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق، وبناء الحكم على الضمير، وتنكير الأجر، ووصفه بالكبر، أي: لهم ثواب عظيم لا يكتنهه العقل.

ثمّ وبّخهم بترك الإيمان، وبعده بترك الإنفاق، فقال:( وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) الجملة الفعليّة حال من معنى الفعل في «لكم»، كما تقول: مالك قائما؟ بمعنى: ما تصنع قائما؟ أي: وما تصنعون غير مؤمنين به؟ وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان به؟( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) حال من ضمير «لا تؤمنون». فهما حالان متداخلان.

والمعنى: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم إليه، وينبّهكم

٥٩٢

عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالحجج والآيات؟

وقوله:( وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ ) حال من مفعول «يدعوكم» أي: الرسول يدعوكم بالإيمان حال كونه تعالى قد أخذ ميثاقكم بالإيمان. وقرأ أبو عمرو: أخذ على البناء للمفعول، أي: وقد أخذ الميثاق منكم بالإيمان قبل ذلك بنصب الأدلّة والتمكين من النظر.

( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) لموجب مّا، فإنّ هذا موجب لا مزيد عليه، أي: إذا لم يبق لكم علّة بعد ارتفاع الشبه، ولزوم الحجج العقليّة والنقليّة عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟

( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ ) يعني: محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( آياتٍ بَيِّناتٍ ) حججا منيرة وبراهين واضحة( لِيُخْرِجَكُمْ ) أي: الله سبحانه، أو عبدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( مِنَ الظُّلُماتِ ) من ظلمات الكفر( إِلَى النُّورِ ) إلى نور الايمان بالتوفيق والألطاف الهادية( وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) حيث نبّهكم بالرسل والآيات، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقليّة. وإنّما جمع بين الرأفة والرحمة للتأكيد. وقيل: الرأفة النعمة على المضرور، والرحمة النعمة على المحتاج.

وفي الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، فإنّه سبحانه بيّن أنّ الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.

( وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا ) وأيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا( فِي سَبِيلِ اللهِ ) فيما يكون قربة إليه( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يرث كلّ شيء فيهما، فلا يبقى لأحد مال. وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى ـ وهو الثواب ـ كان أولى. وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله.

ثمّ بيّن التفاوت بين المنفقين منهم، فقال:( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) قبل فتح مكّة، إذ بالإنفاق وقع عزّ الإسلام وقوّة أهله، ودخول الناس في

٥٩٣

دين الله أفواجا( وَقاتَلَ ) مع الكفّار. وذكر القتال في بيان التفاوت بين المنفقين للاستطراد. وقسيم «من أنفق» محذوف، تقديره: ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه، ودلالة ما بعده عليه، أعني: قوله:( أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) فإنّه بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم، من السبق وقوّة اليقين وتحرّي الحاجات( مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا ) أي: من بعد فتح مكّة، فإنّ الإنفاق والقتال قبل فتح مكّة كان أشدّ، والحاجة إلى النفقة والجهاد كان أكثر.

( وَكُلًّا ) وكلّ واحد من الفريقين المنفقين( وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) المثوبة الحسنى ـ وهي: الجنّة ـ وإن تفاوتوا في مراتب الدرجات. وقرأ ابن عامر: وكلّ، بالرفع على الابتداء، أي: وكلّ وعده الله، ليطابق ما عطف عليه، وهو قوله:( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) عالم بظاهره وباطنه، فمجازيكم على حسبه.

ثمّ بيّن كيفيّة الإنفاق ومزيّة المثوبة، فقال:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ ) أي: ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوّضه، فإنّه كمن يقرض الله( قَرْضاً حَسَناً ) أي: إنفاق أكرم المال وأطيبه في أفضل الجهات مقرونا بالإخلاص. فشبّه ذلك بالقرض على سبيل المجاز. ووجه الشبه هو التعويض.

وقال بعض المحقّقين: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف: أن يكون من الحلال، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّ الله تعالى طيّب، لا يقبل إلّا الطيّب».

وأن يكون من أكرم ما يملكه، دون أن يقصد الرديء بالإنفاق، لقوله تعالى:( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (١) .

وأن يتصدّق وهو يحبّ المال ويرجو الحياة، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا سئل عن الصدقة: «أفضل الصدقة أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى

__________________

(١) البقرة: ٢٦٧.

٥٩٤

الفقر، ولا تمهل حتّى إذا بلغت النفس التراقي قلت: لفلان كذا ولفلان كذا».

وأن يضعه في الأخلّ الأحوج الأولى بأخذه، ولذلك خصّ الله أقواما بأخذ الصدقات، وهم أهل البلوى.

وأن يكتمه ما أمكن، لقوله:( وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) .

وأن لا يتبعه المنّ والأذى، لقوله:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (٢) .

وأن يقصد به وجه الله، ولا يرائي بذلك، لأنّ الرياء مذموم.

وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، لأنّ متاع الدنيا قليل.

وأن يكون من أحبّ ماله إليه، لقوله:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (٣) .

وأن يحتاج إليه، لقوله تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) (٤) .

فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا.

( فَيُضاعِفَهُ لَهُ ) أي: يعطي أجره أضعافا، من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة( وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه، ينبغي أن يتوخّى وإن لم يضاعف، فكيف وقد يضاعف أضعافا! وقرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب، على جواب الاستفهام باعتبار المعنى، فكأنّه قال: أَيقرض الله أحد فيضاعفه له؟ وقرأ ابن كثير: فيضعفه مرفوعا، عطفا على «يقرض الله». أو على تقدير: فهو يضاعفه. وابن عامر ويعقوب: فيضعفه

__________________

(١) البقرة: ٢٧١.

(٢) البقرة: ٢٦٤.

(٣) آل عمران: ٩٢.

(٤) الحشر: ٩.

٥٩٥

منصوبا.

( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ) ظرف لقوله:( وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) أو «فيضاعفه». أو مقدّر بـ: اذكر، تعظيما لذلك اليوم.( يَسْعى نُورُهُمْ ) ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنّة وهم يمرّون فيه.

قال قتادة: إنّ المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك، حتّى إنّ من المؤمن من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه.

وقال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه، يطفأ مرّة ويقد أخرى.

ويخصّص ذلك النور بقوله:( بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ) لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم. فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وعلامة، لأنّهم هم الّذين بحسناتهم سعدوا، وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنّة ومرّوا على الصراط يسعون، وسعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدّما.

ويقول لهم الّذين يتلقّونهم من الملائكة:( بُشْراكُمُ الْيَوْمَ ) أي: المبشّر به في هذا اليوم( جَنَّاتٌ ) أو بشراكم دخول جنّات( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ ) إشارة إلى ما تقدّم من النور والبشرى بالجنّات المخلّدة( هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ثمّ ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم، فقال:( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ ) بدل من «يوم ترى»( لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا ) انتظرونا، فإنّهم يسرع بهم إلى الجنّة كالبرق الخاطف على ركاب تزفّ بهم، وهؤلاء مشاة. أو انظروا إلينا، لأنّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بنور بين أيديهم. وقرأ حمزة: أنظرونا، من النظرة، وهي الإمهال. جعل اتّئادهم(١) في المضيّ إلى أن

__________________

(١) أي: تمهّلهم وتأنّيهم.

٥٩٦

يلحقوا بهم إنظارا لهم.

( نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) نصب منه. وذلك بأن يلحقوا بهم فيستنيروا به. وقيل: إنّهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا، فيسعى المنافقون في نور المؤمنين، فإذا ميّزوا بقوا في الظلمة، فيستغيثون ويقولون هذا القول.

( قِيلَ ) فيقال للمنافقين( ارْجِعُوا وَراءَكُمْ ) إلى الدنيا( فَالْتَمِسُوا نُوراً ) بتحصيل المعارف الإلهيّة والأخلاق الفاضلة، فإنّه يتولّد منها. أو إلى الموقف، فإنّه من ثمّ أعطينا هذا النور، فالتمسوه هنالك. أو ارجعوا خائبين وتنحّوا عنّا، فاطلبوا نورا بتحصيل سببه، وهو الإيمان، فإنّه لا سبيل لكم إلى هذا النور. وهو تهكّم بهم، وتخييب من المؤمنين أو الملائكة.

( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ ) بين المؤمنين والمنافقين( بِسُورٍ ) بحائط يكون بين الجنّة والنار( لَهُ بابٌ ) يدخل منه المؤمنون( باطِنُهُ ) باطن السور، أو الباب( فِيهِ الرَّحْمَةُ ) لأنّه يلي الجنّة( وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) من جهته، لأنّه يلي النار.

( يُنادُونَهُمْ ) ينادي المنافقون المؤمنين( أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) يريدون موافقتهم ظاهرا في الصلاة والصوم وغيرهما( قالُوا بَلى ) بلى كنتم معنا( وَلكِنَّكُمْ ) كنتم( فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ) محنتموها بالنفاق، وأهلكتموها به( وَتَرَبَّصْتُمْ ) بالمؤمنين دوائر السوء( وَارْتَبْتُمْ ) وشككتم في الدين( وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ ) كامتداد العمر وطول الأمل( حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ) وهو الموت( وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) الشيطان، بأنّ الله غفور كريم لا يعذّبكم. أو الدنيا.

( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ) فداء تنقذوا أنفسكم به من العذاب. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء.( وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ظاهرا وباطنا( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ

٥٩٧

مَوْلاكُمْ ) هي أولى بكم. وحقيقته: محراكم(١) ، أي: مكانكم الّذي يقال فيه هو أولى بكم. أو مكانكم عمّا قريب، من الولي، وهو القرب. أو ناصركم، على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. والمعنى: لا ناصر لكم غيرها على البتّ. ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع. ومنه قوله تعالى:( يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ ) (٢) . أو تتولّاكم النار كما تولّيتم موجباتها في الدنيا من أعمال أهل النار.( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) النار.

( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) )

ثمّ دعاهم سبحانه إلى الطاعة، فقال:( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ) ألم يأت وقت أن ترقّ وتلين قلوبهم. من: أنى الأمر يأني أنيا وإنى إذا

__________________

(١) يقال: هو حريّ أن يفعل كذا، أي: جدير بذلك وحقيق به. واسم المكان منه: محرى.

(٢) الكهف: ٢٩.

٥٩٨

جاء أناه، أي: وقته.( لِذِكْرِ اللهِ ) لـما يذكّرهم الله به من مواعظه. روي: أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكّة، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عمّا كانوا عليه من أفعال الخير، فنزلت. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلّا أربع سنين.

( وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ ) أي: القرآن. وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر. ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله. وقرأ نافع وحفص ويعقوب: نزل بالتخفيف.

( وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ) عطف على «تخشع». وقرأ رويس بالتاء. والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله:( فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ) فطال عليهم الزمان لطول أعمارهم وآمالهم. أو ما بينهم وبين أنبيائهم. وقيل: طالت أعمارهم، وطارت أعمالهم.

( فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) غلظت وزال خشوعها، ومرنوا على المعاصي واعتادوها.

ومن كلام عيسىعليه‌السلام : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله».( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) خارجون عن دينهم، رافضون لـما في كتابهم من فرط القسوة. فلا تكونوا مثلهم، فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم.

ثمّ مثّل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة، فقال:( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ ) بالنبات( بَعْدَ مَوْتِها ) بعد اليبس والجدوبة، أي: فكذلك الله يحيي الكافر بالإيمان بعد موته بالضلال والكفر، بأن يلطف له ما يؤمن به، من إرسال الرسل وإنزال الكتب وغيره. أو انّ الله يليّن قلوب عبيده بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات الّتي من جملتها الذكر والتلاوة. وقيل: هذا تمثيل لإحياء الأموات، ترغيبا في الخشوع، وزجرا عن القساوة.

( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ ) الحجج الواضحات، والدلائل الباهرات( لَعَلَّكُمْ

٥٩٩

تَعْقِلُونَ ) كي يكمل عقولكم بها، فترجعوا إلى طاعتنا، وتعملوا بما أمرناكم به.

( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ ) أي: المتصدّقين والمتصدّقات. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد، أي: الّذين صدقوا الله ورسوله.( وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) عطف على معنى الفعل في المحلّى باللام، لأنّ معناه: الّذين أصدقوا أو صدّقوا. وهو على الأوّل للدلالة على أنّ المعتبر هو التصدّق المقرون بالإخلاص.

( يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) تفسير هذا الكلام وبيان وجوه القراءة في «يضاعف» قد مرّ آنفا، غير أنّه لم ينجزم، لأنّه خبر «إنّ». وهو مسند إلى «لهم»، أو إلى ضمير مصدر «يضاعف».

( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) صدّقوا بتوحيد الله، وأقرّوا بنبوّة رسله( أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: أولئك عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء.

أو هم المبالغون في الصدق، فإنّهم آمنوا وصدّقوا جميع أخبار الله ورسله، والقائمون بالشهادة لله ولهم. أو على الأمم يوم القيامة.

وقيل:( وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) مبتدأ وخبر. والمراد بهم الأنبياء، من قوله:( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) (١) . وهو مرويّ عن ابن عبّاس، ومسروق، ومقاتل بن حيّان. واختاره الفرّاء والزجّاج.

وقيل: الّذين استشهدوا في سبيل الله.

وروى العيّاشي بالإسناد عن منهال القصّاب قال: «قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ادع الله أن يرزقني الشهادة. فقال: إنّ المؤمن شهيد، وقرأ هذه الآية».

وعن الحارث بن المغيرة قال: «كنّا عند أبي جعفرعليه‌السلام فقال: العارف منكم هذا الأمر المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفه. ثمّ قال: بل والله كمن جاهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفه. ثمّ قال الثالثة: بلى

__________________

(١) النساء: ٤١.

٦٠٠