زبدة التفاسير الجزء ٧

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-09-4
الصفحات: 579
المشاهدات: 42746
تحميل: 2052


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42746 / تحميل: 2052
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 7

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-09-4
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(١١٠)

سورة النصر

مدنيّة. وهي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها فكأنّما شهد مع محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكّة».

وروى كرام الخثعمي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم، ومن النار، ومن زفير جهنّم، يسمعه بأذنيه، فلا يمرّ على شيء يوم القيامة إلّا بشّره، وأخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣) )

ولـمّا ختم الله سبحانه السورة المتقدّمة بذكر الدين، افتتح هذه السورة بظهور الدين، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) وإغاثته، أي: إظهاره إيّاك على

٥٤١

أعدائك. ومنه: نصر الله الأرض، أغاثها.( وَالْفَتْحُ ) وفتح مكّة. وقيل: المراد جنس نصر الله المؤمنين، وفتح سائر بلاد الشرك عليهم. وإنّما عبّر عن الحصول بالمجيء تجوّزا، للإشعار بأنّ المقدّرات متوجّهة من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، فيقرب المقدّر من الوقت شيئا فشيئا، وقد قرب النصر من وقته، فكن مترقّبا لوروده، مستعدّا لشكره. والأكثر على القول الأوّل.

وكان فتح مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، ومع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة.

ثمّ خرج إلى هوازن، وهم أهل حنين، وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثمّ قال: لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثمّ قال: يا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فأعتقهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ بايعوه على الإسلام.

وعن ابن مسعود قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد، جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا.

وعن ابن عبّاس قال: لـمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام وفي أيديهما الأزلام، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حال على أنّ «رأيت» بمعنى: أبصرت. أو مفعول ثان على أنّه بمعنى: علمت.( فِي دِينِ اللهِ ) في ملّة الإسلام الّتي لا دين له يضاف إليه غيرها، لقوله:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (١) ( أَفْواجاً ) جماعات كثيفة، أي: كانت تدخل في الإسلام قبيلة بعد قبيلة، كأهل مكّة والطائف

__________________

(١) آل عمران: ٨٥.

٥٤٢

وهوازن وسائر قبائل العرب، بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين.

وعن جابر بن عبد اللهرضي‌الله‌عنه : أنّه بكى ذات يوم، فقيل له. فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا.

وقيل: أراد بالناس أهل اليمن.

قال أبو هريرة: لـمّا نزلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانيّة». وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجد نفير ربّكم من قبل اليمن».

وعن الحسن: لـمّا فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كلّ من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال.

وتفصيل قصّة فتح مكّة مذكور في سورة الفتح(١) ، فلتطلب هناك.

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) فتعجّب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، حامدا له عليه زيادة في عبادته والثناء عليه، لزيادة إنعامه عليك. أو فصلّ له حامدا على نعمه.

روي: أنّه لـمّا دخل مكّة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة وصلّى ثمان ركعات. أو فنزّهه عمّا كانت الظلمة يقولون فيه، حامدا له على أن صدق وعده. أو فأثن على الله بصفات الجلال، حامدا له على صفات الإكرام.

( وَاسْتَغْفِرْهُ ) هضما لنفسك، واستقصارا لعملك، واستدراكا لـما فرط منك من الالتفات إلى غيره. وعنهعليه‌السلام : «إنّي لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة».

وقيل: استغفره لأمّتك. وتقديم التسبيح على الحمد، ثمّ الحمد على الاستنفار، على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله.

( إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) لمن استغفره مذ خلق المكلّفين. وروي: أنّه كان يكثر قبل

__________________

(١) راجع ج ٦ ص ٣٧١.

٥٤٣

موته أن يقول: «سبحانك أللّهمّ وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك».

وقيل: الأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة والاحتراس من ترك الأولى، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمّته. ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه.

وعن أمّ سلمة قالت: «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلّا قال: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. فسألناه عن ذلك. فقال: إنّي أمرت بها، ثمّ قرأ( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ) .

وروي: أنّه لـمّا قرأها على أصحابه استبشروا، وبكى العبّاس. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك يا عمّ. قال: نعيت إليك نفسك. فقال: إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا.

وقيل: إنّ ابن عبّاس هو الّذي قال ذلك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا».

وروي: أنّه لـمّا نزلت خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: «إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين لقاء ربّه، فاختار لقاء الله».

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه دعا فاطمةعليهما‌السلام فقال: «يا بنتاه، إنّه نعيت إليّ نفسي. فبكت. فقال: لا تبكي، فإنّك أوّل أهلي لحوقا بي».

٥٤٤

(١١١)

سورة أبي لهب

وتسمّى سورة المسد. مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما جاء به من عند الله».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥) )

ولـمّا ذكر سبحانه في سورة النصر وعده بالنصر والفتح، بيّن في هذه السورة ما كفاه الله من أمر أبي لهب، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَبَّتْ ) هلكت، أو خسرت. من التباب، وهو خسران يؤدّي إلى الهلاك. ومنه قولهم: أشابّة أم تابّة؟ أي: هالكة من الهرم.( يَدا

٥٤٥

أَبِي لَهَبٍ ) بن عبد المطّلب عمّ النبيّ. والمراد نفسه، كقوله:( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١) . وقيل: معناه: صفرت يداه من كلّ خير.

وإنّما خصّتا لـما روي أنّهعليه‌السلام لـمّا نزل عليه( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) رقى الصفا وقال: «يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس من كلّ أوب. فقال: يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقيّ؟

قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير بين يدي الساعة».

فقال أبو لهب: تبّا لك ألهذا دعوتنا؟

وأخذ حجرا ليرميه، فنزلت. وقيل: المراد بهما دنياه وأخراه.

وإنّما كنّاه والتكنية تكرمة، لاشتهاره بكنيته دون اسمه، لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنّهما تلتهبان. أو لأنّ اسمه عبد العزّى، فاستكره ذكره. أو لأنّه لـمّا كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله. أو ليجانس قوله: «ذات لهب». أو ليتهكّم به وبافتخاره بذلك. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء.

( وَتَبَ ) إخبار بعد إخبار. والتعبير بالماضي لتحقّق وقوعه، كقوله :

جزاني جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

أو الأوّل إخبار عمّا كسبت يداه، والثاني عن عمل نفسه.

روي: أنّه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقّا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي. فردّ الله تعالى عليه ذلك القول بقوله:( ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ) إمّا نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب، أو استفهام إنكار، ومحلّها النصب( وَما كَسَبَ ) موصولة أو مصدريّة، أي: وما كسبه. يعني: مكسوبه أو وكسبه بماله، من النتائج والأرباح، والوجاهة والأتباع والخدم. أو عمله الّذي ظنّ أنّه ينفعه. أو ولده عتبة.

__________________

(١) البقرة: ١٩٥.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

٥٤٦

وحكي: أنّ بني أبي لهب احتكموا إلى ابن عبّاس فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب ابن عبّاس فقال: أخرجوا عنّي الكسب الخبيث. ومنه: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه».

وقد افترس أسد عتبة في طريق الشام وقد أحدق به العير. ومات أبو لهب بالعدسة ـ وهي بثرة(١) تخرج بالإنسان ـ بعد وقعة بدر بأيّام معدودة، وترك ثلاثا حتّى أنتن، ثمّ استأجروا بعض السودان حتّى دفنوه. فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

( سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) اشتعال. يريد نار جهنّم. وفي هذا دلالة على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحّة نبوّته، لأنّه أخبر بأنّ أبا لهب يموت على كفره، وكان كما قال.

وقال صاحب المجمع: «وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة؟ وهل كان يقدر على الإيمان؟ ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنّه سيصلى نارا ذات لهب.

فالجواب: أنّ الإيمان يلزمه، لأنّ تكليف الإيمان ثابت عليه، وإنّما توعّده الله بشرط أن لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله سبحانه في قصّة فرعون( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (٢) . وفي هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه، ولهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. وأيضا فلو قدّرنا أنّ أبا لهب سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لو آمنت هل أدخل النار؟ لكانعليه‌السلام يقول له: لا، وذلك لعدم الشرط»(٣) .

( وَامْرَأَتُهُ ) عطف على المستكن في «سيصلى» أي: سيصلاها هو وامرأته، وهي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) صفتها. والمراد

__________________

(١) البثرة: خراج صغير، كالدمّلة.

(٢) يونس: ٩١.

(٣) مجمع البيان ١٠: ٥٦٠.

٥٤٧

حطب جهنّم، فإنّها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحمل زوجها على إيذائه. أو حزمة الشوك، لـما روي أنّها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك(١) فتنثرها بالليل في طريق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: كانت تمشي بالنميمة. ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم نائرة الخصومة، ويورّث الشرّ.

وقرأ عاصم بالنصب على الشتم. وهذه القراءة أحسن، لأنّها قد توسّل بها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجميل: من أحبّ شتم أمّ جميل.

ويجوز أن يكون قوله: «امرأته» مرفوعا بالابتداء، وخبره( فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) أي: ممّا مسد، أي: فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. ومنه: رجل ممسود الخلق، أي: مجدوله(٢) . وعلى الأوّل فالظرف موضع الحال. وهو تصوير لها بصورة الحطّابة الّتي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنّم، حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنّم من شجر الزقّوم والضريع، وفي جيدها سلسلة من النار، كما يعذّب كلّ مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

وعن ابن عبّاس: في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا، تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، وتدار على عنقها في النار.

ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لـمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر(٣) ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في المسجد

__________________

(١) الحسك: نبات شائك.

(٢) يقال: رجل مجدول، أي: لطيف القصب محكم الفتل. والقصب جمع القصبة: الخصلة الملتوية من الشعر.

(٣) الفهر: حجر رقيق تسحق به الأدوية.

٥٤٨

ومعه أبو بكر. فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّها لن تراني، وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال:( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) (١) . فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت: يا أبا بكر أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال: لا وربّ الكعبة ما هجاك. قال: فولّت وهي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها. ويروى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ما زال ملك يسترني عنها».

__________________

(١) الإسراء: ٤٥.

٥٤٩
٥٥٠

(١١٢)

سورة الإخلاص

مكّيّة. وقيل: مدنيّة. وسمّيت سورة الإخلاص، لأنّه ليس فيها إلّا التوحيد، وكلمة التوحيد تسمّى كلمة الإخلاص.

وقيل: إنّما سمّيت بذلك، لأنّ من تمسّك بما فيها اعتقادا وإقرارا كان مؤمنا مخلصا.

وقيل: لأنّ من قرأها على سبيل التعظيم أخلصه الله من النار، أي: أنجاه منها.

وتسمّى أيضا سورة الصّمد. وتسمّى أيضا بفاتحتها. وتسمّى أيضا نسبة الربّ. وروي في الحديث: «لكلّ شيء نسبة، ونسبة الله سورة الإخلاص».

وفي الحديث أيضا: «أنّه كان يقول لسورتي( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ) و( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) المقشقشتان». سمّيتا بذلك لأنّهما تبرّئان من الشرك والنفاق.

يقال: تقشقش المريض من مرضه إذا أفاق وبرىء. وقشقشه: أبرأه، كما يقشقش الهناء(١) الجرب.

وعدد آيها أربع.

في حديث أبيّ: «من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن، واعطي من الأجر عشر

__________________

(١) الهناء: القطران. وهو: سيّال دهني يتّخذ من بعض الأشجار، كالصنوبر. والجرب: داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.

٥٥١

حسنات، بعدد من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر».

وعن أبي الدرداء، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في كلّ ليلة؟ قلت: يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال: اقرؤا( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ».

وعن أنس، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مرّة بورك عليه.

ومن قرأها مرّتين بورك عليه، وعلى أهله. فإن قرأها ثلاث مرّات بورك عليه، وعلى أهله، وعلى جميع جيرانه. فإن قرأها اثنتي عشرة مرّة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة. فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا. فإن قرأ مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرين سنة، ما خلا الدماء والأموال. فإن قرأها أربعمائة مرّة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة. فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة، أو يرى له».

وعن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاء رجل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الفقر وضيق المعاش. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلّم واقرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مرّة واحدة. ففعل الرجل، فأدرّ الله عليه رزقا حتّى أفاض على جيرانه».

السكوني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ، فلمّا صلّى عليه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك ـ وفيهم جبرئيل ـ يصلّون عليه. فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءة( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا، وذاهبا، وجائيا».

منصور بن حازم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من مضى به يوم واحد، فصلّى فيه بخمس صلوات، ولم يقرأ فيها بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ، قيل: يا عبد الله لست من المصلّين».

إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من مضت له جمعة ولم يقرأ

٥٥٢

فيها بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ثمّ مات مات على دين أبي لهب».

هارون بن خارجة، عنهعليه‌السلام قال: «من أصابه مرض أو شدّة، فلم يقرأ في مرضه أو شدّته بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّتي نزلت به، فهو من أهل النار».

أبو بكر الحضرمي، عنهعليه‌السلام قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بـ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فإنّ من قرأها جمع له خير الدنيا والآخرة، وغفر له ولوالديه وما ولدا».

عبد الله بن حجر قال: «سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إحدى عشرة مرّة في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، وأرغم أنف الشيطان».

إبراهيم بن مهزم، عمّن سمع أبا الحسنعليه‌السلام يقول: «من قدّم( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) بينه وبين كلّ جبّار منعه الله منه. ومن يقرؤها بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، رزقه الله خيره ومنعه شرّه». وقال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن حيث شئت، ثمّ قل: أللّهمّ اكشف عنّي البلاء، ثلاث مرّات».

عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) مائة مرّة حين يأخذ مضجعه، غفر الله له ذنوب خمسين سنة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤) )

٥٥٣

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ذمّ أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدّمة، ذكر في هذه السورة بيان التوحيد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) الضمير للشأن، كقولك: هو زيد منطلق. وارتفاعه بالابتداء، وخبره الجملة. ولا حاجة إلى العائد، لأنّها هي هو، فحكم هذه الجملة حكم المفرد. أو لـما سئل عنه، أي: الّذي سألتم عنه هو الله، إذ روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد صف لنا ربّك الّذي تدعونا إليه. يعني: الّذي سألتموني وصفه هو الله المستجمع لجميع صفات الكمال. وعلى هذا قوله: «أحد» بدل، أو خبر ثان. وأصله: وحد. يدلّ على مجامع صفات الجلال، كما دلّ لفظ الله على مجامع صفات الكمال، إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّها بالذات عن أنحاء التركيب والتعدّد، وما يستلزم أحدهما، كالجسميّة والتحيّز والمشاركة في الحقيقة وخواصّها، كوجوب الوجود، والقدرة الذاتيّة، والحكمة التامّة المقتضية للألوهيّة.

وقيل: إنّما قال «أحد»، ولم يقل: واحد، لأنّ الواحد يدخل في الحساب، ويضمّ إليه آخر. وأمّا الأحد فهو الّذي لا يتجزّأ، ولا ينقسم في ذاته، ولا في معنى صفاته بحسب الاعتبار. ويجوز أن يجعل للواحد ثانيا، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا. ألا ترى إنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان. ولو قلت: لا يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر. فهو أبلغ.

وقال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام في معنى( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) : «أي: قل: أظهر ما أوحينا إليك وما أنبأناك به، بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك، ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد».

«و «هو» اسم مكنيّ مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ، كما أنّ «هذا» إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ.

وذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك، فقالوا: هذه

٥٥٤

آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الّذي تدعو إليه حتّى ندركه، فأنزل الله سبحانه( قُلْ هُوَ ) . فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواسّ، وأنّه يتعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواسّ».

وحدّثني أبي عن أبيه، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «رأيت الخضرعليه‌السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّا هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لي: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

قال: «وقرأعليه‌السلام يوم بدر( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فلمّا فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلّا هو، اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وكان يقول ذلك يوم صفّين وهو يطارد. فقال له عمّار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم الله الأعظم وعماد التوحيد: الله لا إله إلّا هو. ثمّ قرأ:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (١) وآخر الحشر. ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال».

قال: «وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : الله معناه: المعبود الّذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه الله، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

قال الباقرعليه‌السلام : «الله معناه: المعبود الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته والإحاطة بكيفيّته.

ويقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما.

ووله إذا فزع إلى شيء. قال: والأحد: الفرد المتفرّد. والأحد والواحد بمعنى المتفرّد الّذي لا نظير له. والتوحيد: الإقرار بالوحدة، وهو الانفراد. والواحد: المباين الّذي لا ينبعث من شيء، ولا يتّحد بشيء. ومن ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على الواحد، بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله

__________________

(١) آل عمران: ١٨.

٥٥٥

( اللهُ أَحَدٌ ) أي: المعبود الّذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه».

( اللهُ الصَّمَدُ ) فعل بمعنى المفعول، أي: السيّد المصمود إليه في الحوائج.

من: صمد إليه إذا قصد. وهو الموصوف به على الإطلاق، فإنّه يستغني عن غيره مطلقا، وكلّ ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته.

وقال الباقرعليه‌السلام : «حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن عليّعليه‌السلام أنّه قال: الصمد: الّذي قد انتهى سؤدده. والصمد: الدائم الّذي لم يزل ولا يزال.

والصمد: الّذي لا يأكل ولا يشرب».

أراد بذلك أنّه الحيّ الّذي لا يحتاج إلى شيء أصلا.

وتعريفه لعلمهم بصمديّته، بخلاف أحديّته. وتكرير لفظ «الله» للإشعار بأنّ من لم يتّصف به لم يستحقّ الألوهيّة. وإخلاء الجملة عن العاطف، لأنّها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها.

وقال أبو البختري وهب بن وهب: حدّثني الصادق جعفر بن محمد، عن الباقر، عن أبيهعليهم‌السلام : «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: بسم الله الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد ؛ فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

( لَمْ يَلِدْ ) لأنّه لم يجانس حتّى تكون من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما قال:( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ) (١) . ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه. ولعلّ الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردّا على من

__________________

(١) الأنعام: ١٠١.

٥٥٦

قال: الملائكة بنات الله أو المسيح ابن الله، أو ليطابق قوله:( وَلَمْ يُولَدْ ) لأنّ كلّ مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده، وليس بجسم.

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) أي: ولم يكن أحد يكافئه ـ أي: يماثله ـ من صاحبة أو غيرها. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيا للصاحبة. وكان الأصل أن يؤخّر الظرف الّذي هو لغو غير مستقرّ، وقد نصّ سيبويه على امتناع تقديمه، لكن لـمّا كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم، تقديما للأهمّ.

ويجوز أن يكون حالا من «أحد». ولعلّ ربط الجمل الثلاث بالعطف لأنّ المراد منها نفي أقسام المكافأة، فهي كجملة واحدة منبّهة عليها بالجمل.

وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية: كفؤا بالتخفيف. وحفص كفوا، بالحركة وقلب الهمزة واوا.

ولاشتمال هذه السورة ـ مع قصرها ـ على جميع المعارف الإلهيّة، والردّ على من ألحد فيها، جاء في الحديث أنّها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص. ومن عدلها بكلّه اعتبر المقصود بالذات من ذلك، فإنّ هذه السورة إنّما هي في بيان الأوّل، لأنّها مشتملة على صفاته الجلال والكمال، فإنّ قوله:( هُوَ اللهُ ) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها. وفي طيّ ذلك وصفه بأنّه قادر عالم، لأنّ الخلق يستدعي القدرة والعلم، لكونه واقعا على غاية إحكام واتّساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنّه حيّ سميع بصير. وقوله: «أحد» وصف بالوحدانيّة ونفي الشركاء. وقوله: «الصمد» وصف بأنّه ليس إلّا محتاجا إليه، وإذا لم يكن إلّا محتاجا إليه فهو غنيّ. وفي كونه غنيّا مع كونه عالما أنّه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح، وعلمه بغناه عنه. وقوله:( وَلَمْ يُولَدْ ) وصف بالقدم والأوّليّة. وقوله:( لَمْ يَلِدْ ) نفي للشبه والمجانسة. وقوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) تقرير لذلك، وبتّ للحكم به.

٥٥٧

وعن عبد خير قال: سأل رجل عليّاعليه‌السلام عن تفسير هذه السورة فقال: «قل هو الله أحد بلا تأويل عدد، الصمد بلا تبعيض بدد، لم يلد فيكون والدا، ولم يولد فيكون إلها مشاركا، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد».

وقال بعض العرفاء المحقّقين: إنّا وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص، والتقلّب، والكثرة، والعدد، وكونه علّة، أو معلولا، والأشكال، والأضداد. فنفى الله سبحانه عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . ونفى التقلّب والنقص بقوله:( اللهُ الصَّمَدُ ) . ونفى العلّة والمعلول بقوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) . ونفى الأشكال والأضداد بقوله:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) . فحصلت الوحدانيّة البحت.

وروى عمران بن الحصين: «أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريّة واستعمل عليها عليّاعليه‌السلام ، فلمّا رجعوا سألهم عن عليّعليه‌السلام . فقالوا كلّ خير، غير أنّه كان يقرأ بنا في صلاته( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . فقال: يا عليّ لم فعلت هذا؟ قال: لحبّي( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) . فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحببتها حتّى أحبّك اللهعزوجل ».

ويروى: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقف عند كلّ آية من هذه السورة.

وروى الفضيل بن يسار قال: «أمرني أبو جعفرعليه‌السلام أن أقرأ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

وأقول إذا فرغت منها: كذلك الله ربّي، ثلاثا».

٥٥٨

(١١٣)

سورة الفلق

مدنيّة في أكثر الأقوال. وقيل: مكّيّة. وهي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «ومن قرأ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها الله على الأنبياء».

وعن عقبة بن عامر، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنزلت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ: المعوّذتان». أورده مسلم في الصحيح(١) .

وعنه، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «يا عقبة ألا أعلّمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. فعلّمني المعوذّتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة. وقال لي: اقرأهما كلّما قمت ونمت».

أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «من أوتر بالمعوذّتين و( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) قيل له: يا عبد الله أبشر فقد قبل الله وترك».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥) )

__________________

(١) صحيح مسلم ١: ٥٥٨ ح ٢٦٥.

٥٥٩

ولـمّا ذمّ الله سبحانه أعداء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة تبّت، ثمّ ذكر التوحيد في سورة( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) رغما عليهم، ذكر الاستعاذة منهم في هاتين السورتين، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) ما يفلق عنه، أي: يفرّق عنه، كالفرق. فعل بمعنى مفعول. وهو في الأصل يعمّ جميع الممكنات، فإنّه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها، سيّما ما يخرج من أصل، كالعيون من الجبال، والأمطار من السحاب، والنبات من الأرض، والأولاد من الأرحام، والحبّ من النوى، وغير ذلك. ويختصّ عرفا بالصبح، فإنّ الليل يفرق عنه. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ولذلك فسّر به. وتخصيصه لـما فيه من تغيّر الحال، وتبدّل وحشته بالليل بسرور النور، ومحاكاة فاتحة يوم القيامة، والإشعار بأنّ من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم، قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه. ولفظ الربّ هنا أوقع من سائر أسمائه، لأنّ الإعاذة من مصالح الربوبيّة.

وقيل: هو واد في جهنّم، أوجبّ فيها. وعن بعض الصحابة: أنّه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة، وما هم فيه من خفض العيش، وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه.

( مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ) من شرّ خلقه. وشرّهم: ما يفعله المكلّفون، من المعاصي والمآثم. ومضارّة بعضهم بعضا، من ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم، وغير ذلك. وما يفعله غير المكلّفين منه، من الأكل والنهش(١) واللدغ والعضّ الصادرة من السباع والحشرات. وغير ذلك من أنواع الضرر، كالإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والقتل بالسمّ، والهدم، والسقوط من المواضع المرتفعة. وخصّ عالم الخلق بالاستعاذة عنه

__________________

(١) نهشه: تناوله بفمه ليعضّه، فيؤثّر فيه ولا يجرحه.

٥٦٠