لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام20%

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام مؤلف:
المحقق: السيد حسن الأمين
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 198

  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18180 / تحميل: 4442
الحجم الحجم الحجم
لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يكفي جماعة فيشربه ويضطجع هنيئة ثم يقول : اسقوني قتلني الظمأ ، فما زال كذلك حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير. ذكر ذلك الطبري وابو الفرج بن عبد الرحمن الجوزي وابن الأثير في الكامل بتفاوت يسير وغيرهم.

ثم ان الحسينعليه‌السلام رجع الى مكانه وقد اشتد به العطش وأحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عنه ، فجعل العباسعليه‌السلام يقاتلهم وحده حتى قتل ، وكان المتولي لقتله زيد بن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي بعد ان اثخن بالجراح فلم يستطع حراكا ، فبكى الحسينعليه‌السلام لقتله بكاء شديدا.

ثم ان الحسينعليه‌السلام دعا الناس الى البراز فلم يزل يقتل كل من برز اليه حتى قتل مقتلة عظيمة ، ثم حمل على الميمنة وهو يقول :

القتل اولى من ركوب العار

والعار اولى من دخول النار

والله ما هذا وهذا جاري

ثم حمل على الميسرة وهو يقول :

انا الحسين بن علي

آليت ان لا انثني

أحمي عيالات ابي

أمضي على دين النبي

ولما بقي الحسينعليه‌السلام في ثلاثة او أربعة من أصحابه ، وفي رواية ثلاثة رهط من أهله قال : ابغوني ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا اجرد منه بعد قتلي فاني مقتول مسلوب ، فأتي بتبان قال : لا ذاك لباس من ضربت عليه الذلة ولا ينبغي لي ان ألبسه ، وفي رواية انه قال : هذا لباس اهل الذمة ، فأخذ ثوبا خلقا فخرقه وجعله تحت ثيابه ، وفي رواية انه اتي بشيء اوسع منه دون السراويل وفوق التبان فلبسه ، فلما قتل جردوه منه.

١٤١

ثم استدعى بسراويل من حبرة يمانية يلمع فيها البصر ففزرها ولبسها وانما فزرها لئلا يسلبها بعد قتله ، فلما قتلعليه‌السلام سلبها منه بحر (ابجر خ ل) ابن كعب وتركه مجردا ، فكانت يدا بحر بعد ذلك تيبسان في الصيف كأنهما عودان وترطبان في الشتاء فتنضحان دما وقيحا الى ان أهلكه الله تعالى.

وأقبل الحسينعليه‌السلام على القوم يدفعهم عن نفسه والثلاثة الذين معه يحمونه حتى قتل الثلاثة وبقي وحده وقد أثخن بالجراح في رأسه وبدنه فجعل يضاربهم بسيفه ، وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا.

قال بعض الرواة : فو الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه اربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه ، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله ، وان كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى اذا شد فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكملوا ثلاثين ألفا فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع الى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة الا بالله.

فلما رأى شمر ذلك استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة ، وأمر الرماة ان يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ فاحجم عنهم فوقفوا بازائه ، وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه وبين رحله الذي فيه ثقله وعياله ، فصاح الحسينعليه‌السلام ويلكم يا شيعة آل ابي سفيان ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا احرار في دنياكم هذه وارجعوا الى احسابكم ان كنتم عربا كما تزعمون ، فناداه شمر ما تقول يا ابن فاطمة ، فقال : أقول اني أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا ، فقال شمر : لك ذلك يا ابن فاطمة ، ثم صاح اليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري هو

١٤٢

كفوء كريم فقصدوه بالحرب ، وجعل شمر يحرضهم على الحسينعليه‌السلام فجعلوا يحملون على الحسينعليه‌السلام والحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، وكلما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى اجلوه عنه.

ولما أثخن بالجراح وبقي كالقنفذ طعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة فسقطعليه‌السلام عن فرسه الى الأرض على خده الأيمن ثم قام ، وخرجت أخته زينب الى باب الفسطاط وهي تنادي وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل وقد دنا عمر بن سعد ، فقالت : يا عمر أيقتل ابو عبد الله وأنت تنظر اليه ، فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها ولم يجبها بشيء ، فنادت ويلكم اما فيكم مسلم فلم يجبها أحد بشيء.

وقاتلعليه‌السلام راجلا قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول : أعلى قتلي تجتمعون اما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني ، وايم الله اني لأرجو ان يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، اما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.

وكان على الحسينعليه‌السلام جبة من خز وكان معتما مخضوبا بالوسمة ، ولم يزل يقاتل حتى اصابه اثنان وسبعون جراحة ، فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال ، فبينا هو واقف اذ أتاه حجر فوقع على جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته ، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه ، فقالعليه‌السلام : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم رفع رأسه الى السماء وقال : الهي تعلم انهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت

١٤٣

نبي غيره ، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كأنه ميزاب فضعف ووقف.

ولما رجع الحسينعليه‌السلام من المسناة الى فسطاطه بعد قتل أخيه العباس أقبل الشمر في جماعة من أصحابه فأحاطوا به ، فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسينعليه‌السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف وكان على رأسه برنس وقيل قلنسوة ، فقطع البرنس ووصل السيف الى رأسه فامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسينعليه‌السلام : لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظالمين ، ثم ألقى البرنس أو القلنسوة ودعا بخرقة فشد بها رأسه واستدعى بقلنسوة أخرى فلبسها واعتمّ عليها وأخذ الكندي البرنس وكان من خز ، فلما قدم على أهله أخذ يغسل عنه الدم ، فقالت له امرأته : أسلب ابن رسول الله تدخل بيتي اخرجه عني ، فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشر طول عمره وهذا أخذه المختار وقطع يديه ورجليه وتركه يضطرب حتى مات.

ورجع شمر ومن معه عن الحسينعليه‌السلام الى مواضعهم ، فمكثوا هنيئة ثم عادوا اليه ، فأخذ الحسينعليه‌السلام يشد عليهم فينكشفون عنه ، ثم انهم أحاطوا به ، فخرج عبد الله بن الحسن بن عليعليهما‌السلام وهو غلام لم يراهق من عند النساء ، فلحقته زينب بنت عليعليهما‌السلام لتحبسه ، فقال لها الحسينعليه‌السلام : احبسيه يا أختي فأبى وامتنع عليها امتناعا شديدا ، وجاء يشتد الى عمه الحسين حتى وقف الى جنبه وقال : لا أفارق عمي ، فاهوى بحر (ابجر خ ل) بن كعب الى الحسينعليه‌السلام بالسيف ، فقال له الغلام :ويلك يا ابن الخبيثة اتقتل عمي ، فضربه بحر (ابجر خ ل) بالسيف فاتقاها الغلام بيده فاطنها الى الجلد فاذا هي معلقة ، فنادى الغلام يا عماه او يا أماه ، فأخذه الحسينعليه‌السلام فضمه الى صدره وقال: يا ابن اخي اصبر على ما نزل

١٤٤

بك واحتسب في ذلك الخير فان الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلى الله عليهم أجمعين ، فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه ، فرفع الحسينعليه‌السلام يديه وقال :اللهم امسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض اللهم ، فان متعتهم الى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض الولاة منهم ابدا فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا ، ثم ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه وكان قد ضعف عن القتال ، وتحاماه الناس فمكث طويلا من النهار ، وكلما جاءه أحد انصرف عنه كراهية ان يلقى الله بدمه.

قال هلال بن نافع : اني لواقف مع أصحاب عمر بن سعد اذ صرخ صارخ ابشر ايها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين ، فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وانه ليجود بنفسه ، فو الله ما رأيت قتيلا مضمخا بدمه احسن منه ولا أنور وجها ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله ، فاستسقى في تلك الحال ماء فسمعت رجلا يقول : والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها ، فسمعته يقول : انا ارد الحامية فأشرب من حميمها لا والله بل أرد على جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشرب من ماء غير آسن وأشكو اليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي ، فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا.

وصاح شمر بالفرسان والرجالة ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم ، فحملوا عليه من كل جانب ، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى وضرب الحسينعليه‌السلام زرعة فصرعه ، وضربه آخر على عاتقه المقدس بالسيف ضربة كبا بها لوجهه وكان قد اعيا وجعل يقوم ويكبو ،

١٤٥

وطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني(١) صدره ورماه بسهم فوقع في نحره ، فسقط وجلس قاعدا ، فنزع السهم من نحره وقرن كفيه جميعا فكلما امتلأتا من دمائه خضب بها رأسه ولحيته وهو يقول : هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا عليّ حقي. وقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه : أنزل ويحك الى الحسين فأرحه وقيل بل قال سنان لخولى بن يزيد احتز رأسه ، فبدر خولي ليحتز رأسه فضعف وارعد ، فقال له سنان وقيل شمر : فت الله في عضدك مالك ترعد ، ونزل سنان وقيل شمر اليه فذبحه ، ثم احتز رأسه الشريف وهو يقول : والله اني لأحتز رأسك واعلم انك السيد المقدم وابن رسول الله وخير الناس ابا واما ثم دفع الرأس الشريف الى خولي فقال : احمله الى الأمير عمر بن سعد ، وفي ذلك يقول الشاعر :

فأيّ رزية عدلت حسينا

غداة تبيره كفا سنان

وكان سن الحسينعليه‌السلام يوم قتل سبعا وخمسين سنة ، او ستا وخمسين سنة وخمسة أشهر وسبعة أيام او خمسة ايام او تسعة أشهر وعشرة ايام ، او ثمانية أشهر وسبعة أيام او خمسة ايام على اختلاف الروايات والأقوال المتقدمة في مولدهعليه‌السلام ، وقيل ثمان وخمسون سنة ، وقيل خمس وخمسون سنة وستة أشهر.

__________________

(١) البواني : اضلاع الزور كذا في القاموس (منه).

١٤٦

المقصد الثالث

في الأمور المتأخرة عن قتلهعليه‌السلام

واقبل القوم على سلب الحسينعليه‌السلام ، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره ، ووجد في قميصهعليه‌السلام مائة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة ، وقيل وجد في ثيابه مائة وعشرون رمية بسهم ، وفي جسده الشريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف.

وعن الصادقعليه‌السلام انه وجد بالحسينعليه‌السلام ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة(١) . وعن الباقرعليه‌السلام انه وجد به ثلاثمائة وبضعة وعشرون جراحة وفي رواية ثلاثمائة وستون جراحة ، وأخذ سراويله بحر (ايچر خ ل) بن كعب التميمي فصار زمنا مقعدا من رجليه ، وأخذ ثوبه أخ لإسحاق بن حوية ولبسه فتغير وجهه وحص شعره وبرص بدنه ، وأخذ قطيفة له كانت من خز قيس بن الأشعث بن قيس ، وأخذ عمامته الأخنس بن مرثد وقيل جابر بن يزيد فاعتم بها فصار معتوها ، وأخذ برنسه مالك بن النسر كما مر وأخذ نعليه الأسود بن خالد ، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد فلما قتل

__________________

(١) لا يخفى ان هذه الرواية لا تنافي ما سبق وما يأتي من الأقوال والروايات ، لأنه لم يعين فيها قدر الرميات بل هي من المؤيدات (منه).

١٤٧

عمر اعطاها المختار لقاتله ، وأخذ سيفه الفلافس النهشلي من بني دارم ، وقيل جميع بن الخلق الأودي ، وقيل الأسود بن حنظلة التميمي ، وأخذ القوس والحلل الرجيل بن خيثمة الجعفي ، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي وقطع أصبعه مع الخاتم ، وهذا أخذه المختار فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحط في دمه حتى هلك ، ومال الناس على الفرش (الورس خ ل) والحلل والإبل فانتهبوها وانتهبوا رحله وثقله وسلبوا نساءه ، ونحرت الإبل التي كانت مع الحسينعليه‌السلام فلم يؤكل لحمها لأنه كان أمرّ من الصبر ، وروي انه لما جعل اللحم في القدر صار نارا.

وكان مع الحسينعليه‌السلام ورس وطيب فاقتسموه فلما صاروا الى بيوتهم صار دما. وعن مشائخ من طيء انهم قالوا : وجد شمر بن ذي الجوشن في رحل الحسينعليه‌السلام ذهبا فدفع بعضه الى ابنته فدفعته الى صائغ يصوغ منه حليا فلما ادخله النار صار نحاسا وقيل نارا ، وما تطيبت امرأة من ذلك الطيب الا برصت. قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجهافي أصحاب عمر بن سعد ، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسينعليه‌السلام في فسطاطهن وهم يسلبونهن أخذت سيفا واقبلت نحو الفسطاط وقالت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله لا حكم الا لله يا لثارات رسول الله ، فأخذها زوجها وردها الى رحله.

وانتهوا الى علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض وكان مريضا بالذرب أي الإسهال وقد أشرف على الموت ومع شمر جماعة من الرجالة ، فقالوا له : الا نقتل هذا العليل ، فأراد شمر قتله فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله أتقتل الصبيان إنما هو صبي وانه لما به فلم يزل يدفعهم عنه حتى جاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء ولا تتعرضوا

١٤٨

لهذا الغلام المريض ومن أخذ من متاعهن شيئا فليرده فلم يرد أحد شيئا.وفي رواية انهم اشعلوا النار في الفسطاط فخرجن منه النساء باكيات مسلبات.

ونادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطىء الخيل ظهره وصدره ، فانتدب منهم عشرة وهم إسحاق بن حوية (حيوة خ ل) الذي سلب قميص الحسينعليه‌السلام ، والأخنس بن مرثد الذي سلب عمامة الحسينعليه‌السلام ، وحكيم بن الطفيل الذي اشترك في قتل العباسعليه‌السلام ، وعمرو بن صبيح الصيداوي الذي رمى عبد الله بن مسلم بسهم فسمر يده في جبهته ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي ، وواحظ بن غانم ، وهاني بن ثبيت الحضرمي الذي قتل جماعة من الطالبيين كما مر ، وأسيد بن مالك فداسوا الحسينعليه‌السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا ظهره وصدره ، وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد فقال أسيد بن مالك أحدهم :

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر

بكل يعبوب شديد الأسر

فقال ابن زياد : من أنتم؟ فقالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسينعليه‌السلام حتى طحنا جناجن صدره ، فأمر لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمرو الزاهد : فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زنا ، وهؤلاء اخذهم المختار فشد أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا ، وفي خبر ان أحدهم وهو الأخنس كان واقفا بعد ذلك في قتال فجاء سهم لم يعرف راميه ففلق قلبه فهلك ، وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك وهو يوم عاشوراء برأس الحسينعليه‌السلام مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي الى عبيد الله بن زياد.

١٤٩

قال الطبري وابن الأثير : فوجد القصر مغلقا فأتى بالرأس الى منزله فوضعه تحت أجانه ودخل فراشه ، وقال لامرأته النوار : جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسينعليه‌السلام معك في الدار ، فقالت : ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجمع رأسي لا يجمع رأسي ورأسك بيت ، وقامت من الفراش فخرجت الى الدار ، قالت : فما زلت انظر الى نور يسطع مثل العمود من السماء الى الاجانة ورأيت طيرا أبيض يرفرف حولها وذكر ابن نما نحوا من ذلك ، وخولى هذا قتله أصحاب المختار واحرقوه وكان مختفيا في مخرجه ، فدلت عليه امرأته العيوف بنت مالك وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسينعليه‌السلام ، فلما سألوها عنه قالت : لا أدري وأشارت بيدها الى المخرج.

وأمر ابن سعد برؤوس الباقين من أصحاب الحسينعليه‌السلام وأهل بيته فقطعت (فنظفت خ ل) وكانت اثنين وسبعين رأسا وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث بن قيس وعمرو بن الحجاج ، فاقبلوا حتى قدموا بها على ابن زياد وروي ان الرؤوس كانت سبعين رأسا وروي ثمانية وسبعين رأسا ، فاقتسمتها القبائل لتتقرب بها الى ابن زياد والى يزيد لعنهما الله تعالى ، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث ، وجاءت هوازن باثني عشر رأسا ، وقيل بعشرين وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا ، وجاءت بنو أسد بستة عشر رأسا. وقيل بستة أرؤس ، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس ، وجاء سائر الناس بثلاثة عشر رأسا وقيل بسبعة.

ثم ان ابن سعد صلى على القتلى من أصحابه ودفنهم وترك الحسينعليه‌السلام وأصحابه بغير دفن ، وأقام بقية اليوم العاشر واليوم الثاني الى زوال الشمس ، ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجه الى الكوفة ، وحمل معه

١٥٠

نساء الحسينعليه‌السلام وبناته واخواته ومن كان معه من الصبيان وفيهم علي بن الحسينعليه‌السلام قد نهكته العلة والحسن بن الحسن المثنى وكان قد واسى عمه في الصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح ، وكان قد نقل من المعركة وقد أثخن بالجراح وبه رمق فبرأ وأخواه زيد وعمر أبناء الحسن السبطعليه‌السلام ، وتدل بعض الروايات على وجود الباقرعليه‌السلام معهم ، وساقوهم كما يساق سبي الترك والروم ، فقال النسوة : بحق الله الا ما مررتم بنا على مصرع الحسينعليه‌السلام ، فرموا بهم على الحسينعليه‌السلام وأصحابه وهم صرعى ، فلما نظر النسوة الى القتلى صحن وضربن وجوههن قال الراوي : فو الله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب الحسينعليه‌السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب يا محمداه صلى عليك مليك السما ، هذا حسينك مرمل بالدما مقطع الاعضا وبناتك سبايا ، الى الله المشتكى والى محمد المصطفى والى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء والى حمزة سيد الشهداء ، يا محمداه هذا حسين بالعرى تسفي عليه ريح الصبا قتيل أولاد البغايا ، وا حزناه وا كرباه عليك يا أبا عبد الله. اليوم مات جدي رسول الله ، يا أصحاب محمد هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.

وفي بعض الروايات : وا محمداه بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصبا ، وهذا حسبين محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والردى ، بأبي من أضحى عسكره في يوم الاثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى ، بأبي من لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر الدما ، بأبي من جده رسول اله السما ، بأبي من هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء ، بأبي من ردّت له الشمس حتى صلى. قال : فأبكت والله

١٥١

كل عدو وصديق ، ثم ان سكينة بنت الحسينعليه‌السلام اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدة من الاعراب حتى جروها عنه.

ولما رحل ابن سعد عن كربلا خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية الى الحسينعليه‌السلام وأصحابه فصلوا على تلك الجثث الطواهر ودفنوها ، فدفنوا الحسينعليه‌السلام حيث قبره الآن ودفنوا ابنه عليا الأكبر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته ولأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسينعليه‌السلام ، فجمعوهم فدفنوهم جميعا في حفيرة واحدة وسووا عليهم التراب ويقال ان أقربهم دفنا الى الحسينعليه‌السلام ولده علي الأكبر ، فيزورهم الزائر من عند قبر الحسينعليه‌السلام ويومي الى الأرض التي نحو رجليه بالسلام عليهم. ودفنوا العباس بن عليعليهما‌السلام في موضعه الذي قتل فيه على المسناة بطريق الغاضرية حيث قبره الآن ، ودفنوا بقية الشهداء حول الحسينعليه‌السلام في الحائر.

قال المفيد عليه الرحمة : ولسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق والتفصيل الا أنا لا نشك ان الحائر محيط بهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وسار ابن سعد بسبايا أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن ، فأشرفت امرأة من الكوفيات وقالت : من أي الأسارى انتن؟ فقلن لها : نحن أسارى آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت من سطحها فجمعت لهن ملاء وأزرا ومقانع ، وجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون ، فقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : اتنوحون وتبكون من أجلنا فمن ذا الذي قتلنا؟ قال بشر بن خزيم الأسدي : ونظرت الى زينب بنت عليعليهما‌السلام يومئذ فلم أر خفرة انطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد أو مأت الى الناس ان اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس(١) ، ثم قالت:

__________________

(١) جمع جرس وهو الصوت أو خفيه (منه).

١٥٢

خطبة زينب بنت أمير المؤمنينعليهما‌السلام بالكوفة

الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر اتبكون ، فلا رقأت الدمعة ولا قطعت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ، الا وهل فيكم الا الصلف(١) النطف(٢) ، والصدر الشنف(٣) (الا الصلف والعجب والشنف والكذب خ ل) ، وملق(٤) الاماء ، وغمز(٥) الأعداء ، أو كمرعى على دمنة(٦) ، أو كفضة على ملحودة(٧) ، الا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون ، اتبكون وتنتحبون ، أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها(٨) ولن ترحضوها(٩) بغسل بعدها ابدا ، وانى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ، (محجتكم خ ل) ، ومدرة(١٠) سنتكم ، الا ساء ما تزرون وبعدا لكم وسحقا ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ، ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الصلف بفتحتين : ادعاء الانسان فوق ما فيه تكبر أو هو صلف ككتف (منه).

(٢) النطف بالتحريك : التلطخ بالعيب ، وهو نطف أي متلطخ بالعيب (منه).

(٣) الشنف بالتحريك البغض والتنكر ، وصدر شنف أي مبغض متنكر (منه).

(٤) الملق : ان تعطي باللسان ما ليس في القلب (منه).

(٥) الغمز : الطعن (منه).

(٦) الدمنة بالكسر : الموضع القريب من الدار (منه).

(٧) أي ميتة موضوعة في اللحد (منه).

(٨) الشنار : العيب (منه).

(٩) تغسلوها (منه).

(١٠) المدرة بالكسر : زعيم القوم والمتكلم عنهم والذي يرجعون الى رأيه (منه).

١٥٣

فريتم (فرثتم خ ل)(١) ، وأي كريمة له ابرزتم ، وأي دم له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم ، لقد جئتم بها صلعاء(٢) ، عنقاء(٣) ، سؤاء(٤) ، فقماء(٥) ، نأناء(٦) . وفي رواية خرقاء(٧) شوهاء(٨) كطلاع الأرض(٩) أو ملىء السماء ، افعجبتم ان مطرت السماء دما فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه(١٠) البدار ولا يخاف فوت الثار ، وان ربكم لبالمرصاد.

قال : فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ، ورأيت شيخا واقفا الى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي ، كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى(١١) .

وروى زيد بن موسى عن أبيه عن جدهعليهم‌السلام قال : خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلا فقالت :

خطبة فاطمة الصغرىعليها‌السلام بالكوفة

الحمد لله على عدد الرمل والحصى وزنة العرش الى الثرى ، أحمده

__________________

(١) الفري : القطع ، والفرث : التفتيت (منه).

(٢) الصلعاء : الداهية القبيحة المكشوفة (منه).

(٣) العنقاء : الداهية (منه).

(٤) قبيحة (منه).

(٥) عظيمة (منه).

(٦) النأنأة : العجز والضعف (منه).

(٧) الخرق : ضد الرفق (منه).

(٨) قبيحة (منه).

(٩) أي ملئها (منه).

(١٠) لا يعجله (منه).

(١١) أي لا يغلب ولا يقهر (منه).

١٥٤

وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد ان لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله ، وان أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات. اللهم اني أعوذ بك ان افتري عليك الكذب أو ان أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، المسلوب حقه ، المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت(١) من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته اليك محمود النقيبة(٢) ، طيب العريكة(٣) ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل ، هديته اللهم للإسلام صغيرا وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك حتى قبضته اليك زاهدا في الدنيا غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فهديته الى صراط مستقيم.

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فانا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق تفضيلا بينا ، فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالا وأموالنا نهبا ، كأنا أولاد ترك أو كابل كما قتلتم جدنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراء (اجتراء خ ل) على الله ومكرا مكرتم والله خير الماكرين ، فلا تدعونكم أنفسكم الى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما اصابنا من المصائب الجليلة والرزء العظيم في كتاب من قبل ان نبرأها ان

__________________

(١) متعلق بالمقتول (منه).

(٢) النفس (منه).

(٣) الطبيعة (منه).

١٥٥

ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ، تبا لكم فانتظروا اللعنة والعذاب فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فتسحتكم(١) بما كسبتم (فيسحتكم بعذاب خ ل) ، ويذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، الا لعنة الله على الظالمين ، ويلكم اتدرون أية يد طاعنتنا منكم ، وأية نفس نزعت الى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم الينا تبغون محاربتنا ، والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على افئدتكم ، وختم على سمعكم وعلى بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون ، فتبا لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي وبنيه وعترته الطيبين الأخيار. وافتخر بذلك مفتخر من الظالمين فقال :

نحن قتلنا عليا وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب(٢) افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم واذهب عنهم الرجس ، فاكظم(٣) واقع(٤) كما اقعى أبوك فإنما لكل امرء ما اكتسب وما قدمت يداه ، أحسدتمونا ويلكم على ما فضلنا الله عليكم.

فما ذنبنا ان جاش دهرا بحورنا

وبحرك ساج(٥) ما يواري الدعا مصا(٦)

__________________

(١) سحته استأصله (منه).

(٢) الكثكث والأثلب بالضم والكسر فيهما فتات الحجارة والتراب (منه).

(٣) اسكت على غيظك (منه).

(٤) الاقعاء : جلوس الكلب على أسته (منه).

(٥) ساكن (منه).

(٦) جمع دعموص وهي دويبة تغوص في الماء ، والبيت للأعشى (منه).

١٥٦

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن لم يجعل الله لو نورا فما له فما له من نور. فارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب وقالوا : حسبك يا ابنة الطيبين فقد احرقت قلوبنا وانضجت نحورنا واضرمت أجوافنا فسكتت.

وخطبت أم كلثوم بنت عليعليهما‌السلام في ذلك اليوم من وراء كلتها رافعة صوتها بالبكاء ، فقالت :

خطبة أم كلثومعليها‌السلام بالكوفة

يا أهل الكوفة سوأة لكم ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه ، فتبا لكم وسحقا لكم أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم ، وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة اصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي أموال انتهبتموها ، قتلتم خير رجالات بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزعت الرحمة من قلوبكم ، الا ان حزب الله هم الملفحون وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت :

قتلتم أخي ظلما فويل لأمكم

ستجزون نارا حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

فضج الناس بالبكاء والنحيب ، ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب على رؤوسهن وخمشن وجوههن ولطمن خدودهن ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال فلم ير باك وباكية أكثر من ذلك اليوم. ثم ان زين العابدينعليه‌السلام أومأ الى الناس ان اسكتوا فسكتوا ، فقام قائما فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو أهله فصلى عليه ، ثم قال :

خطبة علي بن الحسينعليه‌السلام بالكوفة

ايها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا أعرفه بنفسي ، أنا

١٥٧

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون انكم كتبتم الى أبي وخدعتموه واعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ، فتبا لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأيه عين تنظرون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي ، فارتفعت أصوات النساء بالبكاء من كل ناحية ، وقال بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون ، فقالعليه‌السلام : رحم الله امرءا أقبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فان لنا في رسول الله أسوة حسنة ، فقالوا بأجمعهم : نحن كلنا سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله فأنا حرب لحربك وسلم لسلمك ، لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا ، فقالعليه‌السلام : هيهات هيهات ايها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون ان تأتوا الي كما أتيتم إلى آبائي من قبل ، كلا ورب الراقصات فان الجرح لما يندمل ، قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ولم ينسني ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثكل أبي وبني أبي ووجده بين لهاتي(١) ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش(٢) صدري ، ومسألتي ان لا تكونوا لنا ولا علينا ، ثم قال :

لا غرو ان قتل الحسين فشيخه

قد كان خير من حسين واكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي

أصاب حسينا كان ذلك اعظما

قتيل بشط النهر روحي فداؤه

جزاء الذي أرداه نار جهنما

__________________

(١) اللهاة : اللحمة في أقصى الفم (منه).

(٢) الفراش كل عظم رقيق ، يقال : فراش وفراشة كسحاب وسحابة (منه).

١٥٨

ثم قال : رضينا منكم رأسا برأس فلا يوم لنا ولا علينا.

وجاء سنان بن أنس النخعي الى باب ابن زياد فقال :

أوقر ركابي فضة أو ذهبا

إني قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا

وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فلم يعطه ابن زياد شيئا. وقيل ان سنانا أنشد هذه الأبيات على باب فسطاط عمر بن سعد فحذفه بالقضيب وقال : أو مجنون أنت؟ والله لو سمعك ابن يزيد لضرب عنقك. وقيل المنشد لها عند ابن سعد هو الشمر وقيل ان قاتل الحسينعليه‌السلام انشدها عند يزيد لعنه الله والله اعلم.

ثم ان ابن زياد لعنه الله جلس في قصر الامارة وأذن للناس اذنا عاما ، وأمر باحضار رأس الحسينعليه‌السلام فوضع بين يديه ، فجعل ينظر اليه ويتبسم ، وكان في يده قضيب فجعل يضرب به ثناياه ويقول : انه كان حسن الثغر وفي رواية انه قال : لقد أسرع الشيب اليك يا أبا عبد الله : ثم قال : يوم بيوم بدر.

وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال : كان أشبههم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان مخضوبا بالوسمة ، وكان الى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو شيخ كبير ، فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو الله الذي لا اله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لا أحصيه كثرة يقبلهما ، ثم انتحب باكيا ، فقال له ابن زياد :ابكى الله عينيك أتبكي لفتح الله والله لو لا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ، فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار الى منزله وفي رواية انه نهض وهو يقول : ايها الناس أنتم العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة ، والله ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم فبعدا لمن رضي بالذل

١٥٩

والعار ، ثم قال : يا ابن زياد لأحدثنك حديثا أغلظ عليك من هذا ، رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقعد حسنا على فخذه اليمنى وحسينا على فخذه اليسرى ثم وضع يده على يافو خيهما ، ثم قال : اللهم اني استودعك إياهما وصالح المؤمنين ، فكيف كانت وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك يا ابن زياد.

وادخل نساء الحسينعليه‌السلام وصبيانه على ابن زياد ، فالبست زينبعليها‌السلام ارذل ثيابها وتنكرت ومضت حتى جلست ناحية من القصر وحف بها اماؤها ، فقال ابن زياد : من هذه؟ فلم تجبه ، فاعاد الكلام ثانيا وثالثا يسأل عنها فلم تجبه ، فقال له بعض امائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبل عليها ابن زياد فقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ، فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطهرنا من الرجس تطهيرا ، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ، فقال : كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك ، فقالت : ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم (فتتحاجون إليه وتختصمون عنده خ ل) فانظر لمن الفلج يومئذ هبلتك أمك يا ابن مرجانة ، فغضب ابن زياد واستشاط وكأنه هم بها ، فقال عمرو بن حريث : ايها الأمير انها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطائها ، فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي (نفسي خ ل) من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك ، فرقت زينب وبكت وقالت له : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرزت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فان كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت ، فقال ابن زياد : هذه سجاعة(١) ولعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا ، فقالت : ما

__________________

(١) في نسخة شجاعة بالشين المعجمة وكذا ما بعدها (منه).

١٦٠

للمرأة والسجاعة ان لي عن السجاعة لشغلا ولكن صدري نفث بما قلت ، ولنعم ما قال الشاعر :

تصان بنت الدعي في كلل المل

ك وبنت الرسول تبتذل

يرجى رضى المصطفى فواعجبا

تقتل أولاده ويحتمل

وعرض عليه علي بن الحسينعليهما‌السلام ، فقال : من أنت؟ فقال : أنا علي بن الحسين ، فقال : أليس قد قتل الله عليا بن الحسين. فقال له علي :قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس ، فقال : بل الله قتله ، فقال علي بن الحسين : الله يتوفى الأنفس حين موتها ، فغضب ابن زياد وقال : وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي اذهبوا به فاضربوا عنقه ، فتعلقت به عمته زينب وقالت : يا ابن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته وقالت : لا والله لا أفارقه فان قتلته فاقتلني معه ، فنظر ابن زياد اليها وإليه ساعة ثم قال : عجبا للرحم والله اني لأظنها ودت أني قتلتها قتلها معه دعوه فاني أراه لما به(١) .

وفي رواية ان عليا بن الحسينعليهما‌السلام قال لعمته : اسكتي يا عمه حتى أكلمه ، ثم اقبل عليه فقال : أبا لقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت ان القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة ، ثم امر ابن زياد بعلي بن الحسينعليه‌السلام وأهل بيته فحملوا الى دار بجنب المسجد الأعظم ، فقالت زينب بنت عليعليهما‌السلام : لا تدخلن علينا عربية الا أم ولد أو مملوكة فانهن سبين كما سبينا.

قال ابن الأثير : قال بعض حجاب ابن زياد : دخلت معه القصر حين قتل الحسينعليه‌السلام فاضطرم في وجهه نارا ، فقال بكمه هكذا على وجهه وقال : لا تحدثن بهذا أحدا. ثم ان ابن زياد قام من مجلسه ودخل المسجد فصعد المنبر فقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته ، فما زاد على هذا الكلام شيئا

__________________

(١) أي هو شديد المرض (منه).

١٦١

حتى قام اليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من خيار الشيعة وزهادها ، وكانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل والأخرى في يوم صفين ، وكان يلازم المسجد الأعظم يصلي فيه الى الليل ثم ينصرف ، فقال : يا ابن مرجانة ان الكذب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه يا عدو الله ، اتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين ، فغضب ابن زياد وقال : من هذا المتكلم فقال : أنا المتكلم يا عدو الله أتقتل الذرية الطاهرة التي قد اذهب الله عنها الرجس وطهرهم تطهيرا وتزعم انك على دين الاسلام ، وا غوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار ينتقمون منك ومن طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين ، فازداد غضب ابن زياد حتى انتفخت أوداجه وقال : عليّ به ، فتبادرت اليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه ، فنادى بشعار الأزد يا مبرور وفي الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل فاجتمعوا وانتزعوه من الجلاوزة ، وقيل وثب اليه فتيان منهم ، وقيل قامت الأشراف من الأزد من بني عمه فخلصوه منهم وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به الى منزله ، فقال ابن زياد : اذهبوا الى هذا الأعمى أعمى الأزد أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه فأتوني به ، فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم ، وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم الى محمد بن الأشعث وأمره بقتال القوم ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل بينهم جماعة من العرب ووصل أصحاب ابن زياد الى دار عبد الله بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه ، فصاحت ابنته أتاك القوم من حيث تحذر ، فقال : لا عليك ناوليني سيفي فناولته إياه فجعل يذب عن نفسه ويقول :

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن أم عامر

كم دارع من قومكم وحاسر

وبطل جدلته مغاور

١٦٢

وجعلت ابنته تقول : يا أبت ليتني كنت رجلا أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة ، وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة وهو يذب عن نفسه فليس يقدم عليه أحد ، وكلما جاؤوه من جهة قالت ابنته :يا أبه جاؤوك من جهة كذا حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به ، فقالت ابنته :وا ذلاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به ، فجعل يدير سيفه ويقول :

أقسم لو يفسح لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

قال : فما زالوا به حتى أخذوه ثم حمل فأدخل على ابن زياد ، فلما رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك ، فقال له عبد الله : يا عدو الله وبماذا أخزاني.

والله لو فرج لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

فقال له ابن زياد : يا عدو الله ما تقول في عثمان بن عفان؟ قال : يا عبد بني علاج يا ابن مرجانة وشتمه ما أنت وعثمان اساء أم أحسن وأصلح أم أفسد والله تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحق ، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه ، فقال ابن زياد : والله لا أسألك عن شيء أو تذوق الموت غصة بعد غصة ، فقال عبد الله بن عفيف :الحمد لله رب العالمين أما اني قد كنت أسأل الله ربي ان يرزقني الشهادة من قبل ان تلدك أمك ، وسألت الله ان يجعل ذلك على يد ألعن خلقه وابغضهم اليه ، فلما كف بصري يئست من الشهادة الى الآن ، فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها وعرفني الإجابة منه في قديم دعائي ، فقال ابن زياد : اضربوا عنقه فضربت عنقه وصلب في السبخة.

ثم دعا ابن زياد بجندب بن عبد الله الأزدي وكان شيخا فقال : يا عدو الله ألست صاحب أبي تراب؟ قال : بلى لا أعتذر منه ، قال : ما أراني الا

١٦٣

متقربا الى الله بدمك ، قال : إذن لا يقربك الله منه بل يباعدك ، قال : شيخ قد ذهب عقله وخلى سبيله.

ولما أصبح ابن زياد أمر برأس الحسينعليه‌السلام فطيف به في سكك الكوفة كلها وقبائلها ، فروي عن زيد بن أرقم انه قال : مر به علي وهو على رمح وأنا في غرفة لي ، فلما حاذاني سمعته يقرأ :( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) (١) فوقف والله شعري وناديت رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب. ولما فرغ القوم من التطواف به في الكوفة ردوه الى باب القصر ويحق التمثل هنا بقول بعض الشعراء يرثي قتيلا من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

رأس ابن بنت محمد ووصيه

للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا منكر منهم ولا متفجع

كحلت بمنظرك العيون عماية

واصم رزؤك كل اذن تسمع

ايقظت أجفانا وكنت لها كرى

وأنمت عينا لم تكن بك تهجع

ما روضة الا تمنت انها

لك حفرة ولخط قبرك مضجع

ثم ان ابن زياد نصب الرؤوس كلها بالكوفة على الخشب وهي أول رؤوس نصبت في الاسلام بعد رأس مسلم بن عقيل بالكوفة. (وكتب) ابن زياد الى يزيد يخبره بقتل الحسينعليه‌السلام وخبر أهل بيته ، وتقدم الى عبد الملك بن الحارث السلمي فقال : انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة (وكان أميرا عليها وهو من بني أمية) فتبشره بقتل الحسينعليه‌السلام ، وقال : لا يسبقنك الخبر اليه ، قال عبد الملك : فركبت راحلتي وسرت نحو المدينة فلقيني رجل من قريش ، فقال : ما الخبر؟قلت : الخبر عند الأمير تسمعه ، قال : انا لله وانا إليه راجعون قتل والله

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٦.

١٦٤

الحسين ، ولما دخلت على عمرو بن سعيد قال : ما وراءك؟ فقلت : ما يسر الأمير قتل الحسين بن علي ، فقال : اخرج فناد بقتله ، فناديت فلم اسمع واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا النداء بقتله ، فدخلت على عمرو بن سعيد فلما رآني تبسم الي ضاحكا ثم تمثل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، وقيل انه لما سمع أصوات نساء بني هاشم ضحك وتمثل بذلك فقال :

عجّت نساء بني زياد عجة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب(١)

ثم قال عمرو هذه واعية بواعية عثمان ، ثم صعد المنبر وخطب الناس واعلمهم قتل الحسينعليه‌السلام ، وقال في خطبته : انها لدمة بلدمة وصدمة بصدمة كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة حكمة بالغة فما تغني النذر ، والله لوددت ان رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحيانا كان يسبنا ونمدحه ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ولم يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا إلا ان ندفعه عن أنفسنا فقام عبد الله بن السائب فقال : لو كانت فاطمة حية فزأت رأس الحسينعليه‌السلام لبكت عليه ، فجبهه عمرو بن سعيد وقال : نحن أحق بفاطمة منك أبوها عمنا وزوجها أخونا وابنها ابننا ، لو كانت فاطمة حية لبكت عينها وحرت كبدها وما لامت من قتله ودفعه عن نفسه.

وخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسينعليه‌السلام حاسرة ومعها اخواتها أم هاني واسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب تبكي قتلاها بالطف وهي تقول :

ماذا تقولون ان قال النبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم

__________________

(١) الأرنب : وقعة كانت لبني زبيدة على بني زياد من بني الحارث بن كعب (منه).

١٦٥

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فلما كان الليل من ذلك اليوم الذي خطب فيه عمرو بن سعيد سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي يسمعون صوته ولا يرون شخصه :

ايها القاتلون جهلا حسينا

ابشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم

من نبي وملائك وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داو

د وموسى وصاحب الإنجيل

رواه الطبري وغيره.

ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر فنعى اليه ابنيه عونا وجعفرا فاسترجع ، وجعل الناس يعزونه فقال مولى له يسمى أبو السلاسل : هذا ما لقينا من الحسين ، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال : يا ابن اللخناء اللحسين تقول هذا ، والله لو شهدته لا حببت ان لا أفارقه حتى اقتل معه ، والله انه لمما يسخي نفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما انهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه. ثم اقبل على جلسائه فقال :الحمد الله عز علي مصرع الحسين ان لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولداي (ولدي خ ل).

وقال شهر بن حوشب : بينما أنا عند أم سلمة إذ دخلت صارخة تصرخ وقالت : قتل الحسينعليه‌السلام ، قالت أم سلمة : فعلوها ملأ الله قبورهم نارا ووقعت مغشيا عليها.

وأما يزيد فانه لما وصله كتاب ابن زياد اجابه عليه يأمره بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس من قتل معه وحمل أثقاله ونسائه وعياله فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زجر بن قيس وانفذ معه ابا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة الى يزيد ، ثم أمر ابن زياد بنساء

١٦٦

الحسينعليه‌السلام وصبيانه فجهزوا ، وأمر بعلي بن الحسينعليهما‌السلام فغل بغلّ الى عنقه ، وفي رواية في يديه ورقبته ، ثم سرح بهم في أثر الرؤوس مع محفر(١) بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن وحملهم على الأقتاب ، وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفار فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس ، فلم يكلم علي بن الحسينعليه‌السلام أحدا منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام ، فلما انتهوا الى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة ، فأجابه علي بن الحسينعليهما‌السلام ما ولدت أم محفر أشر والأم وعن الزهري انه لما جاءت الرؤوس كان يزيد في منظرة على جيرون فأنشد لنفسه :

لما بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الشموس على ربى جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح(٢)

فلقد قضيت من الغريم ديوني

ولما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر فقالت له : لي إليك حاجة ، فقال : ما حاجتك؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة وتقدم اليهم ان يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر الينا ونحن في هذه الحال ، فأمر في جواب سؤالها ان تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيا منه وكفرا ، وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق ، فوفقوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ، وجاء شيخ فدنا من نساء الحسينعليه‌السلام وعياله وقال : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم ، فقال له علي بن الحسين : يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال : نعم ، قال : فهل عرفت هذه الآية :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ

__________________

(١) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الفاء المكسورة وآخره راء ، كذا في الكامل لابن الأثير (منه).

(٢) نح أو لا تنح (منه).

١٦٧

عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) قال : قد قرأت ذلك ، فقال له علي :فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت في بني اسرائيل( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (٢) فقال : قد قرأت ذلك ، فقال علي : فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت هذه الآية( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (٣) قال نعم ، فقال له علي : فنحن القربى يا شيخ ، ولكن هل قرأت( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٤) قال: قد قرأت ذلك ، فقال علي : فنحن أهل البيت الذين اختصنا الله بآية الطهارة يا شيخ ، قال : فبقي الشيخ ساكتا نادما على ما تكلم به وقال : بالله إنكم هم؟ فقال علي بن الحسينعليهما‌السلام : تالله انا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انا لنحن هم ، فبكى الشيخ ورمى عمامته ثم رفع رأسه الى السماء وقال : اللهم اني ابرأ اليك من عدو آل محمد من جن وانس ، ثم قال : هل لي من توبة؟ فقال له : نعم ان تبت تاب الله عليك وأنت معنا ، فقال : أنا تائب ، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل.

وعن سهل بن سعد انه قال : خرجت الى بيت المقدس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علقوا الستور والحجب والديباج ، وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : ترى لأهل الشام عيدا لا نعرفه نحن ، فرأيت قوما يتحدثون فقلت : يا قوم لكم بالشام عيدا لا نعرفه نحن ، قالوا : يا شيخ نراك غريبا ظ فقلت : أنا سهل بن سعد قد رأيت محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دما والأرض لا تخسف بأهلها ، قلت : ولم

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٢٦.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٤١.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

١٦٨

ذاك؟ قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهله يهدى من أرض العراق ، فقلت : وا عجبا يهدى رأس الحسينعليه‌السلام والناس يفرحون ، قلت : من أي باب يدخل ، فأشاروا الى باب يقال له باب الساعات ، فبينا أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضا ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أولهن فقلت : يا جارية من أنت؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين ، فقلت لها : ألك حاجة الي فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمعت حديثه ، قالت : يا سهل قل لصاحب هذا الرأس ان يقدم الرأس امامنا حتى يشتغل الناس بالنظر اليه ولا ينظروا الى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك ان تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار ، قال : ما هي؟قلت : تقدم الرأس أمام الحرم ففعل ذلك ودفعت اليه ما وعدته.

وروي ان بعض فضلاء التابعين وهو خالد بن معدان لما شاهد رأس الحسينعليه‌السلام بالشام أخفى نفسه شهرا من جميع أصحابه ، فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك فقال : ألا ترون ما نزل بنا ، ثم أنشأ يقول :

جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمد

مترملا بدمائه ترميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولما يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبرون بان قتلت وإنما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

ثم ادخل ثقل الحسينعليه‌السلام ونساؤه ومن تخلف من أهله على يزيد وهم مقرنون في الحبال وزين العابدينعليه‌السلام مغلول ، فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسينعليه‌السلام : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو رآنا على هذه الصفة ، فلم يبق في القوم أحد إلا

١٦٩

وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقطعت وأمر بفك الغل عن زين العابدينعليه‌السلام .

ثم وضع رأس الحسينعليه‌السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن فاليه. وفي رواية انه لما ادخل نساء الحسينعليه‌السلام على يزيد والرأس بين يديه جعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظران الى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلما رأين الرأس صحن فصاح نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد ، فبكى الناس وبكى أهل داره حتى علت الأصوات ورآه علي بن الحسينعليهما‌السلام فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبدا.

واما زينبعليها‌السلام فانها لما رأته أهوت الى جيبها فشقته ، ثم نادت بصوت حزين يقرح القلوب يا حسيناه يا حبيب رسول الله ، يا ابن مكة ومنى يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء يا ابن بنت المصطفى ، فأبكت والله كل من كان حاضرا في المجلس ويزيد ساكت. ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسينعليه‌السلام وتنادي يا حبيباه يا سيد أهل بيتاه يا ابن محمداه يا ربيع الأرامل واليتامى يا قتيل أولاد الأدعياء ، فأبكت كل من سمعها ، وكان في السبايا الرباب بنت امرىء القيس زوجة الحسينعليه‌السلام وهي أم سكينة بنت الحسينعليه‌السلام وهي التي يقول فيها الحسينعليه‌السلام :

لعمرك انني لأحب دارا

تحل بها سكينة والرباب

احبهما وابذل فوق جهدي

وليس لعاذل عندي عتاب

ولست لهم وان عتبوا مطيعا

حياتي أو يغيبني التراب

فقيل ان الرباب أخذت الرأس ووضعته في حجرها وفبلته وقالت :

وا حسينا فلا نسيت حسينا

اقصدته أسنة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعا

لا سقى الله جانبي كربلاء

١٧٠

والرباب هذه بعد رجوعها الى المدينة خطبها الأشراف من قريش فقالت : والله لا كان لي حمو بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعاشت بعد الحسينعليه‌السلام سنة ثم ماتت كمدا على الحسينعليه‌السلام ولم تستظل بعده بسقف.

ولما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسينعليه‌السلام جعل يتمثل بقول الحصين بن الحمام المري.

صبرنا وكان الصبر منا سجية

بأسيافنا تفريق هاما ومعصما

أبى قومنا ان ينصفونا فانصفت

قواضب في ايماننا تقطر الدما

نفلق(١) هاما من رجال اعزة

علينا(٢) وهم كانوا اعق وأظلما

ودعا بقضيب خيزران ، وجعل ينكت به ثنايا الحسينعليه‌السلام ، ثم قال :يوم بيوم بدر ، وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال : ويحك يا يزيد اتنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمة ، أشهد لقد رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا ، فغضب يزيد وأمر باخراجه فاخرج سحبا وفي رواية انه قال : أما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفعيك ويجيء هذا ومحمد شفيعه ، ثم قام فولى.

وقال : يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم وكان جالسا مع يزيد :

لهام بجنب(٣) الطف أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل(٤)

سمية أضحى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

__________________

(١) يفلقن خ ل.

(٢) أحبة الينا خ ل.

(٣) بأدنى خ ل.

(٤) الرذل.

١٧١

فضرب يزيد في صدره وقال : اسكت وفي رواية ، انه اسرّ اليه وقال :سبحان الله أفي هذا الموضع ما يسعك السكوت.

وكان يحيى قد سأل أهل الكوفة الذين جاؤوا بالسبايا والرؤوس ما صنعتم فأخبروه ، فقال : حجبتم عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة لن أجامعكم على أمر أبدا.

وفي رواية ان يزيد دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه فادخلوا عليه والناس ينظرون ، ثم قال يزيد لعلي بن الحسينعليهما‌السلام : يا ابن الحسين أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت ، فقال علي بن الحسينعليهما‌السلام :( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (١) فقال يزيد لابنه خالد :أردد عليه فلم يدر خالد ما يرد عليه ، فقال له يزيد :( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) فقال علي بن الحسينعليه‌السلام يا ابن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل ان تولد ، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار. ثم قال علي بن الحسينعليه‌السلام : ويلك يا يزيد انك لو تدري ماذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي ، إذا لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور ان يكون رأس أبي الحسين ابن فاطمة وعلي منصوبا على باب مدينتكم وهو وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم ، فابشر بالخزي

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ٣٠.

١٧٢

والندامة إذا اجتمع الناس ليوم القيامة.

وفي رواية انه لما أنشد يزيد الأبيات السابقة قال له علي بن الحسينعليهما‌السلام : بل ما قال الله أولى( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (١) فقال يزيد :( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) وجعل يزيد يتمثل بأبيات ابن الزبعري وزاد يزيد فيها البيتين الأخيرين(٢) .

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

فأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه(٣) ببدر فاعتدل

(فجزيناهم ببدر مثلها

واقمنا ميل بدر فاعتدل خ ل)

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف(٤) ان لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل

«فقامت» زينب بنت عليعليه‌السلام فقالت(٥) :

خطبة زينبعليها‌السلام بالشام

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين(٦) صدق الله (سبحانه خ ل) كذلك حيث يقول :( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٢.

(٢) كذا رواه سبط بن الجوزي عن الشعبي وينبغي ان يكون زاد فيها البيت الثاني أيضا ولكنه غير مذكور في رواية الجوزي (منه).

(٣) وعدلنا ميل بدر خ ل.

(٤) عتبة خ ل.

(٥) هذه رواية السيد ابن طاوس ، ورواها الطبرسي في الاحتجاج بتفاوت كثير أشرنا إليه في الهامش (منه).

(٦) على جدي رسول الله سيد المرسلين خ ل.

١٧٣

كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (١) أظننت يا يزيد حيث (حين خ ل) أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق(٢) السماء فأصبحنا نساق كما يساق الاماء(٣) ان بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة(٤) وان ذلك لعظم خطرك(٥) عنده ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك(٦) جذلان مسرورا حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور(٧) متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا(٨) ، فمهلا مهلا (لا تطش جهلا خ)أنسيت قول الله تعالى :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٩) أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك واماءك وسوقك بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل(١٠) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد(١١) والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي(١٢) ، وكيف ترتجي مراقبة ابن من لفظ(١٣) فوه

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ١٠.

(٢) وضيقت علينا آفاق خ ل.

(٣) فأصبحنا لك في أسار نساق إليك سوقا في قطار وانت علينا ذو اقتدار خ ل.

(٤) ان بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا خ ل.

(٥) وجلالة قدرك خ.

(٦) تضرب اصدريك فرحا وتنفض مذرويك مرحا حين رأيت خ ل.

(٧) لديك خ ل.

(٨) وخلص لك سلطاننا خ ل.

(٩) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٨.

(١٠) ويستشرفهن أهل المناقل ويبرزن لأهل المناهل خ ل.

(١١) والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدني والرفيع خ ل.

(١٢) وليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حميم عتوا منك على الله وجحودا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفعا لما جاء به من عند الله ، ولا غرو منك ولا عجب من فعلك خ ل.

(١٣) وانى يرتجى من لفظ خ ل.

١٧٤

أكباد الأزكياء(١) ونبت لحمه بدماء الشهداء(٢) ، وكيف يستبطىء(٣) في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والاحن والأضغان(٤) ، ثم تقول غير متأثم(٥) ولا مستعظم :

لأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منحنيا على ثنابا أبي عبد الله(٦) سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك(٧) ، وكيف لا تقول ذلك وقد(٨) نكأت القرحة واستأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب(٩) ، وتهتف بأشيخاك زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت(١٠) ، اللهم خذ لنا

__________________

(١) الشهداء خ ل.

(٢) السعداء خ ل ونصب الحرب لسيد الأنبياء وجمع الأحزاب وشهر الحراب وهز السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشد العرب لله جحودا وانكرهم له رسولا وأظهرهم له عدوانا واعتاهم على الرب كفرا وطغيانا ، الا انها نتيجة خلال الكفر وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر (خ). الضب : الحقد الكامن في الصدر (منه).

(٣) فلا يستبطىء خ ل.

(٤) من كان نظره الينا شنفا وشنآنا واحنا وأضغانا يظهر كفره برسوله ويفصح ذلك بلسانه وهو يقول فرحا بقتل ولده وسبي ذريته خ ل.

(٥) متحوب خ ل.

(٦) ومكان مقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خ ل.

(٧) ينكتها بمخصرته قد التمع السرور بوجهه خ ل.

(٨) لعمري لقد خ ل.

(٩) باراقتك دم سيد شباب أهل الجنة وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطلب خ ل.

(١٠) وهتفت بأشياخك وتقربت بدمه الى الكفرة من أسلافك ثم صرحت بذلك ، ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ووشيكا تشهدهم ولن يشهدوك ، ولتودن يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجذت وأحببت أمك لم تحملك وأباك لم يلدك حين تصير الى سخط الله ويخاصمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خ ل.

١٧٥

بحقنا وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبك بمن(١) سفك دماءنا(٢) وقتل حماتنا(٣) ، فو الله ما فريت(٤) الا جلدك ولا حززت الا لحمك ، ولتردن(٥) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تحملت من سفك دماء ذريته(٦) وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته(٧) ، حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم(٨) ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٩)(١٠) وحسبك بالله حاكما(١١) وبمحمد(١٢) خصيما وبجبرائيل ظهيرا ، وسيعلم من سول لك(١٣) ومكنك من رقاب المسلمين بئس(١٤) للظالمين بدلا وايكم شر مكانا وأضعف جندا(١٥) ولئن جرت علي الوادهي مخاطبتك ، اني لا ستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكبر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرى(١٦) ، الا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله

__________________

(١) على من خ ل.

(٢) ونقض ذمامنا خ ل.

(٣) وهتك عنا سدولنا خ ل.

(٤) وفعلت فعلتك التي فعلت وما فريت خ ل.

(٥) وسترد خ ل.

(٦) من ذريته خ ل.

(٧) وسفكت من دماء عترته ولحمته خ ل.

(٨) حيث يجمع به شملهم ويلم به شعثهم وينتقم من ظالمهم ويأخذ لهم بحقهم من اعدائهم ، فلا يستفزنك الفرح بقتله خ ل.

(٩) فرحين بما أتاهم الله من فضله خ ل.

(١٠) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩.

(١١) وليا وحاكما خ ل.

(١٢) وبرسول الله خ ل.

(١٣) بوأك خ ل.

(١٤) أن بئس خ ل.

(١٥) واضل سبيلا خ ل.

(١٦) وما استصغاري قدرك ولا استعظامي تقريعك توهما لانتجاع الخطاب فيك بعد ان تركت عيون المسلمين به عبرى وصدورهم عند ذكره حرى ، فتلك قلوب قاسية ونفوس طاغية وأجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عشش فيها ـ

١٧٦

النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل(١) ولئن اتخذتنا مغنما لتجدننا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعول(٢) ، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا(٣) ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند وإيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين(٤) فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله ان يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة انه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل(٥) ، فقال يزيد مجيبا لها :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح

واستشار يزيد أهل الشام فيما يصنع بهم ، فقال له بعضهم : لا تتخذ

__________________

ـ الشيطان وفرخ ومن هناك مثلك ما درج ونهض خ ل.

(١) فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء بأيدي الطلقاء الخبيثة ونسل العهرة الفجرة ، تنطف أكفهم من دمائنا وتتحلب أفواههم من لحومنا ، وللجثث الزاكية على الجنوب الضاحية تنتابها العواسل وتعفرها الفراعل ، خ ل.العواسل : جمع عاسل وهو الذئب من عسل الذنب إذا اضطرب في عدوه. والفراعل :جمع فرعل بالضم وهو ولد الضبع ، وأم فرعل اسم للضبع والجمع أمهات فراعل (منه).

(٢) وإليه الملجأ والموئل خ.

(٣) ثم كد كيدك واجهد جهدك ، فو الذي شرفنا بالوحي والكتاب والنبوة والانتجاب لا تدرك أمدنا ولا تبلغ غايتنا ولا تمحو ذكرنا خ ل.

(٤) الا لعن الله الظالم خ ل.

(٥) فالحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة وختم لأصفيائه ببلوغ الارادة ونقلهم الى الرحمة والرأفة والرضوان والمغفرة ولم يشق بهم غيرك ولا ابتلى بهم سواك ، ونسأله ان يكمل لهم الأجر ويجزل لهم الثواب والذخر. ونسأله حسن الخلافة وجميل الإنابة انه رحيم ودود خ ل.

١٧٧

من كلب سوء جروا ، فقال له النعمان بن بشير : انظر ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصنعه بهم فاصنعه بهم ونظر رجل من أهل الشام أحمر الى فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام ، فقال : يا أمير هب لي هذه الجارية ، قالت فاطمة : فارتعدت وظننت ان ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمتي زينب وقلت :يا عمتاه أوتمت واستخدم ، وكانت عمتي تعلم ان ذلك لا يكون ، فقالت عمتي : لا حبا ولا كرامة لهذا الفاسق ، وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت والله ما ذاك لك ولا له ، فغضب يزيد وقال : كذبت ان ذلك لي ولو شئت ان أفعل لفعلت ، قالت زينب : كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا ان تخرج من ملتنا وتدين بغيرها ، فاستطار يزيد غضبا وقال : اياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك ، قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك ان كنت مسلما ، قال : كذبت يا عدوة الله ، قالت له : أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك فكأنه استحيا وسكت ، فعاد الشامي فقال :هب لي هذه الجارية ، فقال له يزيد : اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا. وفي رواية فقال الشامي : من هذه الجارية فقال : هذه فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام وتلك زينب بنت علي ، فقال الشامي : الحسين ابن فاطمة وعلي بن أبي طالب ، فقال : نعم ، فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد تقتل عترة نبيك وتسبي ذريته ، والله ما توهمت الا انهم سبي الروم ، فقال يزيد : والله لا لحقنك بهم ثم أمر به فضربت عنقه.

ثم دخل نساء الحسينعليه‌السلام وبناته على نساء يزيد فقمن إليهن وصحن وبكين واقمن المأتم على الحسينعليه‌السلام ، ثم أمر لهم يزيد بدار تتصل بداره وقيل أمر بهم الى منزل لا يكنهم من حر ولا برد ، فأقاموا فيه حتى تقشرت وجوههم ، وكانوا مدة مقامهم بالشام ينوحون على الحسينعليه‌السلام .

١٧٨

وأمر يزيد بمنبر وخطيب وأمر الخطيب ان يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد وأطنب في مدح معاوية ويزيد فذكر هما بكل جميل ، ولقد أجاد ابن سنان الخفاجي حيث يقول :

يا أمة كفرت وفي أفواهها ال

قرآن فيه ضلالها ورشادها

أعلى المنابر تعلنون بسبه

وبسيفه نصبت لكم أعوادها

تلك الخلائق بينكم بدرية

قتل الحسين وما خبت أحقادها

فصاح به علي بن الحسينعليهما‌السلام ويلك ايها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسينعليهما‌السلام : يا يزيد أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعود فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب ، فأبى يزيد عليه ذلك ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا ، فقال :انه ان صعد لم ينزل الا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان ، فقيل له وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال : انه من أهل بيت زقوا العلم زقا ، فلم يزالوا به حتى أذن له ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ،ثم خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب ، ثم قال :

من خطبة لزين العابدينعليه‌السلام بالشام

ايها الناس اعطينا ستا وفضلنا بسبع ، اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد الله وأسد رسوله ، ومنا سبطا هذه الأمة ، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أيها الناس انا ابن مكة ومنى ، انا ابن زمزم والصفا ، انا ابن

١٧٩

من حمل الركن بأطراف الردا ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، وأنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرائيل الى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، وأنا ابن من صلى بملائكة السما ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا اله إلا الله أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، انا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين وزين العابدين ، وتاج البكائين ، واصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل يس رسول رب العالمين ، أنا ابن المؤيد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل. أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهد اعداءه الناصبين ، وافخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأول السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، وولي أمر الله ، ولسان حكمة الله وعيبة علمه ، سمح سخي ، بهي بهلول زكي ابطحي رضي ، مقدام همام ، صابر صوام ، مهذب قوام ، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب ، اربطهم عنانا واثبتهم جنانا ، وامضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة ، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز وكبش العراق ، مكي مدني ، حنيفي عقبي ، بدري احدي ، شجري مهاجري ، من العرب

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198