زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 42743
تحميل: 2051


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42743 / تحميل: 2051
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لم تواسني بمالك. والأبوان: قصّرت في برّنا. والصاحبة: أطعمتني الحرام، وفعلت وصنعت كذا وكذا. والبنون: لم تعلّمنا ولم ترشدنا. وبدأ بالأخ ثمّ بالأبوين، لأنّهما أقرب منه، ثمّ بالصاحبة والبنين، لأنّهم أقرب وأحبّ. كأنّه قيل: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه.

( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أمر عظيم يشغله عن الأقرباء، ويصرفه عنهم، ويكفيه في الاهتمام به، أي: ليس فيه فضل لغيره، لـما هو فيه من الأمر الّذي قد اكتنفه وملأ صدره، فصار كالغنيّ عن الشيء في أمر نفسه لا ينازع إليه.

وروي عن عطاء بن يسار، عن سودة زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يبعث الناس حفاة عراة غرلا(١) ، يلجمهم العرق، ويبلغ شحمة الآذان.

قالت: قلت: يا رسول الله ؛ وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟! قال: شغل الناس عن ذلك، وتلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه».

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) مضيئة. من: أسفر الصبح إذا أضاء. وعن ابن عبّاس: من قيام الليل، لـما روي من الحديث: «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار». وعن الضحّاك: من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل الله.( ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) لـما ترى من النعيم.

( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) غبار وكدورة، كالدخان يعلوها( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) يعلوها ويغشاها سواد وظلمة. ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.

( أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) الّذين جمعوا إلى الكفر الفجور، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة.

__________________

(١) غرل الصبيّ: لم يختن. فهو أغرل. والجمع: غرل.

٣٤١
٣٤٢

(٨١)

سورة التكوير

مكّيّة. وهي تسع وعشرون آية. ومنهم من يقول: سورة التكوير.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ومن قرأ سورة( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

ابن عمر قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) ».

وروى أبو بكر قال: قلت: يا رسول الله أسرع إليك الشيب! قال: «شيّبتني سورة هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت».

وروي: أنّ عليّاعليه‌السلام لـمّا غسّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد في لحيته شعرات بيضا، وما لا يظهر إلّا بعد التفتيش لا يكون شيبا.

فعلى هذا ؛ فالمراد بقوله: «شيّبتني هذه السورة» أنّه لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥)

٣٤٣

وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة عبس بذكر القيامة وأهوالها، افتتح هذه السورة أيضا بذكر علاماتها وأحوالها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) لفّت. من: كوّرت العمامة إذا لففتها. أو بمعنى: رفعت، لأنّ الثوب إذا أريد رفعه لفّ وطوي. ونحوه قوله تعالى:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ ) (١) . وعن ابن عبّاس ومجاهد: لفّ ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق وزال أثره فأظلمت، ثمّ يحدث الله تعالى ضياء للعباد غيرها. وعن الربيع وأبي صالح: ألقيت وطرحت عن فلكها. من: طعنه فكوّره إذا ألقاه مجتمعا.

والتركيب للإدارة والجمع. وارتفاع الشمس بفعل يفسّره ما بعدها أولى، لأنّ «إذا» الشرطيّة تطلب الفعل.

__________________

(١) الأنبياء: ١٠٤.

٣٤٤

( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) انقضّت، أي: تساقطت وتناثرت. وهذا مثل قوله:( وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) (١) . إلّا أنّ في الأوّل يذهب ضوؤها ثم تتناثر. وعن الجبائي: أظلمت، من: كدرت الماء فانكدر. ويروى: أنّ الشمس والنجوم تطرح في جهنّم ليراها من عبدها، كما قال:( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (٢) .

( وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ) عن وجه الأرض وأبعدت. أو في الجوّ تسيير السحاب، كقوله:( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) (٣) .

( وَإِذَا الْعِشارُ ) النوق اللواتي أتى على حملهنّ عشرة أشهر، ثمّ هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة. جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء. وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم.( عُطِّلَتْ ) تركت مهملة بلا راع، لاشتغالهم بأنفسهم. وقيل: العشار السحائب عطّلت من المطر. حكي ذلك عن الجبائي، وأبي عمرو. وقال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.

( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) جمعت من كلّ جانب. أو بعثت للقصاص ثمّ ردّت ترابا، فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته، كالطاووس ونحوه. وقال قتادة: يحشر كلّ شيء ـ حتّى الذباب ـ للقصاص. وعن ابن عبّاس: حشرها موتها. من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس: حشرتهم، أي: أماتتهم.

( وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) أحميت. أو ملئت بتفجير عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها، فيرتفع البرزخ بينهما حتّى يعود بحرا واحدا. من: سجّر التنّور إذا ملأه بالحطب ليحميه. وعن ابن عبّاس: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار.

وعن الحسن: يذهب ماؤها، فلا تبقى فيها قطرة. وعن الجبائي: ملئت من القيح

__________________

(١) الانفطار: ٢.

(٢) الأنبياء: ٩٨.

(٣) النمل: ٨٨.

٣٤٥

والصديد الّذي يسيل من أبدان أهل النار في النار. وقيل: أراد بحار جهنّم، لأنّ بحور الدنيا قد فنيت. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وروح بالتخفيف.

( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) قرنت بالأجساد. أو كلّ منها قرنت بشكلها من أهل النار، وبشكلها من أهل الجنّة. أو بكتابها وعملها. أو نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه، من إنسان أو شيطان.

( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ ) المدفونة حيّة. من: وأد يئد، مقلوب من: آد يؤد إذا أثقل.

قال الله تعالى:( وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ) (١) لأنّه إثقال بالتراب( سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) تبكيتا لوائدها، كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسىعليه‌السلام :( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) . وإنّما قيل: «قتلت» بناء على أنّ الكلام إخبار عنها. ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل: قتلت. وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم من أجلهنّ. وكانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله، فنلحق البنات بهنّ، فيقولون: إنّهنّ أحقّ بهنّ.

وفي الكشّاف: «كان الرجل في الجاهليّة إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبّة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل والغنم في البادية. وإن أراد قتلها تركها حتّى إذا كانت سداسيّة ـ أي: بلغت قامتها ستّة أشبار ـ فيقول لأمّها: طيّبيها وزيّنيها حتّى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب حتّى تستوي البئر بالأرض»(٣) .

وعن ابن عبّاس: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفيرة فتمخّضت على

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) المائدة: ١١٦.

(٣) الكشّاف ٤: ٧٠٨.

٣٤٦

رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنا حبسته.

( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) يعني: صحف الأعمال، فإنّها تطوى عند الموت ثمّ تنشر وقت الحساب. وعن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك ثمّ تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته. وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «يحشر الناس حفاة عراة، كما مرّ في السورة السابقة. فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أمّ سلمة. قالت: وما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل».

وقيل: «نشرت» بمعنى: فرّقت بين أصحابها. وقيل: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنّة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم. ومعناه: مكتوب فيهما ذلك. وهي صحف غير صحف الأعمال.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالتشديد، للمبالغة في النشر، أو لكثرة الصحف، أو لشدّة التطاير.

( وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ) قلعت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة.

( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان وحفص ورويس بالتشديد. وقيل: سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم.

( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) قربت من المتّقين، كقوله:( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) (١) ليزدادوا سرورا، ويزداد أهل النار حسرة.

( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ) جواب «إذا» وعاملها. والمعنى: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كلّ نفس ما وجدت حاضرا من عملها، كما قالوا: أحمدته، أي: وجدته محمودا.

__________________

(١) ق: ٣١.

٣٤٧

وقيل: علمت ما أحضرته من خير وشرّ. وإحضار الأعمال مجاز، لأنّها لا تبقى. والمعنى: أنّه لا يشذّ عنها شيء، فكأنّ كلّها حاضرة.

وقيل: المراد صحائف الأعمال.

وإنّما صحّ ذلك والمذكور في سياق «إذ» اثنتا عشرة خصلة، ستّ منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا، وستّ بعده، لأنّ المراد زمان متّسع شامل لها ولمجازاة النفوس على أعمالها. و «نفس» في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة. كأنّه قيل: علمت كلّ نفس.

وعن ابن مسعود: أنّ قارئا قرأها عنده، فلمّا بلغ( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ) قال: وانقطاع ظهرياه.

( فَلا أُقْسِمُ ) قد ذكرنا اختلاف العلماء فيه غير مرّة( بِالْخُنَّسِ ) بالكواكب الرواجع. من: خنس إذا تأخّر. ألا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله.

وهي ما سوى النيّرين من السيّارات. ولذلك وصفها بقوله:( الْجَوارِ ) السيّارات في أفلاكها( الْكُنَّسِ ) الغيّب تحت ضوء الشمس. من: كنس الوحشيّ إذا دخل كناسه، وهو بيته المتّخذ من أغصان الشجر.

وعن عليّعليه‌السلام : «هي الدّراري الخمسة: زحل، ومشتري، ومرّيخ، وعطارد، وزهرة».

تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتّى تخفى تحت ضوء الشمس.

فخنوسها: رجوعها. وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.

وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها.

( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) أدبر ظلامه. يقال: عسعس الليل وسعسع إذا أدبر.

قال العجاج :

حتّى إذا الصبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

٣٤٨

وقيل: عسعس إذا أقبل ظلامه. فهو من الأضداد.

( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) أي: طلع وظهرت إضاءته. ولـمّا كان إقبال الصبح مع إقبال روح ونسيم، جعل ذلك نفسا له على المجاز، فقيل: تنفّس الصبح.

وجواب القسم قوله:( إِنَّهُ ) أي: القرآن( لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) على ربّه.

يعني: جبرئيلعليه‌السلام ، فإنّه قاله عن الله تعالى. وقيل: إنّما أضافه إلى جبرئيل، لأنّ الله تعالى قال له: ائت محمّدا وقل له كذا.

ثمّ وصف جبرئيلعليه‌السلام بقوله:( ذِي قُوَّةٍ ) كقوله:( شَدِيدُ الْقُوى ) (١) . ولـمّا كانت حال المكانة على حسب حال الممكّن قال:( عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ) أي: عند مالك العرش وخالقه ومدبّره( مَكِينٍ ) ذي مكانة ورفعة، ليدلّ على عظم منزلته ومكانته وعلوّ مرتبته.

( مُطاعٍ ) في ملائكته( ثَمَ ) إشارة إلى الظرف المذكور، أعني: عند ذي العرش. ويحتمل اتّصاله بما قبله وما بعده، على معنى: أنّه عند الله مطاع في ملائكته المقرّبين، يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه. قالوا: ومن طاعة الملائكة لجبرئيل أنّه أمر خازن الجنّة ليلة المعراج حتّى فتح لمحمّد أبوابها، فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن النار ففتح له عنها حتّى نظر إليها. أو عند الله.( أَمِينٍ ) على الوحي إلى أنبيائه.

وفي الحديث: «أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرئيلعليه‌السلام : ما أحسن ما أثنى عليك ربّك( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) . فما كانت قوّتك؟ وما كانت أمانتك؟ قال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن، في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتّى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثمّ هويت بهنّ فقلبتهنّ. وأمّا أمانتي ؛ فإنّي لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره».

__________________

(١) النجم: ٥.

٣٤٩

( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩) )

ثمّ خاطب الكفّار، فقال:( وَما صاحِبُكُمْ ) يعني: محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( بِمَجْنُونٍ ) كما تبهته(١) الكفرة. وهذا أيضا من جواب القسم، أقسم الله عزّ اسمه أنّ القرآن نزل به جبرئيل، وأنّ محمّدا ليس على ما يرميه به أهل مكّة من الجنون. والاستدلال بذلك على فضل جبرئيل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث عدّ فضائل جبرئيل، واقتصر في محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفي الجنون. ضعيف جدّا، إذ المقصود منه نفي قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (٢) ( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (٣) . لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.

( وَلَقَدْ رَآهُ ) ولقد رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيلعليه‌السلام على صورته الأصليّة الّتي خلقه الله عليها( بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) بمطلع الشمس الأعلى.

( وَما هُوَ ) وما محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( عَلَى الْغَيْبِ ) على ما يخبر به، من رؤية جبرئيل والوحي إليه، وغير ذلك من الغيوب.( بِضَنِينٍ ) بمتّهم. من الظنّة، وهي التهمة. وقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر: بضنين. من الضنّ، وهو البخل، أي :

__________________

(١) أي: تتّهمه بما ليس فيه.

(٢) النحل: ١٠٣.

(٣) سبأ: ٨.

٣٥٠

لا يبخل بالتبليغ، فيزوي(١) بعضه غير مبلّغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلّمه. وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ بهما.

وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما ممّا لا بدّ منه للقارىء، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، وإن فرّقوا ففرقا غير صواب. وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافّة اللسان، وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. ولو استوى الحرفان لـما ثبت في هذه الكلمة قراءتان، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.

( وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) بقول بعض المسترقة للسمع، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة. وهو نفي لقولهم: إنّه لكهانة وسحر.

ثمّ بكّتهم الله سبحانه، فقال:( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول والقرآن، كقولك لتارك الجادّة اعتسافا: أين تذهب؟ فمثّلت حالهم بحاله في تركهم الحقّ، وعدولهم عنه إلى الباطل.

( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) تذكير( لِلْعالَمِينَ ) لا مطلقا، بل( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) بتحرّي الحقّ وملازمة الصواب. فهذا بدل من «للعالمين». وإنّما أبدلوا منهم لأنّ الّذين شاؤا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنّه لم يوعظ به غيرهم، وإن كانوا موعظين جميعا.

( وَما تَشاؤُنَ ) الاستقامة يا من يشاؤها( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) إلّا بتوفيق الله مالك الخلق كلّهم وبلطفه. أو وما تشاؤنها أنتم يا من لا يشاؤها إلّا بقسر الله وإلجائه. ولكن لا يفعل، لأنّه إنّما يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقّوا الثواب، فلا يريد أن يحملكم عليه.

__________________

(١) أي: يمنع.

٣٥١
٣٥٢

(٨٢)

سورة انفطرت

وتسمّى سورة الانفطار أيضا. مكّيّة. وهي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ومن قرأها أعطاه الله من الأجر يعدد كلّ قبر حسنة، وبعدد كلّ قطرة مائة حسنة، وأصلح الله شأنه يوم القيامة».

وروى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من قرأ هاتين السورتين: إذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقّت، وجعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من الله حجاب، ولم يحجزه من الله حاجز، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر الله إليه حتّى يفرغ من حساب الناس».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ

٣٥٣

(٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

ولـمّا كانت السورة المتقدّمة في ذكر أهوال القيامة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ليتّصل بها اتّصال النظير بالنظير، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) انشقّت( وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) تساقطت متفرّقة. قال ابن عبّاس: سقطت سودا لا ضوء لها.

( وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ) فتح بعضها إلى بعض، فزال البرزخ بينها، فاختلط العذب بالمالح، وصار الكلّ بحرا واحدا. وروي: أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن.

( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) بحثت وقلب ترابها وأخرج موتاها. وقيل: إنّه مركّب من «بعث» مع راء مضمومة إليه. ونظيره: بحثرت لفظا ومعنى. وقيل لبراءة(١) : المبعثرة، لأنّها بعثرت أسرار المنافقين.

( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ ) من حسنة أو سيّئة( وَأَخَّرَتْ ) من سنّة يستنّ بها

__________________

(١) أي: لسورة البراءة.

٣٥٤

بعده. وهو جواب «إذا» وعاملها.

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال: ما قدّمت من خير أو شرّ، وما أخّرت من سنّة حسنة استنّ بها بعده، فله أجر من اتّبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، أو سنّة سيّئة عمل بها بعده، فعليه وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء.

ويؤيّد هذا القول ما جاء في الحديث: «أن سائلا قام على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل، فسكت القوم، ثمّ إنّ رجلا أعطاه، فأعطاه القوم أيضا. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجوره ومثل أجور من اتّبعه غير منتقص من أجورهم، ومن استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم». قال: فتلا حذيفة بن اليمان:( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) . وتفصيل ذلك تقدّم(١) في قوله:( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) .

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) أيّ شيء خدعك وجرّأك على عصيانك بربّك. وإنّما وصف ذاته بين الصفات بالكرم في بيان إنكار الاغترار به، وإنّما يغترّ بالكريم – كما يروى عن عليٍّعليه‌السلام أنّه صاح بغلام له كرّات فلم يلبّه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه وأعتقه. وقد قالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ـ للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإنّ محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر والانتقام. وللإشعار بما به يغرّه الشيطان، فإنّه يقول له: افعل ما شئت، فربّك كريم لا يعذّب أحدا، ولا يعاجل بالعقوبة. وللدلالة على أنّ كثرة كرمه تستدعي الجدّ في طاعته، لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

فملخّص المعنى: أنّ حقّ الإنسان أن لا يغترّ بتكرّم الله عليه، حيث خلقه

__________________

(١) راجع ص ٢٥٧، ذيل الآية (١٣) من سورة القيامة.

٣٥٥

حيّا لينفعه، وبتفضّله عليه بذلك، حتّى يطمع ـ بعد ما مكّنه وكلّفه، فعصى وكفر النعمة المتفضّل بها ـ أن يتفضّل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغترارا بالتفضّل الأوّل، فإنّه منكر خارج من حدّ الحكمة. ولهذا

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا تلاها: «غرّه جهله».

وقال الحسن: غرّه والله شيطانه الخبيث، أي: زيّن له المعاصي، وقال له: افعل ما شئت، فربّك الكريم الّذي تفضّل عليك بما تفضّل به أوّلا، وهو متفضّل عليك آخرا، حتّى ورّطه.

وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك:( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ماذا تقول؟ قال: أقول: غرّتني ستورك المرخاة.

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «كم مغرور بالستر عليه، ومستدرج بالإحسان إليه».

وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني الله بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت: غرّني بك برّك بي سابقا وآنفا.

وعن بعضهم قال: غرّني حلمك.

وعن أبي بكر الورّاق: غرّني كرم الكريم.

وهذه الأقوال على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر. وليس باعتذار كما يظنّه الطمّاع، ويظنّ به قصّاص الحشويّة، ويروون عن شيوخهم إنّما قال: «بربّك الكريم» دون سائر صفاته، ليلقّن عبده الجواب حتّى يقول: غرّني كرم الكريم.

ثمّ ذكر سبحانه صفة ثانية لذاته، مقرّرة لربوبيّته، مبيّنة لكرمه الّذي يقتضي امتثال أمره ونهيه، فقال :

( الَّذِي خَلَقَكَ ) من نطفة، ولم تك شيئا( فَسَوَّاكَ ) فجعلك سويّا سالم الأعضاء لتكون معدّة لمنافعها( فَعَدَلَكَ ) فصيّرك معتدلا متناسب الأعضاء من غير

٣٥٦

تفاوت فيه. فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض، ولا بعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحما، وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائما لا كالبهائم.

وقرأ الكوفيّون: فعدلك بالتخفيف. وفيه وجهان :

أحدهما: أن يكون بمعنى: عدّل مشدّدا، أي: فعدّل بعض أعضائك ببعض حتّى اعتدلت.

والثاني: فصرفك. من: عدله عن الطريق. يعني: فعدلك عن خلقة غيرك، وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الحيوانات. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات.

( فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) الجارّ متعلّق بـ «ركّبك». و «ما» مزيدة.

والمعنى: وضعك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته وحكمته، من الصور المختلفة في الحسن والقبح، والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. أو بمحذوف، أي: ركّبك حاصلا في أيّ صورة شاء. وقيل: «ما» شرطيّة، و «ركّبك» جوابها، والظرف صلة «عدلك». ويكون في «أيّ» معنى التعجّب، أي: فعدلك في صورة عجيبة. ثمّ قال:( ما شاءَ رَكَّبَكَ ) أي: ركّبك ما شاء من التراكيب. يعني: تركيبا حسنا. ولـمّا كانت الجملة بيانا لقوله «فعدلك» لم يعطف على ما قبلها.

( كَلَّا ) ردع عن الاغترار بكرم الله. والمعنى: ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله الّذي هو موجب للشكر والطاعة، إلى عكسهما الّذي هو الكفر والمعصية. ثمّ قال:( بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. والمراد بالدين الجزاء أو دين الإسلام، أي: لا يصدّقون بالثواب والعقاب، أو بالإسلام. وهو شرّ من الطمع المنكر.

٣٥٧

ثمّ حقّق تكذيبهم بالجزاء، وردّ ما يتوقّعون من التسامح والإهمال، فقال :

( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ ) أي: إنّكم تكذّبون بالجزاء اغترارا بالتسامح، وقد وكّل عليكم الملائكة الحافظون أعمالكم المكرّمون عند الله( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) فيكتبون أعمالكم لتجاوزوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء، وأنّه عند الله من جلائل الأمور، ولو لا ذلك لـما وكّل بضبط ما يحاسب عليه ويجازي به الملائكة الكرام الحفظة.

وفيه إنذار وتهويل وتشوير(١) للعصاة، ولطف للمؤمنين. وعن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين. وفي الآية دلالة على أنّ أفعال العباد حادثة من جهتهم، وأنّهم المحدثون لها دونه تعالى، وإلّا فلا يصحّ قوله: «ما تفعلون».

ثمّ بيّن ما يكتبون لأجله بقوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ ) المحسنين المطيعين لله في الدنيا( لَفِي نَعِيمٍ ) وهو الجنّة( وَإِنَّ الْفُجَّارَ ) الكفّار المكذّبين( لَفِي جَحِيمٍ ) وهو العظيم من النار( يَصْلَوْنَها ) يلزمونها ويقاسون حرّها( يَوْمَ الدِّينِ ) يوم الجزاء( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) لخلودهم فيها.

وقيل: معناه: وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم، إذ كانوا يجدون سموم جهنّم في القبور.

وقيل: أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة الّتي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة الّتي يجازى فيها، وحال البرزخ، وهو قوله:( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

ثمّ قال تعجّبا وتفخيما لشأن يوم الجزاء:( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) أي: أمر يوم القيامة، بحيث لا تدرك دراية كلّ دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته

__________________

(١) شوّر به: أخجله.

٣٥٨

فهو فوق ذلك وعلى أضعافه.

ثمّ كرّر ذلك القول بقوله:( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) لزيادة التهويل.

ثمّ قرّر شدّة هوله وفخامة أمره إجمالا، فقال:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) أي: لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه مّا. ونصب الظرف بإضمار: يدانون، لأنّ «الدين» يدلّ عليه. أو بإضمار: اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكّن، وهو في محلّ الرفع. ورفعه نافع وابن كثير والبصريّان، على البدل من «يوم الدين» أو على الخبر لمحذوف.( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) لا أمر يومئذ في الجزاء والعفو إلّا لله وحده.

روى عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: «يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام، فلم يبق حاكم إلّا الله».

والمعنى: أنّ الله قد ملّك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا وأحكاما، وفي القيامة لا أمر لسواه ولا حكم. ولا ينافي ذلك شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها لا تكون إلّا بأمره تعالى وبإذنه، فهي من تدابيره.

٣٥٩
٣٦٠