الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء0%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528
المشاهدات: 53129
تحميل: 1935

توضيحات:

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53129 / تحميل: 1935
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: 964-465-169-3
العربية

وهذا ما عناه الحسين قوله يوم الطّفّ مخاطبا أهله وأرحامه : «صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، لا رأيتم هوانا بعد اليوم»(١) .

وسئل الإمام زين العابدينعليه‌السلام : «من كان الغالب يوم كربلاء؟ فقال : اسمع المؤذّن تعرف الجواب. أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وأنّ عليّا أمير المؤمنين بالحقّ ولي الله»(٢) .

أوصى الحسين أهل بيته بالصّبر بعد ما استشهد جميع أصحابه ، ولم يبق معه إلّا ولده ، عليّ ، وولد جعفر ، وولد عقيل ، وولد الحسن ، وقد إجتمعوا يودّع بعضهم بعضا ، وهم كالزّهر في مقتبل العمر.

كرام بأرض الغارضية عرسوا

فطابت بهم أرجاء تلك المنازل

أقاموا بها كالمزن فاخضرّ عودها

وأعشب من أكنافها كلّ ماحل

زهت أرضها من بشر كلّ شمر دل

طويل تجاد السّيف حلو الشّمائل

كأنّ لعزرائيل قد قال سيفه

لك السّلم موفورا ويوم الكفاح لي

حموا بالظّبى دين النّبيّ وطاعنوا

ثباتا وخاضت جردهم بالجحافل

ولمّا دنت آجالهم رحبوا بها

كأنّ لهم بالموت بلغة آمل

عطاشى بجنب النّهر والماء حولهم

يباح إلى الورّاد عذب المناهل

عطاشى بجنب النّهر والماء حولهم

يباح إلى الوارد عذب المناهل

فلم تفجع الأيّام من قبل يومهم

بأكرم مقتول لا لأمّ قاتل

__________________

(١) انظر ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٣٨ ، مقتل الحسين للمقرّم : ٣١٨ و ٣٢٢.

(٢) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٦٩ ـ ٧١.

١٢١
١٢٢

بدر والطّفّ

كان أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا(١) ، وكان المشركون ألف رجل(٢) .

وكان أصحاب الحسينعليه‌السلام في كربلاء ثلاثة وسبعين(٣) ، وجيش العدوّ ثلاثين ألفا أو يزيدون(٤) .

وقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش يوم بدر : «خلّوني والعرب ، فإن أك صادقا كنتم أعلى

__________________

(١) أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد نصّ المؤرّخون أنّ عددهم كان (٣١٣) رجلا ولم يكن فيهم إلّا فارسين :المقداد بن عمرو الكندي ، والزّبير بن العوّام ، وكانت معهم (٧٠) بعيرا وكانوا يتعاقبون على البعير بين الرّجلين والثّلاثة والأربعة ، فمثلا كان بين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ،وعليّ ، وزيد بن حارثة بعير. وكانت راية النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عليّ عليه‌السلام كما جاء في الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١٦ والسّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ١٤٣ ، تأريخ دمشق : ١ / ١٤٣ / ٣٠٢.

(٢) كان عدد المشركين يتراوح بين (٩٠٠ و ١٠٠٠) كما جاء في تأريخ الطّبريّ : ٤ / ٢٦٧ ، والسّيرة لابن هشام : ٢ / ٣٥٤ ، وفيهم العبّاس بن عبد المطّلب وأبو جهل ، وقتل من المشركين (٧٠) من رجالاتهم وساداتهم.

(٣) انظر ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٣٠ ، الإتحاف بحبّ الأشراف للشّبراوي : ١٥١. بتحقيقنا ، مقتل الحسين : ٢ / ٤. والخوارزمي يروي غالبا عن تأريخ ابن أعثم ، أبو محمّد أحمد ، توفّي سنة (٣١٤ ه‍) في الفتوح : ٣ / ٩٤ ، وهذه الرّواية عن هذا المؤرخ ، فتكون إذن ، رواية في مستوى رواية الطّبري.

(٤) تقدّم الكلام حول عدد الجيش الأموي في كربلاء.

١٢٣

بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا»(١) . فأبوا عليه إلّا القتال.

وقال الحسينعليه‌السلام لجيش ابن زياد : «كتبتم إليّ أن قد أينعت الثّمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جنود مجنّدة ، فاقبل. فإن كنتم كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض». فأبوا عليه ، كما أبى المشركون على جدّه من قبل(٢) .

وقال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه يوم بدر : «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض»(٣) .

وقال الحسينعليه‌السلام لأصحابه : «قوموا إلى الموت الّذي لا بدّ منه ، فنهضوا جميعا والتقى العسكران الرّجّالة والفرسان. واشتّد الصّراع وخفى لإثارة العثير الشّعاع. والسّمهرية ترهف نجيعا والمشرفية يسمع لها في الهام رقيعا ولا يجد الحسينعليه‌السلام في مساقط الحرب لوعظه سميعا»(٤) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ دمشق : ٣٨ / ٢٥٤ و : ٦٦ / ٣١٨ ، مغازي الواقدي : ١ / ٦١.

(٢) انظر ، المقتل لأبي مخنف : ١٦ ، الفتوح : ٣ / ٣٣ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٩٥ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ١٥ ، أنساب الأشراف : ٣ / ١٥٨ ، وقعة الطّفّ لأبي مخنف : ٩٢ ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٠ ، الأخبار الطّوال : ٢٢٩ ، مختصر تأريخ دمشق : ٢٣ / ١٥١ ، جمهرة أنساب العرب : ٢٩٥ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٢٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٤ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٥٩.

(٣) انظر ، مسند أحمد : ٣ / ١٣٦ ، صحيح مسلم : ٦ / ٤٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٤٢٦ ، السّنن الكبرى : ٩ / ٤٣ و ٩٩ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٤٣ و : ٢ / ٣٣٧ ، الطّبقات الكبرى : ٣ / ٥٦٥ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٢٥٣ ، الإصابة : ٤ / ٥٤٩ و : ٧ / ٢٤٠ ، البداية والنّهاية : ٣ / ٣٣٨ ، السّيرة النّبويّة : ٢ / ٤٢١.

(٤) انظر ، مثير الأحزان : ٤١.

١٢٤

وقال الإمام الصّادقعليه‌السلام : «لقد كشف الله الغطاء لأصحاب الحسين حتّى رأوا منازلهم في الجنّة»(١) .

وكان أصحاب الرّسول يوم بدر يتسابقون إلى الموت ليصلوا إلى أماكنهم في الجنّة ، حتّى أنّ عمر بن الحمام لمّا سمع النّبيّ يقول : «قوموا إلى الجنّة كان يأكل تمرات في يده فرماها ، وقال : «لئن حيّيت حتّى آكلهنّ ، أنّها لحياة طويلة ...»(٢) .

وهكذا كان الرّجل من أصحاب الحسين يستقبل الرّماح والسّيوف بصدره ووجهه ، ليصل إلى مكانه في الجنّة.

وقال المقداد بن الأسود للنّبيّ يوم بدر : «والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغض وشوك الهراس لخضناه معك(٣) ، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسىعليه‌السلام :( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (٤) .

وقال الحسين لأصحابه : «... ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم من ذمام ، هذا اللّيل قد

__________________

(١) انظر ، علل الشّرائع : ١ / ٢٢٩ ح ١.

(٢) انظر ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٧ ، صحيح البخاري : ٤ / ١٤٨٧ ح ٣٨٢٠ ، سنن النّسائي : ٦ / ٣٣ ح ٣١٥٤ ، موطّأ مالك : ٢ / ٤٦٦ ح ٩٩٧ ، مسند أبي يعلى : ٣ / ٤٦٥ ح ١٩٧٢ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٢٤ / ٩٨ ح ٤٧٧ ، شرح الزّرقاني : ٣ / ٦٠ ، الإصابة : ٦ / ٦٥٢ رقم «٩٢٥١».

(٣) انظر ، مغازي الواقدي : ١ / ٤٨ ـ ٤٩ طبعة اكسفورد ، وإمتاع الأسماع للمقريزي : ٧٤ ـ ٧٥ ، تأريخ الخميس : ١ / ٣٧٣ ، التّعليق على هذا الحديث في كتابنا «البيعة وولاية العهد والشّورى وآثارها في تنصيب الخليفة» ، دراسة علمية تحليلية لردّ الشّبهات : ١٩٦ ، وما بعدها.

(٤) المائدة : ٢٤.

١٢٥

غشيكم فاتّخذوه جملا ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعا خيرا ، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ، فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ...»(١) .

فقال : أنّكم تقتلون غدا كلّكم ، ولا يفلت منكم رجل.

قالوا : الحمد لله الّذي شرّفنا بالقتل معك(٢) .

وقال أبو جهل يوم بدر : «اللهمّ أنّ محمّدا أقطعنا للرّحم ، وأتانا بما لا نعرف ، فانصرنا عليه»(٣) .

وقال يزيد لعليّ بن الحسين : يا عليّ بن الحسين أنّ أباك الّذي قطع رحمي ، وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني فنزل به ما رأيت ، فقال عليّ رضى الله عنه :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (٤) .

فقال يزيد :( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤١٩ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٣١ ، مقتل الخوارزمي : ١ / ٢٤٧. (منه قدس‌سره). انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧٩ ـ ٨٠ مع اختلاف يسير ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٧٦ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢٢٨ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٠١ ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٣ / ١٧ و ١٨ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٨ / ١٦٨ و ١٧١ ، الأخبار الطّوال : ٢٤٨.

(٢) انظر ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩١.

(٣) انظر ، تفسير الطّبري : ٢ / ٣٤ و : ٩ / ٢٠٨ و ٢٠٩ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٩٧ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٣٥٥ ح ٣٦٦٧٤ ، السّيرة النّبويّة : ٣ / ١٧٦ و : ٣ / ٢٢٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٤ / ١٣٢ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٣٨٦.

(٤) الحديد : ٢٣.

١٢٦

كَثِيرٍ ) (١) فقال عليّ رضي الله عنه : هذا في حقّ من ظلم لا في من ظلم(٢) .

وقال يزيد فيما قاله للإمام زين العابدينعليه‌السلام : «الحمد لله الّذي قتل أباك.

فقال له الإمام : لعنة الله على من قتل أبي»(٣) .

وانتشر الإسلام بعد غزوة بدر ، وتحرّر الضّعفاء من سيطرة الأقوياء.

وولد بكربلاء مبدأ جديد ، هو الإيمان بأنّ الموت في سبيل الحقّ خير من الحياة مع المبطلين ، وقضى هذا المبدأ على الأمويّين وسلطانهم الجائر ، ولقد أثبتت التّجارب بأنّ إيمان الإنسان بحقّه ، وحرصه على حرّيته ، وحفاظه على رزقه أقوى من كلّ سلاح وعتاد ، فلقد تغلبت إفريقيا الجائعة العزلاء ، وغيرها من الشّعوب المستضعفة على المستبدين الأقوياء ، تغلبت بقوّة الإيمان بأنّ الإنسان يجب أن يعيش حرّا كريما ، وهذا هو مبدأ الحسين الّذي ضحّى من أجله بنفسه وأهله.

ولا شيء أدل على قوّة الصّلة والشّبه بين بدر وكربلاء من إنشاد يزيد ، وهو ينكث ثنايا الحسين بقضيبه(٤) :

__________________

(١) الشّورى : ٣٠.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٦ / ٢٦٥ ، الفتوح : ٣ / ١٥٢ ، تأريخ ابن عساكر : ٤ / ٣٤١ ، سير أعلام النّبلاء : ٣ / ٣٠٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢١١ ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام لابن عساكر : ٣٣٨.

(٣) انظر ، الإحتجاج : ٢ / ٣٩ و ١٣٢.

(٤) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ١٠٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٦ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٣٨٣ الطّبعة الأولى مصر ، الأمالي لأبي عليّ القالي : ١ / ١٤٢ ، والبكري فري شرحه : ١ / ٣٨٧ ، الأثار الباقية : ٣٣١ طبعة الاوفسيت ، الأخبار الطّوال : ٢٦١ ، سمط النّجوم العوالي : ٣ / ٧٣ ، فحول الشّعراء : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، سيرة ابن هشام : ٣ / ١٤٤ ، الحيوان للجاحظ : ٥ / ٥٦٤ ، مقاتل الطّالبيّين : ١١٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢١٣ و ٢٢٠.

١٢٧

لعبت هاشم بالملك فما

ملك جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الرّؤوس على شفا جيرون

نعت الغراب فقلت قل أو لا تقل

فقد اقتضيت من الرّسول ديوني

يا غراب البين ما شئت فقل

إنّما تندب أمرا قد حصل

إنّ أشياخي ببدر لو رأوا

مصرع الخزرج من وقع الأثل

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

كلّا ، لم ينتقم يزيد من بني أحمد ، وإنّما انتقم الله منه ومن بني أميّة بني أحمد وللإنسانية جمعاء ، أنّه لم يقتل مبدأ الحسين ، وإنّما قتل نفسه ، وقضى على سلطانه ، كما قالت السّيّدة زينب فيما قالت ليزيد بعد ما سمعته يهتف بأشياخه : تهتف بأشياخك! زعمت أنّك تناديهم ، فلتردن وشيكا موردهم ، ولتردن أنّك شللّت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت ، أللهمّ خذّ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا ، فو الله ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك»(١) .

__________________

ـ وأصل هذه الأبيات لابن الزّبعرى كما جاء في الصّواعق : ١١٦ ، وزاد فيها بيتا مشتملا على الكفر. انظر ، صورة الأرض لابن حوقل : ١٦١ ، اليافعي في مرآة الجنان : ١ / ١٣٥ ، والكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٥ ، ومروج الذّهب للمسعودي : ٢ / ٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٣١٣ ، أعلام النّساء : ١ / ٥٠٤ ، ومجمع الزّوائد : ٩ / ١٩٨ ، الشّعر والشّعراء : ١٥١ ، الأشباه والنّظائر : ٤ ، الأغاني : ١٢ / ١٢٠ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ٢٤١ ، تذكرة الخواصّ : ١٤٨ ، شرح مقامات الحريري : ١ / ١٩٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٤٦ ، والطّبري في تأريخه : ٦ / ٢٦٧ ، و : ٤ / ٣٥٢ ، الآثار الباقية للبيروني : ٣٣١ طبعة اوفسيت ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٥ / ١٧٨ ، وقال :

(١) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ٢٢ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٦ ، مثير الأحزان لابن نما : ٨١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي : ٢٢٧.

١٢٨

إنّه ابن عليّ

لو حدّثك محدّث أنّ رجلا بذلت له الملايين على أن ينطق بكلمة باطل لا يسأله عنها سائل ، ولا يؤاخذ في هذه الحياة ، فأبى وامتنع لا لشيء إلّا لأنّ شفتيه تتنزّه عن التّفوه بالباطل ، أو قال لك أنّ الملك قد أتاه لقمة سائغة بلا معارض ولا منازع على أن يقطع على نفسه وعدا بأن يسير على طريق من مضى من الملوك والحكّام ، فأبى وامتنع لا لشيء إلّا لأنّه لا يريد أن يكون مقلّدا لغيره ، ولا أن يعد ويخلف ؛ فذهب الملك إلى غيره ، فلم يهتّم ولم يكترث ، حتّى كأنّه نواة يلفظها من فمه ، أو حصاة تسقط من يده ، أو أخبرك مخبر أنّ عدوّا قصد هذا الرّجل للقضاء على حياته ، ولمّا برز له وجها لوجه وتمكّن من عدوّه ، وأصبح في قبضة يده ، ورأى هذا العدوّ الموت نصب عينيه ، طلب منه العفو والصّفح ، فعفا وصفح لا لشيء إلّا رغبة في العفو والصّزفح ، وهو يعلم علم اليقين أنّه لو قتله لباء المقتول بالإثم ، وكان للقاتل الفضل والعذر عند الله ، والنّاس.

لو حدّثك بهذا أو بعضا منه إنسان ، أي إنسان ، لقلت : أنّ محدّثك لا يدري ما يقول ، وأنّه يتوهم ويتكلّم ، ذلك لأنّا قد اعتدنا أن نرى النّاس يكذبون ويرائون ، ويمرغون الجباة بتراب الأقدام من أجل الدّرهم والدّينار ، وألفنا أن نقرأ ونسمع العقود والمواثيق في بيانات الحكّام ، وكلّها عكس ما يؤمنون به ويدينون ، وضدّ

١٢٩

ما ينوون ويعملون ، ورأينا كيف ينتقم الظّافرون من خصومهم؟ وكيف يخيّرونهم بين الموت والعبودية؟ حتّى ولو كانت الخصومة في الرّأي والإجتهاد. لذلك وغير ذلك تستبعد هذا النّوع من الحديث ، لأنّك تأخذ بمبدأ قياس بعض النّاس على بعض.

ولكن هذا ما حصل بالفعل ، وشهد به القريب والبعيد ، إقرأ تأريخ الإمام عليّ ابن أبي طالب ، لتلمس هذه الحقيقة ، وتؤمن بها إيمانك بوجودك ، فقد بايعه عبد الرّحمن بن عوف على أن يعمل بكتاب الله ، وسنّة الرّسول ، وسيرة الخليفتين أبي بكر وعمر ، فقال له عليّ : أعمل بكتاب الله وسنّة الرّسول ، وأرجو أن أفعل على مبلغ علمي وطاقتي ، فبايع عبد الرّحمن عثمان ، ولو قال الإمام نعم لتمّت له الخلافة بدون معارض ، ولكنّه أبى أن يكون مقلّدا ، أو أن يعد ويخلف(١) .

__________________

(١) ألا يظهر من هذا كلّه أنّ الرّجل ـ أي عمر بن الخطّاب ـ قد جعل أمر التّرشيح بيد رجل واحد وهو عبد الرّحمان بن عوف ، وعبد الرّحمان هذا يعرف بأنّ الإمام عليّعليه‌السلام يرفض الإلتزام بسيرة الشّيخين ، ولذا اشترط الإلتزام حتّى يبعد عنها عليّا وذلك لما بينهما من الإختلاف من حيث السّيرة حتّى في الإستخلاف ، ولما بين سيرتهما وبين سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، طلب عبد الرّحمان في حقيقته تعجيزي لا يمكن أن يقبل به إلّا اللّعوب الّذي لا يرعى عهدا ولا يلتزم بتعهد ، وذلك مستحيل على مثل عليّعليه‌السلام ، لذا قبلها عثمان ولم يلتزم بها أبدا وهو يعلم أنّه لن يلتزم ، وكيف يلتزم بثلاثة أنماط من السّيرة متباينة ، مختلفة ، وليس فيها جامع.

ما هي الميزة ، والخصّيصة ، والمنقبة الّتي تميز بها عبد الرّحمان بن عوف حتّى يجعل هو الحكم بين طرفي الإختلاف إذا وقع حتّى وإن صفق بإحدى يديه على الأخرى كما ذكرنا سابقا من المصادر التّأريخية.

ألكون عبد الرّحمان بن عوف زوّج أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وأمّها أروى بنت كريز ، وأروى أمّ عثمان فلذلك هو صهره كما يقولون؟ ـ

١٣٠

وفي يوم أحد برز إلى طلحة بن أبي طلحة ، وكان كبش الكتيبة فصرعه الإمام بضربة ، ولمّا أراد أن يجهز عليه بالثّانية ، قال له طلحة : أنشدك الله يابن عمّ والرّحم ، فانصرف عنه ، فقال له المسلمون : ألّا أجهزت عليه؟ فقال : ناشدني الله

__________________

ـ انظر ، أنساب الأشراف : ٥ / ١٩.

أم لكونه من أنصار ، وحزب أبي بكر في يوم السّقيفة مع عمر ، وأبي عبيدة ، والمغيرة بن شعبة ، وسالم مولى حذيفة؟.

انظر ، الاستيعاب : ٢ / ٣٨٥ ، الإصابة : ٢ / ٤٠٨ ، اسد الغابة : ٣ / ٣١٣.

أم لكونه قال يوم السّقيفة : «يا معشر الأنصار إنّكم وإن كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر ..».

انظر ، تأريخ اليعقوبيّ : ٢ / ١٠٣.

أم لكونه من الرّجال الّذين دخلوا بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عمر بن الخطّاب ، وخالد ، وثابت بن قيس ، وزياد بن لبيد ، ومحمّد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وسلمة بن سالم ، وسلمة بن أسلم ، وأسيد بن حضير؟

انظر ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٤٤٣ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٢ / ١٣٠ ، الإستيعاب : ٢ / ٨٣ ، الإصابة : ٢ / ٦١ ، هذه المصادر على سبيل المثال لا الحصر.

أم أنّ عمر علم بأنّ عبد الرّحمان لا يختلف مع ختنه عثمان ، وابن عمّه سعد كما صرّح به أمير المؤمنين عليّ وقال له : حبوته حبو دهر ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ...؟

أم لكونه صاحب ثروة قدّروها بألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومئة فرس كما ترك ذهبا قطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرّجال منه؟.

انظر ، الطّبقات الكبرى : ٣ / ١٣٦.

ثمّ لماذا أدخل ـ جعل الحكم ـ عبد الله بن عمر أيضا كما في بعض الأخبار وهو القائل كما روي في تأريخ المدينة عن إبراهيم قال : قال عمر بن الخطّاب «يأمروني أن أبايع لرجل لم يحسن أن يطلق امرأته»؟

انظر ، تأريخ المدينة : ٣ / ٩٢٣ و ٣٤٣ ، تأريخ السّيوطيّ : ١٣٥.

١٣١

والرّحم»(١) ، وترك ابن العاصّ بعد أن أصبحت حياته في يده ، ولو قتله لدبّ الذّعر في جيش معاوية ، وتمزّق شرّ ممزّق ، وعفا يوم الجمل عن مروان بن الحكم ، وهو ألد الخصوم وأخطرهم ، وسقى أهل الشّام الماء بعد أن منعوه منه(٢) .

وقال قائل جاهل : أنّ الإمام لا يعرف السّياسة ، لأنّه لو منع الماء عن أهل الشّام ، أو قتل مروان ، وابن العاصّ لضمن النّصر بأيسر الأسباب؟ ، ويصحّ هذا القول في حقّ الّذين تسيّرهم منافعهم الشّخصيّة ، ويستبيحون كل شيء في سبيلها ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الدّنيا بكاملها أحقر من ورقة في فم جرادة تقضمها ، وأهون عليه من رماد أذرته الرّياح في يوم عاصف»(٣) ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الموت أيسر عليه من شرب الماء على الظّمأ ، أمّا الّذي يرى

__________________

(١) انظر ، الطّبري في تأريخه : ٢ / ١٣١ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٤ ، والمعارف لابن قتيبة : ١٦١ ، تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس : ١٤٧.

(٢) فكّرت مليّا في صفح الإمام ، وبقيت اللّيالي والأيّام أبحث عن تفسير تركن إليه نفسي ، فلم أجد وجها إلّا أنّه مخلوق مستقل قائم بنفسه ، لا يشبه أحدا ، ولا يشبهه أحد من النّاس لا في الماضي ولا في الحاضر والمستقبل ، فهو بطبعه ومزاجه يصفح عن قاتله ، وقاتل أولاده دون أي تكلّف ، كما يصفح عمّن يسيء إليه بكلمة صغيرة نابية سواء بسواء ، ولا أدل على ذلك من وصيته بقاتله ابن ملجم ، وقوله : وإن تعفوا : أقرب إلى التّقوى. (منهقدس‌سره ).

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥٦٩ ، وقعة صفّين : ١٦١ ، الأخبار الطّوال : ١٦٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٣١٨ و : ٤ / ١٣.

مال جيش الإمام على أعدائهم ، واضطروهم إلى ترك الشّريعة ، فسيطر عليها الإمام ، وألحّ عليه جماعة من أصحابه أن يمنع معاوية من الماء كما منعه ، فأبى ، وقال : «لا أفعل ما فعله الجاهلون!! سنعرض عليهم كتاب الله ، وندعوهم إلى الهدى ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف». انظر ، منهاج البراعة : ٤ / ٣١٠ ، شرح المختار : ٤٦ ، وقعة صفّين : ٥٣٩ ، الفصول المهمة لابن الصّباغ المالكي ، بتحقيقنا : ١ / ٤٤٧ و ٤٩٧ ، و «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة» : ٤ / ٩٧٣.

(٣) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (٢٢٤).

١٣٢

الحذاء البالية خيرا ألف مرّة من الملك ، والسّلطان إلّا أن يقيم حقّا ، أو يدفع باطلا»(١) ، أمّا هذا الملاك الّذي لا يشبه أحدا ، ولا يشبهه أحد من النّاس ، فلا يصحّ في حقّه شيء من مقاييس النّاس الّتي تقوم على الأطماع ، والتهالك على الحطام.

وخير كلمة قرأتها في الإعتذار عن صفح الإمام عن أعدائه ، واستخفافه بالملك ما قاله الأستاذ جرداق : «أنّ الّذين يعترضون على الإمام يريدونه أن يكون معاوية بن سفيان ، ويأبى هو إلّا أن يكون عليّ بن أبي طالب»(٢) .

وهكذا أراد أتباع يزيد ومن على شاكلته أرادوا أن يكون الحسين كابن سعد وابن زياد حين طلبوا منه أن يبايع يزيد ، ويأبى هو إلّا أن يكون الحسين بن عليّ ، وإلّا أن يحمل روح أبيه بين جنبيه ، وإلّا أن يرى الموت سعادة ، والحياة مع الظّالمين ندما.

قال له قيس بن الأشعث يوم الطّفّ : انزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لم يروك إلّا ما تحبّ. فقال له الحسين : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله :( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) (٣) .( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) (٤) ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذّلّة ، وهيهات منّا الذّلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «٣٣»

(٢) انظر ، عليّ صوت العدالة الإنسانية : ٤ / ٧٧٥.

(٣) الدّخان : ٢٠.

(٤) غافر : ٢٧.

١٣٣

طاعة اللّئام على مصارع الكرام»(١) .

وحين هلك معاوية كتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان واليا على المدينة : «أمّا بعد فخذ حسينا بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة ، حتّى يبايع. والسّلام»(٢) . ولمّا وصل الكتاب إلى الوليد أرسل في طلب الحسين ، فدعا الإمام جماعة من مواليه ، وأمرهم بحمل السّلاح ، وقال لهم : «إنّ الوليد قد استدعاني ، ولست آمن أن يكلفني أمرا لا أجيبه إليه ، فإن سمعتم صوتي قد علا ، فادخلوا عليه ، لتمنعوه منّي ، وصار الحسين إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فقرأ الوليد كتاب يزيد على الحسين ، فطلب الحسين منه الإمهال ، فقال له الوليد : انصرف إذا شئت على اسم الله ، فقال له مروان : «لئن فارقك السّاعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبسه فإن بايع وإلّا ضربت عنقه».

وفي رواية أنّ الحسين قال للوليد : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوّة ، ومعدن الرّسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد فاسق ، فاجر ، شارب الخمر ، قاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله»(٣) .

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) انظر ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٢٩ و : ٣ / ٢٦٣ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥٠ ، و : ٥ / ٣٣٨ ، الأخبار الطّوال : ٢٢٧ ، الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٣٥٥ و : ٣ / ٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٠ مثله. وهذا يبطل كلّ كلام يدافع به عن يزيد وعن تبرير المنافقين والمستشرقين الّذين يدّعون بأنّ يزيد لم يكن راغبا في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

(٣) انظر ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٤ وزاد فيه : والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك ، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥١ ، تذكرة ـ

١٣٤

ولمّا جنّ اللّيل أقبل الحسين إلى قبر جدّه ، وقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك ، وسبطك الّذي خلفته في أمّتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني وضيعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ، ثمّ قام فصفّ قدميه للصّلاة. فلمّا كانت اللّيلة الثّانية خرج إلى القبر أيضا ، وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته ، جعل يقول :

«أللهمّ هذا قبر نبيّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن بنت نبّيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، أللهمّ إنّي أحبّ المعروف ، وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام ، بحقّ القبر ومن فيه إلّا اخترت لي ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى ، ثمّ بكى حتّى إذا كان قريبا من الصّبح ، وضع رأسه على القبر فاغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه ، فضمّ الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال : حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملا بدمائك ، مذبوحا بأرض كرب وبلاء ، من عصابة من أمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا

__________________

ـ الخواصّ لسبط ابن الجوزي : ٢٢٩ طبعة إيران ، الآداب السّلطانية للفخري : ٨٨ ، الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٤ / ٧٥ ، تأريخ ابن عساكر : ٧ / ٤٠٧ ، أنساب الأشراف : ٥ / ١٢٩ ، الفتوح : ٣ / ١٤ ، وكان يقال له ـ أي مروان ـ ولولده : بنو الزّرقاء ، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم ، وهي الزّرقاء بنت موهب جدّة مروان بن الحكم لأبيه ، وكانت من ذوات الرّايات الّتي يستدلّ بها على بيوت البغاء ، فلهذا كانوا يذمّون بها. وقال البلاذري في أنساب الأشراف : ٥ / ١٢٦ اسمها مارية ابنة موهب وكان قينا. انظر ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٩ ، تأريخ ابن عساكر : ٧ / ٤٠٧ ، تأريخ الطّبري : ٨ / ١٦ ، تفسير من آية ١٣ سورة القلم في قوله( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) وانظر ، كنز العمّال للمتقي الهندي : ١ / ١٥٦ ، روح المعاني للآلوسي : ٢٩ / ٢٨ ، الإمامة والسّياسة : ١ / ٢٢٧ ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٠٦ ، بتحقيقنا.

١٣٥

أنيلهم الله شفاعتي يوم القيامة ، حبيبي يا حسين إنّ أباك وأمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلّا بالشّهادة. فجعل الحسينعليه‌السلام ينظر إلى جدّه ويقول : يا جدّاه لا حاجة لي في الرّجوع إلى الدّنيا فخذّني إليك وأدخلني معك في قبرك»(١) .

يا غيرة الله اغضبي لنّبيه

وتزحزحي بالبيض عن أغمادها

من عصبة ضاعت دماء محمّد

وبنيه بين يزيدها وزيادها

ضربوا بسيف محمّد أبناءه

ضرب الغرائب عدن بعد ذيادها

يا يوم عاشوراء كم لك لوعة

تترقص الأحشاء من إيقادها

ما عدت إلّا عاد قلبي غلة

حرّى ولو بالغت في إبرادها(٢)

__________________

(١) انظر ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٧ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ١٩ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٥٣ ، و : ٦ / ١٩٠ مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٨٦ ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ١٠٧ ، بتحقيقنا ، نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار : ١ / ٣٦٣ ، الكامل في التّأريخ : ٤ / ٨ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر : ٤ / ٣٢٩ ، مروج الذّهب : ٢ / ٨٦.

(٢) انظر ، شرح الأخبار : ٢ / ١٧٣ ، الغدير : ٤ / ٢١٧ و : ٦ / ٣٦٢ ، رياض المدح والثّناء : ٣٢.

١٣٦

لا عذّب الله أمّي

لا عذّب الله أمّي أنّها شربت

حبّ الوصي وغذتنيه باللّبن

وكان لي والد يهوى(١) أبا حسن

فصرت من ذا وذي أهوى أبا حسن(٢)

طلب هذا الشّاعر من الله سبحانه الرّحمة والرّضوان لأمّه وأن يبعد عنها العذاب ، والهوان ، لأنّها غذّته حبّ الوصي منذ طفولته ونعومة أظفاره ، وكانت السّبب الأوّل لإيمانه ، وحبّه لمن أحبّ الله ورسوله ، فكان أنّى اتّجه وتحرك يرن في اذنيه هذا الاسم الحبيب الّذي يجد له أطيب الوقع على قلبه وسمعه ، فهو يحمد الله على هذه السّعادة ، ويشكر لوالدته فضلها وحسن تربيتها. ورضوان الله ورحمته عليها وعليه.

خلق الله محمّدا وأهل بيته معالم للدّين ، وسبلا إلى الحقّ ، فمن ضلّ عنهم فلن يهتدي إلى الله في طاعة ، ولا يقبل منه عملا ، فلقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعة الرّسول ، فقال :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (٣) ، وقال :

__________________

(١) في الأصل ، «يدعى».

(٢) تنسب هذه الأبيات إلى الشّاعر الكبير المتنبيّ ، وكذلك إلى الإمام الشّافعي. انظر ، تأريخ بغداد : ٤ / ٦٠٢ ، ريحانة الأدب : ٣ / ٤٤٠ ، شذرات الذّهب : ٣ / ١٣ ، الوفيّات : ١ / ١٠٢.

(٣) الأحزاب : ٧١.

١٣٧

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ) (١) ، وقال :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (٢) ، وقال :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات لم تفرّق بين الله ومحمّد في الطّاعة والمعصية.

وكذلك الرّسول الأعظم لم يفرّق بين التّمسك به والتّمسك بأهل بيته ، فقد جاء في كتاب ذخائر العقبى : «أنّ النّبيّ قال : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدّنيا فمن تمسك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلا»(٤) . وجاء في الصّفحة نفسها حديث الثّقلين ، وإذا عطفنا هذا الحديث على قوله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٥) ، كانت النّتيجة أنّ أهل البيت هم الطّاعات والحسنات ، وإنّ أعداءهم هم المعاصي والسّيئات ، ومن أجل هذا قال الفرزدق(٦) :

__________________

(١) محمّد : ٣٣.

(٢) الفتح : ١٧.

(٣) النّساء : ٨٠.

(٤) انظر ، ذخائر العقبى للحافظ الطّبري : ١٦ طبعة (١٣٥٦ ه‍» ، شواهد التّنزيل : ١ / ٣٨٠ ، الصّواعق المحرقة : ٩٠ ، ينابيع المودّة : ٢ / ٣٦٦ ح ٤٧ وص : ٣٦٦ ح ٢٠٨ ، مناقب أهل البيت : ١٧٣ ، الرّياض النّضرة : ٢ / ٣٦٨ ، طبعة (١٩٥٣ م).

(٥) النّساء : ٨٠.

(٦) انظر ، أنوار الرّبيع : ٤ / ٣٥ ، تأريخ الأدب العربي : ٢٦٨ طبعة بغداد عام ١٣٤٧ ه‍ ، كفاية الطّالب : ٣٠٣ ، حياة الحيوان : ١ / ١١ ، شذرات الذّهب : ١ / ١٤٢ ، البداية والنّهاية : ٩ / ١٠٩ ، شرح لاميّة العجم للصّفدي : ٢ / ١٦٢ ، مروج الذّهب : ٢ / ١٩٥ ، الصّواعق المحرقة : ١١٩ ، نهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٧ ، و : ٣ / ١٠٧ ، طبعة اسوة ، سرح العيون لابن نباتة : ٣٩٠ ، تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٦١.

قال : فلمّا سمع هشام هذه القصيدة غضب ، ثمّ إنّه أخذ الفرزدق وحبسه ما بين مكّة والمدينة ، وبلغ ـ

١٣٨

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

يدلنا هذا البيت دلالة صريحة واضحة على أنّ الموالين للعترة الطّاهرة إنّما يوالونهم ولاء عقيدة وإيمان ، لا ولاء سياسيّا ، ويبغضون أعداءهم بغضا دينيّا لا حزبيّا ؛ وقد صرّحت الآيات القرآنيّة ، والأحاديث النّبويّة بأنّ أعظم الفروض ، بعد التّوحيد ونبوّة محمّد ، المودّة في القربى. ولهذا وحده نجد تأريخ الإماميّة في

__________________

ـ عليّ بن الحسين امتداحه ، فبعث ـ بأربعة الآف درهم فردّها ، وكتب إليه : إنّما مدحتك بما أنت أهله ، فردّها عليه عليّعليه‌السلام ، وكتب إليه : أن خذّها وتعاون بها على دهرك ، فإنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده ، فقبلها منه.

وفي رواية فبعث بإثني عشر ألف درهم ، وفي رواية بعشرة الآف درهم ، وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به ، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في السّجن ، فبعث إليه ، وأخرجه.

أتحبسني بين المدينة والّتي

إليها قلوب النّاس تهوي منيبها

يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد

وعينا له حولاء باد عيوبها

ذكر الجاحظ في رسائله (٨٩) أنّ هشام بن عبد الملك كان يقال له : الأحول السّراق ، وقد أنشده أبو النّجم العجلي ارجوزته الّتي يقول فيها : الحمد لله الوهوب المجزل.

فأخذ يصفق بيديه استحسانا لها حتّى صار إلى ذكر الشّمس قال : والشّمس في الأرض كعين الأحول ، فأمر بوج عنقه وإخراجه ، وعلّق الجاحظ على ذلك بقوله : وهذا ضعف شديد ، وجهل عظيم.

وقال الشّيخ عبد الجواد الشّربيني في كتاب درّر الأصداف في مناقب الأشراف كان عليّ بن الحسين عاملا على كتمان أسرار الله تعالى في العالم كما أشار إلى ذلك في قوله رضى الله عنه :

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال صالحون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

انظر ، درّر الأصداف في فضل السّادة الأشراف ، لعبد الجواد بن خضر الشّربيني ، وتفسير الآلوسي : ٦ / ١٩٠ ، ديوان الفرزدق : ١ / ٥١ ، تهذيب الكمال : ٤١ / ٤٠٣ ، تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٠٢ ، تأريخ الخطيب البغدادي : ١٢ / ١٨١.

١٣٩

عقيدتهم ، وفقههم ، وأحاديثهم ، وشعرهم ، ونثرهم تأريخ ولاء وأتباع لأهل البيت ، ونجد مؤلفاتهم ، وكتبهم في شتى أنواعها تزخر بأقوال الرّسول ، وآثار أبنائه ، بل نجد العلماء ، والشّعراء وغيرهم من الإماميّة يستعذبون الموت والإضطهاد في حبّ آل محمّد ، والذّب عنهم وعن تعاليمهم ومبادئهم ؛ فلقد حبس الفرزدق لأنّه ثار من أجل الإمام زين العابدين ، وخاطب هشام بقصدته الذّائعة الّتي قال له فيها :

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد ختموا

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كلّ بدو ومختوم به الكلم

* * *

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

والكميت القائل(١) :

__________________

(١) هو الكميت بن زيد بن خنس الأسدي ، أبو المستهل ، شاعر الهاشميين ، من أهل الكوفة ، اشتهر بالعصر الأموي ، شعره يقارب أكثر من خمسة آلاف بيت. انظر ، ترجمته في الشّعر والشّعراء : ٥٦٢ ، خزانة الأدب للبغدادي : ١ ـ ٦٩ ، جمهرة أنساب العرب : ١٨٧.

انظر ، مروج الذّهب : ٣ / ٢٤٢ طبعة ١٩٤٨ م ، الأغاني : ١٥ / ١٢٤ و : ١٧ / ٢٨ ، شرح هاشميات الكميت لأبي رياش القيسي : ٦٦ ، الهاشميات والعلويات ، قصائد الكميت ، وابن أبي الحديد : ٢٦ ، ـ

١٤٠