فلسفتنا

فلسفتنا13%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36168 / تحميل: 12175
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلسفتنا

آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره

١

هذا الكتاب

طبع ونشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما‌السلام ) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

اسم الكتاب : فلسفتنا

المؤلّف : آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره

إعداد وتحقيق : لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره

الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدرقدس‌سره

الطبعة المحقّقة في المؤتمر : الثانية

المطبعة : شريعت ـ قم

تاريخ الطبع : ١٤٢٧ هـ ق

الكميّة : ٣٠٠٠ نسخة

رقم الشابك : ٨ ـ ٢٨ ـ ٥٨٦٠ ـ ٩٦٤ : ISBN

جميع الحقوق محفوظة للناشر

٣

فلسفتنا

دراسة موضوعيّة في معترك الصّراع الفكريّ القائم بين مختلف التّيّارات الفلسفيّة

وخاصّة الفلسفة الإسلامية والمادّية الدّيالكتيكيّة (الماركسيّة)

تأليف :

سماحة آية الله العظمى الإمّام الشّهيد السّيّد محمّد باقر الصّدرقدس‌سره

المؤتمر العالميّ للأمّام الشّهيد الصّدرقدس‌سره

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥

هذا الكتاب

غزا العالم الإسلامي ، منذ سقطت الدولة الإسلامية صريعةً بأيدي المستعمرين ـ سيلٌ جارفٌ من الثقافات الغربي القائمة على أُسُسهم الحضاريّة ، ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع ، فكانت تمدّ الاستعمار إمداداً فكريّاً متواصلاً في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأُمّة ، وسرّ أصالتها المتمثّل في الإسلام.

ووفدت بعد ذلك إلى أراضي الإسلام السليبة أمواج أُخرى من تيّارات الفكر الغربي ومفاهيمه الحضاريّة ؛ لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الميدان ، وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة ، على حساب الأُمّة ، وكيانها الفكري والسياسي الخاصّ

وكان لابدّ للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير ، وكان لابدّ أن تكون الكلّمة قويّة عميقة ، صريحة واضحة ، كاملة شاملة ، للكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، والدولة والنظام ؛ ليتاح للأُمّة أن تعلن كلمة (الله) في المعترك ، وتنادي بها ، وتدعو العالم إليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم

وليس هذا الكتاب إلاّ جزءاً من تلك الكلّمة ، عُولجت فيه مشكلةُ الكون كما يجب أن تعالج في ضوء الإسلام ، وتتلوه الأجزاء الأُخرى التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع لمختلف مشاكل الكون والحياة

٦

كلمة المؤتمر :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين

منذ منتصف القرن العشرين ، وبعد ليل طويل نشر أجنحته السوداء على سماء الأُمة الإسلامية لعدّة قرون ، فلفّها في ظلام حالك من التخلّف والانحطاط والجمود ، بدأت بشائر الحياة الجديدة تلوح في أُفق الأُمّة ، وانطلق الكيان الإسلامي العملاق ـ الذي بات يرزح تحت قيود المستكبرين والظالمين مدى قرون ـ يستعيد قواه حتّى انتصب حيّاً فاعلاً قويّاً شامخاً بانتصار الثورة الإسلامية في إيران تحت قيادة الإمام الخمينيقدس‌سره يقضّ مضاجع المستكبرين ، ويبدّد أحلام الطامعين والمستعمرين

ولئن أضحت الأُمّة الإسلامية مدينة في حياتها الجديدة على مستوى التطبيق للأمّام الخمينيقدس‌سره ، فهي بدون شكّ مدينة في حياتها الجديدة على المستوى الفكري والنظري للإمّام الشهيد الصدرقدس‌سره ، فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجدة والإبداع من جهة ، والعمق والشمول من جهة أُخرى ، أن يمهّد السبيل للأمّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات

٧

الفكرية المستوردة التي تنافست في الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلامية ، وتزاحمت للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين

لقد استطاع الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع عمالقة الحضارة المادّية الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى ، زيف الفكر الإلحادي ، وخواء الحضارة المادّية في أُسسها العقائديّة ودعائمها النظريّة ، وأن يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظير على حلّ مشاكل المجتمع الإنساني المعاصر ، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة السعادّة والعدل والخير والرفاه

ثم إنّ الإبداع الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر ، لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال الفكر الإسلامي في مجاله العامّ ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلّاسيكي أيضاً ، كالفقه والأُصول والفلسفة والمنطق ولكلّام والتفسير والتأريخ ، فأحدث في كلّ فرع من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة ، سواء في المنهج أو المضمون

ورغم مضيّ عقدين على استشهاد الإمام الصدر ، ما زالت مراكز العلم ومعاهد البحث والتحقيق تستلهم فكره وعلمه ، وما زالت الساحة الفكريّة تشعر بأمسّ الحاجة إلى آثاره العلميّة وإبداعاته في مختلف مجالات البحث والتحقيق العلمي

ومن هنا كان في طليعة أعمال المؤتمر العالمي للإمّام الشهيد الصدر إحياء تراثه العلمي والفكري بشكل يتناسب مع شأن هذا التراث القيّم

٨

وتدور هذه المهمّة الخطيرة ـ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر ـ في محورين :

أحدهما : ترجمته إلى ما تيسّر من اللغات الحيّة بدقّة وأمّانة عاليتين

والآخر : إعادّة تحقيقه للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً من الأخطاء التي وقعت فيه بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين لها وأمّانتهم ، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية

ونظراً إلى أنّ التركة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدرقدس‌سره شملت العلوم والاختصاصات المتنوّعة للمعارف الإسلامية وبمختلف المستويات الفكريّة ، لذلك أوكلّ المؤتمر العالمي للشهيد الصدر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت إشراف علماء متخصّصين في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم ، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا التراث بمستوى رفيع من الإتقان والأمّانة العلميّة ، ولخّصت منهجيّة عملها بالخطوات التالية:

١- مقابلة النسخ والطبعات المختلفة

٢- تصحيح الأخطاء السارية من الطبعات الأُولى أو المستجدة في الطبعات اللاحقة ، ومعالجة موارد السقط والتصرّف

٣-ـ تقطيع النصوص وتقويمها دون أدنى تغيير في الأُسلوب والمحتوى أمّا الموارد النادرة التي تستدعي إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى ، فيوضع المضاف بين معقوفتين

٤- تنظيم العناوين السابقة ، وإضافة عناوين أُخرى بين معقوفتين

٥- استخراج المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها إلى مرامه وأكثرها مطابقة مع النصّ ؛ ذلك لأنّ المؤلّف يستخدم النقل بالمعنى ـ في عددٍ من كتبه وآثاره ـ معتمداً على ما اختزنته ذاكرته من معلومات ، أو على نوع

٩

من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع متفرّقة من المصدر المنقول عنه ، وربما يكون بعض المصادر مترجماً وله عدّة ترجمات ؛ ولهذا تُعدّ هذه المرحلة من أشقّ المراحل

٦- إضافة بعض الملاحظات في الهامش للتنبيه على اختلاف النسخ أو تصحيح النصّ أو غير ذلك ، وتُختم هوامش السيّد الشهيد بعبارة : (المؤلفقدس‌سره ) تمييزاً لها عن هوامش التحقيق

وكقاعدة عامّة ـ لها استثناءات في بعض المؤلّفات ـ يُحاول الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض مطالب إضافيّة أو شرح وبيان فكرةٍ مّا أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها

٧- تزويد كلّ كتاب بفهرس موضوعاته ، وإلحاق بعض المؤلفات بثبت خاص لفهرس المصادر الواردة فيها

وقد بسطت الجهود التحقيقيّة ذراعيها على كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل ، فشملت : كتبه ، وما جاد به قلمه مقدمةً أو خاتمةً لكتب غيره ثم طُبع مستقلاًّ في مرحلة متأخرة ، ومقالاته المنشورة في مجلاّت فكريّة وثقافيّة مختلفة ، ومحاضراته ودروسه في موضوعات شتّى ، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهيّة ، ونتاجاته المتفرّقة الأُخرى ، ثمّ نُظّمت بطريقة فنيّة وأُعيد طبعها في مجلّدات أنيقة متناسقة

ومن جملة الكتب التي شملتها الجهود التحقيقيّة المذكورة كتاب (فلسفتنا) ، وهو من جملة آثاره القيّمة التي ألّفها في أواسط العقد الثالث من عمره الشريف ، في الوقت الذي غزا العالم الإسلامي سيلٌ جارف من الثقافات الغربيّة القائمة على أُسسهم الحضاريّة ومفاهيمهم عن الكون والحياة والمجتمع ، وكان لابدّ للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير ، ليتاح للأُمّة الإسلامية أن تعلن كلمة

١٠

(الله) في هذا المعترك ، وتنادي بها ، وتدعو العالم إليها ، كما فعلت في فجر تاريخها العظيم ؛ فكان هذا الكتاب تعبيراً واضحاً قويّاً عن تلك الكلّمة ، عولجت فيه مشكلة المعرفة والكون ضمن دراسةٍ موضوعيّة عن الصراع الفكري القائم بين مختلف التيّارات الفلسفيّة ، وخاصّة الفلسفة الإسلامية والمادّية الديالكتيكيّة الماركسيّة ، وقد أخذ مأخذه العظيم من الشهرة والنفوذ في الأوساط العلميّة والثقافيّة ، ونال قصب السبق في هذا المجال

وقد مُني هذا الكتاب بمحنة التحريف السافر بأمر النظام البعثي البائد في الطبعة التي قام بها هذا النظام في حياة المؤلّفقدس‌سره ورغم أنفه ، فكانت هذه ظلامة من عشرات الظلامات التي وقعت على هذا الرجل العظيم كما أنّ دُور النشر التي تصدّت لطبع هذا الكتاب في خارج العراق لم تكن على مستوى الأمّانة والدقّة الكافيتين ، ممّا سبّب وقوع أخطاء كثيرة جدّاً فيه

وعلى هذا الأساس ؛ ولأجل الأهميّة الفريدة لهذا الكتاب ، تصدّت لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدررحمه‌الله لتحقيق هذا الكتاب بجدّية خاصّة ، وبذلت جهدها على مستوىً رفيع جدّاً لتجريده عن الأخطاء والتحريفات ، كما أنّها قامت باستخراج المصادر التي استند إليها المؤلّف العظيمقدس‌سره مبلغ الإمكان ، وأضافت إليها إرجاعاتٍ عديدةً في موضوعات مختلفة إلى المصادر الفلسفيّة الحديثة والقديمة ، لكي يتسنّى للقارئ العزيز التوسّع والتعمّق في تلك المجالات

ومن أهمّ ما قامت به اللجنة المذكورة في تحقيق هذا الكتاب المقارنة الدقيقة بين النظريّات الفلسفيّة التي تبنّاها المؤلّفقدس‌سره في هذا الكتاب ، وبين ما انتهى إليه نظره بعد اثنتي عشرة سنة في كتابه القيّم (الأسس المنطقيّة للاستقراء) حيث إنّهقدس‌سره كان قد ألّف كتاب (فلسفتنا) في ضوء الأفكار الفلسفيّة السائدة عند

١١

فلاسفة المسلمين والتي تعتمد في الغالب على منطق (أرسطو) والمذهب العقلي في نظريّة المعرفة ، ولكنّه استطاع بعد ذلك أن يتوصّل إلى نظريّات فلسفيّة جديدة سواء في بحث نظريّة المعرفة أو في بحث فلسفة الوجود ممّا أثبت جلّها في كتابه(الأُسس المنطقيّة للاستقراء) ، ووضع بذلك الجذور الأوّلية لفلسفة جديدة تختلف تماماً عن الفلسفة السائدة ولهذا رأينا من المناسب جدّاً أن يشار في كتاب(فلسفتنا) إلى جميع النقاط التي تغيّر فيها رأي المؤلّف رحمه‌الله في كتابه الآخر بعد ردحٍ غير قصير من الزمان وهذا ما صنعته لجنة التحقيق بقدر ما حالفها التوفيق والسداد من الله تبارك وتعالى هذا

ولا يفوتنا أن نشيد بالموقف النبيل لورثة السيّد الشهيد كافّة سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة السيّد جعفر الصدر حفظه الله) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء التراث العلمي للشهيد الصدرقدس‌سره

وأخيراً ، نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام الشهيد ، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه بالأُسلوب العلمي اللائق ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّل جهدهم وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعاً بالأجر والثواب ، إنّه سميع مجيب

المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره

أمّانة الهيئة العلميّة

١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة المؤلّف

فلسفتنا هو : مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم ، وطريقة التفكير فيه ؛ ولهذا كان الكتاب ـ باستثناء التمهيد ـ ينقسم إلى بحثين : أحدهما نظرية المعرفة ، والآخر المفهوم الفلسفي للعالم

ومسؤولية البحث الأوّل في الكتاب تتلخّص فيما يلي :

أوّلاً- الاستدلال على المنطق العقلي القائل بصحّة الطريقة العقلية في التفكير ، وإنّ العقل ، بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة ، هو المقياس الأوّل في التفكير البشري ، ولا يمكن أن توجد فكرة فلسفية أو علمية دون إخضاعها لهذا المقياس العامّ ، وحتّى التجربة التي يزعم التجريبيّون أنّها المقياس الأوّل ، ليست في الحقيقة إلاّ أداة لتطبيق المقياس العقلي ، ولا غنى للنظرية التجريبية عن الرصيد العقلي

وثانياً- درس قيمة المعرفة البشرية ، والتدليل على أنّ المعرفة إنّما يمكن التسليم لها بقيمة على أساس المنطق العقلي ، لا المنطق الديالكتيكي الذي يعجز عن إيجاد قيمة صحيحة للمعرفة(١)

____________________

(١) ولا يخفى أنّ المؤلّفقدس‌سره تكاملت أفكاره في بحث (نظريّة المعرفة) بعد تأليفه لهذا

١٣

وهدفنا الأساسي من هذا البحث هو : تحديد منهج الكتاب في المسألة الثانية ؛ لأنّ وضع مفهوم عامّ للعالم يتوقّف ـ قبل كلّ شيء ـ على تحديد الطريقة الرئيسية في التفكير ، والمقياس العامّ للمعرفة الصحيحة ، ومدى قيمتها ؛ ولهذا كانت المسألة الأُولى في الحقيقة بحثاً تمهيديّاً للمسألة الثانية والمسألة الثانية هي المسألة الأساسية في الكتاب التي نلفت القارئ إلى الاهتمام بها بصورة خاصّة

والبحث في المسألة الثانية يتسلسل في حلقات خمس :

ففي الحلقة الأُولى نعرض المفاهيم الفلسفية المتصارعة في الميدان وحدودها ، ونقدّم بعض الإيضاحات عنها

وفي الحلقة الثانية نتناول الديالكتيك بصفته أشهر منطق ترتكز عليه المادّية الحديثة اليوم ، فندرسه دراسة موضوعية مفصّلة بكلِّ خطوطه العريضة التي رسمها هيجل وكارل ماركس ، الفيلسوفان الديالكتيكيان

وفي الحلقة الثالثة ندرس مبدأ العلّية وقوانينها التي تسيطر على العالم ، وما تقدّمه لنا من تفسير فلسفي شامل له ، ونعالج عدّة شكوك فلسفية نشأت في ضوء التطوّرات العلمية الحديثة

وننتقل بعد ذلك إلى الحلقة الرابعة : المادّة أو الله ، وهو البحث في المرحلة النهائية من مراحل الصراع بين المادّية والإلهية ، لنصوغ مفهومنا الإلهي للعالم في

____________________

ð

الكتاب ، وانتهى إلى تأسيس اتّجاه جديد في نظريّة المعرفة يختلف عن كلّ من الاتّجاهين التقليديّين اللذين يتمثلان في (المذهب العقلي) و(المذهب التجريبي) ، وقد عرض هذا الاتّجاه الجديد في كتابه القيّم (الأُسس المنطقيّة للاستقراء) ، وسمّى ذلك بـ (المذهب الذاتي للمعرفة) تمييزاً له عن المذهبين الآخرين ، وحاول فيه إعادة بناء نظريّة المعرفة على أساس جديد ، ودراسةَ نقاطها الأساسيّة في ضوءٍ يختلف اختلافاً جذريّاً عمّا قدّمه في القسم الأوّل من هذا الكتاب(لجنة التحقيق)

١٤

ضوء القوانين الفلسفية ، وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية

وأمّاالحلقة الأخيرة فندرس فيها مشكلة من أهمّ المشاكل الفلسفية ، وهي : (الإدراك ) ، الذي يمثّل ميداناً مُهِمّاً من ميادين الصراع بين المادّية والميتافيزيقية وقد عولج البحثُ [ فيها ] على أساسٍ فلسفيٍّ ، وفي ضوء مختلف العلوم ذات الصلة بالموضوع : من طبيعية ، وفسيولوجية ، وسيكولوجية .

هذا هو الكتاب في مخطّط إجمالي عامّ ، تجده الآن بين يديك نتيجة جهود متضافرة طيلة عشرة أشهر ، أدّت إلى إخراجه كما ترى وكلُّ أملي أن يكون قد أدّى شيئاً من الرسالة المقدّسة بأمّان وإخلاص

وأرجو من القارئ العزيز أن يدرس بحوث الكتاب دراسة موضُوعية بكلّ إمعان وتدبُّر ، تاركاً الحكم له أو عليه إلى ما يملك من المقاييس الفلسفية والعلمية الدقيقة ، لا إلى الرغبة والعاطفة ولا أُحبّ له أن يطالع الكتاب كما يطالع كتاباً روائيّاً ، أو لوناً من ألوان الترف العقلي والأدبي ، فليس الكتاب رواية ولا أدباً أو ترفاً عقليّاً ، وإنّما هو في الصميم من مشاكل الإنسانية المفكِّرة

( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (١)

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف

٢٩ ربيع الثاني ١٣٧٩ هـ

____________________

(١) هود : ٨٨

١٥

١٦

تمهيد

المسألة الاجتماعيّة

الديمقراطية الرأسماليّة

الاشتراكيّة والشيوعيّة

الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة

١٧

١٨

المسألة الاجتماعية

مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم وتمسُّ واقعها بالصميم هي :

مشكلة النظام الاجتماعي ، التي تتلخّص في محاولة إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي : ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية ، وتسعد به في حياتها الاجتماعية ؟

ومن الطبيعي أن تحتلّ هذه المشكلة مقامها الخطير ، وأن تكون في تعقيدها وتنوّع ألوان الاجتهاد في حلّها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها ؛ لأنّ النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية ، ومؤثِّر في كيانها الاجتماعي في الصميم

وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تأريخ البشرية ، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعه الحياة الاجتماعية ، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثّل في عدّة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة فإنّ هذه العلاقات التي تكوّنت تحقيقاً لمتطلّبات الفطرة والطبيعة ، في حاجة ـ بطبيعة الحال ـ إلى توجيه وتنظيم ، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه يتوقّف استقرّر المجتمع وسعادته

وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية إلى خوض جهاد طويل ، وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع ، وبشتّى مذاهب العقل

١٩

البشري التي ترمي إلى إقامة البناء الاجتماعي وهندسته ، ورسم خططه ، ووضع ركائزه ، وكان جهاداً مُرهِقاً يضجُّ بالمآسي والمظالم ، ويزخر بالضحكات والدموع ، وتقترن فيه السعادة مع الشقاء ؛ كلّ ذلك لمّا كان يتمثّل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعي الصحيح ولولا ومضات شعَّت في لحظات من تأريخ هذا الكوكب ، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرّة ، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.

ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي ؛ لأنّنا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرّخ للإنسانية المعذَّبة ، وأجوائها التي تقلّبت فيها منذ الآماد البعيدة ، وإنّما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر، وفي أشواطها التي انتهت إليها ؛ لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي إليها الشوط ، والساحل الطبيعي الذي لا بدّ للسفينة أن تشقّ طريقها إليه ، وترسو عنده ؛ لتصل إلى السلام والخير ، وتؤوب إلى حياة مستقرّة ، يعمرها العدل والسعادة ، بعد جهد وعناء طويلين ، وبعد تطواف عريض في شتّى النواحي ومختلف الاتّجاهات

المذاهب الاجتماعية :

إنّ أهمّ المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامّة اليوم ، ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي على اختلاف مدى وجودها الاجتماعي في حياة الإنسان ، هي مذاهب أربعة :

١- النظام الديمقراطي الرأسمالي

٢- النظام الاشتراكي

٣- النظام الشيوعي

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438