فلسفتنا

فلسفتنا0%

فلسفتنا مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: كتب
الصفحات: 438

فلسفتنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 438
المشاهدات: 32663
تحميل: 10067

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32663 / تحميل: 10067
الحجم الحجم الحجم
فلسفتنا

فلسفتنا

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الميتافيزيقي للإدراك

وقد يخطر هنا على بعض الأذهان أنّ مسألة إدراك الصورة في أشكالها ، وحجومها ، وأبعادها ومسافاتها ، قد أجاب عليها العلم ، وعالجتها البحوث السيكولوجية ؛ إذ أوضحت أنّ هناك عدّة عوامل بصرية وعضلية تساعدنا على إدراك تلك الخصائص الهندسية

فحاسّة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون ، وأمّا إدراك الخصائص الهندسية للأشياء ، فهو يتوقّف على ارتباط اللمس بحركات وأحاسيس خاصّة فلو جرّدنا الإحساس البصري عن كلّ إحساس آخر ، لبدت لنا نقاط من الضوء واللون فحسب ، ولما أُتيح لنا إدراك الأشكال والحجوم ، حتّى إنّا كنّا نعجز عن التمييز بين كرة ومكعّب ؛ وذلك لأنّ الكيفيات الأوّلية والأشكال من مدركات اللمس ، وبتكرار التجربة اللمسية ينشأ تقارن بين مدركات اللمس من تلك الكيفيات ، وبين عدّة من الإحساسات البصرية كاختلاف خاصّة في الأضواء والألوان المبصرة ، وعدّة من الحركات العضلية كحركة تكييف العين لرؤية الأشياء القريبة والبعيدة ، وحركة التلاقي في حالة الإبصار بالعينين وبعد أن ينشأ هذا التقارن يمكننا أن نستغني في إدراك الحجوم والأشكال عن الإحساسات اللمسية بما اقترن بها من إحساسات وحركات عضلية فإذا أبصرنا كرة بعد هذا ، استطعنا أن نحدّد شكلها وحجمها دون أن نلمسها ، اعتماداً على الإحساسات والحركات العضلية التي اقترنت بمدركات اللمس

وهكذا ندرك أخيراً الأشياء بخصائصها الهندسية ، لا بالإحساس البصري فحسب ، بل بالإبصار مع ألوان أخرى من حركات حسّية ، أصبحت ذات مدلول هندسي بسبب اقترانها بمدركات اللمس ، غير أنّ العادة لا تجعلنا نشعر بذلك

ونحن لا نريد أن ندرس نظرية العوامل العضلية والبصرية من ناحية علمية ؛

٤٢١

لأنّ ذلك لا يهمّ البحث الفلسفي ، فلنأخذ بها كمسلّمة علمية ، ولنفترض أنّها صحيحة ؛ فإنّ هذا الافتراض لا يغيّر من موقفنا الفلسفي شيئاً ، كما يظهر ذلك في ضوء ما قدّمناه من تحديدات للدراسة الفلسفية في بحوث النفس ؛ إذ إنّ مؤدّى النظرية هو : أنّ الصورة العقلية المدرَكة بخصائصها الهندسية ، وطولها وعرضها وعمقها ، لم توجد بسبب الإحساس البصري البسيط فحسب ، بل بالتعاون مع إحساسات بصرية ، وحركات عضلية أخرى ، اكتسبت مدلولاً هندسياً بارتباطها باللمس واقترانها معه في التجارب المتكرّرة ، وسوف نواجه بعد التسليم بهذا نفس السؤال الفلسفي الأوّل ، وهو السؤال عن هذه الصورة العقلية التي كوّنها الإحساس البصري بالاشتراك مع أحاسيس وحركات أخرى ، أين توجد ؟ وهل هي صورة مادّية قائمة في عضوٍ مادّي ، أو صورة ميتافيزيقية مجرّدة عن المادّة ؟ ومرّة أخرى نجد أنفسنا مضطرّين إلى الأخذ بوجهة النظر الميتافيزيقي ؛ لأنّ هذه الصورة بخصائصها وامتدادها آلاف الأمتار لا يمكن أن توجد في عضوٍ مادّي صغير ، كما لا يمكن أن توجد على ورقة صغيرة ، فيجب ـ إذن ـ أن تكون صورة مجرّدة عن المادّة

هذا ما يتّصل بظاهرة الخصائص الهندسية للصورة العقلية المدرَكة

وأمّا الظاهرة الثانية التي يتاح لمفهومنا الفلسفي أن يرتكز عليها ، فهي ظاهرة الثبات ، ونعني بها : إنّ الصورة العقلية المدرَكة تميل إلى الثبات ، ولا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة على الجهاز العصبي فهذا قلم إذا وضعناه على بعد متر واحد منّا ، انعكست عنه صورة ضوئية خاصّة ، وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه ، ونظرنا إليه على بعد مترين ، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الأُولى ، مع أنّ إدراكنا لحجم القلم لن يتغيّر تغيّراً يذكر ، أي : أنّ الصورة العقلية للقلم التي نبصرها تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر

٤٢٢

الصورة المادّية المنعكسة وهذا يبرهن بوضوح على أنّ العقل والإدراك ليس مادّياً ، وأنّ الصورة المدرَكة ميتافيزيقية

ومن الواضح : أنّ هذا التفسير الفلسفي لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علمي لها يمكن أن يقدّم في هذا المضمار فيمكنك أن تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الموضوعات المدرَكة ـ في مظاهرها المختلفة ـ يرجع إلى الخبرة والتعلّم ، كما يمكنك إن شئت أن تقول ـ في ضوء التجارب العلمية ـ إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثبات في مختلف مظاهره ، والتنظيم المكاني للموضوعات الخارجية التي ندركها ؛ فإنّ هذا لا يعني حلّ المشكلة من ناحية فلسفية ؛ إذ أنّ الصورة المبصرة ـ التي لم تتغيّر طبقاً للصورة المادّية ، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة ، أو بحكم تنظيمات مكانية خاصّة ـ لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعي على مادّة الجهاز العصبي ؛ لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين والواقع ، وتلك الصورة المبصرة ثابتة

والنتيجة الفلسفية التي نخرج بها من هذا البحث هي : أنّ الإدراك ليس مادّياً ، كما تزعم الفلسفة المادّية ؛ لأنّ مادّية الشيء تعني أحد أمرين : إمّا إنّه بالذات مادّة ، وإمّا إنّه ظاهرة قائمة بالمادّة والإدراك ليس بذاته مادّة ، ولا هو ظاهرة قائمة بعضوٍ مادّي كالدماغ ، أو منعكسة عليه ؛ لأنّه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه عن الصورة المادّية المنعكسة على العضو المادّي ، فهو يملك من الخصائص الهندسية أوّلاً ، ومن الثبات ثانياً ، ما لا تملكه أيّ صورة مادّية منعكسة على الدماغ وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية بأنّ الحياة العقلية ـ بما تزخر به من إدراكات وصور ـ أثرى ألوان الحياة وأرقاها ؛ لأنّها حياة ترتفع عن مستوى المادّة وخصائصها

٤٢٣

ولكن المسألة الفلسفية الأخرى التي تنبثق ممّا سبق ، هي : أنّ الإدراكات والصور التي تتشكّل منها حياتنا العقلية إذا لم تكن صوراً قائمة بعضوٍ مادّي ، فأين هي قائمة إذن ؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة ، وهي : أنّ تلك الصور والإدراكات تجتمع أو تتابع كلّها على صعيد واحد ، هو : صعيد الإنسانية المفكّرة ، وليست هذه الإنسانية المفكّرة شيئاً من المادّة ، كالدماغ أو المخّ ، بل هي درجة من الوجود مجرّدة عن المادّة ، يصلها الكائن الحيّ في تطوّره وتكامله فالمدرِك والمفكّر هو هذه الإنسانية اللامادّية

ولكي يتّضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء يجب أن نعلم أنّا بين ثلاثة فروض :

إحداها : أنّ إدراكنا لهذه الحديقة أو لذلك النجم صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي ، وهذا ما نبذناه ، ودلّلنا على رفضه

وثانيها : أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية ، بل هي صور مجرّدة عن المادّة ، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا وهذا افتراض غير معقول أيضاً ؛ لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا ، فما هي صلتنا بها ؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا ؟!

وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك ، ولم يبقَ لدينا إلاّ التفسير الثالث للموقف ، وهو : أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان ، كما أنّها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي ، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة ، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر ، لا العضو المادّي ، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك ؛ للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان

٤٢٤

الجانب الروحي من الإنسان

ونصل هنا إلى نتيجة خطيرة ، وهي : أنّ للإنسان جانبين : أحدهما مادّي يتمثّل في تركيبه العضوي ، والآخر روحي لا مادّي ، وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي ، فليس الإنسان مجرّد مادّة معقّدة ، وإنّما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادّي ، وآخر لا مادّي

وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفاً عسيراً في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين المادّي والروحي من الإنسان ، ونحن نعلم قبل كلّ شيء : أنّ العلاقة بينهما وثيقة حتّى إنّ أحدهما يؤثّر في الآخر باستمرار : فإذا خُيّل إلى شخص أنّه يرى شبحاً في الظلام ، اعترته قشعريرة ، وإذا كتب على شخص أن يخطب في حفل عام ، أخذ العرق يتصبّب منه ، وإذا بدأ أحدنا يفكّر ، حدث نشاط خاصّ في جهازه العصبي ، فهذا أثر العقل أو الروح في الجسم ، كما أنّ للجسم أثره في العقل ، فإذ دبّت الشيخوخة في الجسد ، وهن النشاط العقلي ، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشيء شيئين

فكيف يتاح للجسم والعقل أن يؤثّر أحدهما في الآخر إذا كنّا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات ؟ فالجسم قطعة من المادّة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم ، وهو يخضع لقوانين الفيزياء وأمّا العقل ـ أو الروح ـ فهو موجود غير مادّي ينتسب إلى عالم وراء عالم المادّة ، ومع هذه الهوّة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما فقطعة من الحجارة يمكن أن تسحق نبتة في الأرض ؛ لأنّهما معاً مادّيان ، وقطعتان من الحجر يمكن أن تصطكّا وتتفاعلا وأمّا أن يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى

٤٢٥

شيء من التفسير وهو الذي عاق التفكير الأوروبي الحديث ـ على الأغلب ـ عن الأخذ بفكرة الازدواج بعد أن رفض التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها ، فقد كان أفلاطون يتصوّر أنّ الروح جوهر قديم مجرّد عن المادّة يعيش في عالم وراء دنيا المادّة ، ثمّ يهبط إلى البدن ليدبّره كما يهبط السائق من منزله ويدخل العربة ليسوقها ويدبّر أمرها(١)

وواضح : أنّ هذه الثنائية الصريحة والهوّة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كلّ إنسان يشعر بأنّه كيان موحّد ، وليس شيئين من عالَمين مستقلّين التقيا على ميعاد

وقد ظلّ التفسير الأفلاطوني قاصراً عن حلّ المشكلة بالرغم من التعديلات التي أُجريت على التفسير الأفلاطوني من قِبل أرسطو بإدخال فكرة الصورة والمادّة ، ومن قِبل ديكارت الذي جاء بنظرية الموازنة بين العقل والجسم القائلة : بأنّ العقل والجسم ـ الروح والجسد ـ يسيران على خطّين متوازيين ، وكلّ حادث يقع في أحدهما يصاحبه حادث يقابله يقع في الآخر ، وهذا التلازم بين الأحداث العقلية والجسمية لا يعني أنّ أحدهما سبب للآخر ؛ إذ لا معنى للتأثير المتبادل بين شيء مادّي وآخر غير مادّي ، بل إنّ هذا التلازم بين النوعين من الأحداث مردّه إلى العناية الإلهية التي شاءت أن يصاحب الإحساس بالجوع ـ دائماً ـ حركة اليد لتناول الطعام دون أن يكون الإحساس سبباً للحركة(٢)

ومن الواضح : أنّ نظرية الموازنة هذه تعبير جديد عن ثنائية أفلاطون ،

____________________

(١) يراجع : فالتزر ، أفلاطون ، تعريب : لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلاميّة : ٥٥

(٢) راجع : قصّة الفلسفة الحديثة : ١ / ٨١ ـ ٨٣ موسوعة الفلسفة : ١ / ٤٩٧ الموسوعة الفلسفيّة المختصرة : ١٩٢ ـ ١٩٣

٤٢٦

وهوّته الفاصلة بين العقل والجسم

وقد أدّت المشاكل التي تنجم عن تفسير الإنسان على أساس الروح والجسد معاً إلى بلورة اتّجاه حديث في التفكير الأوروبي إلى تفسير الإنسان بعنصر واحد ، فنشأت المادّية في علم النفس الفلسفي القائلة : إنّ الإنسان مجرّد مادّة وليس غير ، كما تولّدت النزعة المثالية التي تجنح إلى تفسير الإنسان كلّه تفسيراً روحياً

وأخيراً ، وَجَدَ تفسير الإنسان على أساس العنصرين الروحي والمادّي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الإسلامي (صدر المتألّهين الشيرازي) ، فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة ، هي الرصيد الأعمق لكلّ الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة ، وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادّة والروح ؛ فإنّ المادّة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها ، وتستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن مادّيتها ضمن شروط معيّنة ، وتصبح كائناً غير مادّي ، أي : كائناً روحياً ، فليس بين المادّي والروحي حدود فاصلة ، بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من أنّها ليست مادّية ذات نسب مادّي ؛ لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهرية(١)

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم العلاقة بين الروح والجسم ، ويبدو من المألوف أن يتبادل العقل والجسم ـ الروح والمادّة ـ تأثيراتهما ؛ لأنّ العقل ليس شيئاً مفصولاً عن المادّة بهوّة سحيقة كما كان يُخيّل لديكارت حين اضطرّ إلى إنكار التأثير المتبادل والقول بمجرّد الموازنة ، بل إنّ العقل نفسه ليس إلاّ صورة

____________________

(١) يراجع : صدر الدين الشيرازي ، شرح الهداية الأثيريّة : ٢١٤ ـ ٢١٨

٤٢٧

مادّية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة الجوهرية ، والفرق بين المادّية والروحية فرق درجة فقط ، كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقلّ منها درجة

ولكن هذا لا يعني أنّ الروح نتاج للمادّة وأثر من آثارها ، بل هي نتاج للحركة الجوهرية ، والحركة الجوهرية لا تتبع من نفس المادّة ؛ لأنّ الحركة ـ كلّ حركة ـ خروج للشيء من القوّة إلى الفعل تدريجياً ـ كما عرفنا في مناقشتنا للتطوّر عند الديالكتيك ـ والقوّة لا تصنع الفعل ، والإمكان لا يصنع الوجود ، فللحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة والروح التي هي الجانب غير المادّي من الإنسان نتيجة لهذه الحركة والحركة نفسها هي الجسر بين المادّية والروحية

المنعكس الشرطي والإدراك

ليس اختلافنا مع الماركسية في حدود مفهومها المادّي للإدراك فحسب ؛ لأنّ المفهوم الفلسفي للحياة العقلية وإن كان هو النقطة الرئيسية في معتركنا الفكري معها ، ولكنّنا نختلف ـ أيضاً ـ في مدى علاقة الإدراك والشعور بالظروف الاجتماعية ، والأحوال المادّية الخارجية فالماركسية تؤمن بأنّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي التي تحدّد له مشاعره ، وأنّ هذه المشاعر أو الأفكار تتطوّر تبعاً لتطوّر الظروف الاجتماعية والمادّية ، ولمّا كانت هذه الظروف تتطوّر تبعاً للعامل الاقتصادي ، فالعامل الاقتصادي ـ إذن ـ هو العامل الرئيسي في التطوّر الفكري

وقد حاول (جورج بوليتزير) أن يشيّد هذه النظرية الماركسية على قاعدة

٤٢٨

علمية ، فأقامها على أساس الفعل المنعكس الشرطي ولكي نفهم ذلك جيّداً يجب أن نقول كلمة عن الفعل المنعكس الشرطي الذي اكتشفه (بافلوف) إذ حاول مرّة أن يجمع لعاب الكلب من إحدى الغدد اللعابية ، فأعدّ جهازاً لذلك ، وأعطى الحيوان طعاماً لإثارة مجرى اللعاب ، فلاحظ أنّ اللعاب بدأ يسيل من كلب متمرّن قبل أن يوضع الطعام في فمه بالفعل ؛ لمجرّد رؤية الطبق الذي فيه الطعام ، أو الإحساس باقتراب الخادم الذي تعوّد إحضاره

ومن الواضح : أنّ رؤية الشخص أو خطواته لا يمكن اعتبارها منبّهاً طبيعياً لهذه الاستجابة ، كما ينبّهها وضع الطعام في الفم ، بل لا بدّ أن تكون هذه الأشياء قد ارتبطت بالاستجابة الطبيعية في مجرى التجربة الطويل حتّى استخدمت كعلامة مبدئية على المنبّه الفعلي

وعلى هذا يكون إفراز اللعاب ، عند وضع الطعام في الفم فعلاً منعكساً طبيعياً ، يثيره منبّه طبيعي وأمّا إفراز اللعاب عند اقتراب الخادم أو رؤيته ، فهو فعل منعكس شرطي ، اُثير بسبب منبّه مشروط ، يستعمل كعلامة على المنبّه الطبيعي ، ولولا إشراطه بالمنبّه الطبيعي ، لما وجدت استجابة بسببه

وبسبب عمليات إشراط كهذا وجد أوّل نظام إشاري لدى الكائن الحي ، تلعب فيه المنبّهات المشروطة دوراً في الإشارة إلى المنبّه الطبيعي ، واستثارة الاستجابة التي يستحقّها وبعد ذلك وجد النظام الإشاري الثاني الذي عوّض فيه عن المنبّهات الشرطية في النظام الأوّل ، بإشارات ثانوية إلى تلك المنبّهات الشرطية التي أشرطت هذه الإشارات الثانوية بها في تجارب متكرّرة ، وأصبح من الممكن الحصول على الاستجابة ، أو الفعل المنعكس بالإشارة الثانوية بسبب إشراطها بالإشارة الأوّلية ، كما أتاح النظام الإشاري الأوّل الحصول عليها بالإشارة الأوّلية بسبب إشراطها بالمنبّه الطبيعي ، وتعتبر اللغة هي الإشارات

٤٢٩

الثانوية في النظام الإشاري الثاني

هذه هي نظرية العالم الفيزيولوجي (بافلوف) وقد استغلّته السلوكية ، فزعمت أنّ الحياة العقلية لا تعدو أن تكون عبارة عن أفعال منعكسة فالتفكير يتركّب من استجابات كلامية باطنة ، يثيرها منبّه خارجي وهكذا فسّرت الفكر كما تفسّر عملية إفراز لكلّب لعابه ، عند سماعه خطوات الخادم ، فكما أنّ الإفراز ردّ الفعل الفيزيولوجي لمنبّه شرطي ، وهو خطى الخادم ، كذلك الفكر هو ردّ الفعل الفيزيولوجي لمنبّه شرطي ، كاللغة التي أشرطت بالمنبّه الطبيعي مثلاً

ولكن من الواضح : أنّ التجارب الفيزيولوجية على الفعل المنعكس الشرطي لا يمكنها أن تبرهن على أنّ الفعل المنعكس هو حقيقة الإدراك ، والمحتوى الحقيقي للعمليات ، ما دام من الجائز أن يكون للإدراك حقيقة وراء حدود التجربة

أضف إلى ذلك أنّ السلوكية في رأيها هذا ـ القائل بأنّ الأفكار استجابات شرطية ـ تقضي على نفسها وتنزع القدرة على الكشف عن الواقع والقيمة الموضوعية ، لا من سائر الأفكار فحسب ، بل من السلوكية ذاتها ـ أيضاً ـ بوصفها فكرة تخضع للتفسير السلوكي ؛ لأنّ تفسير السلوكية للفكر الإنساني له أثره الخطير في نظرية المعرفة ، وتقدير قيمتها ، ومدى قدرتها على استكشاف الواقع فالمعرفة ـ كلّ معرفة ـ لا تعدو وفقاً للتفسير السلوكي أن تكون استجابة حتمية لمنبّه شرطي كسيلان اللعاب من فم الكلب في تجارب بافلوف ، وليست نتيجة للاستدلال والبرهان ، وبالتالي تصبح كلّ معرفة تعبيراً عن وجود منبّه شرطي لها لا عن وجود مضمونها في الواقع الخارجي ، والفكرة السلوكية نفسها لا تشذّ عن هذه القاعدة العامّة ، ولا تختلف عن كلّ الأفكار الأخرى في تأثّرها بالتفسير السلوكي ، وسقوط قيمتها ، وعدم إمكان دراستها بأيّ لون من الألوان

٤٣٠

والواقع : هو عكس ما رامته السلوكية تماماً ، فليس الإدراك والفكر فعلاً فيزيولوجياً ينعكس عن منبّه شرطي نظير إفراز اللعاب ، كما يزعم السلوكيون ، بل نفس إفراز اللعاب هذا يعني شيئاً غير مجرّد ردّ الفعل المنعكس ، يعني إدراكاً ، وهذا الإدراك هو السبب في إثارة المنبّه الشرطي للاستجابة المنعكسة فالإدراك هو الحقيقة التي نتبيّنها وراء ردود فعل المنبّه الشرطي ، وليس لونا من ألوان تلك الردود ، ونعني بهذا : أنّ إفراز الكلب لعابه عند حدوث المنبّه الشرطي لم يكن مجرّد فعل آلي بحت ، كما تعتقد السلوكية ، بل كان نتيجة إدراك الكلب مدلول المنبّه الشرطي فخطوات الخادم باقترانها مع مجيء الطعام في تجارب متكرّرة أصبحت تدلّ على مجيئه ، وأصبح الكلب يدرك مجيء الطعام عند سماعها ، فيفرز لعابه استعداداً للموقف الذي يبشّر به المنبّه الشرطي وكذلك الطفل إذ يبدو عليه شيء من الارتياح عند تهيّؤ مرضعته لإرضاعه ، بل عند إخباره بمجيئها إذا كان يملك فهماً لغوياً ؛ فإنّ هذا الارتياح ليس مجرّد فعل فيزيولوجي منعكس عن شيء خارجي ارتبط بالمثير الطبيعي ، بل هو منبثق عن إدراك الطفل مدلول المنبّه الشرطي ، إذ يستعدّ ـ حينئذٍ ـ للارتضاع ، ويشعر بارتياح ، ولذا نجد فرقاً في درجات الارتياح بين الارتياح الذي يثيره المنبّه الطبيعي ، وبين الارتياح الذي تثيره المنبّهات الشرطية ؛ لأجل أنّ ذاك ارتياح أصيل ، وهذا ارتياح الأمل والترقّب

ويمكننا أن نبرهن علمياً على عدم كفاية التفسير السلوكي للتفكير عن طريق التجارب التي قام على أساسها مذهب (الجشطالت) في علم النفس ؛ إذ برهنت هذه التجارب على أنّ من المستحيل أن نفسّر حقائق الإدراك على أساس سلوكي بحت ، وبوصفها مجرّد استجابات للمنبّهات المادّية التي يتلقّى الدماغ رسائلها في صورة عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة ، بل يجب ـ لكي نفسّر حقائق

٤٣١

الإدراك تفسيراً كاملاً ـ أن نؤمن بالعقل ودوره الإيجابي الفعّال وراء الانفعالات والاستجابات العصبية التي تثيرها المنبّهات

ولنأخذ الإدراك الحسّي مثلاً ، فقد أثبتت تجارب الجشطالت أنّ رؤيتنا لألوان الأشياء وخصائصها تعتمد إلى حدّ بعيد على الموقف العام الذي نجابهه في إبصارنا ، وعلى الأرضية التي تحيط بتلك الأشياء ، فقد نرى الخطّين متوازيين أو متساويين ضمن مجموعة من الخطوط ، نواجهها كموقف وكلّ مترابط الأجزاء ، ثمّ نراهما ضمن مجموعة أخرى غير متوازيين أو متساويين ؛ لأنّ الموقف العامّ الذي يواجهه إدراكنا البصري اختلف عن الموقف السابق ، وهذا يوضح : أنّ إدراكنا ينصبّ أوّلاً على الكلّ ، وندرك الأجزاء بأبصارنا ضمن إدراكنا للكلّ ، ولذا يختلف إدراكنا الحسّي للجزء باختلاف الكلّ أو المجموع الذي يندرج فيه

فهناك- إذن- نظام للعلاقات بين الأشياء يفرزها إلى مجاميع ، ويحدّد لكلّ شيء موضعه من مجموعته الخاصّة ، ويطوّر نظرتنا إليه تبعاً للمجموعة التي ينتمي إليها ، وإدراكنا للأشياء ضمن هذا النظام لا يقبل التفسير السلوكي ، ولا يمكن القول : بأنّه استجابة مادّية وحالة جسمية ناشئة من منبّه خاصّ ؛ إذ لو كان حالة جسمية وظاهرة مادّية منبثقة عن الدماغ ، لما أُتيح لنا أن ندرك الأشياء بأبصارنا ككلّ منظّم ترتبط أجزاؤه ارتباطاً خاصّاً ـ حتّى إنّ إدراكنا لها يختلف إذا أبصرناها ضمن علاقات أخرى ـ لأنّ جميع ما يصل إلى الدماغ في الإدراك يتألّف من مجموعة من الرسائل ترد إلى المخّ من مختلف أعضاء الجسم مجزّأة ضمن عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة ، فكيف أُتيح لنا أن ندرك نظام العلاقات بين الأشياء ؟ وكيف أُتيح للإدراك أن ينصبّ أوّلاً على الكلّ ، فلا ندرك الأشياء إلاّ ضمن كلّ مترابط بدلاً عن إدراك الأشياء متفرّقة كما تنتقل إلى الدماغ ؟ كيف أمكن ذلك كلّه لو لم يكن هناك دور إيجابي فعّال للعقل وراء الانفعالات

٤٣٢

والحالات الجسمية المجزّأة ؟

وبكلمة أخرى : أنّ الأشياء الخارجية قد تقذف إلى الدماغ برسائل متفرّقة ، وهي : استجاباتنا للمنبّهات الخارجية في عرف السلوكية ، وقد يحلو للسلوكية أن تقول : إنّ هذه الاستجابات والرسائل المادّية التي تمرّ في الأعصاب إلى المخّ هي وحدها المحتوى الحقيقي لإدراكنا ، ولكن ماذا تقول عن إدراكنا لنظام من العلاقات بين الأشياء يجعلنا نحسّ أوّلاً بالكلّ الموحّد وفقاً لتلك العلاقات ؟ مع أنّ نظام العلاقات هذا ليس شيئاً مادّياً ليثير انفعالاً مادّياً في جسم المفكّر واستجابة أو حالة جسمية معيّنة ، فلا يمكننا أن نفسّر إدراكنا لهذا النظام ، وبالتالي إدراكنا للأشياء ضمنه على أساس سلوكي بحت

وأمّا الماركسية فقد أخذت بنظريات (بافلوف) ورتّبت عليه :

أوّلاً : أنّ الشعور البشري يتطوّر طبقاً للظروف الخارجية ؛ وذلك لأنّه حصيلة الأعمال المنعكسة الشرطية التي تثيرها المنبّهات الخارجية

قال جورج بوليتزير :

(وبهذا الطريقة أثبت (بافلوف) أنّ ما يُحدّد أساساً شعور الإنسان ليس جهازه العضوي بل يحدّده على عكس ذلك المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان ، والمعرفة التي يحصل عليها منه فالظروف الاجتماعية للحياة هي المنظّم الحقيقي للحياة العضوية الذهنية)(١)

ثانياً : أنّ ولادة اللغة كانت هي الحدث الأساسي الذي نقل البشر إلى مرحلة الفكر ؛ لأنّ فكرة الشيء في الذهن إنّما تنجم عن منبّه خارجي شرطي ،

____________________

(١) المادّية والمثالية في الفلسفة : ٧٨ ـ ٧٩

٤٣٣

فلم يكن من الممكن أن توجد للإنسان فكرة عن شيء ما لم تقم أداة كاللغة بدور المنبّه الشرطي

قال ستالين :

(يقال : إنّ الأفكار تأتي في روح الإنسان قبل أن تعبّر عن نفسها في الحديث ، وإنّها تولد دون أدوات اللغة إلاّ أنّ هذا خطأ تماماً ، فمهما كانت الأفكار التي تأتي في روح الإنسان ، فلا يمكن أن تولد أو توجّه إلاّ على أساس أدوات اللغة فاللغة هي الواقع المباشر للفكر)(١)

ونحن نختلف عن الماركسية في كلا الرأيين ، ولا نقرّ الآلية في الإدراك البشري ، فليست الأفكار والإدراكات مجرّد ردود فعل منعكسة عن المحيط الخارجي ، كما تدّعي السلوكية ، وليست ـ أيضاً ـ حصيلة تلك الردود المحدّدة من قبلها ، والمتطوّرة بتبعها ، كما تعتقد الماركسية

ولنوضّح المسألة في المثال التالي : يلتقي زيد وعمرو يوم السبت ، فيأخذان بالحديث مدّة ، ثمّ يحاولان الافتراق ، فيقول زيد لعمرو : انتظرني في صباح الجمعة الآتية في بيتك ويفترقان بعد ذلك وينصرف كلّ منهما إلى حياته الاعتيادية ، وتمرّ الأيام حتّى يحين الموعد المحدّد للزيارة ، فيستذكر كلّ من الشخصين موعده ، ويدرك موقفه بصورة مختلفة عن إدراك الآخر ، فيبقى عمرو في بيته ينتظر ، ويخرج زيد من بيته متوجّهاً إلى زيارته فما هو المنبّه الشرطي الخارجي الذي أثار فيهما الإدراكين المختلفين بعد مرور عدّة أيام على الميعاد السابق ، وفي هذه الساعة بالذات ؟! وإذا كان الكلام السابق كافياً للتنبيه الآن ،

____________________

(١) المادّية والمثالية في الفلسفة : ٧٧

٤٣٤

فلماذا لا يتذكّران الآن جميع أحاديثهما التي تبادلاها ؟! ولماذا لا تقوم تلك الأحاديث بدور التنبيه والاستثارة ؟!

ومثال آخر : تخرج من البيت وقد وضعت رسالة في حقيبتك ، عازماً على وضعها في صندوق البريد ، وأنت تتّجه نحو المدرسة ، فتصادف في طريقك صندوقاً للبريد ، فتدرك فوراً أنّ الكتاب لا بدّ من وضعه فيه ، فتضعه فيه ثمّ قد تمرّ بعد ذلك على عدّة صناديق للبريد فلا تسترعي انتباهك مطلقاً ، فما هو المنبّه المثير لإدراكك عند رؤية أوّل صندوق للبريد ؟! وقد تقول : إنّ المثير هو رؤية الصندوق نفسه ، باعتبار أنّك أشرطته بالمنبّه الطبيعي ، فهو منبّه شرطي ولكن كيف نفسّر غفلتنا عن الصناديق الأخرى ؟! ولماذا زال الإشراط فوراً بمجرّد قضاء حاجتنا ؟!

ففي ضوء الأمثلة تعرف أنّ الفكر نشاط إيجابي فعّال للنفس ، وليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجية ، كما أنّه ليس هو الواقع المباشر للّغة ، كما زعمت الماركسية ، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار ، وليست هي المكوّنة لتلك الأفكار ، ولذا قد نفكّر في شيء ، ونفتّش طويلاً عن اللفظ المناسب له ؛ للتعبير به عنه ، وقد نفكّر في موضوع ، في نفس الوقت الذي نتكلّم فيه عن موضوع آخر(١)

فالحياة الاجتماعية والظروف المادّية ـ إذن ـ لا تحدّد أفكار الناس

____________________

(١) وقد قمنا في دراستنا الموسّعة للمادّية التاريخية في كتاب (اقتصادنا) بنقد مستوعب لنظريات الماركسية عن الإدراك البشري من ناحية علاقته بالظروف الاجتماعية والمادّية وتفسيره على أساس الظروف الاقتصادية ، كما تناولنا بتفصيل الرأي الماركسي القائل : بانبثاق الفكر من اللغة وارتباطه بها ولأجل هذا نكتفي هنا بما جاء في الطبعة الأُولى من هذا الكتاب استغناءً بدراستنا الموسّعة في الحلقة الثانية (اقتصادنا)(المؤلّف قدس‌سره )

٤٣٥

ومشاعرهم- بصورة آلية- عن طريق المنبّهات الخارجية

نعم ، إنّ الإنسان قد يكيّف أفكاره تكييفاً اختيارياً بالبيئة والمحيط ، كما نادت بذلك المدرسة الوظيفية في علم النفس تأثّراً بنظرية التطوّر عند (لامارك) في البيولوجيا ، فكما أنّ الكائن الحيّ يتكيّف عضوياً تبعاً لمحيطه ، كذلك الأمر في حياته الفكرية

ولكنّا يجب أن نعلم :

أوّلاً : أنّ هذا التكيّف يوجد في الأفكار العملية التي وظيفتها تنظيم الحياة الخارجية ، ولا يمكن أن يوجد في الأفكار التأمّلية التي وظيفتها الكشف عن الواقع فالمبادئ المنطقية ، أو الرياضية ، وغيرهما من الأفكار التأمّلية ، تنبع من العقل ، ولا تتكيّف بمقتضيات البيئة الاجتماعية ، وإلاّ لكان مصير ذلك إلى الشكّ الفلسفي المطلق في كلّ حقيقة ؛ إذ لو كانت الأفكار التأمّلية جميعاً تتكيّف بعوامل المحيط ، وتتغيّر تبعاً لها ، لم يؤمن على أيّ فكرة أو حقيقة من التغيّر والتبدّل

ثانياً : أنّ تكيّف الأفكار العملية بمقتضيات البيئة وظروفها ليس آلياً ، بل هو تكيّف اختياري ، ينشأ من دوافع إرادية في الإنسان ، تسوقه إلى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته ، وبذلك يزول التعارض ـ تماماً ـ بين المدرسة الوظيفية ، والمدرسة الغرضية في علم النفس

وسوف ندرس في (مجتمعنا ) طبيعة هذا التكيّف وحدوده في ضوء مفاهيم الإسلام عن المجتمع والدولة ؛ لأنّه من القضايا الرئيسية في دراسة المجتمع وتحليله وفي تلك الدراسة سنستوفي بتفصيل كلّ النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الإدراك هذا .

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين

٤٣٦

الفهرس

فلسفتنا آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس‌سره ١

فلسفتنا ٤

هذا الكتاب ٦

كلمة المؤتمر : ٧

كلمة المؤلّف ١٣

تمهيد ١٧

المسألة الاجتماعية ١٩

الديمقراطية الرأسمالية ٢٢

الاشتراكية والشيوعية ٣٥

[ الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة ] ٤٥

وأخيراً : ٦١

نظريّة المعرفة ٦٣

المصدر الأساسي للمعرفة ٦٥

قيمة المعرفة ١٢٣

المفهوم الفلسفي للعالم ٢٢٧

تمهيد ٢٢٩

المفهوم الفلسفي للعالم / ٢ ٢٤٥

الديالكتيك أو الجدل ٢٤٥

المفهوم الفلسفي للعالم / ٣ ٣٣١

٤٣٧

مبدأ العلّيّة ٣٣١

المفهوم الفلسفي للعالم / ٤ ٣٦٥

المادّة أو الله ؟ ٣٦٥

المفهوم الفلسفي للعالم / ٥ ٤٠٥

الإدراك ٤٠٥

الفهرس ٤٣٧

٤٣٨