تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن0%

تنزيه القران عن المطاعن مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 501

تنزيه القران عن المطاعن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عماد الدين أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد
الناشر: دار النهضة الحديثة
تصنيف: الصفحات: 501
المشاهدات: 64468
تحميل: 1920

توضيحات:

تنزيه القران عن المطاعن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 501 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64468 / تحميل: 1920
الحجم الحجم الحجم
تنزيه القران عن المطاعن

تنزيه القران عن المطاعن

مؤلف:
الناشر: دار النهضة الحديثة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأنه منزه عن الولادة ونزّه نفسه عن ولادة الملائكة كما كانت العرب تقوله من أنهم بنات الله تعالى فقال( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) وبين أنهم( لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) وبيّن بذلك ان الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضى الطريقة وبيّن أنهم مع عبادتهم العظيمة يشفقون وكل ذلك ترغيب لنا في العبادة وفي العدول عن الاباطيل من المذاهب وبين تعالى بقوله( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أن من تكبر وأنزل نفسه عن منزلته فهو معذب عليه وان كل من قال ذلك فهذا سبيله ثمّ بيّن تعالى دلالة حدوث الاجسام بقوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) وهذا هو دليل علماء التوحيد لأنه إذا لم يخل من الاجتماع والافتراق وهو الرتق والفتق يجب أن يكون محدثا فلو لم يكن في كتاب الله من التنبيه على أدلة التوحيد والعدل وغيرهما الا ما ذكرناه في هذه الآية لكفى وكيف يذهب عن ذلك من يزعم انه ليس في الكتاب التنبيه على علم الكلام ولا في السنن مع الذي ذكرناه ثمّ بين تعالى عظم نعمه بقوله( وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) الآيات وقوله تعالى( وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) فنبه بذلك على انه خلق هذه النعم للمكلفين وان تكليفهم منقطع وان مراده تعالى أن يهيئهم لدار أخرى وهي دار الخلود دون هذه الدار فلذلك قال( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) فبين أنه يكلّف ثمّ يميت ثمّ يجازي.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) أليس يدل ذلك على أن الشر كالخير في أنه من قبل الله تعالى؟ وجوابنا أنّ البلوى إنما تقع بالامر والنهي ولا شبهة في أنه جل وعز لا يأمر

٢٦١

بالشر فالمراد به في هذه الآية الميثاق والآلام وأنه تعالى يبلو المكلّف بذلك كما يبلوه بالخير وينزل به المصائب والامراض كما يعاقبه وبين أن حال الدنيا ليست كحال الآخرة التي لا يتغير ما بأهلها أما عقاب يدوم وإما ثواب خالص يتّصل بهم ولو كان الشر من قبل الله تعالى لوجب أن يوصف بأنه شرير إذا أكثر منهم وعندهم لا شر إلا من قبل الله والله تعالى عن قولهم علوا كبيرا وقوله تعالى( وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) يدل على أن المراد ما قدمناه وأنه يجازيهم على ما ابتلاهم به عند رجوعهم اليه والمراد بقوله( وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه لأنّ في دار الدنيا قد فوض تعالى هذه الامور إلى غيره وفي الآخرة لا حاكم سواه وهذا كما إذا تنازع الخصمان فانهما يقولان يرجع أمرنا إلى فلان والمراد هو الذي يفصل في ذلك ويحكم فلا دلالة للمشبهة في شيء من ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله جل وعز( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) ومعلوم أنه ليس بمخلوق من ذلك بل لا يصح ذلك فيه. وجوابنا أنّ ذلك من الكلام الفصيح في الانكار والتبكيت فمن يكثر غضبه يقال له كأنك خلقت من الغضب ومن يكثر نسيانه يقال فيه ذلك فنبه تعالى على أن الواجب على المرء التوقف والتثبت وتأمل ما يلزمه من الادلة وغيرها فلذلك قال بعده( سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) وقال تعالى( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يستعجلون لأنفسهم العذاب جهلا منهم كما قال تعالى( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) ولذلك قال تعالى بعده( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) ثمّ أنه تعالى عزّى رسوله صلّى الله عليه وسلم في اختلافهم عليه وفي عنادهم فقال

٢٦٢

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) فبين أن الواجب فيما يفعل أن ينظر في عواقبه فإذا كانت العاقبة مكروهة لم يحسن أن يغتبط بها فخلافهم عليك يا محمد إذا كان يعقب مثل ذلك فهو وبال ودمار ثمّ بيّن تعالى أنه على اختلال أحوالهم حافظ لهم ودافع للمكاره عنهم فقال( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) يبعثهم بذلك على طاعته لإدامة النعم عليهم ونبههم بذلك أن لا إله سواه يدفع عنهم المكاره فلذلك قال( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) فهجّن بذلك صنيع عبّاد الاوثان وبين تعالى أنه مع ذلك متّعهم بالبقاء لكي يؤمنوا وأطال عمرهم فقال( بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) كيف يصحّ تعلق ذلك بقوله( بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ ) ؟ وجوابنا أنّه بيّن قدرته على إفناء كثير من الخلق وخصّهم بأن متّعهم فقد روي عن بعض المفسرين أن المرات موت العلماء وروي عن بعضهم أن المراد به إنزال أسباب الهلاك على قوم منهم وذكر تعالى الارض وأراد هلاك أهلها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إذا ما يُنْذَرُونَ ) كيف يصحّ أن يصفهم بالصمم ثمّ يذمهم بقوله( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا ) ؟ وجوابنا أنّ ذلك جرى منه تعالى على مذهب العرب في وصفهم بما هو مبالغة في الاعراض عن سماع الآيات لأن من اشتد اعراضه يوصف بأنه أصم لا يسمع كما قال تعالى( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا

٢٦٣

تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ) وكما قال عز وجل في وصف الكفار( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) وكما يقال حبّك للشيء يعمي ويصمّ.

[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله تعالى( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) وأي مدخل للموازين في أعمال العباد وفي المجازات؟ وجوابنا أنّ المراد بذكر الموازين العدل في باب المجازاة ولذلك قال تعالى بعده( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ) فهذا جواب بعض علماء التوحيد وقال بعضهم بل هناك موازين يوزن بها ما تظهر به حال المرء في أنه من أهل الثواب أو من أهل العقاب ومن قال بذلك يقول توزن الصحف التي فيها ذكر الحسنات والسيئات فيتبين الرجحان وقال بعضهم يجعل تعالى في إحدى الكفتين علامة من نور فتكون علامة الثواب وفي الاخرى ظلمة فتكون علامة العقاب والفائدة في ذلك أن يعرف في دار الدنيا ما يخاف في الآخرة عند ذلك من الفضيحة لمن عصاه فيزداد بذلك غما ويصرفه ذلك عن المعاصي وما يحصل من السرور لأهل الثواب في ذلك الموقف العظيم فيصير زائدا في المسألة والطاعات ونبّه بقوله جل وعز( وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ) على ما ذكرنا من أنه يتولى عز وجل المحاسبة. ومتى قيل كيف يتولاه فجوابنا أنّ يفعل كلاما في بعض الاجسام فيظهر به حال المكلف واذا جاز ونحن في الدنيا أن يرزقنا وإن كان لا يرى ولا مكان له جاز أيضا في الآخرة أن يكلم المكلف وأن يتعالى عن الرؤية والمكان وبين تعالى بعده أنه آتى موسى وهارون الفرقان وما هو ذكر للمتقين الذين يخشون ويشفقون ثمّ قال( وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ ) يعني الفرقان أفأنتم له منكرون وذلك تبكيت لمن أنكره ثمّ بين تعالى قصة ابراهيم صلّى الله عليه وسلم ليبعث بذلك على الطاعة وما تحمله من الشدة في مخاطبة أبيه وقومه وصرفهم عن عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى ونبه بقوله تعالى( لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) على فساد التقليد.

٢٦٤

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) كيف يكون مجيبا لهم بهذا الكلام وبهذه الشهادة؟ وجوابنا أنّ قوله( قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) كاف في بيان جوابهم لان معرفة الله تعالى إنما تحصل بأفعاله فلما تم ذلك خصه بقوله تعالى( وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) لا أنه جعل الحجة بشهادته بل أورده توكيد للدلالة.

[ مسألة ] وربما قالوا في قوله تعالى( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) أليس ذلك يدل على أن ابراهيم صلّى الله عليه وسلم كذب في هذه الحال وأن الانبياء لا يجوز عليهم الكذب وأنتم تمنعون من ذلك؟ وجوابنا أنّه صلّى الله عليه وسلم أورد ذلك على وجه التوبيخ لهم لينبههم على أن الذي تعبده القوم لا يصح منه نفع ولا ضر ولذلك قال بعده( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) قال( ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ) ثمّ قال بعده( أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ ) وكل ذلك يدل على ما قلناه.

[ مسألة ] وربما تعلق بعض المجبرة بقوله تعالى( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ) وأن ذلك يدل على أنه الخالق للطاعة؟ وجوابنا في ذلك أن المراد جعلهم أنبياء بإظهار المعجزات وذلك من قبله جل وعز وان كانوا لا يتأهلون لذلك إلا بعد تقدم عبادات وطاعات من جهتهم ولذلك قال بعده( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) فأضاف الخيرات إلى فعلهم وقال( وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) فمدحهم باضافة العبادة اليهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) كيف يصح ذلك مع قوله( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) ؟ وجوابنا أنّ الذي

٢٦٥

حكم به داود كان حقا في وقته وفهم سليمان نسخ ذلك فلا يدل على مناقضة في الكلام.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) كيف يصح التسبيح من الجبال والطير وما معنى قوله بعد ذلك( وَكُنَّا فاعِلِينَ ) وقد أفهم ذلك بقوله( وَسَخَّرْنا ) ؟

وجوابنا أن تسبيح الجبال هو ما يظهر من دلالتها على أنه تعالى منزه عمّا لا يجوز عليه كما ذكرنا في قوله جل وعز( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) إلى غير ذلك فلما سخر ذلك لداود على خلاف المعتاد فكان يتصرف فيه كما يريد جاز أن يقول( يُسَبِّحْنَ ) بظهور أمر معجز فيها وفي الطير فهذا معنى الكلام وأما معنى قوله( وَكُنَّا فاعِلِينَ ) فهو إخبار عن طريقه جل وعز في فعل مثل ذلك فلذلك أتبعه بما أظهره عليه وعلى سليمان صلّى الله عليه وسلم من العجائب وبما أظهره على أيوب وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم وبين تعالى بعد ما اقتصه من أخبارهم وما أظهره من العجائب فيهم عظم منزلتهم فقال تعالى( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ ) فبعث بذلك على التمسك بمثل هذه الطريقة ولذلك قال تعالى بعده( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) فبعث بكل ما تقدم على إخلاص العبادة له ونبه على عظيم المجازاة في العبادة بقوله( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) فبين أنه يجازي على سائر ما فعل ثمّ بين من بعد أشراط الساعة بقوله( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) وبين كيف ينزل بهم أنواع الخيرات إذا عاينوا العذاب فأما قوله تعالى( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) فالمراد به الاصنام والاوثان ولا يدخل في ذلك المسيح كما ظنه بعض من لا يعرف وذلك محكي عن بعض المتقدمين بيّن ذلك أنه قال

٢٦٦

تعالى( وَما تَعْبُدُونَ ) ولو كان المراد العقلاء لأورده بلفظ من وظاهر ذلك أنه جل وعز يعيد هذه الاصنام ويجعلها كالحطب في النار فيشاهدها من كان يعبدها فيكون حجة أعظم وبيّن بعده الفضل بين منزلة هؤلاء وبين منزلة الذين سبقت لهم منه الحسنى فقال تعالى( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) وبيّن أنه لا يحزنهم الفزع الاكبر وأن الملائكة تبشرهم بمنزلة الثواب وبيّن بقوله تعالى( نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا ) أنه تعالى قد أوجب على نفسه إعادة الخلق وما يتصل بهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) كيف يصح ذلك وهو لا يحكم الا بالحق وما الفائدة في أمره بهذا الدعاء؟ وجوابنا أنّ الدعاء بما لا يجوز خلافه قد يحسن وعلى هذا الوجه ندعو الله للأنبياء والرسل ونقول أللّهمّ صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم ونقول اغفر للمؤمنين والمؤمنات وعلى هذا الوجه قال ابراهيم( لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) فكيف ننكر ذلك وكيف نظن أنه يجوز أن يحكم بالباطل تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

٢٦٧
٢٦٨

سورة الحج

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) كيف يتعلق وصف الساعة بالتقوى؟ وجوابنا أنّه بيّن أنّ ذلك الأمر العظيم يزول عن المتقين فيأتون ما يخافه المجرم وذلك ترغيب في التقوى وتزهيد في خلافها.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ) كيف يصح ذلك وليس هناك رضاع ولا حمل؟ وجوابنا أنّ ذلك كالمثل في عظم أهوال الآخرة وأنه يبلغ في العظم مبلغ ما يلهي المرء عن ولده في باب الرّضاع والحمل وذلك لأن من أعظم الاشفاق إشفاق المرضعة على ولدها والحامل على حملها هذا وقد يجوز أن يعيد الله المرضعة على الولد والحامل على صفتها وقد روى عنه صلّى الله عليه وسلم أن كل أحد يموت يبعث على ما مات عليه فيكون ذلك كالحقيقة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) أليس ذلك متناقضا؟ وجوابنا أنّ المراد أنهم قد بلغوا في التحيّر إلى حد السكران وإن لم يكن هناك سكر ويحتمل أنهم سكارى من الخوف والحيرة وما هم بسكارى من الخمر ومثل ذلك يدخل في نهاية الفصاحة فكيف يعدّ مناقضا وقد يقبل المرء على من لحقه الدهش والحيرة فيقول مثل ذلك فلذلك قال بعده( وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) فنبه على انه وصفهم

٢٦٩

بذلك لخوفهم من هذا العذاب وقوله تعالى بعد ذلك( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يدل على أن معرفة الله تعالى مكتسبة وأن من لا علم له لا يحل ان يجادل بل الواجب أن ينظر ويتعلم وفيه دلالة على بطلان التقليد وقوله( وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) يدل على أن هذا الاتباع فعله ولذلك ذمّه عليه وقوله( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ ) المراد به يصرفه عن طريق الجنّة ولذلك قال( وَيَهْدِيهِ إلى عَذابِ السَّعِيرِ ) ونبّه تعالى على قدرته على الاعادة بقوله( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) فدل بخلقه الانسان على هذا الترتيب وبقدرته عليه على جواز الاعادة ودلّ أيضا بقوله( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ) على مثل ذلك ثمّ حقق ذلك بقوله تعالى( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ما قدمت من قدرته على الاعادة ومعنى ذلك أن إلهيته ووحدانيته هي الحق فوصف بذلك نفسه وأراد ما ذكرنا وذلك مجاز لأن الحق هو عبارة عن صحة الامور التي يعتقدها المحق ولذلك اتبعه بقوله( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) فبطل بذلك ما كان عليه فرقة من العرب من إنكار الاعادة كما وصفهم بقوله تعالى( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) ما المفهوم من ذلك ولا يعرف ذلك في اللغة؟ وجوابنا أنّ المنافق يظهر العباد ويبطن خلافها فشبه تعالى ظاهر أمره بحرف لأن الحرف هو طرف الشيء والمرء يحتاج في العبادة أن يظهر باطنا وظاهرا فلمّا أظهر المنافق ذلك من أحد الوجهين وصفه تعالى بذلك ولذلك قال بعده( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ

٢٧٠

الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) وهذا الجنس من التشبيه يبلغ من الفصاحة ما لا تبلغه حقائق الكلام ولذلك قال تعالى( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) فبين أنه يعبد الاصنام وبيّن أن ضرر ذلك أقرب من نفعه وكل ذلك يحقق أن العبادة من فعل العبد وقوله تعالى( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ ) يدل على ان العبد هو الفاعل لأنه إذا خلق فيه كل أفعاله فأيّ فائدة في النصرة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) ان ذلك يدل على أنه يهدي قوما دون قوم بخلاف قولكم ان الهدى عام.

وجوابنا ان المراد يكلف من يريد لأن في الناس من لا يبلغه حد التكليف أو يحتمل ان يريد الهداية إلى الثواب لأنها خاصة في المطيعين دون العصاة ورغّب تعالى المؤمن في تحمل المشاق واحتمال ما يناله من المبطلين بقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فبيّن حسن عاقبة المؤمن عند الفضل ليكون في الدنيا وإن لحقه الذل صابرا وعلى هذا الوجه قال صلّى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) كيف يصح السجود من هذه الامور أكثرها جمادات؟ وجوابنا أنّ المراد بهذا السجود الخضوع فالمراد بذلك أنه تعالى يصرفها في الامور ولا مانع ولأجل ذلك لـما ذكر الذي للمكلفين خص ولم يعم فقال تعالى( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) لان فيهم من ينقاد فيطيع وفيهم خلافه ويحتمل أن يراد بالسجود دلالتها على تنزيه الله تعالى فلما لم يصحّ فيها السجود أريد ذلك ولما صح ذلك في الناس أريدت

٢٧١

الحقيقة فخصه ولذلك قال( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) لـما لم يفعل السجود والعبادة وقوله من بعد( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) المراد به ما يشاء أن يفعله لا ما يشاء من غيره فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها ) كيف يصح أن يريدوا ذلك مع اليأس من الخروج وهذه الارادة تكون قبيحة ولا يقع من أهل الآخرة القبيح عندكم. وجوابنا أنّ في العلماء من قال ذكر تعالى الارادة وأراد ما في نفوسهم من الميل إلى ذلك كما قال تعالى( جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) وقال بعضهم يحسن أن يزيدوا ذلك وان لم ينالوه على وجه الاستغاثة كما يحسن منهم الصياح والصراخ على هذا الوجه فلهم في ذلك غرض يحسن منهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) ما فائدة ذلك في وصف المؤمنين في الجنة ومعلوم انهم يعرفون الطيب من القول أن يهدوا إليه؟ وجوابنا أنّ المراد به ما يعرفون من تحية البعض للبعض وذلك مخالف لـما يقع في الدنيا لاغراض تتصل بمنافع الدنيا وبالتكليف ويحصل في هذا القول من السرور بالتعظيم ما لا يوجد مثله في دار الدنيا ومعنى قوله تعالى( وَهُدُوا إلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) ما ينالهم من السرور بشكر نعم الله تعالى ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يكون في دار الدنيا وأنهم هدوا إلى الاخلاص والى اتباع طريقة الحق.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) كيف يصح ذلك في الحرم وقد ثبت أنه مملوك؟ وجوابنا أنّ المراد نفس المسجد دون الدور والمنازل وفي ذلك خلاف شائع وعظم الله تعالى المعاصي في المسجد الحرام بقوله( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ )

٢٧٢

وبقوله( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ ) وبقوله( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) ولذلك قال بعده( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ومعنى قوله تعالى( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ) مواضع النسك لا نفس النسك الذي هو فعلها فليس للمخالفين أن يتعلقوا بذلك ونبّه بقوله تعالى( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) على ان الذي ينتفع به الاخلاص دون صورة العمل ونبه بقوله( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) على أنّ ذلك من قبل العبد لأنه لو كان من خلقه تعالى لـما جاز أن لا يحبه ولا يريده.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ) كيف يصح هدم الصلوات؟ وجوابنا أنّ المراد أماكن الصلوات في غير المساجد ثمّ أتبعه بذكر المساجد ومثل ذلك مفهوم كقوله( وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ ) إلى ما شاكل ذلك ولذلك قال بعده( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) كيف يصحّ ذلك وفي جملة المؤمنين من يغلب؟ وجوابنا أنّ النصر على وجوه فلا بد فيمن ينصر ربّه بالطاعة والجهاد أن يكون الله تعالى ناصره ببعض الوجوه هذا والغلبة على المؤمن لا تخرجه عن أنه المنصور لأنه المحمود العاقبة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ما الفائدة في ذلك ولا رسول إلاّ وهو نبيّ عندكم؟ وجوابنا أنّ معنى وصف الرسول بأنه نبي إثبات ما يختص به من الرفعة العظيمة فلما كانت الفائدة في ذلك

تنزيه القرآن (١٨)

٢٧٣

مخالفة للفائدة في وصفه بأنه رسول جاز أن يذكرهما فإن قيل فما المراد بقوله( إِلاَّ إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) وكيف يصحّ ذلك على الانبياء؟ وجوابنا أنّ المراد إذا تلا القرآن يلحقه السهو في قراءته وذلك معروف في اللغة فلذلك قال بعده( فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ) ولو كان المراد غير ما ذكرناه من التلاوة لم يصح ذلك فامّا ما يرويه الحشوية من أنه صلّى الله عليه وسلم ذكر في قراءته أصنامهم وقال إن الغرانيق العلا شفاعتهن ترجى حتّى فرح الكفار فلا أصل له ومثل ذلك لا يكون إلا من دسائس الملحدة فبيّن تعالى بذلك أن السهو في القراءة جائز على النبي صلّى الله عليه وسلم وأنه من يعد يبيّن الفضل من السهو ويبيّن الصحيح منه ولذلك قال بعده( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) وقال بعده( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) كيف يصح ذلك والملك في كل حال لله عز وجل؟ وجوابنا أنّ المراد أنه في دار الدنيا ملك كثيرا من الناس الامور وفي الآخرة لا حاكم سواه البتة ولذلك يحكم بينهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) كيف يصح هذا الجواب وهو تعالى عالم بكل شيء؟ وجوابنا أنّ ذلك تحذير من مجادلتهم فحذّرهم بذلك بعد البيان ولذلك قال قبله( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ) ثمّ قال( وَإِنْ جادَلُوكَ ) فاذا تقدم البيان جاز من الرسول صلّى الله عليه وسلم الاقتصار على هذا الجنس من التحذير ولذلك قال بعده( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) وبيّن تعالى أنه عالم بكل شيء فقال( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وبين أيضا أن ما علمه من الامور التي تحدث قد كتبه ليستدل بها

٢٧٤

الملائكة فقال( إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) وحذر بذلك عبّاد الاصنام فلذلك قال بعده( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) ثمّ بيّن بعده ضعف المخلوقين بقوله( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ) واكد ذلك بقوله( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) فبين أنه على حقارته يغلب المرء فلا يتمكن الانسان من استنقاذ ما سلبه وقد حكي عن أبي الهذيل; تعالى أن بعض الملوك سأله وقال ما الفائدة في خلق الذباب فأجاب بأن في ذلك إذلال الجبابرة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) أليس يدل ذلك على نقيض قوله تعالى( فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ) فأيهما هو الصواب أيكون بعضهم كذلك أو كلهم أجمع؟ وجوابنا أنّ بعضا منهم يكون رسلا إلى الانبياء دون الكل ولئن كان جميعهم من الرسل فلا تناقض في ذلك.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) كيف يصح ذلك ولغة العرب صادرة عن إسماعيل؟ وجوابنا أنّ المراد المعني دون نفس الاسم فكأنه وصفهم بتمسكهم بالملة وبأنهم من أهل الثواب وهو المفهوم من وصفنا لهم بأنهم مسلمون ومؤمنون.

٢٧٥
٢٧٦

سورة المؤمنون

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) ثمّ قوله آخرا( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) فكرر ذلك وكيف يجوز مثله؟ وجوابنا أنّه في الأوّل وصفهم بالخشوع في الصلاة وفي الثاني وصفهم بالمحافظة على أوقاتها وليس ذلك بتكرار.

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) ومعلوم أن معنى الميراث لا يصح فيهم؟ وجوابنا أنّه شبة وصولهم إلى الفردوس من دون سبب يأتونه بوصول المرء إلى الاملاك بالميراث عند الموت وهذا من أحسن ما يجري في الكلام من التشبيه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) كيف يصح ان يتكرر خلق الشيء الواحد فكيف يصح فيما خلق من طين أن يوصف بأنه مخلوق من نطفة؟ وجوابنا أنّه تعالى ذكر الانسان وأنه خلق من طين وهو آدم والنطفة لـمّا كانت منه جاز أن يقول( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ) يعني الأولاد وأما قوله( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) فالمراد ما به صارت علقة وهذا كما يقول المرء عملت من الخشب بابا والمراد أنه عمل ما به صار بابا فالخلق في الشيء الواحد لم يتكرر وإنّما يحدث فيه شيئا بعد شيء.

٢٧٧

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) أليس ذلك يقتضي أنه غير ما تقدم ذكره؟ وجوابنا أنّه لـما صار بالحياة التي خلقها الله تعالى فيه على صفة لم يكن عليها جاز أن يقول ذلك مجازا وقد يقول الرجل في ولده وقد تأدب وتعلم وتغيرت أحواله أنه غير الذي رأيتموه وذلك ممّا يكثر في الكلام.

[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) كيف يصح ذلك ولا خالق سواه؟ وجوابنا أنّ ذلك من حيث اللغة فوصف كل من تدبر فعله وأتى به على وجه الصواب أنه خالق وذلك مشهور في اللغة فعلى هذا الوجه يصح ما ذكره تعالى وإنّما منع أن يجري هذا الوصف الا على الله تعالى مطلقا من حيث كل أفعاله لا تكون إلا مقدّرة على وجه الصواب كما لا يقال مطلقا في أحد سواه أنه ربّ وإن كان قد يقال في زيد أنه ربّ داره وعبده فمن حيث التعارف لا يوصف بذلك سواه.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ) كيف يصح ذلك والماء إنما ينزل من السحاب؟ وجوابنا أنّ الصحيح أنه ينزل من السماء ويحمله السحاب ثمّ ينزل إلى الارض وإنّما يذكر ذلك بعض الأوائل لقولهم أن الماء يصعد من الارض كالبخار ويحمله السحاب ثمّ يصفو وينزل وليس الامر كما قالوه وكتاب الله أصدق من قولهم.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) كيف يصح ذلك في اللغة وهي لا تنبت بالدهن ولا الدهن ينبت؟ وجوابنا أنّ المراد ينبت ما هو أصل الدهن وهو الزيتون الذي منه يخرج الدهن وتنبت أي تخرج وقد يقال في الشجرة إنها تخرج كيت وكيت ويقال أيضا انها تخرج بكيت وكيت وقد قال أن الباء كالبدل من اللام

٢٧٨

لان ذلك من حروف الجر فكأنه قال تنبت الدهن فالكلام صحيح على كل حال.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ) كيف يصح وقد كان بين الرسل فترات وكيف يصح قوله تعالى( فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ) وذلك تكرار؟ وجوابنا أنّه تعالى وصف بعض الرسل بذلك ولذلك قال بعده( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى ) وتقدم من قبل ذكر الرسل فلا يمتنع من ذلك البعض أنه أرسلهم على اتصال ولا يمتنع إذا تقارب بعثة بعضهم بعد بعض أن يقال ذلك فأما قوله فأتبعنا بعضهم بعضا فانه يعني في الهلاك ولذلك قال بعده( وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) فالمراد بذلك الامم التي كان الله تعالى تعجل إهلاكها وقوله من بعد( فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) دلالة على أن الذين ينجون من العذاب هم المؤمنون ومعنى قوله من بعد( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) أي دلالة ومعجزة فإنه تعالى نقض العادات فيها وفي ابنها وقوله تعالى من بعد( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ) يدل على أنه أباح الطيبات وأنه لا يدخل في جملة الورع اجتنابها أكل ذلك وقوله من بعد( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) المراد به التخلية كأنه تعالى يعزي الانبياء فقد كانوا يتشددون في الدعاء إلى الله تعالى ويغتمون بترك القبول وقال تعالى( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ) أي في حيرتهم التي أوتوا فيها من قبل أنفسهم حتّى حين وذلك كالتهديد لانّ قوله تعالى( حَتَّى حِينٍ ) تنبيه على عذاب الآخرة.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) كيف يتعلق فساد السموات والارض باتباعهم أهواءهم؟ وجوابنا أنّ المراد من كذب بالرسل وبالله تعالى واثبت آلهة سواه ولو صح مع الله تعالى آلهة إلا الله لفسد التدبير وهذا هو المراد بالآية كما نقوله في دلالة التمانع في قوله( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )

٢٧٩

ولذلك قال بعده( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) ثمّ قال منزها لنفسه( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فحكى جل وعز عنه ذلك ثمّ قال( كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) ما الفائدة في ذلك وهو معلوم من قبل؟ وجوابنا أنّ المراد هذه طريقة في هذه الكلمة أنه يكررها ويتمنى عوده من حيث لا يتلافى ويقتصر على التمني.

[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) كيف يصح نفي الانساب وهي ثابتة في الآخرة كما قال تعالى( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ) وقد يدعي الرجل في الآخرة بالآباء؟ وجوابنا أنّ المراد انقطاع النفع بعد نفخ الصور بالانساب وقد كان ينتفع بها في الدنيا وإلا فالنسب الذي قد ثبت وتقضي لا يزول ولذلك قال تعالى( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ) وإنّما سينتفع بذلك أهل الصلاح فلذلك قال تعالى في سورة الرعد( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ) فوصفهم ثمّ قال في آخره( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) فعند ذلك يعظم السرور بالاجتماع وبعد ذلك قال تعالى حاكيا عمن خفت موازينه( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) وبيّن تعالى عظم ما أقدموا عليه بقوله( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

٢٨٠