الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء11%

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: 528

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 528 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68941 / تحميل: 4503
الحجم الحجم الحجم
الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
ISBN: ٩٦٤-٤٦٥-١٦٩-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

المصائب والأحزان

شاءت الأقدار أن تلقي بالسّيّدة الحوراء في أحضان المصائب والأحزان منذ الطّفّ ولة إلى آخر يوم في حياتها فمن يقف على سيرتها يجد سلسلة من حلقات متّصلة من الآلآم منذ البداية ، حتّى النّهاية.

وأي إنسان خلت أو تخلو حياته من الهموم والأكدار ، حتّى أصحاب السّلطان ، والجاه ، والثّراء لا منجاة لهم من ضربات الزّمان ، وطواريء الحدثان وقديما قيل على لسان الإمام عليّ : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ؛ فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر!»(١) . ومن الّذي حقّق جميع رغباته ، ولم يفقد قريبا من أقربائه ، وعزيزا من أعزائه.

ولكن من غير المألوف والمعروف أن يعيش «إنسان» في خضّم من المحن والأرزاء ، كما عاشت السّيّدة زينب الّتي إنهالت عليها الشّدائد من كلّ جانب الواحدة تلو الأخرى ، حتّى سميّت أمّ المصائب ، وأصبحت هذه الكنية علما خاصّا بها.

فقد شاهدت وفاة جدّها رسول الله ، وتأثيرها على المسلمين بعامّة ، وعلى أمّها وأبيها ، وأهل بيتها بخاصّة ، قال أمير المؤمنين : «نزل بي من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الحكمة «٣٩٤».

٣٢١

لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ورأيت النّاس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل فادح نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، والقول ، والأسماع»(١) .

وطبيعي أن يصيب أهل البيت هذا ، وأكثر منه ، فأنّ تأثير المصاب بالفقيد ، أي فقيد يقاس بقدره وقيمته

وكفى الرّسول عظمة أن يقترن اسمه باسم الله ، ولا يقبل الإيمان والإعتراف بالله الواحد الأحد إلّا مع الإعتراف والإيمان برسول الله محمّد

هذا ، إلى أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد حدث أهل بيته بكلّ ما يجري عليهم من بعده ، وكرّره أكثر من مرّة على مسامعهم تصريحا وتلويحا ، حتّى ساعة الوفاة كان ينظر إلى وجوههم ويبكي ، ولمّا سئل قال : «أبكي لذّرّيتي ، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي»(٢) .

شاهدت زينب وفاة جدّها الرّسول ، وما تركه من آثار ، وشاهدت محنة أمّها الزّهراء ، وندبها لأبيها في بيت الأحزان ، ودخول من دخل إلى خدرها ، وانتهاك حرمتها ، واغتصاب حقّها ، ومنع إرثها ، وكسر جنبها ، وإسقاط جنينها ، وسمعتها ، وهي تنادي فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث وكلّنا يعلم علاقة البنت بالأمّ ، وتطلعها إليها ، وتأثرها بها تلقائيّا وبدون شعور.

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ١ / ٢٣٣ ، الخصال للشّيخ الصّدوق : ٣٧١ ، شرح الأخبار : ١ / ٣٤٦ ، الإختصاص للشّيخ المفيد : ١٧٠.

(٢) انظر ، أمالي الشّيخ الطّوسي : ١٨٨ ح ١٨.

٣٢٢

وشاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين ، وأثر الضّربة في رأسه ، وسريان السّم في جسده الشّريف ، ودموعه الطّاهرة الزّكية تفيض على خدّيه ، وهو يقلب طرفه بالنّظر إليها ، وإلى أخويها الحسنين.

وشاهدت أخاها الحسن أصفر اللّون يجود بنفسه ، ويلفظ كبده قطعا من أثر السّم(١) ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه ، وتركب بغلة ، وتصيح ، والله لا يدفن الحسن هنا أبدا(٢) .

__________________

(١) روي أنّه لمّا وضع الطّشت بين يدي الحسن ، وهو يقذف كبده سمع أنّ أخته زينب تريد الدّخول عليه أمر برفع الطّشت إشفاقا عليها. (منهقدس‌سره ). الرّواية على تقدير صحّتها نصّت على أنّ السّمّ أثر في كبده حتّى قاء بعضا منه ، وهذا ممّا يرفضه الطّبّ الحديث بل يقول : إنّ السّمّ يحدث إلتهابا في المعدة وبالتالي يؤدّي إلى هبوط في ضغط الدّم ويؤدّي إلى إلتهاب الكبد ، والكبد هو الجهاز الخاصّ في الجانب الأيمن الّذي يقوم بإفراز الصّفراء كما جاء في القاموس : ١ / ٣٣٢ ، تاج العروس : ٢ / ٤٨١ ، ويسمّى الجوف بكامله كبدا ، وهنا تكون الرّواية غير منافية للطّبّ حيث إنّه ألقى من جوفه قطعا من الدّم المتخثّر ، والّتي تشبه الكبد.

(٢) انظر ، الإصابة : ١ / ٣٣٠ ، تأريخ دمشق : ٨ / ٢٢٨ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٤٤ ، الإستيعاب : ١ / ٣٨٩ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، مروج الذّهب : ٢ / ٥١ ، رحلة ابن بطّوطزة : ٧٦ ، عيون الأخبار : ٢ / ٣١٤ ، الإمام الحسن بن عليّ للملطاوي : ٧٢ ، دلائل الإمامة : ٦١ ، المقاتل : ٧٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ١٩٧.

الفتنة الكبرى :

اتّجهت مواكب التّشيّيع نحو المرقد النّبوي لتجدّد العهد بجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لمّا علم الأمويون ذلك تجمّعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض بدافع الأنانيّة والحقد والعداء للهاشميّين إلى إحداث شغب ومعارضة لدفن الإمام بجوار جدّه لأنّهم رأوا أنّ عميدهم عثمان دفن في حش كوكب ـ مقبرة اليهود ـ فكيف يدفن الحسنعليه‌السلام مع جدّه فيكون ذلك عارا عليهم وخزيا فأخذوا يهتفون بلسان الجاهليّة الحمقاء : يا ربّ هيجاء ، هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بأقصى المدينة ويدفن الحسن عند جدّه؟

وانعطف مروان بن الحكم وسعيد بن العاص نحو عائشة وهما يستفزّانها ويستنجدان بها لمناصرتهم ـ

٣٢٣

أمّا ما شاهدته في كربلاء ، وحين مسراها إلى الكوفة ، والشّام مع العليل ، والنّساء ، والأطفال فيفوق الوصف ، وقد وضعت فيه كتب مستقلّة.

هكذا كانت حياة السّيّدة ، وبيئتها من يومها الأوّل إلى آخر يوم ، حياة مشبّعة بالأحزان ، متخمة بالآلام لا تجد منها مفرّا ، ولا لها مخرجا.

وبعد هذه الإشارة نقف قليلا لنرى كيف قابلت السّيّدة هذه الصّدمة والأحداث الجسام : هل أصابها ما يصيب النّساء في مثل هذه الحال من الإضطراب

__________________

ـ بذلك وهما يعرفان دخيلة عائشة وما تنطوي عليها نفسها بما تكنّه من الغيرة والحسد لولد فاطمة عليها‌السلام قائلين لها : يا أمّ المؤمنين ، إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والله لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه عمر إلى يوم القيامة. فألهبت هذه الكلمات نار الثّورة في نفسها فاندفعت بغير اختيار لمناصرتهما راكبة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتى من لا أحبّ؟! وكادت أن تقع الفتنة بين بني هاشم وبني أميّة ، فبادر ابن عبّاس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بل نريد أن نجدّد العهد به ، ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها لوصيته بذلك ، ولو كان وصّى بدفنه مع النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك ، لكنّهعليه‌السلام كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره ، ودخل بيته بغير إذنه. ثمّ أقبل على عائشة فقال لها : وا سوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل وفي رواية قال ابن عبّاس : يوما تجمّلت ويوما تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت فأخذه ابن الحجّاج الشّاعر البغدادي فقال :

يا بنت أبي بكر

لا كان ولا كنت

لك التّسع من الثّمن

وبالكلّ تملّكت

تجمّلت تبغّلت

وإن عشت تفيّلت

هذا الخبر رواه الفريقان من أهل السّنّة والشّيعة بتغيّر ببعض عباراته كلّ بحسب مذهبه.

انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٨٢ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٨ ، و : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٣ ، تأريخ اليعقوبي : ١ / ٢٠٠ ، تأريخ أبي الفداء : ١ / ١٩٢ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، أنساب الأشراف : ١ / ٤٠٤ ، الطّبقات الكبرى : ٨ / ٥٠ ، كتاب عائشة والسّياسة : ٢١٨ ، الإستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٣٢٣ هامش رقم «٣».

٣٢٤

واختلال الأعصاب؟ هل هيمنت عليها العاطفة العمياء الّتي لا يبقى معها أثر لعقل ولا دين؟ وبالتّالي ، هل خرجت عن حدود الإتزان والإحتشام؟ حاشا بنت النّبيّ ، وفاطمة ، وعليّ ، وأخت الحسنين ، وحفيدة أبي طالب أن تنهزم أمام النّكبات ، وتستسلم للضّربات حاشا النّفس الكبيرة أن تتمكن منها العواطف ، أو تزعزعها العواصف فلقد تحولت تلك المحن ، والمصائب بكاملها إلى عقل ، وصبر ، وثقة بالله ، وكشفت كلّ نازلة نزلت بها عن معنى من أسمى معاني الكمال ، والجلال ، وعن سرّ من أسرار الإيمان النّبويّ المحمّديّ ، أنّ اعتصامها بالله ، وإيمانها به تماما كإيمان جدّها رسول الله.

وليس في قولي هذا أيّة شائبة من المغالاة ما دمت أقصد الإيمان الصّحيح الكامل الّذي لا ينحرف بصاحبه عن طاعة الله ومرضاته مهما تكن الدّوافع والملابسات وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصّلاة ليلة الحادي عشر من المحرّم ، ورجالها بلا رءوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرّياح ، ومن حولها النّساء ، والأطفال في صياح وبكاء ، ودهشة وذهول ، وجيش العدو يحيط بها من كلّ جانب أنّ صلاتها في مثل هذه السّاعة تماما كصلاة جدّها رسول الله في المسجد الحرام ، والمشركون من حوله يرشقونه بالحجارة ، ويطرحون عليه رحم شاة ، وهو ساجد لله عزّ وعلا ، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفّين ، وصلاة أخيها سيّد الشّهداء يوم العاشر ، والسّهام تنهال عليه كالسّيل.

ولا تأخذك الدّهشة ـ أيّها القاريء ـ إذا قلت : أنّ صلاة السّيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم كانت شكرا لله على ما أنعم ، ، وأنّها كانت تنظر إلى تلك

٣٢٥

الأحداث على أنّها نعمة خصّ الله بها أهل بيت النّبوّة من دون النّاس أجمعين ، وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والنّاس ولا يشك مؤمن عارف بأنّ أهل البيت لو سألوا الله سبحانه دفع الظّلم عنهم ، وألحوا عليه في هلاك الظّالمين لأجابهم إلى ما سألوا ، كما لا يشك مسلم بأنّ رسول الله لو دعا على مشركي قريش لإستجاب دعاءه(١) ولكنّهم لو دعوا واستجاب لم تكن لهم هذه الكرامة الّتي نالوها بالرّضا والجهاد ، والقتل والإستشهاد ، وفي هذا نجد تفسير قول الحسين : «رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل ، مصبحا إنّ شاء الله تعالى»(٢) . وقول أبيه أمير المؤمنين ، وهو يجيب عن هذا السّؤال : فقال لي : «فكيف صبرك إذا»! فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر.

__________________

(١) حين لقي المسلمون من المشركين شدّة شدّيدة قالوا لرسول الله : ألا تدعو الله : ألا تدعو الله لنا؟. قال : أنّ من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق بإثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنّ الله هذا الأمر ، حتّى ليسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله». وهكذا تمّ أمر أهل البيت لا يخاف مواليهم إلّا الله ، والحمد الله. (منه قدس‌سره).

انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٣٢٢ ح ٣٤١٦ و : ٦ / ٢٥٤٦ ح ٦٥٤٤ ، صحيح ابن حبّان : ٧ / ١٥٦ ح ٢٦٩٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٥ ح ٢٧٤٩٨ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٤٥٠ ح ٥٨٩٣ ، مسند البزّار : ٦ / ٦٧ ح ٢١٢٧ ، مسند أحمد : ٥ / ١٠٨ ح ٢١٠٩٥ و ٢١١٠٧ و ٢٧٢٦٠ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ١٧٤ ح ٧٢١٣ ، المعجم الكبير : ٤ / ٦٢ ح ٣٦٣٨.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٢٦

وقال : «يا عليّ ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة ، والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت بالهديّة ، والرّبا بالبيع».

قلت : يا رسول الله ، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة ، أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة»(١) .

وزينب هي بنت أمير المؤمنين لا تعدوه في إيمانها ، ولا في نظرها إلى طريق الخلود والكرامة ولذا لم تترك الصّلاة شكرا لله ، حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم ، وحين مسيرها مسبيّة إلى الكوفة والشّام ، وحمدت الله ، وهي أسيرة في مجلس يزيد على أن ختم الله للأوّل من أهل البيت بالسّعادة ، وللآخر بالشّهادة والرّحمة.

ومن الخير أن ننقل كلمة لأبيها أمير المؤمنين تتّصل بالموضوع وتلقي عليه ضوءا من أنوار الحكمة كالهداية ، قال :

«أنّ أشدّ النّاس بلاء النّبيّون ، ثمّ الوصيون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، وإنّما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة ، فمن صحّ دينه ، وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ذلك أنّ الله لم يجعل الدّنيا ثوابا لمؤمن ، ولا عقوبة لكافر ، ومن سخف دينه ضعف عمله ، وقلّ بلاؤه ، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التّقي من المطر إلى قرار الأرض»(٢) .

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «١٥٦».

(٢) انظر ، الكافي : ٢ / ٢٥٩ ح ٢٩ ، علل الشّرائع : ١ / ٤٤ ح ١ ، السّرائر لابن إدريس : ٣ / ١٤٣ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ٢٦٢ ح ٨.

٣٢٧

وبعد ، فإنّ الأحداث الّتي مرّت بالسّيّدة زينب لفتت إليها الأنظار ، فتحدّث عنها المؤرّخون وأصحاب السّير في موسوعاتهم ، ومنهم من وضع في سيرتها كتبا مستقلة ، وأشاد الخطباء بفضلها وعظمتها من على المنابر ، ونظم الشّعراء القصائد في أحزانها وأشجانها ، وصبرها وثباتها ، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال ـ هذه القطعة الدّامية لهاشم الكعبي :

وثواكل في النّوح تسعد مثلها

أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا

ناحت فلم تر مثلهنّ نوائحا

إذ ليس مثل فقيدهنّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنّت ولا

الورقاء تحسن عندها ترديدا

أن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثّرى لو لم تكن

زفراتها تدع الرّياض همودا

وغدت أسيرة خدرها ابنة فاطم

لم تلق غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعب الأسى

بفؤاده حتّى إنطوى مفؤودا

تخفي الشّجا جلدا فإن غلب الأسى

ضعف فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطّعت القلوب بشجوها

لكنّما إنتظم البيان فريدا

ماذا نسمّي هذه النّغمات الحزينة؟ أنسميها شعرا ، والشّعر يحتاج إلى أعمال الفكر ، وتخير المعاني والألفاظ ، والكعبي لم يفعل شيئا من ذلك ، وإنّما انعكست في نفسه آلآم آل الرّسول ، ثمّ فاضت بها من حيث لا يشعر ، تماما كما فاضت عيون الثّاكلات بالعبرات وكل شيعي صادق الولاء لآل نبيّه يعبر عن ولائه بالبكاء ، وإقامة العزاء لمّا أصابهم وحلّ بهم ، أو بشد الرّجال لزيارة قبورهم ومشاهدهم المقدّسة ، أو بالإحتجاج لحقّهم ، ومنافحة خصومهم ، أو بثورة

٣٢٨

شعريّة ، كما فعل السّيّد حيدر الحلّي(١)

أمّا أن تكون نفس المحبّ بالذات هي الأداة المعبّرة عن حبّه وولائه ، فهذا ما لا نعرفه إلّا من أفراد قلائل جدّا ، منهم هاشم الكعبي ، والشّريف الرّضي أنّ هذه القطعة ليست وصفا لندب الثّواكل وحنينها إلى سيّدها وكفيلها ، ولا تصويرا لأحزانها واشجانها ، وكفى ، ولا أخبار بالّذي أصاب آل محمّد ، كما قال بعض الشّعراء :

سبيت نساء محمّد وبناته

من بعد ما قتلت هناك رجاله

وإنّما هي قلب مضطرم قد استحال إلى كلمات تلهب القلوب والمشاعر فلقد هيمن الولاء على الكعبي ، وانتقل به من عالمه ودنياه إلى عالم الثّواكل في كربلاء ، فشعر بشعورهنّ ، وأحس بإحساسهنّ ، حتّى أصبح مثلهنّ ثاكلا يندب وينوح بعبرات تحيي الثّرى ، وزفرات تدع الرّياض هودا.

__________________

(١) شاعر مكثر ومجيد في رثاء الحسين ، وشعره كلّه أو جلّه ثورة ، وحماسة ، واستنهاض. (منهقدس‌سره ).

٣٢٩
٣٣٠

نوايا يزيد

مات معاوية ، وتولى يزيد الأمر من بعده ، وأبى إلّا أن يأخذ لنفسه بيعة الحسين وقال الحسين كلمته الّتي لا يحول عنها ، ولا يزول ، مهما تكن العواقب : «ومثلي لا يبايع مثله»(١) وكانت المأساة الّتي لا يزال ولن يزال يجري دمها طريّا على وجه الأرض ، كما قال السّيّد العبيدي أنّ معاوية ليس بشيء من الإسلام ، ولا من الإنسانيّة في حساب الحسين ، فكيف بولده يزيد؟! وإقرأ معي هذا التّأنيب والتّوبيخ الّذي وجّهه الحسين لمعاوية بصوت عال جريء.

الحسين ومعاوية :

كتب مروان بن الحكم ، وهو عامله على المدينة :

أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالا من أهل العراق ، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ ، وأنّه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك ، فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك.

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

٣٣١

فكتب معاوية إلى الحسين :

أمّا بعد : فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقّا فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله أنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، فإن كان الّذي بلغني باطلا فإنّك أنت أعزل النّاس لذلك ، وعظ نفسك ، فاذكر ، وبعهد الله أوف فإنّك متى ما تنكرني أنكرك ، ومتى ما تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الأمّة وإن يردهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت النّاس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، ولا يستخفنك السّفهاء والّذين لا يعلمون.

يا لسخرية الأقدار الشّجرة الملعونة في القرآن تقول لمن طهّره الله تطهيرا انظر لدينك ولأمّة محمّد عدوّ الله والرّسول الّذي قال لأهل الكوفة : «يا أهل الكوفة! أترون أنّي قاتلتكم على الصّلاة ، والزّكاة ، والحجّ ، وقد علمت أنّكم تصلّون ، وتزكون ، وتحجون ، ولكنّي قاتلتكم لأئتمر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدمي هاتين»(١) . يقول لربيب الوحي : أنظر لدينك ولأمّة محمّد؟ ولكنّ الحسين قد أبطل كيده ، وهدم كهفه ، وأرغم أنفه ، حيث أجابه : أمّا بعد : فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدى لها ولا يسدّد إليها إلّا الله تعالى.

وأمّا ما ذكرت أنّه رقيّ إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاقون المشّاؤون

__________________

(١) انظر ، البداية والنّهاية : ٦ / ٢٤٦ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ ، تأريخ ابن كثير : ٨ / ١٢١ ، الكامل في التّأريخ : ٦ / ٢٢٠ ، مقاتل الطّالبيين : ٧٠ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦ و : ١٦ / ١٥ ، المعرفة والرّجال للبسوي : ٣ / ٣١٨ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٥٧ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١٩٦ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٣٥١ ح ٢٣ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ و : ٥٩ / ١٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٤٠.

٣٣٢

بالنّميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون.

وما أردت إليك حربا ، ولا عليك خلافا ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظّلمة وأولياء الشّياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الّذين كانوا ينكرون الظّلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوّانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة منك على الله واستخفافا بعهده؟

أولست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصّالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمّنته ، وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟

أولست بمدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر»(١) ، فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمدا ، وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمّل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ كرّم الله

__________________

(١) انظر ، مسند الإمام الشّافعي : ١٨٨ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٨٦ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٥٢ ، صحيح البخاريّ : ٣ / ٣٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ١٧١ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٦٤٦ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٢٩٣ ، مصباح الزّجاجة : ٢ / ١٢٢ ، مسند الشّهاب : ١ / ١٩٠ ، البيان والتّعريف : ٢ / ١٣٠ و ٢٦٧ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٨ / ١٩١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٥١ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٠ / ٣٧.

٣٣٣

وجهه ، فكتب إليه أن أقتل كلّ من كان على دين عليّ ، فقتلهم ، ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه ، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرّحلتين رحلة الشّتاء والصّيف؟

وقلت فيما قلت : أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها ، ولا أزعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله علينا أفضل من أن جاهدك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو الله أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرصّت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيّت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النّفر الّذين قتلتهم بعد الصّلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا. ولم تفعل ذلك بهم إلّا لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ، فقتلتهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظّنة وقتلك أولياءه على التّهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة. وأخذك للنّاس بيعة ابنك ، غلام حدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، وما أراك إلّا قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغششت رعيتك وأخربت

٣٣٤

أمانتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام(١) .

ولمّا قرأ معاوية الكتاب أطلع عليه ولده يزيد ، فقال له : أجبه جوابا يصغر إليه نفسه ، واذكر أباه عليّا بشر.

فقال معاوية : وما أقول في عليّ ، ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل؟ ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه النّاس كذّبوه ، وما عسيت أن أعيب حسينا؟ وو الله ما أرى للعيب فيه موضعا وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده أتهدده ، ثمّ رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه(٢)

الحسين يبايع يزيد وهو يقف من أبيه معاوية هذا الموقف ، ويخاطبه بهذا الإحتقار والإزدراء : ركبت جهلك ، ونقضت عهدك ، وخسرت دينك ، وغششت الرّعية ، وقتلت أولياء الله ، وأخذت البيعة لغلام يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب؟!.

قرأ يزيد هذا السّجل الخالد في مثالبه ، ومثالب من مهّد له ، وبايعه بالخلافة ، فحرّض أباه على أن ينال بالباطل من عليّ والحسين ، ولم يجد معاوية ما يقوله أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، فاجتر يزيد ضغينته وأحقاده ، وانطوى على غيظه وغضبه ينتظر الفرصة المؤاتية.

فوران الحقد :

وبعد أن هلك معاوية ، وتولّى يزيد الأمر من بعده صمّم أن يقتل الحسين على

__________________

(١) انظر ، أعيان الشّيعة : ٤ / ١٤٢ طبعة سنة (١٩٤٨ م) نقلا عن كتاب «الإمامة والسّياسة» لابن قتيبة.وذكر هذا الكتاب أيضا صاحب البحار : ١٠ / ١٤٩. (منه قدس‌سره ).

(٢) انظر ، معدن الحكمة : ١ / ٥٨٢ ، الإحتجاج للطّوسي : ٢٧٩ ، معجم رجال الحديث : ١٩ / ٢١٥ ، العوالم : ١٧ / ٩٣ ح ٦ ، إختيار معرفة الرّجال : ١ / ٢٥٩.

٣٣٥

كلّ حال ، وبأيّ ثمن ، ومهما تكن النّتائج وسواء أصحّ أنّ معاوية أوصاه خيرا بالحسين ، أو لم يصحّ ، فإنّ فوران الحقد ، واللّؤم ، والبغض ، والغيظ من الحسين قد بلغ الغاية من نفسه ، وأدّى به إلى حمق لا تجدي معه النّصيحة ، وإلى داء لا يشفيه إلّا الإنتقام ، ولو كان به ذهابه وذهاب ملكه ، ومن قبل قال عبد الله بن الزّبير : «اقتلوني ومالكا»(١) .

صمّم الحسين أن لا يبايع يزيد ، قتل أو لم يقتل ، لسبب واحد وهو «مثله لا يبايع مثل يزيد»(٢) وصمّم يزيد على قتل الحسين بايع أو لم يبايع لأسباب : «منها» : العداء المبدئي الّذي أشار إليه الإمام الصّادق بقوله : «نحن وآل أبي سفيان تعادينا في الله ، قلنا : صدق الله. وقالوا كذب الله»(٣) .

و «منها» : العداء الشّخصي ، فقد كان يزيد يعلم علم اليقين بأنّ الحسين يزدريه ويحتقره وأباه معاوية ، وأيضا يعلم بأنّ الحسين ينظر إليه وإلى أبيه كما ينظر إلى المنافقين والمفترين ، ولا شيء أشدّ وطأة على النّفس من الإحتقار والإستخفاف.

و «منها» : الأخذ بثارت بدر ولذا هتف بأشياخه حين وضع رأس الحسين بين يديه ، وقال : «ليت أشياخي ببدر شهدوا».

__________________

(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٨٥ وما بعدها ، وقارن بين قوله وقول المؤرّخ في تأريخ الطّبري : ١ / ٣١٩٩ ـ ٣٢٠٠ ، و : ٥ / ٢٠٤ و ٢١٠ و ٢١١ ، والواقدي برواية شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٨٧ في شرح الخطبة «كنتم جند المرأة» ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٩٩ ، العقد الفريد : ٤ / ٣٢٦ طبعة لجنة التّأليف ، الإمامة والسّياسة : ١ / ٩٦ ، الهامش رقم (١ و ٢) في نفس الصّفحة.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) تقدّمت تخريجاته.

٣٣٦

وقد تجاهل هذه الحقيقة الّذين اضمروا العداء لعليّ وبنيه ، وقالوا : أنّ الحسين ألقى بيده إلى التّهلكة ، وكان عليه أن يسلّم ليزيد ، ما دام عاجزا عن مقاومته قالوا هذا ، وهم يعلمون أنّ الحسن صالح معاوية ، وسلّم له الأمر ، ثمّ غدر به ، وأنّ معاوية أعطى العهود والمواثيق لأولياء الله كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق وغيره ، ثمّ نقضها ، وقتلهم دون أن يقاتلوه ، وأنّ مسلم بن عقيل ألقى السّلاح بعد أن أخذ العهد والأمان من أذناب الأمويّين ، ثمّ قتلوه ومثّلوا به.

وجاء في البحار :

«أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد إلى مكّة ، وولّاه الموسم وأمره بقتل الحسين على أي حال اتّفق ، وأنّه دسّ مع الحاج ثلاثين رجلا ، ليغتالوا الحسين ، ولمّا علم الحسين بذلك خرج من مكّة ، وقبل خروجه قال لأخيه محمّد بن الحنفيّة : والله يا أخي لو كنت في حجر هامّة من هوام الأرض لإستخرجوني منه ، حتّى يقتلوني(١) وفي هذا دلالة ظاهرة أنّه مقتول ، حتّى ولو سالم وبايع ، وكانوا يعرضون عليه البيعة صورة ، لعلمهم بأنه لا يبايع ، ألا ترى كيف أشار مروان بن الحكم بقتل الحسين على والي المدينة؟ وكيف كتب ابن زياد لابن سعد :

__________________

(١) انظر ، بحار الأنوار : ١٠ / ١١٦. وما رأيت أجهل ممّن قال : كيف اطمأنّ الحسين لأهل الكوفة ، وقد غدروا بأخيه ر ، وأبيه من قبل؟ فهل كان الحسين يجهل ذلك؟. ألم يصرح أكثر من مرّة بأنّ الله شاء أن يراني قتيلا ، ويرى نسوتي سبايا؟ (منهقدس‌سره ).

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٢٩٥ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٤٦ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر: (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) : ٢١٢ ح ٦٦٤ ، وقعة الطّفّ : ١٥٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢١٨ مقتل الحسين لأبي مخنف : ٦٧ ، مقاييس اللّغة لابن فارس : ٤ / ٤٩٦ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ٧٤ البداية والنّهاية : ٦ / ١٦٣ ح ١٦٦٠٨ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٦٠ ، الطّبقات لابن سعد : ح ٢٧٨.

٣٣٧

أعرض على الحسين : أن ينزل على حكم بني عمّك ـ يقول : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله : إنّي عذت بربّي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذّلّة ، وهيهات منّا الذّلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام»(١) .

ومن عرف حقيقة يزيد ، وعوامله النّفسيّة ، وتربيته لا يشك في شيء من ذلك ...أنّ يزيد ينزع للإنتقام بطبيعته وفطرته ، وبنسبه وتربيته ، ولا يشبع نزعته هذه ، البيعة وغير البيعة ، لا يشبعها إلّا الدّم ، حتّى الدّم لم يشف غليل جدّته هند فلاكت كبد الحمزة ، واتّخذت من أطرافه قلادة تتزين بها لجدّه أبي سفيان(٢)

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) قتل حمزة والّتمثيل به :

حمزة بن عبد المطّلب يكنى أبا عمارة ، وأبا يعلى ، وهو أسد الله وأسد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّ النّبيّ قتله غلام يقال له وحشي مولى مطعم بن جبير ، وقد بعثه مولاه مع قريش وقال له : إن قتلت حمزة بعمّي طعيمة بن عديّ فأنت عتيق ، وجعلت هند بنت عتبة لوحشي جعلا على أن يقتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عليّا أو حمزة. فقال : أمّا محمّد فلا حيلة فيه ، لأنّ أصحابه يطوفون به. وأمّا عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذّئب. وأمّا حمزة فأطمع فيه ، لأنّه إذا غضب لا يبصر ما بين يديه ، فقتله وحشي ، وجاءت هند فأمرت بشقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، فجدعوا أنفه واذنيه. وهي الّتي اتخذت من آذان الرّجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد ، واعطت وحشي معاضدها وقلائدها جزاء قتله حمزة فلاكة كبده فلم تسفه فلفظته. (انظر ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١١ ، الدّرجات الرّفيعة : ٦٦ ـ ٦٩ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ٩٦ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، كشف اليقين لابن ـ

٣٣٨

__________________

ـ المطهّر الحلّي : ١٢٨).

وذكر أهل السّير والأخبار كابن جرير ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وصاحب العقد الفريد وغيرهم ما قد أخرجه أحمد بن حنبل : ٢ / ٤٠ عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من أحد جعلت نساء قريش يبكين على من قتل من أزواجهن. قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولكن حمزة لا بواكي له ، قال : ثمّ نام فانتبه وهنّ يبكين ، قال فهنّ اليوم إذا يبكين يندبن حمزة.

وفي ترجمة حمزة من الإستيعاب نقلا عن الواقدي بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميّت ـ بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن حمزة لا بواكي له ـ إلى اليوم إلّا بدأنّ بالبكاء على حمزة. (انظر للمزيد اسد الغابة ، والطّبقات الكبرى : ٢ / ٤٤ ، و : ٣ / ١١ و ١٧ ـ ١٩ ، ذخائر العقبى : ١٨٣ ، والسّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ١٠٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٤٢ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١٣ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠.

كان حمزة ، يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد ، لكن غدر وحشي وحقد هند هما اللّذان مكنّا حربة وحشي فأصابته في أربيته ، وانشغال المسلمون بهزيمتهم هي الّتي مكّنت هند من شقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، ولذا قال الشّاعر كما في كشف الغمّة : ١ / ٢٥٨.

ولا عار للأشراف إن ظفرت بها

كلاب الأعادي من فصيح وأعجم

فحربة وحشي سقت حمزة الرّدى

وحتف عليّ من حسام ابن ملجم

وحين رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو لا أن تحزن صفيّة أو تكون سنّة بعدي تركته حتّى يكون في أجواف السّباع وحواصل الطّير ، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثّلنّ بثلاثين رجلا منهم. كما ذكر ابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦١. وقال المسلمون : لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب ، فأنزل الله في ذلك :( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) النّحل : ١٢٦.

ولذا ورد في السّيرة الحلبية عن ابن مسعود : ٢ / ٢٤٦ قال : ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا أشدّ من بكائه على حمزة عليه‌السلام ووضعه في القبلة ، ثمّ وقف على جنازته وانتحب حتّى نشق ـ أي شهق ـ حتّى بلغ به الغش ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمّ رسول الله ، وأسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات ، يا حمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : جاءني جبريل عليه‌السلام وأخبرني بأنّ حمزة مكتوب في أهل السّماوات السّبع : حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله. وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزّبير أن يرجع أمّه صفيّة اخت حمزة ؛ عن رؤيته ، فقال لها : يا امّه ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

٣٣٩

__________________

ـ يأمرك أن ترجعي ، فدفعت في صدره وقالت : لم وقد بلغني أنّه مثّل بأخي ، وذلك في الله قليل فما أرضاني بما كان في الله من ذلك ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى ، فجاء الزّبير فأخبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ سبيلها ، فجاءت واسترجعت واستغفرت له.

وفي رواية : كفّن حمزة بنمرة كانوا إذا مدّوها على رأسه انكشفت رجلاه ، وإن مدّوها على رجليه انكشف رأسه ، فمدّوها على رأسه وجعلوا على رجليه الأذخر ، وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله به فدفن. ذكر ذلك صاحب السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٧ ، وابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦٢.

وذكر الواقدي أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج. قال : وجعلت فاطمة تبكي فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وروى ابن مسعود قال : ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا قطّ أشدّ من بكائه على حمزة بن أبي طالب لما قتل ـ إلى أن قال : ـ ووضعه في القبر ثمّ وقفصلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازته وانتحب حتّى نشغ من البكاء. ذكر ذلك صاحب الاستيعاب بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ الطّبعة الأولى ، والإمتاع للمقريزي : ١٥٤ ، والكامل في التّأريخ : ٢ / ١٧٠ ، ومجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠ ، والصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم : ٤ / ٣٠٧ و ٣١٠ ، وذخائر العقبى : ١٨٠ ، وسيرة ابن هشام : ٣ / ١٠٥ ، والسّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، وشرح النّهج : ١٥ / ٣٨٧ و ١٧.

ولسنا بصدد بيان جواز أو حرمة البكاء على الميت ولكن نترك للقارئ الكريم مجال التّفكير عند مراجعة المصادر التّالية على سبيل المثال لا الحصر منذ بكاء آدمعليه‌السلام على ابنه هابيل إلى اليوم لأنّ البكاء سنّة طبيعية.

انظر ، العرائس للثّعالبي : ٦٤ طبعة بمبي و ١٣٠ و ١٥٥ ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ١٢٣ ، و : ٢ / ٦٠ الطّبعة الثّانية طبعة بيروت ، فرائد السّمطين : ١ / ١٥٢ ح ١١٤ ، و : ٢ / ٣٤ ح ٢٧١ ، والمصنّف لابن أبي شيبة : ٦ و ١٢ ، كنز العمّال : ١٣ / ١١٢ الطّبعة الثّانية ، و : ١٥ / ١٤٦ ، و : ٦ / ٢٢٣ الطّبعة الأولى ، تأريخ دمشق : ٢ / ٢٢٩ ح ٣٦٧ و ٣٢٧ ح ٨٣١ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١١٨ و ١٧٩ و ١٨٩ الفضائل لأحمد بن حنبل : ح ٢٣١ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٣٩ ، و : ٤ / ٤٦٤ ، تأريخ بغداد : ١٢ / ٣٩٨ ، و : ٧ / ٢٧٩ ، المناقب للخوارزمي : ٢٦ ، ينابيع المودّة : ٥٣ و ١٣٥.

سنن البيهقيّ : ٤ / ٧٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٥١٨ ، ذخائر العقبى : ١١٩ و ١٤٧ و ١٤٨ ، دلائل النّبوّة للبيهقي في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تأريخ دمشق : ح ٦٢٢ و ٦١٢ ـ ٦١٤ و ٦٢٦ ـ ٦٣٠ ، المعجم ـ

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

لنبّية وللمؤمنين وعلينا أن نعرفها جميعا؟.

حقّا ، في كتب السّيرة أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اشتاق للولد ، كما أنّه أدرك لذعة الثّكل الّتي تعانيها زوّجته الأثيرة إليه رضي الله عنها. وكان زيد بن حارثة قد عرض للبيع رقيقا في مكّة ثمرة من ثمار حروب العرب المستمرة ، فطلب إلى السّيّدة خديجة أن تبتاعه ، فلمّا فعلت أعتقه وتبنّاه ، وأصبح يعرف بعد ذلك بأنّه زيد بن محمّد لقد أصبح زيد أخا بالتّبني لكلّ من زينب ، ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة رضي الله عنهنّ.

وكانت البعثة وقام الرّسول بالدّعوة قام يدعو قومه ثمّ يدعو قومه وكلّ العرب ثمّ يدعو قومه وكلّ النّاس وظهر من المشركين من يعّيره بأنّه «الأبتر» الّذي سينقطع ذكره بين النّاس لأنّه لا ولد له وهنا تظهر أوّل الأضواء على الحكمة الّتي نبحث عنها تظهر في قول الله ردا على المشرك وتأمينا للنبي :( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (١)

إنّ الإنقطاع إذن هو الكفر ولقد وهب الله نبّيه «الكوثر» أي وهبه كثرة الذّاكرين لسيرته ، والسّائرين بذكره والمصلّين عليه في صلاة كلّ يوم من

__________________

(١) الكوثر : ١ ـ ٣. وقد اتّفق المفسرون على أنّ العاص قال : أنّي لأشنأ محمّد الأبتر ، فأنزل الله فيه ، كان عمرو بن العاص من الّذين عادوا النّبيّ وآذوه ، وكاودا له وكذبوه : وقاتله مع جيوش الشّرك ، وهجاه بسبعين بيتا من الشّعر ، فقال رسول الله : «أللهمّ إنّي لا أقول الشّعر ، ولا ينبغي لي ، أللهمّ إلعنه بكلّ حرف ألف لعنة ، فكان عليه من الله ما لا يحصى من اللّعنات». انظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٦ / ٢٩١ ، شرح الحميدي : ٢ / ١٠١ ـ ١٠٤ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ لابن الدّمشقي : ٢ / ٢٢٣.

٤٤١

المؤمنين أبد الآبدين ودهر الدّاهرين(١) .

وهنا يظهر أيضا معنى تبني الرّسول الكريم لزيد بعد عتقه يظهر معنى البديل الّذي اتّخذه عن ولديه من ظهره لقد جاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعتق ويحرّر جميع المؤمنين بالإيمان ـ كما عتق زيدا ثمّ يكون بحقّه عليهم أبا كريما ، ورسولا رحيما ، واسرة حسنة ما قامت الدّعوة إلى الله والإسلام على أرض البشر.

وهنا تظهر حكمة الله للمرّة الثّالثة عند ما ولد إبراهيم بالمدينة ، وعند ما مات واشتدّ حزن الرّسول عليه وكان أسباطهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحبّ بناته إليه وأشدّهم حزنا عليه فاطمة الزّهراء ، هم أبناؤها من الإمام عليّ رضى الله عنه : الحسن ، والحسين ، ومحسن ، وزينب ، وأمّ كلثوم.

قال ابن إسحق في السّيرة : «كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يسمع شيئا يكرهه ، من ردّ عليه ، وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلّا فرّج الله عنه بخديجة رضي الله عنها ، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه ، وتصدّقه وتهون عليه أمر النّاس ، حتّى ماتت رضي الله عنها»(٢) .

على هذا السّمت من البر ، وتفريج الأحزان ، والتّثبيت والتّخفيف ، في الدّعوة إلى الله ، والجهاد في سبيل الله كانت بنات الرّسول صلوات الله وسلامه عليه ، وبنات السّيّدة خديجة رضي الله عنها وكان أسباطه وأسباطها منهنّ وكانت السّيّدة زينب رضي الله عنها

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٧ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٥٣٧ ، تحفة الأحوذي : ٩ / ٢٠٥ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٩٦ ، تفسير مجاهد : ٢ / ٧٩٠ ، زاد المسير : ٨ / ٣٢٠ ، تفسير الثّعالبي : ٥ / ٦٣٢ ، الكواكب النّيرات لابن كيال الشّافعي : ٧٣.

(٢) انظر ، سيرة ابن إسحق : ٦٩. (منهقدس‌سره ).

٤٤٢

وكان حظّ السّيّدة زينب أن تكون المكرسّة لمواساة أخيها الإمام الحسين ، وأن تمضي معه على طريق مأساته إلى آخرها ، تثبته وتخفف عنه ، وتبدي له الرّأي ، وتتبعه إلى ما يريد ، فلمّا كان استشهاده وقفت كالقصّاص العادل من قاتليه ، وممّن غرّروا به ثمّ تبعت رأسه الطّاهر إلى دمشق تدفع عن ذكره وتبين عن حقّه ، وتطلب حكم الله بينه وبين من أصابوه ، وبغوا عليه.

ولمّا أوت إلى المدينة لم تنثن عن ذكره حتّى ضجروا بها ، وضجرت بهم وطلبوا إليها أن تختار غير المدينة منزلا وجاءها نساء من بني هاشم وعلى رأسهنّ ابنة عمّها «زينب بنت عقيل» الّتي قالت لها مشفقة عليها : «يا ابنة عمّي قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء ، وسيجيزي الله الشّاكرين إرحلي إلى بلد آمن»(١) .

__________________

(١) انظر ، وفيّات الأئمّة : ٤٦٨.

٤٤٣
٤٤٤

خلافة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمن بات على فراشه

ليلة الهجرة

التزمت في «التّفسير الكاشف» بما يدل عليه ظاهر الآية من معنى مع التّركيز ، والوضوح ، والإيجاز ، وإزاحة كلّ شبهة يمكن أن تمر بالخاطر حول الآية ودلالتها هذا في غير الآيات الّتي نزلت في فضل أهل البيتعليهم‌السلام ، حيث تركت الحديث عنها لعلماء السّنّة والمفسرين منهم ، اتّقاء للتّهمة وسوء الظّن ، فوجدت في تفاسيرهم وما نقلوه من أحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ـ ما عند الشّيعة وزيادة حتّى إسلام أبي طالب الّذي قال عنه السّيّد قطب في «ظلاله» ما قال على عكس ما صرّح به صاحب روح البيان عند تفسير الآية (٥٤) من سورة يوسف :( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) . وقال : «لقد آسى أبو طالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذبّ عنه ما دام حيّا ، فالأصحّ أنّه من الّذين هداهم الله للإيمان كما سبق في المجلّد الأوّل».

وحذف المتعصبون الّذين في قلوبهم مرض الكثير ممّا يتّصل بفضائل أهل البيت الّتي كانت ثابتة في الطّبعة الأولى من كتب التّفسير والحديث عند السّنّة ، بخاصّة الأحاديث الصّريحة الواضحة الّتي لا تقبل التّأويل بحال كحديث : «هذا

٤٤٥

أخي ووصييّ وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له ، وأطيعوا»(١) ولكن السّيّد الفاضل مرتضى الحسيني الفيروز آبادي تتبع الطّبعات الأولى لكتب التّفسير والأحاديث عند السّنّة ، ونقل عنها كلّ ما يتّصل بأهل البيت ، وذكر رقم الجزء والصّفحة ، وتأريخ الطّبع في كتابه القيّم والوحيد في بابه الّذي أسماه «فضائل الخمسة من الصّحاح السّتة» في ثلاثة أجزاء تبلغ حوالي (١٣٠٠) صفحة.

و «في ظلال نهج البلاغة» سلكت نفس الطّريق الّتي التزمتها بالتّفسير الكاشف من الأخد بظاهر اللّفظ مع التّركيز والوضوح والإيجاز ، وفيما يعود إلى فضائل أهل البيت نقلت عن كبّار علماء السّنّة وادبائهم كالبخاري ، ومسلم ، وابن حنبل من القدامى ، وطه حسين ، وعبد الرّحمن الشّرقاوي ، وأحمد عبّاس صالح ، وعبد الكريم من الجدّد ومرّة ثانية اشير إلى أنّي وجدت في هذه الأقوال ما عند الشّيعة وزيادة حتّى القول : أنّ ما حدث لأهل البيت في كربلاء

__________________

(١) ذكر هذا الحديث محمّد حسين هيكل في كتاب «حياة محمّد» طبعة أولى ، ثمّ حذفه في الثّانية لقاء (٥٠٠) جنية ، ودليلنا المقابلة بين الطّبعتين. انظر ، التّعليق : ١٤٤ من «أعيان الشّيعة» ١ / قسم ١ طبعة عام (١٩٦٠ م). انظر ، مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٢٨١ ، الصّواعق لابن حجر : ٢٦ ، التّمهيد في أصول الدّين لأبي بكر الباقلاني : ١٧١ ، الرّياض النّضرة لمحبّ الدّين الطّبري : ٢ / ١٦٩ ، حياة عليّ ابن أبي طالب للشّنقيطي : ٢٨ ، الملل والنّحل المطبوع بهامش الفصل في الملل والأهواء والنّحل لابن حزم الظّاهري : ١ / ٢٢٠ ، المناقب للخوارزمي : ٩٤ ، التّفسير الكبير لفخر الدّين الرّازي : ٣ / ٦٣٦ النّهاية لابن الأثير : ٤ / ٢٤٦ ، كفاية الطّالب للحافظ الكنجي : ١٦ ، التّذكرة لابن الجوري : ١٨ ، فرائد السّمطين للجويني الباب الثّالث عشر ، مشكاة المصابيح : ٥٥٧.

وانظر ، البداية والنّهاية لابن كثير الشّافعي : ٥ / ٢٠٩ ، خطط المقريزي : ٢ / ٢٢٣ ، كنز العمّال : ٦ / ٣٩٧ ، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسّمهودي الشّافعي : ٢ / ١٧٣ ، المواهب اللّدنية لشهاب الدّين القسطلاني : ٢ / ١٣.

٤٤٦

وغيرها إنّما هو للثّأر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل بيته ، أمّا الزّيادة فاقرأها فيما يلي لعبد الكريم الخطيب ، وهو يتحدّث ويحلل مبيت الإمام في فراش النّبيّ ليلة الهجرة وإن دلّ هذا على شيء فإنّه يدل على أنّ الشّيعة والسّنّة ينهلون من نبع واحد ، «ما فرّق بينكم إلّا خبث السّرائر ، وسوء الضّمائر»(١) . كما قال الإمام عليّعليه‌السلام .

وقال في خطبة أخرى : «أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه. وكان يمضغ الشّيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره»(٢) . وكتب في شرح هذه الجملة فيما كتبت ، ونقلت عن أدباء السّنّة ما يلي :

رافق عليّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مراحله كلّها ، وسبق النّاس إلى الإيمان بدعوته ، والتّمسك بعروته ، ودافع عنه وعنها بنفسه لا يرجو إلّا رضا الله ومودّة الرّسول ، بل كان عليّ يبث الدّعوة لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة ، ويحدّث الغلمان من أترابه عن خلق محمّد وعظمته ، قال الأستاذ عبد الرّحمن الشّرقاوي في كتاب «محمّد رسول الحرّيّة» : «كان عليّ ، وهو في الثّامنة يحدّث الغلمان في مثل سنه ابن

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١١٣).

(٢) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١٩٢).

٤٤٧

عمّه ، ويقول : إنّ محمّدا ألغى في بيته كلمة العبيد والجواري ، وأحلّ مكانهما كلمة فتاي ، وفتاتي ، وهو يصبر على الخدم ، فما يقول لواحد منهم «اف» مهما يخطىء»(١) .

وكان عتاة قريش يغرون الصّبيان برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيصحب معه عليّا يذبهم عنه. ومن جهاده في المرحلة الأولى مبيته على فراش رسول الله ليلة الهجرة. وهنا أدع الحديث لغيري لمواضع التّهم فقد نشرت جريدة الأخبار المصرية ، كلمة بعنوان «مشاهدات فدائية في تأريخ الإسلام» جاء فيها :

«إنّ تأريخ الإسلام حافل بضروب باسلة من أمثلة الفدائية النّبيلة وأظهر من نعرف من فدائيي العصر النّبوّي عليّ بن أبي طالب ، ومواقفه الفدائية أكثر من أن تحصر ، لعل أوّلها في تأريخ الدّعوة مبيته ليلة الهجرة على فراش ابن عمّه متوقعا ما سيحيق به من الموت المباغت إذ أحاط به الأعداء من كلّ صوب ، فهانت عليه نفسه وراء ما ينشد من تفدية صاحب الدّعوة ، ومكث اللّيل الطّويل ينتظر ما بين لحظة وأخرى ، وقد برقت الأسنّة ، ولمعت السّيوف إنّ مخاطرات عليّ الفدائية تغلغلت في أعماقه حتّى غدت إحدى وسائل النّصر في بطولاته ، وحسبك أن تعلم إنّه في طليعة المتقدمين في ميدان المبارزة الحربية ، وإنّه بطل الإسلام»(٢) .

أمّا الكاتب الإسلامي المصري الاستاذ عبد الكريم الخطيب فقد استوحى من المبيت معنى دقيقا ما سبقه إليه عالم وباحث ، قال :

__________________

(١) انظر ، كتابه «محمّد رسول الحرّيّة» : ٦٥ ، الطّبعة الأولى. (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، تأريخ نشر المقال في الجريدة : ٨ ـ ١٢ ـ ١٩٦٧ م. (منهقدس‌سره ).

٤٤٨

«هذا الّذي كان من عليّ في ليلة الهجرة لم يكن أمرا عارضا ، بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها فلنا أن نسأل : أكان لإلباس الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شخصية لعليّ أكثر من جامعة القرابة القريبة بينهما؟. وهل لنا أن نستشف من ذلك ـ أي من أنّ الرّسول ألبس شخصيته لعليّ أنّه إذا غاب شخص الرّسول كان عليّ هو الشّخصية المهيأة لأنّ يخلفه ، ويمثل شخصيته ، ويقوم مقامه؟

وأحسب أننا لم نتعسف كثيرا حين نظرنا إلى عليّ ، وهو في برد الرّسول ، وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن ينام فيه ـ فقلنا : هذا خلف الرّسول والقائم مقامه»(١) .

وبحقّ قال الأستاذ الخطيب : إنّ شيعة عليّ لا يقيمون شاهدا من هذه الواقعة يشهد لعليّ أنّه أولى برسول الله على حين نراهم يتعلقون بكلّ شيء يرفع عليّا إلى تلك المنزلة أي الخلافة.

ولي أن أجيب عن الشّيعة : بأنّهم لا يستدلون بشيء على خلافة إمامهم إلّا بأقوال السّنّة ، وعلى هذا جرت عادتهم منذ القديم تجنبا لمواطن التّهم وما رأوا أحدا قبل الأستاذ الخطيب استدل بهذه الواقعة على أوّلية عليّ بالخلافة ، ولمّا أنطقه الله به أخذوه عنه ، كما فعلت أنا. ثمّ قال الخطيب الكريم :

«إنّ عليّا خدع قريشا بمبيته على فراش رسول الله ، ومكر بها عن محمّد حتّى أفلت من بين أيديها ، وسلم من القتل ، وقد صفعها عليّ بفعلته هذه صفعة مذلّة مهينة ، فأضمرت قريش لعليّ السّوء ، وأرهقته وتجنت عليه بعد أن دخلت الإسلام إنّ هذا الّذي كان من عليّ ليلة الهجرة في تحديه لقريش ، هذا التّحدي

__________________

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقية النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٠٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منهقدس‌سره ).

٤٤٩

السّافر ، وفي استخفافه بها ، إنّ ذلك لا تنساه قريش لعليّ أبدا ، ولو لا أنّها وجدت في قتل عليّ يومئذ إثارة فتنة تمزق وحدتها لشفت ما بصدرها منه ، ولكنّها تركته ، وانتظرت الأيّام لتسوي حسابها معه ولحقّ النّبيّ بالرّفيق الأعلى ، وترك عليّا وراءه بالأحداث ، ويكابد الشّدائد حتّى يلحق بالرّسول ألّا يبدو لنا من هذه الموافقات ما نستشف منه أنّ لعليّ شأنا في رسالة الرّسول ، ودورا في دعوة الإسلام ليس لأحد غيره من صحابة الرّسول».

وبعد ، فإنّ الأستاذ عبد الكريم الخطيب لا يمت إلى الشّيعة بأمّ ولا أب ، ولا بتربية وبيئة ، وإنّما نطق بوحي من ضميره ودراسته مجردا عن كلّ غاية ، فالتقى مع شيعة عليّ من حيث لا يريد ثمّ تنبّه للعواقب ، وخاف من تهمة التّشيع ، وثورة المتعصّبين من الشّيوخ ، فاتقاهم بقوله : «وبعد فهذه خطرات لا نحسبها على تلك القضيّة ، ولا نأخذ بها فيها». ولكن أسلوبك في التّعبير ـ أيّها الأستاذ الكريم ـ ينم عن شعور قلبك وإيمانه ، لا عن خطرات خيالك ووساوسه ، إنّ هذه الخطرات والوساوس تتجلى في اعتذارك بقولك «لا نأخذ بها فيها» إنّ هذا الأسلوب إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على الشّك والحيرة والارتباك. وعلى أيّة حال فأنت معذور لقوله تعالى :( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) (١) .

قدّمنا أنّ الدّعوة الإسلامية مرّت بثلاث مراحل أساسية :

الأولى : مجرد الإيمان والإعلان مع الثّبات والصّبر على الأذى.

والثّانية : ردع العدوان.

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٤٥٠

والثّالثة : الهجوم الرّادع ، وأشرنا إلى جهاد الإمام في المرحلة الأولى. ومن جهاده في المرحلة الثّانية بلاؤه يوم بدر ، وبعد أن تحدث عبد الكريم الخطيب عن هذا اليوم ، قال : «فأنت ترى كيف كان ابن أبي طالب سيفا بتّارا يضرب أئمة الكفر من قريش»(١) .

وقال عن يوم أحد : «كان لعليّ يوم أحد ما كان له يوم بدر من الإطاحة برؤوس أئمة الكفر من قريش ومن قتلى عليّ في هذا اليوم طلحة ابن أبي طلحة صاحب راية المشركين في تلك الواقعة ، فغير منكور إذن تلك اليد الضّاربة ، وهذا السّيف لعليّ في معركة الإسلام ، وأيضا غير منكور التّراث الّتي كانت للمشركين عند عليّ ، والّتي لم يخل منها بيت من بيوت قريش»(٢) .

وقال عن وقعة الأحزاب(٣) : «قال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حين برز عليّ لابن ودّ يوم

__________________

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقية النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٠٨ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٢٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منهقدس‌سره ).

(٣) غزوة الخندق وقعت في شوال سنة خمسة من الهجرة ، وتسمى بغزوة الأحزاب ، وتأتي بعد غزوة بني النّضير كما جاء في السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٠٩ ، أمّا ابن قتيبة في معارفه : ١٦١ أنّها وقعت سنة أربع ويوم بني المصطلق ، وبني لحيان سنة خمس. ولسنا بصدد بيان سببها تفصيلا بل نشير إلى ذلك إشارة وهي :

لمّا أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني النّضير من المدينة بسبب نقضهم العهد ، ساروا إلى خيبر. وخرج جماعة منهم عبد الله بن سلّام بن أبي الحقيق النّضري ، وحييّ بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق (الرّبيع) ، وهوذة بن قيس الوالبي ، وأبو عمارة الوالبي إلى مكّة قاصدين أبا سفيان لعلمهم بشدة عداوّته للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشوّقه إلى إراقة الدّماء والقتال لما ناله هو وزوّجته هند ـ أمّ معاوية ـ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ـ ،

٤٥١

الخندق : «الآن برز الإسلام كلّه للشّرك كلّه(١) وقال حذيفة بن اليمان : «لو

__________________

ـ وسألوه المعونه على قتالهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لهم : أنا لكم حيث تحبّون فاخرجوا إلى قريش وادعوهم إلى حربه واضمنوا لهم النّصرة حتّى تستأصلوه ، فطافوا على وجوه قريش ، ودعوهم إلى حربهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت قريش : أيدينا مع أيديكم ونحن معكم فتجهزّت قريش بقيادة أبي سفيان وتبعتها بعض القبائل ، واليهود وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين في بني فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، وبرّة بن طريف في بني أشجع.

فلمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باجتماع الأحزاب استشار أصحابه وأجمع رأيهم على البقاء في المدينة وحرب القوم إن جاؤوا إليهم ، وهنا أشار سلمان رضي الله عنه بحفر الخندق ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحفره وعمل فيه بنفسه ، وعمل فيه المسلمون لمدة أكثر من ستة أيّام وقطعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين ذراعا بين كلّ عشرة ، ولذا اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان كلّ يقول هو منّا ، فقطع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نزاع القوم وقال قوله المشهور : سلمان منّا ، سلمان من أهل البيت.

وفرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام.

وحاصرت قريش المدينة بضعا وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلّا الرّمي بالنّبل ، ولمّا رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله الوهن والضّعف في قلوب أكثر المسلمين بعث إلى عيينة ، والحارث يدعوهما إلى الصّلح ، والرّجوع عن حربه على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ، واستشار في ذلك أصحابه منهم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة وغيرهما. ولسنا بصدد بيان قول كلّ منهما. بل نقلنا ذلك بتصرّف من المصادر التّالية :

تأريخ دمشق لابن عساكر الشّافعي : ١ / ١٥٠ ، السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٠٩ ، كشف الغمّة : ١ / ٢٦٧ ، أعيان الشّيعة : ١ / ٢٩٢ و ٣٩٤ ، تأريخ الطّبري : ٢ / ٢٦٥ ، و : ٣ / ٢٣٤ ، و : ٥ / ٢٩ ـ ٣٣ ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٧٨ ، دائرة المعارف الإسلامية الشّيعية : ١ / ٢٦٢ «معركة الخندق» ، السّيرة لابن هشام : ٣ / ١٨٤ و ١٩٢ و ٢٢٥ و ٣٢٠ ـ ٣٢٢ ، مغازي الواقدي : ٢ / ٤٤١ و ٤٧٧ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ١ / ٩٤ ، كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام : ١٣١ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٥٠ ـ ٥١ ، إمتاع الأسماع للمقريزي : ٢٣٥ و ٢٣٦ ، تفسير البغوي المسمى بمعالم التّنزيل : ٣ / ٥٢٣ ، وانظر ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ٢ / ١٧ و ١٨.

(١) فقد روى المؤرّخون في مبارزة عليّعليه‌السلام يوم الخندق ، وأنّها أفضل من أعمال الأمّة إلى يوم القيامة بألفاظ مختلفة تؤدّي إلى نفس المعنى. فقد روى صاحب المستدرك عن سفيان الثّوري أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال ذلك لعليّعليه‌السلام يوم الخندق. ورواه الخطيب البغدادي في تأريخه : ١٣ / ١٩ عزن إسحاق بن بشر ـ

٤٥٢

__________________

ـ القرشيّ. وذكره الفخر الرّازي في تفسيره الكبير : ٣٢ / ٣١ ، وفي ذيل تفسير سورة القدر ورد بلفظ : لمبارزة عليّعليه‌السلام مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمّتي إلى يوم القيامة. وذكر ابن أبي الحديد في شرح النّهج أيضا : ١٩ / ٦١ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال حين برز عليّعليه‌السلام لعمرو بن عبدودّ : برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه. وقال الإيجي في شرح المواقف : ٦١٧ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين. وفي السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٢٠ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قتل عليّ لعمرو بن عبدودّ أفضل من عبادة الثّقلين.

وقال الفخر الرّازي في نهاية العقول في دراية الأصول : ١١٤ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ، تأريخ دمشق ترجمة الإمام عليّ عليه‌السلام : ١ / ١٥٥ ، فرائد السّمطين : ١ / ٢٥٥ ح ١٩٧ ، وهامش تأريخ دمشق : ١٥٥ ، وشواهد التّنزيل : ٢ / ١٤ ح ٦٣٦ ، المناقب للخوارزمي : ١٦٩ ح ٢٠٢ و ٥٨ الفصل ٩ ، كتاب المواقف : ٣ / ٢٧٦ ، هداية المرتاب : ١٤٨ ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٨ الطّبعة الأولى ، شرح المختار قال ابن أبي الحديد في (٢٣٠) فى باب قصار كلام أمير المؤمنين من نهج البلاغة : ٥ / ٥١٣ بإضافة : تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلّها ، وفي الدّر المنثور : ٥ / ١٩٢.

وها هوعليه‌السلام يقول : نشدتكم الله ، أفيكم أحد يوم عبر عمرو بن عبد ودّ الخندق وكاع عنه جميع النّاس فقتله غيري؟ قالوا : أللهمّ لا. (انظر تأريخ بغداد : ١٣ / ١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٤٥ ، تلخيص المستدرك : ٣ / ٣٢). ويوم الخندق لمّا سكت كلّ منهم ولم يجب طلب عمرو بن عبدودّ العامري. وكادت تكون هزيمة نكراء لو لم ينهض بها عليّ بن أبي طالب ، وبهذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه.

وبهذا وذاك تذهب أدراج الرّياح إيرادات ، وإشكالات ، وتبريرات ابن تيمية حين قال كما ورد في السّيرة الحلبية ومعها هامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٢٠ : إنّها أي ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ـ من الأحاديث الموضوعة الّتي لم ترد في شيء من الكتب الّتي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف ، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثّقلين الإنس والجنّ ومنهم الأنبياء؟! ثمّ قال : بل إنّ عمرو بن عبدودّ هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة.

والجواب نحن لسنا بصدد هذا الكلام ومناقشته بل نورد ما قاله العلّامة برهان الدّين الحلبي الشّافعي في نفس كتابه السّيرة الحلبية وفي نفس الجزء والصّفحة : إنّ عمرو بن عبد ودّ هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة ، قول ليس له أصل ، وكان عمرو بن عبدودّ قد قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة فلم ـ

٤٥٣

قسمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لوسعتهم»(١) . وقال ابن عبّاس في قوله تعالى :( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) (٢) بعليّ. والحقّ أنّ مكان عليّ في معارك الإسلام أكبر من أن تخفى وراء التّعصّب في مواقف الخصومة والملاحاة ، ولو أنّ بطولة عليّ كانت موضع شكّ لما سار الحديث عنها مسير المثل ، فكان ممّا قيل : «لا فتى إلّا علي ، ولا سيف إلّا ذو الفقار»(٣) . إنّ عليّا أكثر المسلمين شدّة على مشركي قريش ، وإفجاعا لهم في

__________________

ـ يشهد يوم أحد ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلّما وأنّه نذر لا يمسّ رأسه دهنا حتّى يقتل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله «كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثّقلين» فيه نظر لأنّ قتل هذا كان فيه نصرة للدّين وخذلان الكافرين وقال الشّيخ المظفر في دلائل الصّدق : ٢ / ٤٠٢ : لمبارزة عليّ لعمرو أفضل من فكان هو السّبب في بقاء الإيمان واستمراره وهو السّبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدّين ، لكن هذا ببركة النّبيّ الحميد ودعوته وجهاده في الدّين وانظر أيضا المعيار والموازنة : ٩١ ، حياة الحيوان الكبرى للدّميري : ١ / ٢٣٨ طبعة مصر عام (١٣٠٦ ه‍) ، المطبعة المشرفيّة ، عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة : ١٤٥ طبع مصر عام (١٣٨٦ ه‍) ، مطبعة السّنّة المحمّديّة ، الإمام عليّ أسد الله ورسوله : ٢٨ ، الإمام عليّ رجل الإسلام المخلّد لعبد المجيد لطفي : ٧٥ ، خاتم النّبيين لمحمّد أبو زهره : ٢ / ٩٣٨.

(١) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٤ ، شرح إحقاق الحقّ : ٢٠ / ٦٢٦.

(٢) الأحزاب : ٢٥.

انظر ، تفسير القرطبي : ١ / ٨٤ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٣٢٤ ، تفسير الدّر المنثور للسّيوطي : ٥ / ١٩٢. وكان ابن مسعود يقرأ : وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ ، وكان الله قوّيا عزيزا. وفي ميزان الإعتدال : ٢ / ١٧ مثله. وفي شواهد التّنزيل : ٢ / ٧ ح ٦٢٩ ـ ٦٣٢ ، النّور المشعل : ١٧١ الطّبعة الأولى ، ابن عساكر في تأريخ دمشق : ٢ / ٤٢٠ الطّبعة الثّانية ح ٩٢٧ ، كفاية الطّالب : ٢٣٤ باب ٦٢ ، وانظر أيضا تهذيب التّهذيب : ٦ / ٣٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٤ ، خصائص الوحي : ٢١٩ ، تفسير الميزان : ١٦ / ٣١٤ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ١٣٤ ، الدّلائل للشّيخ المظفر : ٢ / ١٧٤ طبعة بصيرتي / قم ، ينابيع المودّة : ٩٤ طبعة بصيرتي / قم ، نور الأبصار : ٩٧.

(٣) الرّواية المشهورة هي أنّ جبرائيلعليه‌السلام هو الّذي كان ينادي : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ.

٤٥٤

الأبناء ، والآباء ، والأعمام ، والأخوال ، وهذه الاحن على عليّ ، وتلك التّرات في نفوس قريش المشركة ظّلت حيّة بعد أن دخلت في الإسلام وبعد موت النّبيّ تناولت قريش بسيوفها شيب بني هاشم ، وشبابها ، وصبيانها ، وشرّدت عقائلها ، وحرائرها ، وكأنّما تثأر بهذا لقتلاها في بدر وأحد ، وحسبنا أن نذكر هنا مصرع الحسين وآل بيته في كربلاء ، وما تلا ذلك من وقائع»(١) .

محمّد جواد مغنيّة

__________________

ـ وقيل : إنّ رضوانعليه‌السلام هو المنادي ، وهما ملكان كريمان كما ورد في كنز العمّال : ٣ / ١٥٤ بعد أن ساق حديث الإمام عليّعليه‌السلام يوم بيعة عثمان فقالعليه‌السلام : اناشدكم الله أنّ جبرائيل نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علىّ ، فهل تعلمون هذا كان لغيري؟ وورد في ذخائر العقبى : ٧٤ أيضا عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال : نادى ملك من السّماء يوم بدر يقال له رضوان ، أن : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. وورد في الرّياض النّضرة : ٢ / ١٩٠ ، والمناقب لابن المغازلي : ١٩٧ ـ ١٩٩ ح ٢٣٤ و ٢٣٥.

وانظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٢٨ ، و : ٧ / ٢١٩ ، و : ١٠ / ١٨٢ ، و : ١٤ / ٢٥١ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ١٩٧ و ٥١٤ ، فرائد السّمطين : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٨ ح ١٩٨ و ١٩٩ ، تأريخ دمشق : ١ / ١٤٨ ح ٢١٥ و ١٦٧ ، المناقب للخوارزمي : ١٦٧ و ٢١٣ طبعة الحيدريّة ح ٢٠٠ ، كفاية الطّالب : ٢٧٧ ، ابن هشام في السّيرة : ٣ / ٥٢ و ١٠٦ ، سنن البيهقيّ : ٣ / ٢٧٦ ، المستدرك : ٢ / ٣٨٥ ، الرّياض النّضرة : ٣ / ١٥٥ ، ميزان الإعتدال : ٢ / ٣١٢ و ٣١٧ ، و : ٣ / ٣٢٤ طبعة بيروت ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٠٧ ، تذكرة الخواصّ : ٢٦ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١١٤ و ١٢٥ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ١٩٧ طبعة آخر ، ربيع الأبرار : ١ / ٨٣٣ ، معارج النّبوّة : الرّكن الرّابع : ١٠٧ و ١٦٨ طبعة لكنهو ، الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني : ١٥ / ١٩٢ ، نظم درر السّمطين للزّرندي : ١٢١.

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٣٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منهقدس‌سره ).

٤٥٥
٤٥٦

الشّعب المصري وآل البيت(١)

لماذا نحتفل بمولد الحسين. وتزخر القاهرة العامرة بالوافدين إلى مسجده لإحياء ذكراه في هذه الأيّام من كلّ عام ...؟.

إنّ الإحتفال بمولده ، أنّ بمولد جدّهعليه‌السلام أو بمولد ولّي من أولياء الله الصّالحين لم يرد به أمر في كتاب أو سنّة ، ولكن طبيعة هذا الشّعب الطّيب المؤمن المتدين تهّتز إعجابا ببطولة الأبطال ، وحبّا لأهل البيت وتعبّر عن إعجابها لهذه الإحتفالات الّتي تقيمها في كلّ مناسبة طيّبة.

وقد كان الحسين رضى الله عنه مثلا فريدا في شجاعة القلب ، وشرف الكلمة وإباء الضّمير ، وكانت مكانته في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة الابن من قلب أبيه. ثمّ هو ابن فاطمة بنته ، وعليّ ابن عمّه ، وهو من الّذين ضمّهم النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت كسائه وقال : «أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا»(٢) .

ولا شكّ أنّ مكانة أهل بيته في قلوب المؤمنين بالمثابة الّتي يشف عنها قول الله :( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) (٣) ، وقول

__________________

(١) انظر ، جريدة الأخبار المصريّة : (٢٥ / ٥ / ١٩٧٢ م). (منهقدس‌سره ).

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) الأحزاب : ٦.

٤٥٧

النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «والّذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأبويه ، وأهله وولده ، والنّاس أجمعين»(١) .

وقد قال تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (٢) . وقد كان الحسين ـ وهو من ذرّيّته شبيها به في ملامحه وصفاته وسماته ، وكان موقفه من الّذين أحدقوا به وأطبقوا عليه ، شبيها بموقف جدّهعليه‌السلام وهو يواجه الّذين تحزبوا ضدّه وتألبوا عليه بقوله لعمّه : «لو وضعت الشّمس في يميني ، والقمر في شمالي ما تركت قول : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله أبدا ، حتّى أنفذه أو اقتل دونه»(٣) .

وقد بذل في سبيل كلمة الحقّ والشّرف دمه الزّكي ، وبقي اسمه خالدا ماجدا في سجل المجد والخلود رضي الله عنه ، وأرضاه.

عبد الرّحيم فودة

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) الطّور : ٢١.

(٣) انظر ، دلائل النّبوّة ، الإصبهاني : ١ / ١٩٧ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٢ / ١٠١ ، تأريخ الطّبري : ١ / ٥٤٥.

٤٥٨

حقّ الجماعة يغلب حقّ النّفس!(١)

ذهب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم إلى بيت ابنته فاطمة ليزورها وعند باب البيت وعندما أوشك أن يدخل تراجع وعدل عن زيارتها. وتضطرب فاطمة وتسرع إلى زوّجها عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه تطلب إليه أن يلحق بالرّسول ليسأله عن سبب عدوله عن زيارتها.

ويسير عليّ إلى الرّسول يسأله فيجيبهعليه‌السلام : «إنّي رأيت على بابها سترا موشيّا!!.

ويعود عليّ إلى زوّجته ليخبرها الخبر فتقول : ليأمرني فيه بما يشاء ، وأمر النّبيّعليه‌السلام ـ بما معناه ـ أن تعطيه إلى أهل يحتاجون إليه(٢) .

ويريد النّبيّ زيارتها مرّة أخرى ، ولكنّه يعود دون أن يدخل بيتها ، وتبعث إليه بمن يسأله عن السّبب فيقولعليه‌السلام : «إنّي وجدت في يديها سوارين من ذهب!!.

__________________

(١) انظر ، جريدة الأخبار المصريّة : (١٦ / ٢ / ١٩٦٨ م). (منهقدس‌سره ).

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٩٢٢ ح ٢٤٧١ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٧٨ ح ٤١٤٩ و : ٤ / ٧٢ ح ٤١٥٠ ، فتح الباري : ٥ / ٢٢٩ ، عون المعبود : ١١ / ١٣٨ ، شعب الإيمان : ٧ / ٣١٢ ح ١٠٤١٦ ، سبل الهدى والرّشاد : ٩ / ٥٥.

٤٥٩

ولمّا بلغها ذلك أرسلتهما إليه فباعهما ـعليه‌السلام ـ بدرهمين ونصف درهم تصدّق بهذا المبلغ على الفقراء(١) .

ويعلق الكاتب الرّاحل مصطفى صادق الرّافعي على ذلك فيقول :

يا بنت النّبيّ العظيم :

وأنت أيضا لا يرضى لك أبوك حلية بدرهمين ونصف درهم وفي المسلمين فقراء لا يملكون مثلها؟.

أي رجل شعبي على الأرض كمحمّدعليه‌السلام فيه للأمّة كلّها غريزة الأب ، وفيه ـ على كلّ أحواله ـ اليقين الّذي لا يتحول ، وفيه الطّبيعة التّامّة الّتي يكون بها الحقّيقي هو الحقّيقي.

يا بنت النّبيّ العظيم :

أنّ زينة بدرهمين ونصف درهم لا تكون زينة ـ في رأي الحقّ ـ إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف درهم!!.

أنّ فيها حينئذ معنى غير معناها :

فيها حقّ النّفس غالبا على حقّ الجماعة وفيها الإيمان بالمنفعة حاكما على الإيمان بالخير وفيها ما ليس بضروري قد جاء على ما هو الضّروري وفيها خطأ من الكمال إن صحّ في حساب الحلال والحرام ، لم يصحّ في حساب الثّواب والرّحمة.

__________________

(١) انظر ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥١٢ ح ٦ ، بحار الأنوار : ٨٥ / ٩٤ ح ٦٢.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528