فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 32673
تحميل: 10068

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32673 / تحميل: 10068
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٤- النظام الإسلامي

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة : فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أُخرى وكلٌّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم ، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه

وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص غير أنّ النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد ، وبقيت التجربة في رحمة أُناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره ، فعجزت عن الصمود والبقاء ، فتقوَّض الكيان الإسلامي ، وبقي نظام الإسلام فكراً في ذهن الأُمّة الإسلامية ، وعقيدةً في قلوب المسلمين ، وأملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون وأمّا النظام الشيوعي فهو فكرة غير مُجرَّبة حتّى الآن تجربة كاملة ، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي له ، بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم ، فأعلنت النظام الاشتراكي ، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية

فما هو موضعنا من هذه الأنظمة ؟

وما هي قضيّتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة إلى شاطئها ؟

٢١

الديمقراطية الرأسمالية

ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي ، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية ، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية ، وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية ، وهيّأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلَّت محلّ السابقين ، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد

وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له ، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفل- بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة ، فلا يجوز لها أن تتعدَّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها

ويتلخّص النظام الديمقراطي الرأسمالي في إعلان الحرّيات الأربع : السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والشخصية

فالحرّية السياسية تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً ، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للأُمّة : وضع خططها ، ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها ؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعي للأمّة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألةٌ تتّصل اتّصالاً مباشراً بحياة كلّ فرد من أفرادها ، وتؤثّر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه ، فمن الطبيعي ، حينئذٍ ، أن يكون لكلّ فرد حقّ المشاركة في بناء النظام والحكم

وإذا كانت المسألة الاجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياة أو موت ، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة

٢٢

فمن الطبيعي- أيضاً- أن لا يباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء

فلابدّ إذن من إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافةً ؛ لأنّهم يتساوون في تحمُّل نتائج المسألة الاجتماعية ، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم ، بكلّ سلطاته وشُعَبه ، عن أكثرية المواطنين

والحرّية الاقتصادية ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحرّ ، وتقرّر فتح جميع الأبواب ، وتهيئة كلّ الميادين إمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملّك للاستهلاك وللإنتاج معاً ، وتباح هذه الملكية التي يتكوّن منها رأس المال من غير حدٍّ وتقييد ، وللجميع على حدٍّ سواء فلكلّ فرد مطلق الحرّية في انتهاج أيّ أُسلوب وسلوك أيّ طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية

وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصاديّة أنّ قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أُصول عامّة بصورة طبيعية ، كفيلة بسعادة المجتمع ، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه ، وأنّ المصلحة الشخصية التي هي الحافظ القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامّة وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة ، نتيجةً لتساوي المنتجبين والمتّجرين في حقّهم من الحرّية الاقتصادية ، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتّى الاتفاقات والمعاملات فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخّل ـ مثلاً ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن ، بصورة تكاد أن تكون آلية ؛ وذلك أنّ

٢٣

الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب ، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر ، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك

والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد ـ دائماً ـ التفكير في كيفية إزادة الإنتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ؛ وذلك يحقّق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً

والتنافس يقتضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع ، وأُجور العمال والمستخدمين بشكل عادل ، لا ظلم فيه ولا إجحاف ؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه ، أو تخفيض أُجور عمّاله ، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجبين

والحرّية الفكرية تعني : أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم ، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فرد ، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها ، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده

والحرّية الشخصية تعبّر عن تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد ، فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة ، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ من مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصية لكلّ فرد : حرّية الآخرين فما لم يمسّها الفرد بسوء

٢٤

فلا جناح عليه أن يكيّف حياته باللون الذي يحلو له ، ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها ؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله وما دام يملك هذا الكيان ، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء

وليست الحرّية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرّية الفكرية في جانبها العقائدي ، وعن الحرّية الشخصية في الجانب العملي الذي يتّصل بالشعائر والسلوك

ويُستخلَص من هذا العرض : أنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام ـ كما ألمحنا إليه ـ هو : أنّ مصالح المجتمع بمصالح الأفراد ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي ، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها

هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأُمم ، في ظلّ قادة كانوا حين يعبّرون عن هذا النظام الجديد ويعِدونهم بمحاسنه ، يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتها ، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد أُجريت عليها بعد ذلك عدّة من التعديلات ، غير أنّها لم تمسّ جوهرها بالصميم ، بل بقيت محتفظةً بأهمّ ركائزها وأُسسها

الاتجاه المادّي في الرأسمالية :

ومن الواضح أنّ هذا النظام الاجتماعي نظامٌ مادّيٌّ خالص ، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادّية ،

٢٥

وافتُرِض على هذا الشكل ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة ، وعلى دراسة مفصّلة لها

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام ، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة ، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه ولا أعني بذلك : أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها ، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي(١) ، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة(٢) ، وبروح

____________________

(١) فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى في الميدان العلمي ، ووفِّقت توفيقاً ـ لم يكن في الحسّبان ـ إلى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة ، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة ، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة ، حتّى صار الحسّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم

وسوف نوضِّح في هذا الكتاب : أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ ، كما يدرك الحقائق المحسوسة (المؤلّفقدس‌سره )

(٢) فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ ، مع أنّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي ، أو دليل فلسفي ، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة ، تزعزع الإيمان العامّ ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان ، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٦

التمرّدوالسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول ، ويتملّق للظلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعي في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين(١)

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير من العقليّات الغربية

كلّ هذا صحيح ، ولكنّ النظام الرأسمالي لم يركّز على فهم فلسفي مادّي للحياة ، وهذا هو التناقض والعجز ، فإنّ المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة ، ولا تتبلور في شكل صحيح إلاّ إذا أُقيمت على قاعدة مركزية ، تشرح الحياة وواقعها وحدودها ، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداع وتضليل ، أو على عجلة وقلّة أناة ، حين تجمّد المسألة الواقعية للحياة ، وتُدرَس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ، مع أنّ قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة ، التي تموِّن المجتمع بالمادّة الاجتماعية ـ وهي : العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها ، واكتشاف أسرارها وقيمها فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة ، عالمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه ، قائمة على تنظيمه وتوجيهه ، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة ؛ لأنّها أبصر بأمره ، وأعلم

____________________

(١) فإنّ الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلال الدين استغلالاً شنيعاً ، وجعْلِ اسمه أداةَ مآربها وأغراضها ، وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المقدَّرات ، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدين والسخط عليه ؛ لأنّ الجريمة ارتكبت باسمه ، مع أنّه في واقعه المصفّى وجوهره الصحيح لا يقلّ عن أُولئك الساخطين والمتبرّمين ضيقاً بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٧

بواقعه ، وأنزه قصداً ، وأشدّ اعتدالاً منه

وأيضاً ، فإنّ هذه الحياة المحدودة إن كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها ، وتتلوّن بطابعها ، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأُولى ونزاهتها ، فمن الطبيعي أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها ، وتقام على أُسس القِيَم المعنوية والمادّية معاً.

وإذن فمسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة ، لتُفصل عن مجالات الحياة ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها ، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً

والدليل على مدى اتّصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها : أنّ الفكرة فيها تُقدَّم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها ، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأُمّة عليها وهذا الأساس بنفسه لا موضعَ ولا معنىً له إلاّ إذا أُقيم على فلسفة مادّية خالصة ، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود

فالنظام الرأسمالي مادّي بكلّ ما للّفظ من معنىً ، فهو إمّا أن يكون قد استبطن المادّية ، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها وإمّا أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الوقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها وهو ـ بكلمة ـ نظام مادّي ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادّية واضحة الخطوط

٢٨

موضع الأخلاق من الرأسمالية :

وكان من جرّاء هذه المادّية التي زخر النظام بروحها أن أُقصيت الأخلاق من الحسّاب ، ولم يُلحَظ لها وجودٌ في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأُعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى ، والحرّيات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب.

وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية ، قائلين إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعية ، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقيمها الروحية تُحقَّق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها ؛ فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقّق بذلك مصلحةً شخصية أيضاً ؛ باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخص تعرَّضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً ؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية ، فيعود عليه نصيب منها ، وإذن ، فالدافع الشخصي والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية

وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال فتصوّر بنفسك أنّ المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الأُمّة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة تُوفِّر للفرد حرّياته وتقدِّسه بغير تحفّظ ولا تحديد ، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد ؟! وكيف يمكن أن يكون اتّصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه

٢٩

الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخُلُقية ؟! مع أنّ كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع ، وإذا اتّفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع ، فكثيراً ما يُزاحَم هذا النفع الضئيل ـ الذي لا يُدْرِكه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية ـ بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحرّيات ضماناً لتحقيقها ، فيطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي

مآسي النظام الرأسمالي :

وإذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل- لا على أساس فلسفيٍّ مدروس ـ فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ؛ ولذا نلمّح إليها :

فأوّل تلك الحلقات : تحكُّم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية ؛ فإنّ الحرّية السياسية كانت تعني : أنّ وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حقّ الأكثرية ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثِّل الأكثرية في الأُمّة ملكت زمام الحكم والتشريع ، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية ، وهي عقلية مادّية خالصة في اتّجاهها ونزعاتها ، وأهدافها وأهوائها ، فماذا يكون مصير الفئة الأُخرى ؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها ؟! وهل يكون من الغريب حينئذٍ إذا شَرَّعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصّة ، وأهملت مصالح الأقلية ، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين ؟! فمن الذين يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ، ويذبُّ عن وجهها الظلمَ ، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كلّ فرد ، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليّتها الاجتماعية ؟! وبطبيعة الحال ، أنّ التحكّم سوف يبقى في ظلّ النظام كما كان

٣٠

في السابق ، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستُحفَظ في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة

وغاية ما في الموضوع من فرق : أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قِبَل أفراد بأُمّة ، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثِّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلِّيات التي تشكّل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر

وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ ، إذاً لكانت المأساة هيّنة ، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض من دموع ، بل إنّ الأمر تفاقم واشتدّ حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك ، فقرّرت الحرّية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً ، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً ، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه ، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه ، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير ، والعلم يتمخَّض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة ، وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها ، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأُمّة ، ممّن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث ، وزوَّدتهم الحرّيات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدٍّ ، والقضاء بها على كثير من فئات الأُمّة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها ، وزعزعت حياتها ، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيّار ، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصادية ، وبحقوق الحرّيات المقدَّسة كلّها

وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج ، وتضاءلت الفئة الوسطى ، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض ، وصارت هذه الأكثرية المحطَّمة تحت رحمة تلك الصفوة التي لا تفكّر ولا تحسب إلاّ على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية ومن الطبيعي حينئذٍ أن لا تمدُّ يد العطف

٣١

والمعونة إلى هؤلاء ، لتنتشلهم من الهوَّة ، وتشركهم في مغانمها الضخمة ولماذا تفعل ذلك ؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة ، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل ، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصّة

فالمسألة ـ إذاً ـ يجب أن تُدرَس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام ، وهي أن يستغلَّ هؤلاء الكبراء حاجة الأكثرية إليهم ، ومقوِّماتهم المعيشية ، فيفرض على القادرين العملُ في ميادينهم ومصانعهم في مدّة لا يمكن الزيادة عليها ، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه ، وتنقسم الأُمّة بسبب ذلك إلى فئة في قمّة الثراء ، وأكثرية في المهوى السحيق

وهنا يتبلور الحقّ السياسي للأُمّة من جديد بشكل آخر فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين وإن لم تمح من سجلّ النظام ، غير أنّها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالاً وتفكيراً خالصاً ؛ فإنّ الحرّية الاقتصادية حين تسجِّل ما عرضناه من نتائج ، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مرّ في العرض ، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام ، وتُقهَر الحرّية السياسية أمامها ؛ فإنّ الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع ، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية ، وتمكُّنِها من شراء الأنصار والأعوان ، تهيمن على مقاليد الحكم في الأُمّة ، وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها ، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال ، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنّه من حقّ الأُمّة جمعاء وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلية ، وسلطاناً يحمي به عدّة من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين ، بالعقلية النفعية التي يستوحونها

٣٢

من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية

ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثّلها هذا النظام ؛ فإنّ هؤلاء السادة الذين وضع النظامُ الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كلَّ نفوذ ، وزوَّدهم بكلّ قوّة وطاقة ، سوف يمدّون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ إلى الآفاق ، ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنّهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة ؛ وذلك لسبيين :

الأوّل : أنّ وفرة الإنتاج تتوقّف على مدى توفّر المواد الأوّلية وكثرتها ، فكلّ من يكون حظّه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة وإذا كان من الواجب الحصول عليها ، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد ، لامتصاصها واستغلالها

الثاني : أنّ شِدَّة حركة الإنتاج وقوّتها بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية ، ومن ناحية أُخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين بدافع من الشره المادّي للفئة الرأسمالية ، ومغالبتها للعامّة على حقوقها بأساليبها النفعية ، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها ، كلّ ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسّة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها ، وإيجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة

وهكذا تُدرَس المسألة بذهنية مادّية خالصة ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخُلُقية ، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية إلاّ إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات ، أن ترى في هذين السببين مبرّراً ومسوّغاً منطقيّاً للاعتداء على البلاد الآمنة ، وانتهاك كرامتها ، والسيطرة على مقدّراتها ومواردها الطبيعية الكبرى ، واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة فكلّ ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية

٣٣

التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحرّ

وينطلق من هنا عملاق المادّة ، يغزو ويحارب ، ويقيِّد ويكبّل ، ويستعمر ويستثمر ؛ إرضاءً للشهوات وإشباعاً للرغبات فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام ، باعتباره مادّياً في روحه وصياغته ، وأساليبه وأهدافه ، وإن لم يكن مركّزاً على فلسفة محدَّدة تتّفق مع تلك الروح والصياغة ، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا إليه ؟!!

وقدِّرْ بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار ، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة ، والتراحم والتعاطف الحقيقي ، وجميع الاتّجاهات الروحية الخيِّرة ، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنّه المسئول عن نفسه وحده ، وأنّه في خطر من قبل كلّ مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به ، فكأنّه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرّة ، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصّة ، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصّة

٣٤

الاشتراكية والشيوعية

في الاشتراكية مذاهب متعدّدة ، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادّية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصّة للحياة ، وفهم مادّي لها على طريقة ديالكتيكية وقد طبّق المادّيون الديالكتيكيون هذه المادّية الديالكتيكية على التأريخ والاجتماع والاقتصاد ، فصارت عقيدةً فلسفية في شأن العالم ، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع ، ومذهباً في الاقتصاد ، وخطّة في السياسة

وبعبارة أُخرى : أنّها تصوغ الإنسان كلّه في قالب خاصّ ، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها ولا ريب في أنّ الفلسفة المادّية وكذلك الطريقة الديالكتيكية ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته ، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي ، سافرةً تارة ، ومتواريةً أُخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق ، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل ) الفيلسوف المثالي المعروف وإنّما جاء (كارل ماركس ) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاهما ، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة ، فقام بتحقيقين :

أحدهما : أن فسَّر التأريخ تفسيراً مادّياً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة

والآخر : زعم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامّل(١) وأشاد على أساس هذين

____________________

(١) شرحنا هذه النظريّات مع دراسة علمية مفصّلة في كتاب (اقتصادنا) (المؤلّف قدس‌سره )

٣٥

التحقيقين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي ، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي الذي اعتبره خطوة للإنسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات ، وكلّ وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادّية خالصة ، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّية ومتأثّرة بها ، غير أنّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه ، وينشب ـ حينئذٍ ـ الصراع بين النقائض في محتواه ، حتّى تتجمَّع المتناقضات ، وتُحدِث تبدّلاً في ذلك الوضع وإنشاءً لوضع جديد ، وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدة ، وتتمثَّل مصالح كلّ فرد في مصالح تلك الطبقة الموحّدة في تلك اللحظة يسود الوئام ، ويتحقّق السلام ، وتزول نهائياً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي ؛ لأنّها إنّما كانت تتولَّد من تعدّد الطبقة في المجتمع ، وهذا التعدّد إنّما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير وإذاً فلابدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام ، وذلك بإلغاء الملكيّة وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية ؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز :

أوّلاً - على إلغاء المِلْكية الخاصّة ومحوها محواً تاماً من المجتمع ، وتمليك الثروة كلّها للمجموع ، وتسليمها إلى الدولة باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق إنّما كان ردّ الفعل الطبيعي لمضاعفات المِلْكية الخاصّة في النظام الديمقراطي الرأسمالي وقد بُرِّر هذا التأميم بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية ، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ؛ ليُختم بذلك الصراع ، ويُسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته ، إشباعاً

٣٦

لجشعه واندفاعاً بدافع الأثرة وراء المصلحة الشخصية

ثانياً - على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للأفراد ، ويتلخّص في النصّ الآتي : (من كلٍّ حسب قدرته ، ولكلّ حسب حاجته) ؛ وذلك أنّ كلّ فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها ، فهو يدفع للمجتمع كلّ جهده ، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته ، ويقوم بمعيشته

ثالثاً ـ على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة ، وتوفِّق فيه بين حاجة المجموع والإنتاج : في كمّيته ، وتنويعه ، وتحديده ؛ لئلاً يمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما أطلق الحرّيات بغير تحديد

الانحراف عن العملية الشيوعية :

ولكنّ أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام لم يستطيعوا أن يطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحكم ، واعتقدوا أنّه لابدّ لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها ، زاعمين أنّ الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية ، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية ، فلا يفكّر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ، ولا يندفع إلاّ في سبيلها

ولأجل ذلك كان من الضروري ، في عرف هذا المذهب الاجتماعي ، إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك ؛ ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة ، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعي وهذا النظام الاشتراكي أُجريت فيه تعديلات مهمّة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية

٣٧

فالخطّ الأوّل من خطوط الاقتصاد الشيوعي ، وهو : إلغاء الملكية الفردية ، قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط ، وهو : تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة ، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أُخرى : إلغاء رأس المال الكبير مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد ؛ وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا إليه ؛ حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ، ويتهرَّبون من واجباتهم الاجتماعية ؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدِّ حاجاتهم ، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد ـ مهما كان شديداً ـ لأكثر من ذلك فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجدُّ ما دامت النتيجة في حسابه هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط ؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته ، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة ، إلاّ القيمة المادّية الخالصة ؟!!

فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق ، وإلى تعديل الخطّ الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً ، وذلك بجعل فوارق بين الأُجور ؛ لدفع الأعمال إلى النشاط والتكامل في العمل ، معتذرين بأنّها فوارق مؤقّتة سوف تزول حينما يُقضى على العقلية الرأسمالية ، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً وهم لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية ؛ لتدارك فشل كلّ طريقة بطريقة جديدة ولم يوفَّقوا حتّى الآن للتخلّص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي ، فلم تلغ ـ مثلاً ـ القروض الربوية نهائياً ، مع أنّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي

٣٨

ولا يعني هذا كلّه أنّ أولئك الزعماء مقصّرون ، أو أنّهم غير جادّين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم ، وإنّما يعني : أنّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق ، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للإصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشّرون به ، ففرض عليه الواقع التراجعَ آملين أن تتحقّق المعجزة في وقت قريب أو بعيد

وأمّا من الناحية السياسية ، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع حين تتحقّق المعجزة ، وتعمّ العقلية الجماعية كلَّ البشر ، فلا يفكّر الجميع إلاّ في المصلحة المادّية للمجموع وأمّا قبل ذلك ، ما دامت المعجزة غير محقّقة ، وما دام البشر غير موحَّدين في طبقة ، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسمالية وعمّالية ، فاللازم أن يكون الحكم عمّالياً خالصاً ، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال ، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم وقد علَّلوا ذلك بأنّ الدكتاتورية العمّالية في الحكم ضرورية في كلّ المراحل التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية ؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العامّلة ، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان من جديد.

والواقع : أنّ هذا المذهب الذي تمثَّل في الاشتراكية الماركسية ، ثمّ في الشيوعية الماركسية ، يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأنّه يرتكز على فلسفة مادّية معيّنة ، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة ، لا يَعترف لها بجميع المثُل والقيم المعنوية ، ويعلِّلها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة ، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية ؛ فإنّها وإن كانت نظاماً مادّياً ولكنّها لم تبنَ على أساس فلسفيٍّ محدَّد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية آمنت به الشيوعية المادّية ، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية أو لم تحوّل إيضاحه

٣٩

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها ، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها

ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل ، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع ، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه ، فكأنّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ أن تتصادما وتتصارعا فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في حدّ النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية ، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق ، فساند المجتمع ، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء ، فأُصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير

المؤاخذات على الشيوعية :

والواقع : أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب ، هذا من ناحية ومن ناحية أُخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه ؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية ،

٤٠