زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 41860
تحميل: 1935


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41860 / تحميل: 1935
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠) )

ثمّ بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة، فقال:( وُجُوهٌ ) أي: وجوه المؤمنين المستحقّين للثواب. والمراد أنفسهم، تسمية الكلّ باسم أشرف أجزائه.

ويسمّونه أيضا بالرأس والرقبة.( يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) ناعمة بهيّة متهلّلة من نضرة النعيم.

( إِلى رَبِّها ) أي: إلى رحمته ونعيم جنّته( ناظِرَةٌ ) بحيث تغفل عمّا سواها، ولذلك قدّم المفعول. روي ذلك التفسير عن جماعة من علماء المفسّرين من الصحابة والتابعين. فحذف المضاف في «ربّها» وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله:( وَجاءَ رَبُّكَ ) (١) أي: أمر ربّك.

وقيل: معنى الناظرة: المنتظرة والمتوقّعة. من قولهم: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقّع والرجاء. فالمعنى: أنّهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلّا من ربّهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا الله.

__________________

(١) الفجر: ٢٢.

٢٦١

وهذا المعنى مرويّ عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحّاك. وهو المرويّ عن عليّعليه‌السلام .

وما قيل: إنّ النظر بمعنى الانتظار لا يدعى بـ «إلى». يأباه قول شعرائهم في أشعارهم. وكفى في ردّ هذا القول قول أكابر الصحابة ـ الّذين من جملتهم الامام المعصومعليه‌السلام ـ أنّ معنى ناظرة: منتظرة.

وقيل: «إلى» اسم، وهو واحد الآلاء الّتي هي النعم. والمعنى: نعمة ربّها ناظرة.

ولا يجوز أن يكون المعنى: تنظر إلى ربّها خاصّة لا تنظر إلى غيره، على مقتضى تقديم المفعول، كما في قوله:( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) (١) ( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) (٢) .( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (٣) .( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤) .( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٥) . وكيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص؟ فإنّه معلوم أنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، من أنواع نعم الجنّة، ومشاهدتهم المعذّبين في النار. فالاختصاص بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على المعنيين الأوّلين.

وأيضا كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ، والله تعالى منزّه عن أن يشار إليه بالعين، كما جلّ سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع.

وأيضا الرؤية بالحاسّة لا تتمّ إلّا بالمقابلة والتوجّه، والله يتعالى عن

__________________

(١) القيامة: ١٢.

(٢) القيامة: ٣٠.

(٣) الشورى: ٥٣.

(٤) البقرة: ٢٤٥.

(٥) هود: ٨٨.

٢٦٢

ذلك بالاتّفاق.

وأيضا فإنّ رؤية الحاسّة لا تتمّ إلّا باتّصال الشعاع بالمرئيّ، والله منزّه عن اتّصال الشعاع به. على أنّ النظر لا يفيد الرؤية في اللغة، فإنّه إذا علّق بالعين أفاد طلب الرؤية، كما أنّه إذا علّق بالقلب أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول متناقضا. وقولهم: ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته. والشيء لا يجعل غاية لنفسه، فلا يقال: ما زلت أراه حتّى رأيته.

ولأنّا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة، ولا نعلمه رائيا بالضرورة، بدلالة أنّا نسأله: هل رأيت أم لا؟

( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) شديدة العبوس. والباسل أبلغ من الباسر، لكنّه غلب في الشجاع إذا اشتدّ كلوحه(١) .

( تَظُنُ ) تتوقّع أربابها( أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) داهية تكسر فقار الظهر، كما توقّعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كلّ خير.

( كَلَّا ) ردّ عن إيثار الدنيا على الآخرة. كأنّه قيل: ارتدّوا عن حبّ الدنيا واختيارها على الآخرة، وتنبّهوا على ما بين أيديكم من الموت الّذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة الّتي تبقون فيها مخلّدين. فذكّرهم صعوبة الموت الّذي هو أوّل مراحل الآخرة، فقال:( إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) إذا بلغت النفس العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال. والمراد أعالي الصدر. وإضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها.

( وَقِيلَ مَنْ راقٍ ) أي: قال من حضر المحتضر من أهله بعضهم لبعض: من يرقيه ويداويه من طبيب شاف ما به من الرقية؟ أو قال ملائكة الموت: أيّكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الرقيّ.

__________________

(١) كلح وجهه كلوحا: عبس وتكشّر.

٢٦٣

( وَظَنَ ) وعلم المحتضر( أَنَّهُ الْفِراقُ ) أنّ الّذي نزل به فراق الدنيا المحبوبة من أجل الأهل والولد والمال. وجاء في الحديث: «أنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته، ومفاصله يسلّم بعضها على بعض ويقول: عليك السّلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة».

( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) والتوت ساقه بساقه عند علز الموت(١) ، فلا يزال يمدّ إحدى رجليه ويرسل الأخرى، ويلفّ إحداهما بالأخرى، فلا يقدر على تحريكهما.

وقال قتادة: ماتت رجلاه فلا تحملانه، وقد كان عليهما جوّالا.

وعن ابن عبّاس: التوت شدّة فراق الدنيا بشدّة خوف الآخرة، فإنّ الساق مثل في الشدّة.

وعن سعيد بن المسيّب: هما ساقاه حين تلفّان في أكفانه.

( إِلى رَبِّكَ ) إلى حكمه( يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) سوقه، أو موضع سوقه. وقيل: يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به، إن كان من أهل الجنّة فإلى علّيّين، وإن كان من أهل النار فإلى سجّين.

( فَلا صَدَّقَ ) ما يجب تصديقه، من التوحيد والرسالة والبعث. أو فلا صدّق ماله، بمعنى: فلا زكّاه.( وَلا صَلَّى ) ما فرض عليه. والضمير فيهما للإنسان المذكور في( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) (٢) . وقيل: نزلت في أبي جهل.

( وَلكِنْ كَذَّبَ ) بالله ورسوله( وَتَوَلَّى ) عن الطاعة( ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) يتبختر في مشيه افتخارا بذلك. من المطّ بمعنى المدّ، فإنّ المتبختر يمدّ خطاه. فيكون أصله: يتمطّط، بمعنى: يتمدّد. أو من المطا، وهو الظهر، فإنّه يلويه.

__________________

(١) علز الموت: القلق والهلع اللّذان يأخذان المحتضر، أو هو كالرعدة تأخذه.

(٢) القيامة: ٣٦.

٢٦٤

( أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) بمعنى: ويل لك، فإنّه دعاء عليه بأن يليه ما يكره.

وأصله: أولاك الله ما تكرهه. واللام مزيدة كما في( رَدِفَ لَكُمْ ) (١) . أو أولى لك الهلاك. وقيل: أفعل، من الويل بعد القلب، كأدنى من أدون. أو فعلى من: آل يئول، بمعنى: عقباك النار.

( ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) يتكرّر ذلك عليك مرّة بعد اخرى. وقد جاءت الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال:( أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) . فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا، وإنّي لأعزّ أهل هذا الوادي. فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله.

وقيل: معناه: أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر، فأولى لك في القبر، ثمّ أولى لك يوم القيامة، فأولى لك في النار. وأدخل «ثمّ» للتراخي بين الدنيا والآخرة.

( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) جنس الإنسان، أو أبو جهل( أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مهملا لا يكلّف ولا يجازى. والهمزة للإنكار، أي: لا ينبغي أن يظنّ ذلك. وهو يتضمّن تكرير إنكاره للحشر والدلالة عليه، من حيث إنّ الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقّق إلّا بالمجازاة، وهي قد لا تكون في الدنيا، فتكون في الآخرة.

( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) يصبّ في الرحم. وقرأ حفص: يمنى بالياء.

( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) فقدّر وعدل خلقه وصورته وأعضاءه الباطنة والظاهرة في بطن أمّه. وقيل: معناه: فسوّى بعد الولادة إنسانا كامل القوّة والفطنة.

( فَجَعَلَ مِنْهُ ) من المنيّ، أو من الإنسان( الزَّوْجَيْنِ ) الصنفين( الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) هذا استدلال آخر بالإبداء على الإعادة، فإنّه سبحانه أخبر أنّه لم يخلق

__________________

(١) النمل: ٧٢.

٢٦٥

الإنسان من المنيّ، ولم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا، بل لا بدّ من غرض في ذلك، وهو التعريض للثواب بالتكليف فيه، ولا يتصوّر الثواب والعوض إلّا في دار لا تكليف فيه، وهي الآخرة. ولذلك رتّب عليه قوله:( أَلَيْسَ ذلِكَ ) أي: ذلك الّذي أنشأ هذا الإنشاء( بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) أي: على الإعادة.

عن البراء بن عازب: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأها قال: «سبحانك بلى». وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

وفي الآية دلالة على صحّة القياس العقلي، فإنّه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.

٢٦٦

(٧٦)

سورة الإنسان

وتسمّى سورة الدهر، وسورة الأبرار. وهي مدنيّة. وقيل: إنّها مدنيّة إلّا قوله:( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (١) فإنّه مكّيّ. وقيل: مكّيّة كلّها. وقيل: إنّ قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ) (٢) إلى آخر السورة مكّيّ، والباقي مدنيّ. والصحيح الأوّل، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى في أثناء السورة. وهي إحدى وثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله تعالى جنّة وحريرا».

وقال أبو جعفرعليه‌السلام : «من قرأ سورة هل أتى في كلّ غداة خميس، زوّجه الله من الحور العين مائة عذراء وأربعة آلاف ثيّب، وكان مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا

__________________

(١) الإنسان: ٢٤.

(٢) الإنسان: ٢٣.

٢٦٧

الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة القيامة بأن دلّ على صحّة البعث بخلق الإنسان من نطفة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ) استفهام تقرير وتقريب، ولذلك فسّر بـ «قد». وأصله: أهل، بدليل قوله: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم(١) .

فالمعنى: قد أتى على الإنسان، أي: أتى عليه قبل زمان قريب.( حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) طائفة محدودة من الزمان الممتدّ غير المحدود( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) بل كان شيئا منسيّا غير مذكور بالانسانيّة ـ كالعنصر والتراب والطين ـ إلى أن نفخ فيه الروح.

والجملة حال من «الإنسان» كأنّه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو وصف لـ «حين» بحذف الراجع، تقديره: لم يكن شيئا مذكورا فيه.

وعن حمران بن أعين قال: سألنا الصادقعليه‌السلام عنه فقال: «كان شيئا مقدورا، ولم يكن مكوّنا».

وعن سعيد الحدّاد عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «كان مذكورا في العلم، ولم يكن مذكورا في الخلق».

وفيه دلالة على أنّ المعدوم معلوم وإن لم يكن مذكورا، وعلى أنّ المعدوم يسمّى شيئا. والمراد بالإنسان آدمعليه‌السلام . وهو أوّل من سمّي به، فإنّه أتى عليه أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا، لا في السماء ولا في الأرض، بل كان جسدا ملقى من

__________________

(١) لزيد الخيل الّذي سمّاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد الخير. وصدره: سائل فوارس يربوع بشدّتنا. ويربوع: أبو حيّ. والسفح: أصل الجبل المنسطح. والقاع: المستوي من الأرض. والأكم: التلول المرتفعة. واحده: أكمة. والمعنى: راجعهم واسألهم عن قوّتنا أهل

٢٦٨

طين قبل أن ينفخ فيه الروح. وروى عطاء عن ابن عبّاس: أنّه تمّ خلقه بعد عشرين ومائة سنة.

فبيّن أوّلا خلقه، ثمّ ذكر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجملة المستأنفة لبيان كيفيّة خلقهم، فقال:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) أي: جنس بني آدم( مِنْ نُطْفَةٍ ) وقيل: المراد بالإنسان الأوّل أيضا الجنس. والمعنى: قد أتى عليه حين من الدهر قبل الولادة لا يعرف ولا يذكر بالإنسانيّة، بل كان عنصرا وترابا ونباتا ونطفة. ثمّ فصّل وبيّن خلقه بقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) . فوضع الظاهر موضع المضمر، للعناية بذكر اسمه صريحا في بيان كيفيّة خلقه. وهذا تقرير على ألطف الوجوه. فيقول: أيّها المنكر للصانع وقدرته أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثمّ ذكرت؟ وكلّ واحد يعلم من نفسه أنّه لم يكن موجودا ثمّ وجد، فإذا تفكّر في ذلك علم أنّ له صانعا صنعه ومحدثا أوجده.

وقيل: المراد بالإنسان الأوّل العلماء، لأنّهم كانوا لا يذكرون، فصيّرهم الله سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاصّ والعامّ في حياتهم وبعد مماتهم.

وورد في تفسير أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بالإنسان عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، على أنّ الاستفهام بمعنى النفي، أي: ما مرّ زمان على الإنسان أنّه ليس مذكورا فيه.

على معنى: أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مذكور في كلّ زمان، معروف عند كلّ قوم.

ويؤيّد ذلك ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «يا عليّ كنت مع الأنبياء سرّا، ومعي جهرا». وكيف لا يكون مذكورا في جميع الأزمنة والأحيان، وقد كتب اسمه مع اسم اللهعزوجل واسم رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على ساق العرش وعلى سرادقاته(١) وأستار الجنّة، قبل أن يخلق آدمعليه‌السلام بأربعة عشر ألف سنة. وفي رواية اخرى: بأربعة وعشرين ألف سنة.

__________________

(١) سرادقات جمع سرادق، وهي الخيمة، أو الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت.

٢٦٩

وقد ورد في الأخبار عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «مكتوب على ساق العرش: لا إله إلّا الله، محمد رسول الله، أيّدته بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ونصرته».

وورد أيضا في تفسير الاماميّة: أنّ الدليل على صحّة ما ذكر أنّ المراد بالإنسان عليّ صلوات الله عليه، أنّ الألف واللام في قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) للعهد، فهو إشارة إلى الإنسان الأوّل. ولـمّا ذكر أن الإنسان الثاني خلقه من نطفة، علم أنّ الإنسان الأوّل لا يكون المراد به آدمعليه‌السلام ، إذ ليس خلقه من النطفة.

وأيضا قد اشتهر غاية الشهرة عند المفسّرين أنّ هذه السورة نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وسبب نزولها مذكور عند الخاصّ والعامّ، كما سنذكره إن شاء الله، فطريق المناسبة يقتضي أن تكون هذه السورة معنونة بذكر اسمه الشريف. فأراد سبحانه بالإنسان الأوّل عليّاعليه‌السلام ، ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة خلقه بقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

( أَمْشاجٍ ) أخلاط. جمع مشج أو مشيج. من: مشجت الشيء إذا خلطته.

ووصف النطفة به، لأنّ المراد بها مجموع منيّ الرجل والمرأة، وكلّ واحد منهما مختلف الأجزاء في الرّقة والقوام والخواصّ، ولذلك يصير كلّ جزء منهما مادّة عضو.

وقيل: مختلفة الألوان، فإنّ ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اختلطا اخضرّا. وعن ابن عبّاس والضحّاك والكلبي ومجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، فهي مختلفة الألوان.

وقيل: مختلفة الأطوار، فإنّ النطفة تصير علقة ثمّ مضغة إلى تمام الخلقة.

وقيل: مفرد، كبرمة(١) أعشار وبرد أكياش. وهما لفظان مفردان غير جمعين ،

__________________

(١) البرمة: القدر من الحجر. والأعشار جمع العشر: القطعة من كلّ شيء إذا جزّئ إلى عشر قطع. ولم يذكر أكياش في اللغة. وإنّما ذكره الزمخشري في الكشّاف ٤: ٦٦٦، ولعلّ المفسّر أخذه منه.

٢٧٠

ولذلك وقعتا صفتين للمفردين.

وقوله:( نَبْتَلِيهِ ) في موضع الحال، أي: مبتلين له، بمعنى: مريدين اختباره، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا.

أو ناقلين له من حال إلى حال، فاستعير له الابتلاء. وعن ابن عبّاس: نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثمّ علقة.

( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ليتمكّن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات.

فهو كالمسبّب من الابتلاء، ولذلك عطف بالفاء على قوله: «نبتليه»، ورتّب عليه قوله :

( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) أي: بنصب الدلائل وإنزال الآيات( إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) حالان من الهاء. و «إمّا» للتفصيل أو التقسيم، أي: مكّنّاه وأقدرناه في حالتيه جميعا. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلّة السمع والعقل، وقد كان معلوما منه أنّه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجّة. أو مقسوما إليهما، بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه، وبعضهم كفور بالإعراض عنه. أو من السبيل. ووصفه بالشكر والكفر مجاز، أي: وعرّفناه السبيل، إمّا سبيلا شاكرا، وإمّا كفورا، كقوله تعالى:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) .

وعن الزجّاج: معناه: ليختار إمّا السعادة وإمّا الشقاوة. والمراد: إمّا أن يختار بحسن اختياره الشكر لله والاعتراف بنعمه، فيصيب الحقّ، وإمّا أن يكفر نعم الله ويجحد إحسانه، فيكون ضالّا عن الصواب، فأيّهما اختار جوزي عليه بحسبه.

وهذا كقوله:( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢) .

وفي الآية دلالة على أنّ الله قد هدى جميع خلقه، لأنّ اللفظ عامّ، وإن كان

__________________

(١) البلد: ١٠.

(٢) الكهف: ٢٩.

٢٧١

سبب نزوله خاصّا. ولم يقل: كافرا ليطابق قسيمه، محافظة على الفواصل، وإشعارا بأنّ الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا، وإنّما المؤاخذ به التوغّل فيه.

واعلم أنّ في وصف كيفيّة خلق الإنسان على التفسير الأخير بأمور شاهدة له ولغيره من سائر أفراد الإنسان، تنبيها على أنّ جميع أفراد بني آدم في أصل خلقتهم متساوون، لا مزيّة ولا فضل لهم فيه، وإنّما فضّل بعضهم بالدرجات العليّة والمراتب الرضيّة على بعض بوسيلة امتثال أوامر الله وانقياد أحكام رسوله لا غير.

( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا

٢٧٢

مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) ) ولـمّا ذكر سبحانه السبيلين أتبعهما الوعد والوعيد، فقال :

( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) بها يقادون( وَأَغْلالاً ) بها يقيّدون( وَسَعِيراً ) بها يحرقون. وتقديم وعيدهم وقد تأخّر ذكرهم، لأنّ الإنذار أهمّ وأنفع، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر: سلاسلا، ليكون مناسبا لـ «أغلالا».

( إِنَّ الْأَبْرارَ ) جمع برّ، كربّ وأرباب. أو بارّ، كشاهد وأشهاد. وهو المطيع لله، المحسن في أفعاله. وقال الحسن: هم الّذين لا يؤذون الذرّ(١) ، ولا يرضون الشرّ.

وقيل: هم الّذين يقضون الحقوق الواجبة والنافلة.( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ) من خمر.

وهي في الأصل القدح تكون فيه. و «من» لابتداء الغاية. والمعنى: الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته.( كانَ مِزاجُها ) ما يمزج بها( كافُوراً ) ماء كافور. وهو اسم

__________________

(١) الذرّ: النمل.

٢٧٣

عين في الجنّة، ماؤها في بياض كافور الجنّة ورائحته وبرده، يخلق فيها رائحة الكافور وبرده وبياضه، فكأنّها مزجت بالكافور. وليس المراد كافور الدنيا.

( عَيْناً ) بدل من «كافورا» إن جعل اسم ماء. وعلى القول الأخير بدل من محلّ «من كأس» على تقدير مضاف، كأنّه قيل: يشربون خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص، أو بفعل يفسّره قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) الباء للإلصاق، ومتعلّقها محذوف، تقديره: ملتذّا أو ممزوجا بها عباد الله. وقيل: الباء مزيدة، أو بمعنى «من» لأنّ الشرب مبتدأ منها. والمراد بـ «عباد الله» الأولياء. وإضافتهم إلى الله تشريفا وتبجيلا لهم.

( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) يجرونها حيث شاؤا إجراء سهلا. وعن مجاهد: أنهار الجنّة تجري بغير أخدود، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع، ويجري بغير تعب. وقد أجمع أهل البيتعليهم‌السلام وموافقوهم وكثير من مخالفيهم أنّ المراد بالأبرار المنعوتين بهذه النعوت عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام . فالآية وما بعدها متعيّنة فيهم.

وقال صاحب مجمع البيان(١) : «وقد روى الخاصّ والعامّ أن الآيات من هذه السورة ـ وهي قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلى قوله:( وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) ـ نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين وجارية لهم تسمّى فضّة. وهو المرويّ عن ابن عبّاس ومجاهد وأبي صالح»(٢) .

والقصّة طويلة. جملتها أنّهم قالوا: مرض الحسن والحسينعليهما‌السلام فعادهما جدّهماصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوه العرب، وقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا. فنذر صوم ثلاثة أيّام لله إن شفاهما الله سبحانه. ونذرت فاطمةعليها‌السلام ، وكذلك فضّة.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠: ٤٠٤ ـ ٤٠٦.

(٢) مجمع البيان ١٠: ٤٠٤.

٢٧٤

فبرءا، وليس عندهم شيء، فاستقرض عليّعليه‌السلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ ـ وروي: أنّه أخذها ليغزل له صوفا ـ وجاء به إلى فاطمةعليها‌السلام ، فطحنت صاعا منها، فاختبزته خمسة أقراص على عددهم. وصلّى عليّعليه‌السلام المغرب، وقرّبته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم ويسألهم، فأعطوه، ولم يذوقوا إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا وطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّعليه‌السلام ، فإذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه، ولم يذوقوا إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّعليه‌السلام ، فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه. فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم، أتى عليّعليه‌السلام ، ومعه الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهما ضعف، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزل جبرئيل بسورة «هل أتى».

وفي رواية عطاء عن ابن عبّاس: أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام آجر نفسه ليستقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتّى أصبح، فلمّا أصبح وقبض الشعير طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له: الحريرة(١) ، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام. ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه. ثمّ عمل الثلث الثالث، فلمّا تمّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. ذكره الواحدي في تفسيره(٢) .

وذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أباه حدّثه عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة، فلمّا أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين: رحمكم الله. فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه ثلثها.

فلم يلبث أن جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم الله. فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه الثلث. ثمّ جاء أسير، فقال الأسير: رحمكم الله. فأعطاه عليّ الثلث الباقي، وما ذاقوها. فأنزل

__________________

(١) الحريرة: الحساء المطبوخ من الدقيق والدسم والماء.

(٢) الوسيط ٤: ٤٠٠ ـ ٤٠١.

٢٧٥

الله سبحانه الآيات فيهم، وهي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للهعزوجل »(١) . وفي هذا دلالة على أنّ السورة مدنيّة.

وقال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنّها مدنيّة، نزلت في عليّعليه‌السلام وفاطمةعليها‌السلام السورة كلّها.

وحدّثنا السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: أنبأنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني، قال: حدّثنا أبو نصر المفسّر، قال: حدّثني عمّي أبو حامد إملاء، قال: حدّثنا الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري، قال: حدّثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدّثنا يزيد بن موسى، قال: أنبأنا عمرو بن هارون، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس قال: أوّل ما أنزل بمكّة: اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن والقلم، ثمّ المزّمّل، ثمّ المدّثّر، ثمّ تبّت، ثمّ إذا الشمس كوّرت، ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى، ثمّ والليل إذا يغشى، ثمّ والفجر، ثمّ والضحى، ثمّ ألم نشرح، ثم والعصر، ثمّ والعاديات، ثمّ إنّا أعطيناك الكوثر، ثمّ ألهكم التكاثر، ثمّ أرأيت، ثمّ الكافرون، ثمّ ألم تر كيف، ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق، ثمّ قل أعوذ بربّ الناس، ثمّ قل هو الله أحد، ثمّ والنّجم، ثمّ عبس، ثمّ إنّا أنزلناه، ثمّ والشمس، ثمّ البروج، ثمّ والتين، ثمّ لإيلاف، ثمّ القارعة، ثمّ القيامة، ثمّ الهمزة، ثمّ والمرسلات، ثمّ ق، ثمّ البلد، ثمّ الطّارق، ثمّ اقتربت السّاعة، ثمّ ص، ثمّ الأعراف، ثمّ قل أوحي، ثمّ يس، ثمّ الفرقان، ثمّ الملائكة، ثمّ كهيعص، ثمّ طه، ثمّ الواقعة، ثمّ الشعراء، ثمّ النمل، ثمّ القصص، ثمّ بني إسرائيل، ثمّ يونس، ثمّ هود، ثمّ يوسف، ثمّ الحجر، ثمّ الأنعام، ثمّ الصّافّات، ثمّ لقمان، ثمّ القمر، ثمّ سبأ، ثمّ الزمر، ثمّ حم المؤمن، ثمّ حم السجدة، ثمّ حمعسق، ثمّ الزخرف، ثمّ الدخان، ثمّ الجاثية، ثمّ الأحقاف، ثمّ الذاريات، ثمّ الغاشية، ثمّ الكهف، ثمّ النحل، ثمّ نوح، ثمّ

__________________

(١) تفسير القمّي ٢: ٣٩٨.

٢٧٦

إبراهيم، ثمّ الأنبياء، ثمّ المؤمنون، ثمّ ألم تنزيل، ثمّ الطور، ثمّ الملك، ثمّ الحاقّة، ثمّ ذو المعارج، ثمّ عمّ يتساءلون، ثمّ النازعات، ثمّ انفطرت، ثمّ انشقّت، ثمّ الروم، ثمّ العنكبوت، ثمّ المطفّفين. فهذه ما أنزلت بمكّة خمس(١) وثمانون سورة.

ثمّ أنزلت بالمدينة: البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ الرعد، ثمّ الرحمن، ثمّ هل أتى، ثمّ الطلاق، ثمّ لم يكن، ثمّ الحشر، ثمّ إذا جاء نصر الله، ثمّ النور، ثمّ الحجّ، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ سورة الصفّ، ثمّ سورة الفتح، ثمّ سورة المائدة، ثمّ التوبة. فهذه ثمان وعشرون سورة.

وقد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس في كتاب الإيضاح. وزاد فيه: وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة، ثمّ يزيد الله ما يشاء بالمدينة.

وبإسناده عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن البصري: أنّ أوّل ما أنزل الله من القرآن بمكّة على الترتيب: اقرأ باسم ربّك، ون، والمزّمّل. إلى قوله: وما أنزل بالمدينة: ويل للمطفّفين، والبقرة، والأنفال، وآل عمران، والأحزاب، والمائدة، والممتحنة، والنساء، وإذا زلزلت، والحديد، وسورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرعد، والرحمن، وهل أتى على الإنسان إلى آخره.

وبإسناده عن سعيد بن المسيّب عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه قال: «سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما أنزلت من

__________________

(١) كذا في شواهد التنزيل ٢: ٤٠٩ ـ ٤١٠ ذيل ح ١٠٦٢. ولكنّ السور المكّية المذكورة في الرواية ستّ وثمانون. وهو الصحيح، إذ أنّها مع الثمان والعشرين المدنيّة تكون مائة وأربع عشرة سورة عدد سور القرآن الكريم.

٢٧٧

السماء. فأوّل ما نزل عليه بمكّة: فاتحة الكتاب، ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن. إلى أن قال: وأوّل ما أنزل بالمدينة: سورة البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ الرعد، ثمّ سورة الرحمن، ثمّ هل أتى إلى قوله: فهذا ما أنزل بالمدينة.

ثمّ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وجميع آيات القرآن ستّة آلاف آية ومائتا آية وستّ وثلاثون آية، وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفا، لا يرغب في تعلّم القرآن إلّا السعداء، ولا يتعهّد قراءته إلّا أولياء الرحمن».

أقول: قد اتّسع نطاق الكلام في هذا الباب حتّى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب، وربّما نسبنا به إلى الإطناب، ولكنّ الغرض فيه أنّ بعض أهل العصبيّة قد طعن في هذه القصّة، بأن قال: هذه السورة مكّيّة، فكيف يتعلّق بها ما كان بالمدينة؟

واستدلّ بذلك على أنّها مخترعة، جرأة على الله، وعداوة لأهل بيت رسوله.

فأحببت إيضاح الحقّ في ذلك، وإيراد البرهان في معناه، وكشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه. على أنّه كما ترى يحتوي على السرّ المخزون والدرّ المكنون من هذا العلم الّذي يستضاء بنوره ويتلألأ بزهوره، وهو معرفة ترتيب السور في التنزيل، وحصر عددها على الجملة والتفصيل. أللّهمّ أمدّنا بتأييدك، وأيّدنا بتوفيقك، فأنت الرجاء والأمل، وعلى فضلك المعوّل والمتّكل». انتهى كلام صاحب المجمع.

وروى أيضا صاحب الكشّاف عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : «أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك. فنذر عليّ وفاطمة وفضّة ـ جارية لهما ـ إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام. فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث

٢٧٨

أصوع من شعير. فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة.

فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء، وأصبحوا صياما. فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه. ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّعليه‌السلام بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم. وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها، فساءه ذلك. فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة»(١) .

ومثل ذلك روى البيضاوي في تفسيره(٢) . ونعم ما قيل :

إلى م ألام وحتّى متى

أعاتب في حبّ هذا الفتى

فهل زوّجت فاطم غيره

وفي غيره هل أتى هل أتى؟

وقوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) استئناف ببيان ما رزقوه لأجله، كأنّه سئل عنه فأجيب بذلك. وهو أبلغ في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات، لأنّ من وفى بما أوجبه على نفسه لله كان أوفى بما أوجبه الله عليه.

( وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ ) شدائده( مُسْتَطِيراً ) فاشيا منتشرا غاية الانتشار. من: استطار الحريق والفجر. وهو أبلغ من: طار، كما أنّ استنفر أبلغ من: نفر. وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ) حبّ الطعام، أي: مع اشتهائه والحاجة إليه.

__________________

(١) الكشّاف ٤: ٦٧٠.

(٢) أنوار التنزيل ٥: ١٦٥.

٢٧٩

ونحوه قوله تعالى:( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ) (١) .( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (٢) . أو الإطعام لله. وعن الفضيل بن عياض: على حبّ الله.( مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) يعني: أسارى الكفّار.

عن الحسن: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه.

وعند عامّة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفّار في دار الإسلام، ولا يصرف إليهم الواجبات كالزكوات.

وعن أبي سعيد الخدري وعطاء وسعيد بن جبير: هو الأسير المؤمن. ويدخل فيه المملوك والمسجون. وفي الحديث: «غريمك أسيرك، فأحسن إلى أسيرك».

وعن أبي سعيد الخدري أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلّا أطعمه الله من ثمار الجنّة، وما من مسلم كسا أخاه على عري إلّا كساه الله من خضر الجنّة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق».

( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) على إرادة القول بلسان الحال، بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحّة نيّتهم وإن لم يقولوا شيئا. أو المقال، إزاحة لتوهّم المنّ، ومنعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأنّ ذلك منقّص للأجر. والأوّل أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. وقد روي عن مجاهد: أما إنّهم ما تكلّموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم.( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) أي: شكرا، فإنّ الكفور والشكور مصدران، كالكفر والشكر.

( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا ) فلذلك نحسن إليكم، أو لا نطلب المكافأة منكم( يَوْماً ) عذاب يوم( عَبُوساً ) وصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن

__________________

(١) البقرة: ١٧٧.

(٢) آل عمران: ٩٢.

٢٨٠