زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 42915
تحميل: 2086


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42915 / تحميل: 2086
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كقوله:( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ) (١) .

( يَقُولُونَ ) يقول منكروا البعث( أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) في الحالة الأولى. يعنون الحياة بعد الموت. من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الّتي جاء فيها فحفرها، أي: أثّر فيها بمشيه فيها. جعل أثر قدميه حفرا، كما قيل: حفرت أسنانه حفرا، إذا أثّر الأكال في أسناخها(٢) . والخطّ المحفور في الصخر. أو على النسبة، أي: منسوبة إلى الحفر، كقوله:( عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (٣) . أو تشبيه القابل بالفاعل، كقولهم: نهارك صائم، أي: وقع فيها الحفر.

( أَإِذا ) قرأ نافع وابن عامر والكسائي: إذا، على الخبر( كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) بالية، أي: البالي الأجوف جدّا بحيث إن تمرّ فيها الريح يسمع له نخير. وقرأ الحجازيّان والشامي وحفص وروح: نخرة(٤) . وهي أبلغ. ونصب «إذا» بمحذوف تقديره: أإذا كنّا عظاما نردّ ونبعث.

( قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها.

والمعنى: أنّها إن صحّت فنحن إذا خاسرون، لتكذيبنا بها. وهو استهزاء منهم.

( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) متعلّق بمحذوف، أي: لا يستصعبوها، فما هي ـ أي: النفخة الثانية ـ إلّا صيحة واحدة. يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللهعزوجل ، فإنّها سهلة هيّنة في قدرته جدّا، فتحدث في أسرع زمان.

( فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. والساهرة الأرض البيضاء المستوية. سمّيت بذلك لأنّ السراب يجري فيها.

__________________

(١) البقرة: ٢٢١.

(٢) أسناخ السنّ: منبتها وأصولها. والواحدة: سنخ.

(٣) القارعة: ٧.

(٤) والقراءة الاخرى: ناخرة.

٣٢١

من قولهم: عين ساهرة للّتي يجري ماؤها. وفي ضدّها نائمة. أو لأنّ سالكها يسهر فلا ينام خوف الهلكة. وعن قتادة: هي اسم جهنّم.

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) )

ولـمّا تقدّم ذكر المكذّبين للأنبياء المنكرين للبعث، عقّبه بحديث موسى وتكذيب قومه إيّاه، وما قاساه من الشدائد تسلية لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعدا له بالنصر، وحثّا إيّاه على الصبر اقتداء بموسى، وتحذيرا لقومه أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، وعظة لهم، وتأكيدا للحجّة عليهم، فقال :

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ) أي: أليس قد أتاك حديثه فيسلّيك على تكذيب قومك، وتهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم؟! والهمزة للتقرير.( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) اسم واد. وقد مرّ(١) بيانه مفصّلا في سورة طه.

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٢٢٧، ذيل الآية (١٢) من سورة طه.

٣٢٢

( اذْهَبْ ) على إرادة القول، أي: قال الله تعالى له: اذهب( إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) تجاوز الحدّ في الاستعلاء والتمرّد.

( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ) هل لك الميل إلى أن تتطهّر من الكفر والطغيان؟ يقال: هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كما يقال: هل ترغب فيه؟ وهل ترغب إليه؟ ومعناه: العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ أمره سبحانه أن يقول له الكلام الرقيق الليّن ليستدعيه بالتلطّف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ) (١) . وقرأ الحجازيّان ويعقوب: تزكّى بالتشديد.

( وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ ) وأرشدك إلى معرفة الله، وأنبّهك عليه فتعرفه( فَتَخْشى ) بأداء واجباته المأمورة وترك محرّماته المنهيّة، إذ الخشية بعد المعرفة، وقد قال الله تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢) أي: العلماء العرفاء به.

وذكر الخشية لأنّها ملاك الأمر، فإنّ من خشي الله أتى منه كلّ خير، ومن أمن اجترأ على كلّ شرّ. ومنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خاف أدلج(٣) ، ومن أدلج بلغ المنزل».

وهذا كالتفصيل، لقوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ) (٤) .

( فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ) أي: فذهب فأراه المعجزة الكبرى، وهي قلب العصا حيّة، فإنّها كان المقدّم والأصل، والآيات الاخرى كالتبع لها. أو مجموع معجزاته، فإنّها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.

( فَكَذَّبَ ) بموسى والآية الكبرى، فسمّاهما ساحرا وسحرا( وَعَصى ) وعصى الله بعد ما علم صحّة الأمر، وأنّ الطاعة قد وجبت عليه.

__________________

(١) طه: ٤٤.

(٢) فاطر: ٢٨.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه أو في آخره.

(٤) طه: ٤٤.

٣٢٣

( ثُمَّ أَدْبَرَ ) عن الطاعة( يَسْعى ) ساعيا في إبطال أمره. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوبا مسرعا في مشيه. عن الحسن: كان رجلا طيّاشا خفيفا.

( فَحَشَرَ ) فجمع السحرة، كقوله:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) (١) .

( فَنادى ) بنفسه في المجمع الّذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر مناديا فنادى من قبله. والأصحّ أنّه قام فيهم خطيبا.

( فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) أي: لا ربّ فوقي، أو أعلى من كلّ من يلي أمركم.

وقيل: معناه: أنا الّذي أنال بالضرر من شئت، ولا ينالني غيري. وكذب اللعين، إنّما هذه صفة الله الّذي خلقه وخلق جميع الخلائق. وقيل: إنّه جعل الأصنام أربابا فقال: أنا ربّكم وربّها.

( فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ) أخذا منكّلا لمن رآه أو سمعه، في الآخرة بالإحراق، وفي الدنيا بالإغراق. أو مصدر مؤكّد، كوعد الله، وصبغة الله. تقديره: نكّل الله به نكال الآخرة والأولى. أو أخذه الله على نكال كلمته الآخرة، وهي هذه، وكلمته الأولى، وهي قوله:( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) (٢) . أو للتنكيل في الدارين للكلمتين.

وعن أبي جعفرعليه‌السلام : «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة».

وعن وهب، عن ابن عبّاس قال: قال موسىعليه‌السلام : يا ربّ إنّك أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى، ويجحد رسلك، ويكذّب بآياتك.

فأوحى الله تعالى إليه أنّه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه.

وروى أبو بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال جبرئيلعليه‌السلام : قلت: يا ربّ تدع فرعون وقد قال: أنا ربّكم الأعلى؟ فقال: إنّما يقول

__________________

(١) الشعراء: ٥٣.

(٢) القصص: ٣٨.

٣٢٤

هذا مثلك من يخاف الفوت».

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) الّذي فعل بفرعون حين كذّب وعصى( لَعِبْرَةً ) لعظة( لِمَنْ يَخْشى ) لمن كان من شأنه الخشية.

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) )

ولـمّا قدم سبحانه ما أتى به موسى، وما قابله به فرعون، وما عوقب به في الدارين، عظة لمن كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحذيرا لهم من المثلات، خاطب عقيب ذلك منكري البعث، فقال :

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ ) أصعب( خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ) أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله على السواء. ثمّ بيّن كيف خلقها فقال:( بَناها ) .

ثمّ فسّر البناء بقوله:( رَفَعَ سَمْكَها ) أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، أو الذاهب في سمت العلوّ رفيعا مسيرة خمسمائة عام( فَسَوَّاها ) فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور أصلا. أو فتمّمها بما علم أنّه صلاحها وكمالها، من الكواكب والتداوير الّتي ليست بشاملة على الأرض وغين ها. من قولهم: سوّى فلان أمره إذا أصلحه.

( وَأَغْطَشَ لَيْلَها ) أظلمه. من: غطش الليل إذا أظلم، كقولك: ظلم وأظلمه.

٣٢٥

ويقال أيضا: أغطش الليل، كما يقال: أظلم. فجاءا متعدّيين ولازمين.( وَأَخْرَجَ ضُحاها ) وأبرز ضوء شمسها، لقوله:( وَالشَّمْسِ وَضُحاها ) (١) يريد النهار.

وقولهم: وقت الضحى للوقت الّذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها. وإنّما أضاف الليل والضحى إلى السماء، لأنّهما يحدثان بحركتها، ولأنّ الليل ظلّها، والضحى الشعاع المنبثّ في جوّها.

( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ ) بعد خلق السماء( دَحاها ) بسطها ومهّدها للسكنى.

قال ابن عبّاس: إنّ الله تعالى دحا الأرض بعد السماء وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء، وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. وقال مجاهد والسدّي: معناه: والأرض مع ذلك دحاها، كما قال:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (٢) أي: مع ذلك.

( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ) بتفجير العيون( وَمَرْعاها ) ورعيها. وهو في الأصل موضع الرعي. والمراد ما يأكل الناس والأنعام، من الثمار والأشجار والحبوب وسائر النباتات. واستعير الرعي للإنسان، كما استعير الرتع في قوله:( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) (٣) .

( وَالْجِبالَ أَرْساها ) أثبتها. وتجريد «أخرج» عن العاطف لوجهين :

أحدهما: أن يكون معنى «دحاها»: بسطها ومهّدها للسكنى. ثمّ فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتّي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال، وإثباتها أوتادا لها حتّى تستقرّ ويستقرّ عليها.

والثاني: أن يكون «أخرج» حالا بإضمار «قد» كقوله :

__________________

(١) الشمس: ١.

(٢) القلم: ١٣.

(٣) يوسف: ١٢.

٣٢٦

( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) (١) .

( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) أي: خلق ما ذكر تمتيعا لكم. أو متّع الله بذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم.

( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) )

ولـمّا دلّ سبحانه بهذه الأشياء على صحّة البعث، وصف يومه بقوله:( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ ) الداهية الّتي تطمّ، أي: تعلو وتغلب على سائر الدواهي( الْكُبْرى ) الّتي هي أكبر الطامّات. وهي القيامة، لطمومها على كلّ هائلة، أي: ما من طامّة إلّا وفوقها طامّة، والقيامة فوق كلّ طامّة، فهي الداهية العظمى. وقيل: هي النفخة الثانية، أو الساعة الّتي يساق فيها أهل الجنّة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار.

وجواب «فإذا» محذوف، تقديره: فوقع ما لا يدخل تحت الوصف. ويدلّ عليه قوله:( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ) ما عمله من خير وشرّ، بأن يراه مدوّنا في صحيفته، وكان قد نسيها من فرط الغفلة أو طول المدّة. وهو بدل من «إذا جاءت». و «ما» موصولة أو مصدريّة.

( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ ) وأظهرت( لِمَنْ يَرى ) لكلّ راء بحيث لا تخفى على

__________________

(١) النساء: ٩٠.

٣٢٧

أحد.( فَأَمَّا مَنْ طَغى ) تجاوز الحدّ الّذي حدّه الله له، وارتكب المعاصي العظيمة حتّى كفر( وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) انهمك فيها، ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. والإيثار إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره.( فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) مأواه. واللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأنّ صاحب المأوى هو الطاغي.

( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) مقام مساءلة ربّه عمّا يجب عليه فعله أو تركه( وَنَهَى النَّفْسَ ) النفس الأمّارة بالسوء( عَنِ الْهَوى ) عن اتّباع الشهوات وزجرها عنه، وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير، لعلمه بأنّه مرد( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) ليس له سواها مأوى.

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

ثمّ خاطب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ) استهزاء وإنكارا( أَيَّانَ مُرْساها ) متى إرساؤها. أي: إقامتها وإثباتها، بأن يقيمها الله ويثبتها ويكوّنها. أو منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه وتستقرّ فيه.

( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم، أي: ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء، فإنّ ذكرها لا يزيدهم إلّا غيّا، ووقتها ممّا استأثره الله بعلمه. وروي: أنّه لم يزل رسول الله يذكر الساعة يسأل عنها حتّى نزلت. فهو على هذا تعجّب من كثرة ذكره لها، كأنّه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت

٣٢٨

من ذكرها والسؤال عنها. والمعنى: أنّهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.

وقيل: «فيم» إنكار لسؤالهم. و( أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) مستأنف، معناه: أنت ذكر من ذكراها، أي: علامة من أشراطها، فإنّ إرسالك خاتما للأنبياء أمارة من أماراتها.

فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارفتها، ووجوب الاستعداد لها. ولا معنى لسؤالهم عنها.

ثمّ قال:( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي: لم تبعث لتعلّمهم وقت الساعة الّذي لا فائدة لهم في علمه، وإنّما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف هولها، ويكون إنذارك لطفا له في الخشية منها. وعن أبي عمرو: منذر بالتنوين، والإعمال على الأصل.

وكلاهما يصلحان للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة، كقولك: هو منذر زيد أمس.

( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا ) أي: في الدنيا. وقيل: في القبور.( إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) أي: عشيّة يوم أوضحاه. وأضاف الضحى إلى العشيّة لـما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في نهار واحد. وإنّما لم يقل: إلّا عشيّة أو ضحى، للدلالة على أنّ مدّة لبثهم كأنّها لم تبلغ يوما كاملا، ولكن ساعة منه: عشيّته أو ضحاه، فلمّا ترك اليوم أضافه إلى عشيّته، فهو كقوله تعالى:( لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) (١) .

__________________

(١) الأحقاف: ٣٥.

٣٢٩
٣٣٠

(٨٠)

سورة عبس

مكّيّة. وهي اثنان وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».

وروى معاوية بن وهب عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة عبس وتولّى وإذا الشمس كوّرت كان تحت جناح الله في الجنان، وفي ظلّ الله وكرامته في جنانه، ولا يعظم ذلك على ربّهعزوجل ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) )

٣٣١

ولـمّا ختم اللهعزوجل سورة النازعات بذكر إنذار من يخشى القيامة، افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم وإعراضه عمّن يخشى.

وسبب نزول هذه السورة أنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أمّ مكتوم ـ وأمّ مكتوم أمّ أبيه لأمّه، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ ـ وعند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعبّاس بن عبد المطّلب، وأميّة بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علمك الله. وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالقوم. فكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع ابن أمّ مكتوم كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،؟؟؟ الصناديد: إنّما أتباعه العميان والعبيد، وعبس وأعرض عنه على القوم الّذين يكلّمهم. فعاتبه الله سبحانه بنزول هذه السورة.

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَبَسَ ) ؟ وقبض وجهه( وَتَوَلَّى ) وأعرض بوجهه( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) لأن جاءه هذا الأعمى. منصوب المحلّ بـ «تولّى» أو بـ «عبس» على اختلاف المذهبين. وذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقوم، والدلالة على أنّه أحقّ بالرأفة والرفق. أو لزياد العتاب والإنكار، كأنّه قال: عبس وتولّى لكونه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعما تعطّفا وترأّفا وتقريبا وترحيبا. ولأجل ذلك أيضا التفت عن الغيبة إلى الخطاب كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه، ثمّ يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجها له بالعتاب والتوبيخ، فقال :

( وَما يُدْرِيكَ ) أي: وأيّ شيء يجعلك داريا، أي: عالما بحال هذا الأعمى( لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) يتطهّر من الآثام بما يتلقّف منك. وفيه إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية؟ غيره.

٣٣٢

( أَوْ يَذَّكَّرُ ) يتّعظ بما يعلّمه من مواعظ القرآن( فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) فتنفعه موعظتك، وتكون له لطفا في بعض الطاعات. والمعنى: إنّك لا تدري ما هو مترقّب منه من تزكّ أو تذكّر، ولو دريت لـما فرط منك ذلك. قالوا: وفي هذا لطف من الله عظيم لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لم يخاطبه في باب العبوس، فلم يقل: عبست، فلمّا جاوز العبوس عاد إلى الخطاب وقال: وما يدريك.

وقيل: الضمير في «لعلّه» للكافر، أي: إنّك طمعت في أن يتزكّى بالإسلام، أو يتذكّر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحقّ، ولذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن. وقرأ عاصم بالنصب جوابا لـ «لعلّ»، كقوله:( فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) (١) .

( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) بكثرة الأموال والخدم والحشم( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) تتعرّض بالإقبال عليه. والمصاداة: المعارضة. وأصله: تتصدّى. وقرأ ابن كثير ونافع: تصدّى.

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وليس عليك باس في أن لا يتزكّى بالإسلام، حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض. أو أيّ شيء يلزمك إن لم يسلم، فإنّه ليس عليك إلّا البلاغ.

( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) يسرع طالبا للخير( وَهُوَ يَخْشى ) يخشى الله، أو يخشى أذيّة الكفّار في إتيانك، أو عثرة الطريق، لأنّه أعمى لا قائد له( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) تتشاغل. يقال: لها عنه والتهى وتلهّى. ولعلّ ذكر التصدّي والتلهّي للإشعار بأنّ العتاب على اهتمام قلبه بالغنيّ وتلهّيه عن الفقير. وفي تكرير ضمير الخطاب إفادة الاختصاص. ومعناه: مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى للغنيّ ويتلهّى عن الفقير.

__________________

(١) غافر: ٣٧.

٣٣٣

روي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن مكتوم، ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي. ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرّتين.

وقال أنس: رأيته يوم القادسيّة ـ وهو يوم فتح المدائن بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعليه درع، وله راية سوداء.

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا».

وروي: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قطّ، ولا تصدّى لغنيّ. ولقد تأدّب الناس بأدب الله ورسوله في هذا تأدّبا حسنا، فقد روي عن سفيان الثوري: أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

واعلم أنّ علم الهدى قدّس الله روحه أنكر أن يكون المعاتب في هذه الآيات هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقال في تنزيه الأنبياء: «ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدلّ على أن المعنيّ بها غيره، لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة.

ويؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفهعليه‌السلام :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

وقوله:( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) . فالظاهر أنّ قوله: «عبس وتولّى» المراد به غيره. وقد روي عن الصادقعليه‌السلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

__________________

(١) القلم: ٤.

(٢) آل عمران: ١٥٩.

٣٣٤

فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟

فالجواب: أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.

وقال الجبائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد، لمكان النهي. فأمّا في الماضي فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل أن ينهى عنه، والله سبحانه لم ينبّهه إلّا في هذا الوقت.

وقيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم، فعاتبه الله سبحانه على ذلك»(١) انتهى كلامه.

وأنا أقول: ما روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» لا يدلّ على أنّ العابس والمتولّي عن الأعمى هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لجواز أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا نزلت الآيات في معاتبة الرجل المذكور فيما فعل بالأعمى عرف حال الأعمى ومكانته عند الله، فقال ذلك إجلالا وتعظيما له، وزجرا لنفسه عن أن يصدر منه ما صدر من الرجل المذكور.

( كَلَّا ) ردع عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله. والمعنى: انزجر عن مثل ذلك، ولا تعد لذلك. وفي هذا الردع دلالة على أنّه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل، وأمّا الماضي فلمّا لم يتقدّم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية.( إِنَّها تَذْكِرَةٌ )

__________________

(١) تنزيه الأنبياء: ١١٨ ـ ١١٩.

٣٣٥

موعظة يجب الاتّعاظ بها والعمل بموجبها.

( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) حفظه، أو اتّعظ به. والضميران للقرآن، أو للعتاب المذكور. وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره. ويحتمل أن يكون الضمير الأوّل راجعا إلى المواعظ المذكورة، والثاني إلى «تذكرة». وتذكيره لأنّ التذكرة في معنى الذكر. وفي هذا دلالة على أنّ العبد قادر على الفعل مخيّر فيه.

( فِي صُحُفٍ ) مثبتة فيها. صفة لـ «تذكرة»، أو خبر ثان، أو خبر لمحذوف.

( مُكَرَّمَةٍ ) عند الله( مَرْفُوعَةٍ ) في السماء، أو مرفوعة المقدار( مُطَهَّرَةٍ ) منزّهة عن أيدي الكفرة أو الشياطين، لا يمسّها إلّا أيدي ملائكة مطهّرين( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) أي: كتبة من الملائكة الّذين ينتسخون الكتب المنزلة على الأنبياء من اللوح. أو من الأنبياء الّذين ينتسخونها من الوحي.

وقيل: المراد بالصحف اللوح. وجمعها باعتبار أنواع الحكم وفنون الوقائع فيه.

وقيل: السفرة القرّاء من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتبونها ويقرءونها. أو سفراء يسفرون بالوحي بين الله ورسله. من السفر على الأوّل، والسفارة على الثاني.

والتركيب للكشف. يقال: سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.

ويؤيّد الأوّل قوله تعالى:( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) (١) . وما نقل عن مقاتل أنّ القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة، ثمّ ينزل به جبرئيلعليه‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( كِرامٍ ) أعزّاء على الله. أو متعطّفين على المؤمنين، يكلّمونهم ويستغفرون لهم. وقيل: كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها.( بَرَرَةٍ ) أتقياء.

__________________

(١) الأعلى: ١٨.

٣٣٦

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

ثمّ ذكر سبحانه المكذّبين بالقرآن، فقال:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) أهلك ولعن. دعاء عليه بأشنع الدعوات، لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.( ما أَكْفَرَهُ ) تعجّب من إفراطه في كفران الله ونعمته. وهو مع قصره يدلّ على سخط عظيم وذمّ بليغ. قال صاحب الكشّاف: «ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسّا، ولا أدلّ على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمّة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمّة على قصر متنه»(١) .

واللام إشارة إلى كلّ كافر. وعن الضحّاك: هو أميّة بن خلف. وقيل: عتبة بن أبي لهب، إذ قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى.

ثمّ بيّن وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط وقلّة الالتفات، إلى ما يتقلّب فيه، وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر، فقال :

( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الاستفهام للتحقير، أي: أيّ شيء حقير مهين خلقه؟ ولذلك أجاب عنه بقوله:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) فهيّأه لـما يصلح له ويختصّ به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تمّ خلقته.

( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) ثمّ سهّل مخرجه من بطن أمّه، بأن فتح فوهة(٢) الرحم ،

__________________

(١) الكشّاف ٤: ٧٠٣.

(٢) فوهة الشيء وفوّهته: فمه.

٣٣٧

وألهمه أن ينتكس. أو ذلّل له سبيل الخير والشرّ بإقداره وتمكينه، كقوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) (١) . وعن ابن عبّاس: بيّن له السبيلين. ونصب «السبيل» بفعل يفسّره الظاهر، للمبالغة في التيسير. وتعريفه باللام دون الإضافة للإشعار بأنّه سبيل عامّ. وفيه ـ على المعنى الأخير ـ إيماء بأنّ الدنيا طريق والمقصد غيرها. ولذلك عقّبه بقوله :

( ثُمَّ أَماتَهُ ) عدّ الإماتة في النعم، لأنّ الإماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبديّة واللذّات الخالصة( فَأَقْبَرَهُ ) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميّت إذا دفنه، وأقبره إذا أمره أن يقبره ومكّنه منه.

( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) أنشأه النشأة الأخرى. وفي «إذا شاء» إشعار بأنّ وقت النشور غير متعيّن في نفسه، وإنّما هو موكول إلى مشيئته.

( كَلَّا ) ردع للإنسان عمّا هو عليه( لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) لم يقض بعد ـ مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ـ ما أمره الله بأسره حتّى يخرج من جميع أوامره، إذ لا يخلو أحد من تقصير مّا.

( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) )

__________________

(١) الإنسان: ٣.

٣٣٨

ولـمّا عدّد النعم الذاتيّة أتبعه ذكر النعم الخارجيّة، وهي ما يحتاج إليه في التعيّش، فقال:( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) مطعمه الّذي يعيش به، ويتفكّر كيف دبّرنا أمره من أسباب التعيّش.

ثمّ استأنف بيان كيفيّة إحداث الطعام بقوله:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) يعني: الغيث. وقرأ الكوفيّون بالفتح(١) على البدل من «طعامه» بدل الاشتمال.

( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) أي: بالنبات. أو بالكراب(٢) على البقر. وحينئذ أسند الشقّ إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.

( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ) جنس الحبوب الّتي يتقوّت بها، كالحنطة والشعير( وَعِنَباً ) خصّه لكثرة منافعه( وَقَضْباً ) يعني: الرطبة. والمقضاب: أرضه.

سمّيت بمصدر: قضبه إذا قطعه، لأنّها تقضب مرّة بعد اخرى.

( وَزَيْتُوناً ) يعصر عنه الزيت( وَنَخْلاً ) جمع نخلة( وَحَدائِقَ غُلْباً ) يحتمل أن يجعل كلّ حديقة غلباء. فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة. وأن يجعل شجرها غلبا، أي: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير.

( وَفاكِهَةً ) وسائر ألوان الفواكه( وَأَبًّا ) ومرعى. من: أبّ إذا أمّ، لأنّه يؤمّ وينتجع(٣) . والأبّ والأمّ أخوان. أو من: أبّ لكذا إذا تهيّأ له، لأنّه متهيّئ للرعي. أو فاكهة يابسة تؤبّ للشتاء. ونقل في الكشّاف(٤) عن أبي بكر أنّه سئل عن الأبّ، فقال: أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به.

__________________

(١) أي: بفتح همزة: أنّا.

(٢) كرب الأرض كرابا: قلّبها وحرثها.

(٣) في هامش الخطّية: «النجعة بالضمّ: طلب الكلأ في موضعه. منه».

(٤) الكشّاف ٤: ٧٠٤.

٣٣٩

وعن عمر: أنّه قرأ هذه الآية فقال: كلّ هذا قد عرفنا، فما الأبّ؟ ثمّ رفض(١) عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف. ثمّ قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.

( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) تمتيعا لكم ولمواشيكم، فإنّ الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف.

( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) )

ولـمّا بيّن النشأة الأولى وتوابعها ذكر أحوال النشأة الآخرة، فقال:( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) أي: النفخة. يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له. وصفت النفخة بها مجازا، لأنّ الناس يصخّون لها، أي: يصيحون. وعن ابن عبّاس: سمّيت بذلك، لأنّها تصخّ الآذان، أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.

( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) لاشتغاله بشأنه، وعلمه بأنّهم لا ينفعونه. وقيل: للحذر من مطالبتهم بما قصّر في حقّهم. فيقول الأخ :

__________________

(١) رفض الشيء: رماه وتركه.

٣٤٠