الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء0%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف: محمد جواد مغنية
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف:

ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528
المشاهدات: 53111
تحميل: 1931

توضيحات:

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53111 / تحميل: 1931
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: 964-465-169-3
العربية

وصدق الكاتب «أنّ السّيّدة زينب رمز لشيء عميق الدّلالة» ولكن من أي نوع هذا الشّيء العميق؟ وهل كشف عنه الباحثون والمؤرّخون؟

لقد تكلّم العلماء والأدباء قديما وحديثا حول شخصية السّيّدة ، واتّفقوا على بسالتها وعلمها وقوّة صبرها وإيمانها وعقلها ، وعلى عظمة الدّور الّذي قامت به في كربلاء وحاول كثيرون أن يشرحوا هذا الدّور ، ويفسّروا لنا وللأجيال السّر الكامن في ذهابها مع أخيها إلى كربلاء ورأى بعضهم أنّ الغاية من وجودها مع أخيها أن تبث دعوة الحقّ ، وتعلن سرّ نهضة الحسين ، وتبلّغ حجّته للملأ ، وتبين مساويء الأمويّين ، وتؤلّب النّاس على الطّغاة البغاة بالمواعظ والخطب ، كما فعلت في الكوفة والشّام ، وفي الطّريق إليهما منتهزة الفرص ، لإنجاز مهمّة أخيها سيّد الشّهداء.

وليس من شك أنّها أدّت هذه المهمّة على أكمل وجه بخاصّة في مجلس يزيد وابن مرجانة ، فلقد عرفت كلّا منهما بمكانة من الخزي والعار ، وفضحتهما لدى الأشهاد ، ولعنتهما كما لعنت كلّ الّذين يغدرون ويفجرون ؛ وقد ذكرنا ذلك في غير مكان من هذا الكتاب بعنوان : «خروج الحسين بأهله إلى كربلاء» ولكن هل هذا وحده هو الشّيء العميق الّذي ترمز إليه السّيّدة زينب؟ كلّا ، فأنّ معه شيئا آخر أعمق وأبعد من هذا بكثير ، أنّه الإحتفاظ بالدّين ، والإبقاء على شريعة سيّد المرسلين ، أنّ هذا الشّيء العميق يعود إلى أبيها أمير المؤمنين ، وعلومه الّتي تلقّاها عن أخيه وابن عمّه خاتم الرّسل وجدّ السّيّدة زينب ، وإليك القصّة من أوّلها :

قال الشّيخ محمود أبو ريّة خريج الأزهر في كتاب «أضواء على السّنّة

١٨١

المحمّديّة» :

«ولد عليّ قبل البعثة بنحو عشر سنين ، وتربى في حجر النبيّ ، وعاش تحت كنفه قبل البعثة ، وظلّ معه إلى أن انتقل إلى الرّفيق الأعلى ، ولم يفارقه أبدا لا في سفر ولا في حضر ـ وهو ابن عمّه ، وزوّج ابنته فاطمة الزّهراء ـ وشهد المشاهد كلّها سوى تبوك ، فقد استخلفه النّبيّ فيها على المدينة ، فقال : يا رسول الله! أتخلفني في الصّبيان ، والنّساء؟

فقال الرّسول : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبّي بعدي»(١) .

ولمّا قال معاوية لسعد بن أبي وقّاص ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟

قال له : أما ما ذكرت ثلاثا قالهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ تكون واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم ، فلن أسبّه(٢) ، ثمّ ذكر له هذه الثّلاث ، وهي حديث : «أنت منّي

__________________

(١) انظر ، الصّواعق المحرقة لابن حجر : ٢٩ ، صحيح البخاريّ : ٢ / ٢٠٠ و ٣٢٤ ، و : ٤ / ٢٠٨ ، و : ١٤ / ٢٤٥ / ٣٤٧٠ ، و : ١٦ / ٢١٧ / ٤١١٥ بشرح الكرماني. صحيح مسلم في فضائل عليّ : ٣٢٤ ، المستدرك للحاكم النّيسابوري : ٣ / ١٠٩ ، مسند ابن ماجه : ١ / ٢٨ ، مسند الإمام أحمد : ١ / ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ٣٣١ و ٣٦٩ ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٢ ح ٢٥٠٤ ، الإصابة لابن حجر : ٤ / ٥٦٨ ، وينابيع المودّة للقندوزي : ٢ / ٥٨.

(٢) انظر ، مستدرك الصّحيحين : ١ / ١٢١ ، طبعة حيدر آباد سنة ١٣٢٤ ه‍ ، كفاية الطّالب : ٨٢ و ٨٣ ، فرائد السّمطين : ١ / ٣٠٢ و ٣٠٣ ح ٢٤١ ، مروج الذّهب : ٢ / ٤٣٥ ، الصّواعق المحرقة : ٧٤ طبعة الميمنية و : ١٢١ المحمّدية بتفاوت ، ذخائر العقبى : ٦٦ ، المناقب للخوارزمي : ١٣٧ ح ١٥٤ ، خصائص النّسائي : ٢٤ ، كنز العمّال : ٦ / ٤٠١ ، ومشكاة المصابيح : ٥٦٥ و ٣ / ١٧٢٢ ح ٦٠٩٢ طبعة أخرى ، وتأريخ الخلفاء : ٦٧ ، والرّياض النّضرة : ٢ / ١٦٦ بألفاظ متقاربة ، فضائل الخمسة من الصّحاح السّتة : ٢ / ٢٢٣ ، الفضائل لأحمد : ٢ / ٥٩٤ ح ١٠١١ ، جمع الزّوائد : ٩ / ١٣٠ ، منتخب كنز ـ

١٨٢

بمنزلة هرون من موسى»(١) ، وحديث : «لأعطين الرّاية إلى رجل يحبّه الله ورسوله»(٢) ، وحديث المباهلة. وقال له النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاة»(٣) . وهو حديث متواتر مشهور.

وقال ابن تيميّة : عليّ أفضل أهل البيت ، وأفضل بني هاشم بعد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ثبت عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أدار كساه على عليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وقال : «أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا»(٤) .

ومغازيه الّتي شهدها مع رسول الله ، وقاتل فيها كانت تسعة : «بدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، وفتح مكّة ، ويوم حنين ، وغيرها»(٥) ، وثبت في الصّحيح أنّ النّبيّ قال: «لأعطينّ هذه الرّاية رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ،

__________________

ـ العمّال بهامش مسند أحمد : ٥ / ٣٠ ، ينابيع المودّة : ١ / ١٥٢ ، و : ٢ / ١٠٢ و ٢٧٤ و ٢٧٧ طبعة اسوة ، الجامع الصّغير : ٢ / ٦٠٨ ح ٨٧٣٦ ، مودّة القربى : ١٥.

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) انظر ، صحيح البخاريّ بشرح الكرماني : ١٦ / ٩٨ / ٣٩٣٥ ، و : ٥ / ٢٢ و ٢٣ ، عمدة القاري في شرح صحيح البخاريّ للعيني : ٤ / ٧٣ و ٢٠٨ و : ١٢ / ١٩٠ ح ٢٧٤٤ ، و ٢٠٧ ح ٢٧٧١ ، و : ١٦ / ٢١٦ ، الصّواعق المحرقة : ٨٧ ، والسّيوطي في تأريخه : ٦٦ ، ومنتخب كنز العمّال هامش مسند أحمد : ٥ / ٣٩. صحيح مسلم : ٢ / ٤٤٨ / ٢٤٠٤ و ٤٤٩ / ٢٤٠٥ ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ٢١٦.

(٣) تقدّمت تخريجاته.

(٤) انظر ، فتاوى ابن تيميّة : ١ / ٢٥٠. (منهقدس‌سره ).

(٥) انظر ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٥ / ٧٨ ، فتح الباري : ٧ / ٢٨٠ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٦٣ ، شرح الزّرقاني : ٢ / ٥٣٢ ، تفسير القرطبي : ٤ / ١٩١ و ٢١٤ ، مسند أبي عوانة : ٤ / ٣٦٥ ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١٦ ، السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ١٤٣ ، تأريخ دمشق : ١ / ١٤٣ / ٣٠٢ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٧٠ ، صحيح البخاري : ٤ / ١٥١٦ ح ٣٩٠٦ ، المستدرك على الصّحيحين :

٣ / ٥٩٤ ح ٦٢٠٣ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١٤٢.

١٨٣

يفتح الله على يديه». فأعطاها عليّا(١) .

هذا هو عليّ رضى الله عنه الّذي لو كان قد حفظ كلّ يوم عن النّبيّ ، وهو الفطن اللّبيب الذّكي ربيب النّبي حديثا واحدا ، وقد قضى معه رشيدا أكثر من ثلث قرن ، لبلغ ما كان يجب أن يرويه حوالي (١٢) ألف حديث على الأقل ، هذا إذا روى حديثا واحدا في كلّ يوم ، فما بالك لو كان قد روى كلّ ما سمعه(٢) ، ولقد كان له حقّ في روايتها ولا يستطيع أحد أن يماري فيها ، ولكن لم يصح عنه كما جاء بكتاب الفصل إلّا نحو خمسين حديثا لم يحمل البخاري ، ومسلم إلّا نحو عشرين حديثا ، هذا كلام أبي ريّة في كتابه «أضواء على السّنّة المحمّديّة»(٣) .

وقال الشّيخ محمّد أبو زهرة وهو من كبّار شيوخ الأزهر ، والمؤلّفين المعروفين ، قال في كتاب «الإمام الصّادق» :(٤)

«يجب علينا أن نقرّر هنا أنّ فقه عليّ وفتاوية وأقضيته لم ترو في كتب السّنّة وكان أكثر الصّحابة اتّصالا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد رافق الرّسول ، وهو صبي قبل أن يبعث ، واستمر معه إلى أن قبض الله تعالى رسوله إليه ، ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السّنّة أضعاف ما هو مذكور فيها.

وإذا كان لنا أن نتعرف السّبب الّذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين

__________________

(١) انظر ، فتاوى ابن تيميّة : ١ / ٣١٠. (منهقدس‌سره ).

(٢) نعم ، لقد روى كلّ ما سمعه من النّبيّ ، ولكن لأولاده وذرّيّته ورواه ذرّيّته للنّاس على لسان محمّد الباقر ، وجعفر الصّادق ، كما سيتّضح ذلك فتابع القراءة لتتأكد من هذه الحقيقة.

(٣) انظر ، أضواء على السّنّة المحمّديّة» : ٢٠٤ طبعة (١٩٥٨ م). (منهقدس‌سره ).

(٤) هذا الكتاب أكبر موسوعة علميّة عن الإمام الصّادق ، وبيان عظمته عند الله سبحانه ، وسموه في أخلاقه ، وخير مصدر للعلماء ، ومرشد لمن يجهل مقام الصّادق خاصّة وأهل البيت عامّة. (منهقدس‌سره ).

١٨٤

بعض مرويات عليّ وفقهه ، فإنّا نقول : أنّه لا بدّ أن يكون الحكم الأموي أثّر في إختفاء كثير من آثار عليّ في القضاء والإفتاء ، لأنّه ليس من المعقول أن يلعنون عليّا فوق المنابر ، وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه ، وينقلون فتاويه وأقواله للنّاس وخصوصّا ما كان يتّصل منها بأساس الحكم الإسلامي.

ولكن هل كان إختفاء أكثر آثار عليّ رضى الله عنه ، وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلا لإندثارها وذهابها في لجّة التّأريخ إلى حيث لا يعلم بها أحد ...!! أنّ عليّا رضي الله عنه قد استشهد ، وقد ترك وراءه من ذرّيّته أبرارا أطهارا كانوا أئمّة في علم الإسلام ، وكانوا ممّن يقتدى بهم ، ترك ولديه في فاطمة الحسن ، والحسين ، وترك روّاد الفكر محمّد ابن الحنفيّة ، فأودعهم عنه ذلك العلم ، وقد قال ابن عبّاس : «ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانتفاعي بكتاب كتبه إليّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه(١) . وقام أولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري ، وهو إمام الهدى ، فحفظوه من الضّياع ، وقد انتقل معهم إلى المدينة لمّا انتقلوا إليها بعد استشهاده رضي الله عنه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك تنتهي إلى أنّ البيت العلوي فيه علم الرّواية كاملة عن عليّ رضى الله عنه ، رووا عنه ما رواه عن الرّسول كاملا ، أو قريبا من الكمال ، واستكنوا بهذا العلم المشرق في ركن من البيت الكريم»(٢) .

وإذا عطفت هذا القول للشّيخ أبي زهرة على قول الشّيخ أبي ريّة السّابق ، فإنّك واصل حتما إلى اليقين بأنّ علم محمّد عند عليّ ، وعلم عليّ عند أبنائه ،

__________________

(١) انظر ، شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده : ٣ / ٢٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٥ / ١٤٠.

(٢) انظر ، الإمام الصّادق : ١٦٢ مطبعة أحمد عليّ مخيبر. (منهقدس‌سره ).

١٨٥

وهم الّذين نشروه وأذاعوه على النّاس.

نقلنا أقوال هذين الشّيخين الجليلين من شيوخ الأزهر باللّفظ لا بالمعنى ، نقلناهما بالحرف الواحد مع أرقام الصّفحات وهي تقدّم الأدلّة على حقيقة لا ترد ولا تقبل التّشكيك.

عليّ بن أبي طالب الّذي لازم النّبيّ منذ طفولته(١) إلى آخر يوم من أيّام الرّسول لا يروى عنه إلّا خمسون حديثا!! عليّ الّذي تربى في حجر الرّسول ، وكان منه بالمنزلة الخصّيصة ، كما قال الإمام يصف نفسه : «وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ، ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالإقتداء به»(٢) . لا يروي عن النّبيّ إلّا خمسين حديثا ، وأبو هريرة الّذي لم يصحب النّبيّ إلّا نحو ثلاث سنوات ، لا يراه فيها إلّا قليلا ، والحين بعد الحين ، يروي عنه (٥٣٧٤) حديثا(٣) ! ولو أخذنا بهذا القياس لوجب أن

__________________

(١) قال أمير المؤمنين في خطبته المعروفة بالقاصعة : «وقد علمتم موضعي من رسول الله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه. وكان يمضغ الشّيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل». انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١٩٢» ، الكامل في التأريخ : ٢ / ٥٨ ، تأريخ الطّبري : ٢ / ٥٧ ، الإصابة : ٢ / ٥٠١.

(٢) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١٩٢).

(٣) انظر ، هدي السّاري : ٤٧٧ ، قال : وله في البخاري «٤٤٦» حديثا ، جوامع السّيرة : ٢٧٦ ، مسند الإمام أحمد ، بتحقّيق أحمد محمّد شاكر : ١٢ / ٨٢ ، مسند ابن راهويه : ١ / ٨ ، أضواء على السّنّة المحمّديّة : ٢٢٤.

١٨٦

يروي الإمام (١٨٢١٦) حديثا ، لأنّه لازم النّبيّ رشيدا أكثر من ثلث قرن.

ومن هنا تعلم أنّ السّر الوحيد لقلّة الرّواية عن الإمام عليّ هو ما أشار إليه الشّيخ أبو زهرة ، هو عداء الأمويّين وموقفهم من الإمام ، وممّن يذكره بخير ، فقد عاقبوا من يروي منقبة من مناقبه ، أو ينقل حديثا عنه ، وتتبعوا تلاميذه وخاصّته في كلّ مكان ، كميثم التّمار ، وعمر بن الحمق ، ورشيد الهجري ، وحجر بن عدي ، وكميل بن زياد وغيرهم وغيرهم ، وقتلوهم الواحد بعد الآخر ، ونكلّوا بهم شرّ تنكيل ، كي لا يتسرب عن طريقهم أثر من آثار عليّ.

أجل ، لقد بذل الأمويون أقصى الجهود ، واستعملوا التّقتيل والتّنكيل ، وسلكوا جميع السّبل ، ليقضوا القضاء الأخير على كلّ أثر يتّصل بعليّ من قريب أو بعيد إلّا السّب واللّعن ، أنّ الأمويّين يعلمون حقّ العلم أنّ عليّا أخو رسول الله ووصيه ، ووارث علمه ، وأمينه على شرعه حجّته البالغة على النّاس أجمعين ، ويعلم الأمويون أيضا أنّهم ملعونون في كتاب الله ، وعلى لسان نبيّه ، فالإمساك عن عليّ وآثاره معناه القضاء على حكمهم ، لأنّ آثار عليّ هي آثار محمّد الّذي نصّ على أنّ الخلافة محرّمة على الأمويّين ، لذا لعنوا الإمام على المنابر ، وقتلوا خاصّته ، كي لا يروا شيئا عنه ، ولكن :( يَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (١) ؛ فلقد أودع الإمام علوم الرّسول ذرّيّته وأولاده ، كما قال الشّيخ أبو زهرة ، ووصلت إلينا عن طريق آله وذرّيّته.

ولم تخف هذه الحقيقة على الأمويّين ، فحاولوا القضاء على ذرّيّة عليّ ، وأن لا يبقوا من نسله حيّا ، ليمحوا كل أثر من الوجود ، وأصدق شاهد على ذلك قول

__________________

(١) التّوبة : ٣٢.

١٨٧

شمر بن ذي الجوشن : «قد صدر أمر الأمير عبيد الله أن أقتل جميع أولاد الحسين». قال هذا حين شهر سيفه ليقتل الإمام زين العابدين ، وقد دفعه عنه حميد بن مسلم وعمر بن سعد ، وقالت عمّته الحوراء لمّا همّ بقتله : والله لا يقتل حتّى أقتل»(١) . وفي هذا نجد التّفسير الصّحيح لقتل الطّفل الرّضيع وغيره من أولاد أهل البيتعليهم‌السلام .

قتل الأمويون سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن ، والحسين ، وقتلوا أبناء الحسين ، ولم ينج منهم إلّا الإمام زين العابدين ، والفضل الأوّل في نجاته من القتل للسّيّدة زينب ، دفعت عنه شمرا في كربلاء ، وابن زياد في الكوفة ، حيث أمر بقتله ، فتعلقت به السّيّدة ، واعتنقته قائلة : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه ، فنظر ابن مرجانه إليهما ساعة ، ثمّ قال : «عجبا للرّحم! والله إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه ، دعوه ، فأنّي أراه لما به»(٢) . أي يراه مريضا.

كلّا ، ليست المسألة مسألة رحم ، وكفى ، ولا مسألة حبّ وعطف فقط ، أنّها أعمق وأبعد من ذلك التّفكير ، أنّها الخوف على دين الله وعلوم رسول الله من الضّياع ، لقد استماتت السّيّدة دون الإمام زين العابدين ، لأنّه حلقة الإتّصال بين الحسين وبين الإمامين الباقر والصّادق اللّذين أشاعا وأذاعا علوم محمّد وعليّ.

كان علم الرّسول عند عليّ ، وعلم عليّ عند ولديه الحسن والحسين ، وعلم الحسين عند زين العابدين ، ومنه إلى ولده الباقر وحفيده الصّادق ظ ، وهكذا انتقلت علوم الرّسول من إمام إلى إمام حتّى ذهب الأمويون ، وزال حكمهم ، ولم

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢١١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢٠٦.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٣٣٧ ، الإرشاد : ٢ / ١١٧ ، مثير الأحزان : ٧٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢١١.

١٨٨

يبق له عين ولا أثر في عهد الصّادقين حيث انتشرت علومهما في كلّ مكان ، ولم يكن من سبيل إلى بثّ هذه العلوم في عهد الأمويّين ، ويؤكّد هذه الحقيقة أنّ الحسين لمّا توجه إلى العراق دفع إلى أمّ سلمة الوصيّة والكتب ، وقال لها : إذا أتاك أكبر ولدي ، فادفعيها إليه ، وبعد أن قتل الحسين أتى زين العابدين إلى أمّ سلمة ، فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين(١) .

فالإمام زين العابدين هو حلقة الإتّصال بين أبيه وجدّه وبين ولديه الصّادقين ، ولو فقدت هذه الحلقة لم يكن لعلوم عليّ خبر ولا أثر ، ولخسر الدّين والإسلام أعظم ثماره وأثمن كنوزه ، ولهذا وقفت السّيّدة موقفها مع الّذين حاولوا قتل الإمام زين العابدين ، وكان لها أكرم يد وأفضلها رمزا لشيء عميق الدّلالة» كما قال محرّر مجلّة «الغد» ولكنّه لم يدرك نوع هذا السّر على حقيقته ، وكفاه معرفة أن يدرك ، ولو على سبيل الإجمال ، أنّ السّيّدة زينب رمز لشيء عميق الدّلالة.

وقد يتساءل : إذا كانت الغاية الأولى والأخيرة هي المحافظة على الإمام زين

__________________

(١) انظر ، إثبات الوصيّة للمسعودي : ١٤٣ و ٢٢٧ و ٢٣٠ ، الكافي : ١ / ٤٤٢ / ٣ ، الإختصاص للشّيخ المفيد : ٢١٠ ، إكمال الدّين : ٣١١ / ١ ، و : ١ / ٢٣٦ ح ٥٣ طبعة آخر ، فرائد السّمطين للجويني : ٢ / ١٣٦ ح ٤٣٢ ـ ٤٣٥ و ٣١٩ ح ٥٧١ و ١٣٢ ح ٤٣١ ، ألقاب الرّسول وعترتهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ١٧٠ ، أمالي الشّيخ الطّوسي : ١ / ١٧ ، عيون أخبار الرّضا : ١ / ٤٠ ح ١ ، و : ٢ / ٢٣٧ ح ٢٢ ، كتاب الغيبة للنّعماني : ٦٢ و ٦٦ ، كتاب الغيبة للطة وسي : ١٤٣ ح ١٠٨ و ١٩٥ ح ١٥٩ ، الإرشاد : ٢ / ١٣٨ ، غاية المرام : ٧٤٣ ح ٥٧ ، العمدة لابن البطريق : ٤١٦ ، سنن أبي داود : ٣ / ٣٠٩ ح ٤٢٧٩ ، صحيح البخاري : ٨ / ١٠٤ ، و : ٩ / ٨١ ، صحيح مسلم : ٦ / ٤ ، و : ٢ / ١٨٣ و ١٨٤ / ١٨٢٢ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٣٤٠ باب ٤٠ / ٢٣٢٣ ، مودّة القربى : ٢٩ ، كتاب سليم بن قيس : ٢٣ ح ٧ ، كفاية الأثر : ١٩ ، مسند أحمد : ١ / ٣٩٨ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٤ / ١٧٢ ، مختصر البصائر : ٣٩ ، معاني الأخبار : ٣٥ ، أمالي الصّدوق : ١٢٤ ح ١٣.

١٨٩

العابدين فلماذا صحبه الحسين معه إلى كربلاء؟ ولماذا لم يبقه في حرم جدّه الرّسول؟

والجواب : أنّ المدينة كانت تحت سيطرة الأمويّين ، وكان فيها مروان ابن الحكم الّذي أشار على الوليد بقتل الحسين ، فكيف يأمن الحسين على أهله ، وهم بين أيدي الطّغاة ، وفي حكم أشدّ النّاس لؤما وعداءا للحسين ولكلّ من يمتّ إليه بسبب أو نسب.

وقد اسلفنا أنّ الأمويّين أصدروا أمرهم بقتل أولاد الحسين حتّى الطّفل الرّضيع ، فهل يعفون ويصفحون عن خليفته وأكبر أولاده ووارث علمه؟! وهل للأمويّين هدف من قتل الحسين وأولاده وأصحاب أبيه وأصحابه إلّا القضاء على كلّ أثر لأبي الحسين وجدّ الحسين؟!.

ومرّة ثانية نقول مع محرّر المجلّة : «أنّ السّيّدة زينب رمز لشيء عميق الدّلالة». أنّها لكلمة بالغة ، ما أنطق بها الكاتب إلّا الحقّ ، وإلّا عظمة السّيّدة ، أنّها لكلمة تحمل من المعاني ما تضيق عنها المجلّدات ؛ وكلّ مآثر أهل البيت الطّاهر لا تتّسع لها الكتب والأسفار.

١٩٠

الإمام الصّادقعليه‌السلام

في هذه السّنّة (١٣٨٠ ه‍) ظهر في الرّياض عاصمة المملكة السّعوديّة مجلّة تحمل اسم «راية الإسلام» ، وصاحب الإمتياز اسمه الشّيخ عبد اللّطيف بن إبراهيم آل الشّيخ. ورئيس التّحرير الشّيخ صالح بن محمّد بن لحيدان ، والمدير الشّيخ عليّ بن حمد الصّالحي(١) . «ثلاثة ليس ليس لهم شبيه» باعوا أنفسهم للشّيطان ، وقبضوا الثّمن كاملا ، فجرى منهم مجرى الدّم في العروق ، وما خالفوا له قولا ، ولا عصوا له أمرا حتّى أصاب منهم كل ما يبتغي ، وحتّى أصبحوا له نصيبا مفروضا ، وأطوع له من بنانه ، يديره كيف شاء ، ومتى أراد ، فإذا تكلموا فبلسانه ، وإذا كتبوا فبقلمه ، وإذا فكّروا فبوحي منه يفكرون ، وإذا فعلوا فبأمره يعملون.

وفي ربيع الآخر سنة (١٣٨٠ ه‍) صدرت الأوامر لهؤلاء «الثّلاثة» من سيّدهم «أبي مرّة» أن يكتبوا في مجلّته «راية الشّيطان» مقالا وضع لهم تصاميمه ، ورسم معالمه ، ثمّ أوحى إليهم أن يقيموا عليها أركانه وبنيانه ، فنشروا مقالا في العدد الخامس بعنوان «خطاب موجّه لشيخ الجامع الأزهر» ، وقّعوه

__________________

(١) كان من نتيجة الرّدود والإحتجاجات الّتي قام بها علماء جبل عامل ، وأهل القطيف ، والبحرين أن طرد المسؤولون في السّعوديّة الشّيخ الصّالحي من إدارة المجلّة. (منهقدس‌سره ).

١٩١

باسم «إبراهيم الجبهان». وهذي هي الأسّس الّتي أوحى بها إبليس إلى شيوخه ، واحتواها مقال آله ورجاله.

١ ـ التّهجم على شيخ الأزهر بألفاظ السّفاهة والجهالة ؛ لأنّه ناصر دعوة التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، وهذه الدّعوة ترضي الله الّذي قال :( وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) (١) ، وتغضب سيّدهم إبليس الّذي يفرّق بين المرء وزوّجه ، ويبث التّعصب ، والشّقاق بين العباد.

٢ ـ نعت الإمام الصّادقعليه‌السلام بما يهتزّ له العرش ، ويقوم له الكون بما فيه ، افتروا على عظمته لا لشيء إلّا لأنّه إمام العلم والدّين ، وقائد الخير والحقّ ، وحرب على الشّرك والمشركين ، وعزّ للإسلام والمسلمين ، وإلّا ، لأنّه مهجة الرّسول النّاطق بلسانه ، والحافظ لشريعته وتعاليمه.

٣ ـ تكفير الشّيعة بعامّة ، والإماميّة منهم بخاصّة ، والتّحريض على قتلهم وإبادتهم ، لأنّهم يعبدون الله مخلصين له الدّين ، لا يوالون فاجرا ، ولا يهادنون جائرا ، ولا يساومون مستعمرا.

هذي هي الأسّس الّتي رسمها الشّيطان لشيوخه ، وبنوا عليها بنيانه في مجلّته ، فتصدى لهم علماء جبل عامل في لبنان الّذين كانوا وما زالوا الرّكن الرّكين للإسلام ، والحصن للتّشيّع ومباديء أهل البيت الكرام ، فاحتجوا لدى المسؤلين في السّعوديّة ، وفي سفارتها ببيروت ، ونشروا الرّدود في المجلّات والجرائد ، كما قام أهل القطيف ، والبحرين بواجبهم في هذه السّبيل ، وهدموا ما بناه شيوخ مجلّة الشّيطان ونقضوا ما دبروا ، وعليه تآمروا ، حتّى اضطروهم

__________________

(١) الأنفال : ٤٦.

١٩٢

مرغمين إلى أن يكتبوا في العدد السّابع من هذه المجلّة مقالا ضافيا عن الإمام الصّادق وعظمته عند الله والنّاس ، فاقرّوا بالحقّ بعد أن جحدوا ، وأكذبوا أنفسهم بأنفسهم. وممّا جاء في المقال المذكور :

«نحن الآن بصدد علم من أعلام الإسلام ، وسيّد من سادات المسلمين ، لم يكن أميرا ولا ملكا ، ولم يكن قائدا ولا خليفة ، ولكنّه أسمى من ذلك وأجل ، أنّه عالم من خيار علماء المسلمين ، وخيرة بني هاشم ، أنّه من سلالة آل بيت الرّسول الّذي نكن لهم كلّ حبّ واحترام ، والّذين لا يحصل إيمان أحد إلّا وقلبه عامر بحبّ رسول الله وآله ، فآل البيت عند أهل السّنّة مكرمون محترمون معترف لهم فضلهم وقربهم من الرّسول ، وحبّهم دين وصلاح ، والتّرضي عنهم مبدأ يسير المسلمون عليه ، وصاحبنا من أفضل أهل البيت ، ولم يأت بعده أفضل ولا أتقى منه ، فهو الإمام الّذي اتّفق المسلمون على اختلاف طوائفهم وتعدد مذاهبهم على إمامته وورعه وتقواه ، وأثنوا عليه ومدحوه ، لفضله وزهده ، وعلمه ، وقرابته من رسول الله ونشر العلم ، وأخذ عنه خلق كثير ، وروى عنه سادة الأمّة وخيارها أمثال سفيان الثّوري ، وابن عيّنية ، وسلمان بن بلال ، والدّراوردي ، وابن حازم ، وأبو حنيفة ، ومالك وقال أبو حاتم : «لا يسأل عن مثله»(١) . وقال عمر بن المقداد : «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النّبيّين»(٢) ،

__________________

(١) انظر ، الجرح والتّعديل : ٢ / ٤٨٧ رقم «١٩٨٧» ، ميزان الإعتدال في نقد الرّجال : ٢ / ١٤٤ رقم «١٥٢١» ، تهذيب التّهذيب : ٢ / ٨٨ رقم «١٥٦» ، تهذيب الكمال : ٥ / ٧٨.

(٢) انظر ، تهذيب التّهذيب : ٢ / ١٠٤ ، حلية الأولياء : ٣ / ١٩٣ ، تذكرة الخواصّ : ٣٤٢ ، ينابيع المودّة : ٣ / ١٦٠ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٣٧٣.

١٩٣

وأثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيميّة(١) في منهاج السّنّة ، وقال عنه : «أنّه من خيار أهل الفضل والدّين»(٢) ، وأشاد بفضله. وقال السّخاوي : «كان من سادات أهل البيت فقها ، وعلما ، وفضلا ، وجودا ، يصلح للخلافة بسؤدده ، وفضله ، وعلمه ، وشرفه ..»(٣) .

وقال عنه أبو حنيفة : «ما رأيت أفقه منه»(٤) .

وقال عنه مالك : «اختلفت إليه زمانا ، فما كنت أراه إلّا مصلّيا أو صائما ، وما رأيته يحدّث إلّا على طهارة»(٥) .

هذا ما قالته المجلّة في عددها السّابع بعد أن نشرت ما نشرته في العدد الخامس ، وهكذا أنكر أبو سفيان نبوّة محمّد ، وقاد الجيوش لحربه في بدر ، واحد ، والخندق ، ثمّ آمن به حين جاء نصر الله والفتح!

كتبت ردّا على مجلّة الشّيوخ الثّلاثة نشرته العرفان في عدد تشرين الثّاني سنة (١٩٦٠ م) ، ثمّ نشر في كراسة مستقلة.

ورغب إليّ بعض الإخوان الأفاضل أن أكتب كلمة حول كتاب جديد ، اسمه

__________________

(١) ابن تيميّة الحجّة الكبرى والقدوة العظمى عند الوهابيّين. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، منهاج السّنّة : ٤ / ٢٠٩.

(٣) انظر ، القول البديع في الصّلاة على الحبيب الشّفيع ، للحافظ السّخاوي : ١١٣ ، رجال مسلم : ١ / ١٢٠ رقم «٢٢١» ، سير أعلام النّبلاء : ١٣ / ١٢٠ ، شرح الأخبار : ٣ / ٢٩١ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٣٧٢.

(٤) انظر ، تهذيب الكمال : ٥ / ٧٩ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٣٢ ، جامع مسانيد أبي حنيفة : ١ / ٢٢٢ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٣٧٨ ، سير أعلام النّبلاء : ٦ / ٢٥٧.

(٥) انظر ، تهذيب الكمال : ٥ / ٧٨ ، تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٦٦ ، سير أعلام النّبلاء : ٦ / ٢٥٧ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٣٣.

١٩٤

«الإمام الصّادق» لفضيلة الأستاذ العالم الشّيخ محمّد «أبو زهرة» ، وفي نفس الوقت طلب منّي الأستاذ نزار أن أكتب للعرفان مقالا مستقلا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام ، لا أتعرض فيه لكتاب أبي زهرة ، لا تأيّيدا ولا تفنيدا ، وحجّته في تبرير هذا الشّرط أن يعرف أصحاب مجلّة الشّيطان على آيّة عظمة تجرأوا ، ومن أيّة قداسة نالوا ، فيأتي المقال ردّا ضمنيّا بعد الرّد الصّريح.

وما دامت هذي هي الغاية الأولى والأخيرة من هذا المقال(١) ، فإنّي أنقل للقرّاء ما ذكره الشّيخ أبو زهرة من النّعوت والأوصاف الّتي وصف بها الإمام الصّادق في كتابه المذكور ، هذا مع العلم بأنّ صاحب الكتاب أزهري ، بل من شيوخ الأزهر الكبّار ، والمؤلّفين المكثرين ، والباحثين المعروفين ، وقد بلغت صفحات الكتاب (٥٦٨) بالقطع الكبير ، وكلّها أو جلّها أرقام وشواهد على إمامة الصّادق في الدّين والعلوم ، وعلو منزلته في الفضائل ومكارم الأخلاق كاملة دون استثناء.

وقد اقتبست من مجموع صفحات الكتاب وسطوره كلمتي التالية مشيرا في آخرها إلى بعض الملاحظات. وسلفا أقول : أنّها لم تف بالغاية من عظمة الإمام الصّادق الّتي صورها الشّيخ في كتابه ، فلقد أبرز من شخصيّة الإمام ما لا يفي به إلّا كتاب ضخم في حجم كتابه الحافل ، وليس من شكّ أنّ إيمانه بقوى شخصيّة

__________________

(١) لم يكن من قصدي إدراج هذا المقال هنا ، بل كان العزم على نشره في العرفان ، وكفى ، ولكن رغب إليّ أكثر من واحد أن أنشره في كراسة على حدة ، وجاءتني رسائل بذلك من بعش الإخوان في البحرين بعد أن علموا به ، فرأيت أن أنشره هنا وفي العرفان ، لأنّ رسالتي أن تعم مناقب الآل الكرام كلّ مكان وزمان ، وأن تتردّد على كلّ لسان ، وفي كلّ صحيفة وكتاب ، هذا بالإضافة إلى أنّي عرّفت كتابي هذا في المقدّمة «بأنّ فيه ذكرا لآل الرّسول ، ولا شيء أكثر من ذلك». (منهقدس‌سره ).

١٩٥

الإمام وغزارتها قد اسعفاه وأمدّاه بتلك الصّحفات الطّوال ، وعكسا في نفسه وعقله سطورها وكلماتها.

استمع إلى المؤلّف ، وهو يقول في أوّل صفحة من مقدّمة الكتاب : كتبنا عن سبعة من الأئمّة الكرام ، وتأخرنا في الكتابة عن الإمام الصّادق تهيّبا لمقامه.

ثمّ أنّ الشّيخ الفاضل يوافق الإماميّة الإثني عشريّة عن علم وإيمان بكلّ ما يعتقدونه بالإمام الصّادق ، ولا يخالفهم إلّا في أمرين : الأوّل في وجوب العصمة له ، والثّاني في أنّه إمام سياسي ، كما أنّه إمام ديني بالنّص من إمام عن إمام إلى أن ينتهي النّص إلى الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . أنّ الشّيخ أبا زهرة يعتقد بإمامة الصّادق في الدّين والعلوم ، وأنّه الفصل والفارق بين الحقّ والباطل ، كما جاء في : ١٨٤ ، ولكنّه يختلف عن الإماميّة بالإتّجاه ، وقد بين ذلك صراحة في : ٧٤ حيث قال ما نصّه بالحرف الواحد :

«ندرس الإمام الصّادق بنظرنا وتفكيرنا وباتّجاهنا ، ولسنا بصدد تقرير ما يراه الّذين حملوا اسم الجعفريّة فقط ، ولا ضير في أن يختلف نظرنا إلى الإمام عن نظرهم ما دامت النّتيجة هي بيان شأن الإمام ، وبيان علو قدره ، وقد اعلوه بنظرهم ، ونعليه بنظرنا ، والغاية واحدة ، وحسبه شرفا أنّه يصل إلى أعلى مراتب الرّفعة باتّجاهنا واتّجاههم ، ونظرنا ونظرهم».

والآن ، وبعد هذا التّمهيد تعالوا معي لنرى إلى هذه الشّرارة من القبس الّذي آتانا به فضيلة المؤلّف من نور الإمام الصّادق وهديه :

١٩٦

نسبه :

ينتهي نسبه إلى سيف الله المسلول ، وفارس الإسلام عليّ بن أبي طالب ، وقد نال فوق هذا كلّه أكبر شرف في الإسلام بعد العمل الصّالح ، وهو من عترة النّبيّ الطّاهرة(١) .

وصفه الجسمي :

كان ربعة ليس بالطّويل ولا بالقصير ، أبيض الوجه أزهر ، له لمعان كأنّه سراج ، أسود الشّعر أجعده ، أشم الأنف ، وقد انحسر الشّعر عن جبينه فبدا مزهرا ، على خدّه خال أسود ، ولمّا تقدّم في السّن زاده الشّيب بهاء ووقارا وجلالا وهيبة(٢) .

تسميّته بالصّادق :

قال ابن خلّكان في كتاب وفيّات الأعيان : «لقّب بالصّادق لصدق مقالته»(٣) . وقال أبو زهرة : «ومن يكون أصدق قولا ممّن لقّبه الخصوم

__________________

(١) انظر ، كشف الغمّة : ٢ / ١٥٥ و ١٦١ و ١٨٧ ، عمدة الطّالب : ١٩٥ ، مطالب السّؤول : ٨١ ، وفيات الأعيان : ١ / ٢٩١ ، صفوة الصّفوة : ٢ / ٦١ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٣٠٤ ، و : ٢ / ١٧٩ طبعة آخر ، الكافي : ١ / ٤٧٢ ، البحار : ٤٧ / ١ ح ١ ، و ٤ ح ١٢ ، و ٦ ح ١٧ ، دلائل الإمامة : ١١١ ، تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٦٦ ، كفاية الطّالب : ٤٥٥ ، الفصول المهمّة : ٢ / ٢٣٧ ، بتحقّيقنا.

(٢) انظر ، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصّباغ المالكي : ٢ / ٢٣٨ ، بتحقيقنا) ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٤٠٠ ، نور الأبصار للشّبلنجي : ٢ / ٨٨ ، بتحقّيقنا.

(٣) انظر ، الجامع الصّغير : ١ / ٢٣٨ ح ٣٩٨ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٢ / ٦٦ ، تحفة الأحوذي : ١ / ١١٥ ، فيض القدير : ٣ / ٢٢٩ ، لسان الميزان : ٧ / ١٩٠ رقم «٢٥٢٦» ، تقريب التّهذيب : ١ / ١٤١ رقم «٩٥٠».

١٩٧

والأولياء ، والتأريخ كلّه بالصّادق ، وهو الإمام أبو عبد الله رضي الله عنه(١) وعن آبائه الأكرمين الأبرار الأطهار. ومن الأئمّة من اختلف فيه النّاس بين موال غالي في ولايته ، وخصم غالى في خصومته ، والإمام الصّادق أجمع العلماء على فضله ، وإذا غالى كثيرون في محبّته ، فإنّه لم يكن العكس بالنّسبة إلى الإمام الصّادق ، حيث لم يغال في عداوته أحد ، بل لم يعاده أحد(٢) .

صفاته النّفسيّة :

أمّا صفاته النّفسيّة والعقليّة فقد علا بها على أهل الأرض ، وأنّى لأهل الأرض أن يسامتوا أهل السّماء؟! سمو في الغاية ، تجرد في الحقّ ، ورياضة للنّفس ، وانصراف إلى العلم ، والعبادة ، وابتعاد عن الدّنيا ومآربها ، وبصيرة تبدّد الظّلمات ، وإخلاص لا يفوته إخلاص ، لأنّه من معدنه ، من شجرة النّبوّة ، وإذا لم يكن الإخلاص في عترة النّبيّ ، وأحفاد عليّ ففيمن يكون؟! فلقد توارث أحفاد عليّ الإخلاص خلفا عن سلف ، وفرعا من أصل ، فكانوا يحبّون لله ، ويبغضون لله ويعتبرون ذلك من أصول الإيمان وظواهر اليقين.

والصّادق مصداق لقوله تعالى :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) (٣) ، وهو من أولياء الله الّذين قال فيهم :( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) انظر ، تأريخ الخشّاب : ١٨٨ ، مقصد الرّاغب : ١٥٦ ، تأريخ أهل البيتعليهم‌السلام : ١٣٨ ، الهداية الكبرى: ٢٤٧ ، دلائل الإمامة : ١١٢ ، المعارف : ٢١٥ ، كفاية الطّالب : ٤٥٥.

(٢) انظر ، الإمام الصّادق ، أبو زهرة : ٣٦ ، الهداية الكبرى : ٢٤٧.

(٣) فاطر : ٣٢.

١٩٨

وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) ، وهو من الّذين عناهم جدّه الرّسول بقوله : «أنّ الله يحبّ ذا البصر النّافذ عند ورود الشّبهات ، ويحب ذا العقل الكامل عند حلول المشكلات»(٢) . ومن غير الصّادق يبدد الشّبهات بعقله النّير ، وبصيرته الهادية المرشدة؟!.

وكان عليّ بي أبي طالب من أسخى الصّحابة ، بل من أسخى العرب ، وقد كان أحفاده كذلك من بعده ، فزين العابدين كان يحمل الطّعام ليلا ليوزعه على بيوت ما عرفت خصاصتها إلّا من بعده(٣) ، فلم يكن غريبا أن يكون الإمام الصّادق النّابت في ذلك البيت الكريم سخيّا جوادا ، فقد يعطي حتّى لا يبقي لعياله شيئا.

وكان حليما لا يقابل الإساءة بمثلها ، بل يقابلها بالّتي هي أحسن عملا بقوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٤) .

أمّا الشّجاعة فقد كانت ملازمة لذرّيّة عليّ ، وهي فيهم كالجبلّة ، لا يهابون الموت ، وبخاصّة من يكونون في مثل حال أبي عبد الله الصّادق الّذي عمر الإيمان قلبه ، وانصرف عن الأهواء والشّهوات ، واستولى عليه خوف الله تعالى وحده ، ومن عمر قلبه بالإيمان لا يخاف أحدا إلّا الله.

وكان ذا فراسة قوّية جعلته ذا إحساس قوي يدرك به مغبة الأمور ، والفراسة من أخلاق المؤمنين ، كما أنّ الله سبحانه قد أضفى عليه جلالا ونورا من نوره ،

__________________

(١) يونس : ٦٢.

(٢) انظر ، البداية والنّهاية : ١ / ٣٦٢ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٥٢ ح ١٠٨٠.

(٣) انظر ، تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٥١ ، تأريخ اليعقوبي : ٣ / ٤٥ ، البداية والنّهاية : ٩ / ١٠٥ ، مختصر تأريخ دمشق : ١٧ / ٢٣٨ ، حلية الأولياء : ٣ / ١٣٦.

(٤) المؤمنون : ٩٦.

١٩٩

وذلك لكثرة عبادته وصمته عن اللّغو ، وقد راع أبا حنيفة منظر الإمام الصّادق ، واعتراه من الهيبة له ما لم يعتره من الهيبة للمنصور صاحب الطّول والحول والقوّة ، والتقى به ابن أبي العوجاء ، وهو من دعاة الزّنادقة فارتاع ، ولم يحر جوابا ، فتعجب الصّادق من أمره ، وقال له : مالك؟! فقال : ما ينطق لساني بين يديك ، فإنّي شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلمين ، فما داخلني قطّ مثل ما داخلني من هيبتك(١) !

هذه بعض صفاته النّفسيّة ، وببعضها يعلو على الرّجال ، ويرتفع إلى أعلى المراتب ، فكيف وقد تحلّى بهذه الصّفات وغيرها(٢) ؟!

علومه :

انصرف الإمام الصّادق بكلّه إلى العلم ، فلم يشغل نفسه بشيء سواه ، وكان مخلصا لله في إحياء العلم ونشره ، يرشد الضّال ، ويهدي إلى الحقّ ، ويردّ الشّبهات ، ويدفع الزّيغ ، ويعمل على تنقية عقائد المسلمين ممّا اعترى بعضها من الإنحراف ، ويبث روح التّسامح ، ويمنع الطّائفيّة ، فكان بذلك الإمام الصّادق حقّا ، وحفيد الإمام عليّ ، وسيّد العترة الطّاهرة.

وكان يدرس علم الكون ، وما اشتمل عليه ، ومن تلاميذه الكيمائي الشّهير جابر بن حيّان(٣) ، تلقى عنده علم الكيمياء ، ووضع فيه رسائل ، طبع منها

__________________

(١) انظر ، بحار الأنوار : ٣ / ٤٦.

(٢) انظر ، الإمام الصّادق ، الشّيخ أبو زهرة : ٣٦.

(٣) جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفي ، أبو موسى : فيلسوف كيميائي ، كان يعرف بالصّوفي. من أهل ـ

٢٠٠