الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام0%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة المصطفوي
تصنيف: الصفحات: 495
المشاهدات: 174536
تحميل: 5516

توضيحات:

الحقائق في تاريخ الاسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174536 / تحميل: 5516
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واحتبس من جاء يتظلم منك ليأتيك في ذلك رأيي إن شاء الله. فلما قرءوا الكتاب بخواتيم القوم الذين أرسلوا معه ودفعوا الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة فجمعوا علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب رسول الله (ص)، ثم فكّوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، وأقرءوهم الكتاب، فلم يبق أحد في المدينة إلا حنق على عثمان، وازداد من كان منهم غاضباً لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر غضباً وحنقاً، وقام أصحاب النبي (ص) فلحقوا منازلهم، ما منهم أحد إلا وهو مغتم بما قرءوا في الكتاب. وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر بني تيم وغيرهم، وأعانه طلحة بن عبيد الله على ذلك وكانت عائشة تُقرّضه كثيراً، فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله (ص) كلهم بدريّ، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى، وكان مروان عنده في الدار، فخرج أصحاب محمد (ص) من عنده غِضَاباً، وشكوا في أمر عثمان إلخ.(١)

الطبقات: عن جابر أن المصريين لما أقبلوا من مصر يريدون عثمان ونزلوا بذي خُشب، دعا عثمان محمد بن مسلمة فقال: اذهب إليهم فارددهم عني وأعطهم الرضى وأخبرهم إني فاعل بالأمور التي طلبوا ونازع عن كذا بالأمور التي تكلموا فيها فأتاهم محمد بن مسلمة فقال: إن أمير المؤمنين يقول: كذا، ويقول: كذا، وأخبرهم بقوله. فلم يزل بهم حتى رجعوا، فلما كانوا بالبويب رأوا جملاً عليه ميسم الصدقة فأخذوه، فإذا غلام لعثمان فأخذوا متاعه ففتشوه فوجدوا فيه قصبة من رصاص فيها كتاب في جوف الإدارة في الماء إلى عبد الله بن سعد أن افعل بفلان كذا وبفلان كذا من القوم الذين شرعوا في عثمان، فرجع القوم ثانية حتى نزلوا بذي خُشب، فأرسل عثمان إلى محمد بن مسلمة: اخرج فارددهم عنّي، فقال: لا أفعل، قال: فقدموا فحصروا عثمان.(٢)

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٨٩.

٢ - الطبقات، ج ٣، ص ٦٥.

٢٨١

ويروي أيضاً: عن سفيان، قال: أنكر عثمان أن يكون كَتَبَ الكتاب أو أرسل ذلك الرسول، وقال فعل ذلك دوني.

تاريخ الطبري: ثم رجع الوفد (المصريون) راضين، فبينا هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويتبينهم، قال: قالوا له: ما لك إن لك لأمراً ما شأنك؟ قال: فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ففتّشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامله أن يصلّبهم أو يقتّلهم أو يَقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف! قال: فأقبلوا حتى قدموا المدينة، قال: فأتوا علياً فقالوا: ألم تر إلى عدو الله! إنه كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحل دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم.(١)

ويروي: ثم إن علياً جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاماّ يسمعه الناس ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخّضت عليك فلا آمن ركباً آخرين يقدمون من الكوفة فتقول: يا عليّ اركب إليهم! ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذراً، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا عليّ اركب إليهم، فإنْ لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك! قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله وما جئت شيئاً إلا وأنا أعرفه، ولكني منّتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي، ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول: من زلّ فليتب ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة. إنَّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق، فأنا أول من اتّعظ. استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم وليُروني رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبداً لأستننّ لسنة العبد فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية ولم يكونوا شهدوا الخطبة،

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٠٧.

٢٨٢

فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية: لا بل أصمت! فإنهم والله قاتلوه ومؤتّموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت وذاك! فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ، فقالت له: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه، أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمّه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه، قال: فأعرض عنها مروان.

ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتكلم أم أصمت؟ قال: بل تكلم! فقال مروان: بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها، وإنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس، فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني استحيي أن أكلمهم، قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه! كل إنسان آخذ بأذن صاحبه إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تُحمدوا غِبّ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا، قال: فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى علياً فأخبره الخبر، فجاء علي (عليه السلام) مغضباً حتى دخل على عثمان فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يُسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يُصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغُلبت على أمرك! فلما خرج عليّ دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته قالت: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلمي. فقالت: قد سمعت قول عليّ لك وأنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال:

٢٨٣

فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركت الناس لمكان مروان، فأرسِل إلى عليّ فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. قال: فأرسل عثمان إلى عليّ فأبى أن يأتيه، وقال: قد أعلمته إني لست بعائد. قال: فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، قال: فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم، فقال: إين بنت الفرافصة؟ فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف فأسوا لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك، قال: فكفّ مروان.(١)

ويروي: سمعت عبد الرحمن بن الأسود يذكر مروان بن الحكم قال: قبّح الله مروان، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع وهو يقول: اللَّهُم إني أتوب إليك ودخل بيته ودخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياءً من الناس، وخرج مروان إلى الناس فقال: شاهت الوجوه إلا من أريد قال: فأقبل عليٌّ فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قلت: نعم. قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قلت: نعم. قال عليّ: عياذ الله، يا للمسلمين! إني إنْ قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله (ص).(٢)

أقول: في هذه الكلمات المنقولة من الطبري موارد للنظر:

١ - (إذا هُم براكب) (فإذا هم بالكتاب) هذا الراكب وهذا الكتاب: إما أن يكونا بأمر الخليفة، أو بدون اطلاع منه، والثاني أشد محذوراً وأكثر إشكالاً، فكيف يليق بالإمارة من كان اختياره في أيدي آخرين، يأمرون وينهون

____________________

! - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١١١.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١١٢.

٢٨٤

ويصلبون ويقتلون ويكتبون ويفعلون ما يشاءون.

٢ - (ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة) (أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه): قد أمره علي (ع) بالإنابة والاستغفار من أعماله، وهو أظهر على المنبر التوبة والاستغفار، فيعترف بمعاصيه ويُثبت أنه كان مذنباً خاطئاً.

٣ - (فلا آمن ركباً آخرين يَقدمون من الكوفة) (ركب آخرون من البصرة): يظهر أن المسلمين الساكنين في مصر والكوفة والبصرة وحواليها، وهي من أعظم البلاد الإسلامية يومئذٍ، كانوا غير راضين عن الحكومة وأعمالها وعمّالها.

٤ - (والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه) (وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء) (قبّح الله مروان) (يلعب به مروان): هذه الجملات دالة على غاية ضعف مقام مروان عند الناس، ومع ذلك فله تأثير عميق في أفكار عثمان وأعماله، يلعب به ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله (ص).

٥ - يستكشف من هذه الجملات المنقولة أن عثمان غير مأمون ولا معصوم من الخطأ والزلل والذنب والعصيان، بل هو معترف بها حيث يقول: بل منّتني نفسي وكذبتني وضلّ عني رشدي فأنا أول من اتّعظ. ومع ذلك فهو مغلوب على أمره من مروان وأقرانه، يلعب به مروان وأمثاله من بني أمية، فكيف يصلح من شأنه كذلك أن يكون خليفة لله ولرسوله في دينه، وكيف يجب بل كيف يجوز للمسلمين أن يتبعوه ويسلكو طريقه.

الطبقات: فلم يزل مروان مع ابن عمه عثمان، وكان كاتباً له وأمر له عثمان بأموال وكان يتأوّل في ذلك صلة قرابته، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له، ويرون أن كثيراً مما ينسب إلى عثمان لم يأمر به وأن ذلك عن رأي مروان دون عثمان.(١)

البدء والتاريخ: ولما أعطى عثمان القوم ما أرادوا، قال مروان بن الحكم لحمران بن أبان كاتب عثمان - فكان خاتم عثمان مع مروان بن الحكم -: إن هذا

____________________

١ - الطبقات، ج ٥، ص ٣٦.

٢٨٥

الشيخ قد وهن وخرف، وقم فاكتب إلى ابن أبي سرح أن يضرب أعناق من ألبّ على عثمان، ففعلا وبعث الكتاب مع غلام لعثمان يقال له مدس على ناقة من نوقه، فمر بالقوم.(١)

أقول: يستفاد من الروايتين أمور:

١ - أن مروان كان كاتبه، وكان خاتمه عنده.

٢ - أمر له بأموال وكان يتأول في ذلك صلة قرابته.

٣ - كان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له.

٤ - كان مروان يقول في غيابه: إنه قد وهن وخرف.

٥ - كان لمروان اختيار تام في التصرف في أمور الحكم في المملكة والنصب والعزل وغيرها.

____________________

١ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٢٠٤.

٢٨٦

فتنة:

قتل عثمان

الفائق: عليّ (رضي الله تعالى عنه): أن قوماً أتوه فاستأمروه في قتل عثمان، فنهاهم وقال: إن تفعلوا فبيضاً فلَتفرخنّه.

قالالزمخشري : أراد أن تقتلوه تُهيّجوا فتنة يتولد منها شر كثير. كما قال بعضهم:

أرى فتنة هاجت وباضت وفرّخت

ولو تُركتْ طارت إليك فراخها

ويروي أيضاً: ومنه حديث عليّ (رضي الله تعالى عنه): لوددت أن بني أمية رضوا ونفّلناهم خمسين رجلاً من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان ولا نعلم له قاتلاً.(٢)

قالالزمخشري : نفّلته: أي حلفته. يريد نفّلنا لهم.

تاريخ الطبري: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيّء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو جالس في نديّ قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مر عثمان سلّم، فرد القوم، فقال جبلة: لِمَ تردون على رجل فعل كذا وكذا، قال: ثم أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه! قال عثمان: أيّ بطانة! فوالله إني لأتخير الناس، فقال: مروان تخيّرته ومعاوية تخيّرته وعبد الله بن عامر تخيرته وعبد الله بن سعد تخيرته؟! منهم من نزل القرآن بذمّه وأباح رسول الله (ص) دمه، قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.(٣)

____________________

١ - الفائق، ج ٢، ص ٢٦٩.

٢ - نفس المصدر، ج ٣، ص ١١٦.

٣ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١١٤.

٢٨٧

ويروي: لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي (ص) إلى من بالآفاق منهم، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور: إنكم خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ تطلبون دين محمد (ص) فإن دين محمد قد أُفسد من خلفكم وتُرك، فهلمّوا فأقيموا دين محمد (ص)! فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه.(١)

أقول: الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، وهؤلاء أصحاب رسول الله (ص) المقيمون بالمدينة يكتبون إلى من بالآفاق: (فهلموا فأقيموا دين محمد (ص) فإنه قد أفسد وترك) وكفى في هذه القضية نفوذ مروان بن الحكم وسلطانه على عثمان، وقد قال رسول الله (ص) فيه: إنه الملعون ابن الملعون، وقال أيضاً: ويل لأمتي من هذا وولد هذا.

ويروي أيضاً: إنما رد أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلّب بعضهم، فلما أتوا عثمان قالوا: هذا غلامك؟ قال: غلامي انطلق بغير علمي. قالوا: جملك؟ قال: أخذه من الدار بغير أمري. قالوا: خاتمك؟ قال: نقش عليه فلما رأى عثمان ما قد نزل وما قد انبعث عليه من الناس، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مُقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول. فلما جاء معاوية الكتاب: تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله (ص) وقد علم اجتماعهم. فلما أبطأ أمره على عثمان: كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز - والي أهل الشام - يستنفرهم ويعظم حقه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عَزَّ وجَلَّ به من طاعتهم ومناصحتهم ووعدهم أن يُنجدهم جندٌ أو بطانة دون الناس، وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم مُعاجليَّ.

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ١١٥.

٢٨٨

أقول: في هذه العبارات المنقولة موارد للنظر:

١ - من أعجب الأمور نهي علي (ع) ومنعه عن قتل عثمان، بل وبعثه الحسنين لنصرته وحفظه، ورده لوفد المصريين، ومع هذا فقد أظهر وأشاع معاوية في الخارج أن علياً هو قاتل عثمان! وبهذا العنوان تخلّف عن بيعته وادّعى أنه طالب لدم عثمان، وقد رأيت الطبري يروي أن معاوية تربص به وكره إظهار مخالفة الأصحاب! وأبطأ في بعث مقاتلي أهل الشام لنصرة عثمان، حتى كتب عثمان إلى يزيد بن أسد والي الشام يستنصره.

٢ - ومن عجائب أمر عثمان أنّ غلامه على جمله بصحيفة مختومة بخاتمه! ويبعث إلى مصر أن يُقتل بعض، ويُصلّب بعض آخر من المخالفين! وهو يدّعي أن غلامه سار وانطلق بغير علمه، وأخذ جمله من داره بغير أمره، ونُقش خاتمه بغير اطلاعه. ومع هذا يكتب إلى معاوية أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة.

٣ - فهل حكومة عثمان كانت أصلاً من أصول الديانة الإسلامية حتى يكون المتخلف كافراً! ومستوجباً للقتل والصلب!؟ وهل كان عثمان منصوباً من جانب الله ورسوله، حتى يجب اتباعه وطاعته!؟ وهل كانت أعماله وأوامره بإلهام الله وبنظر الحق! فكيف يتخير من نزل القرآن بذمة وأباح رسول الله (ص) دمه!؟

ويروي الطبري: أن المصريين بعد أن لم يُغيِّر عثمان شيئاً مما كرهوا، ولم يعزل عاملاً ولم يعمل بما أعطاهم عهد الله وميثاقه عليه ؛ قالوا: فإنا لا نُعجّل عليك وإن كنا قد اتّهمناك. أعزل عنا عُمالك الفسّاق واستعمل علينا من لا يُتهم على دمائنا وأموالنا وأردد علينا مظالمنا! قال عثمان: ما أراني إذاً في شيء إن كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم، الأمر إذاً أمركم.(١)

أقول: فليقض في هذا الجواب الاستبدادي والكلام الموهون كل قارئ

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١١٧.

٢٨٩

كريم، ويا ليت! أن لو كان هذا الاستبداد والنظر الموهون منبعثاً من إرادة الخليفة نفسه، لا من تدبير مروان وغيره.

كما يرويالطبري: فقال مروان: يا أمير المؤمنين، مقاربتُهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب! فأعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإن هم بغوا عليك فلا عهد لهم.(١)

ولنعم ما قال بعض المصريين لعثمان كما فيالطبري قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك؟ قال: أجل ولكنه كتبه بغير أمري. قالوا: فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلام؟ قال: أجل ولكنه خرج بغير أذني. قالوا: فالجمل جملك؟ قال: أجل ولكنه أخذ بغير علمي. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل الأمر دونه لضعفه وغفلته. وقالوا له: إنك ضربت رجالاً من أصحاب النبي (ص) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحق عند ما يستنكرون من أعمالك، فأقد من نفسك من ضربته وأنت ظالم له. فقال: الإمام يخطئ ويُصيب فلا أقيد من نفسي ؛ لأني لو أقدت كل من أصبتُه بخطإ آتي على نفسي، قالوا: إنك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققت بها الخلع فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عُدت إليها وإلى مثلها، ثم قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق، ولامنا فيك محمد بن مسلمة وضمن لنا ما حدث من أمر، فأخفرته فتبرأ منك وقال: لا أدخل في أمره، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك نستظهر بالله عَزَّ وجَلَّ عليك، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب، وزعمت أنه كُتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة مع ما بلونا منك

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١١٦.

٢٩٠

قبل ذلك من الجور في الحكم والأَثَرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس والإظهار للتوبة فقال عثمان: أما قولك تخلع نفسك: فلا أنزع قميصاً قمَّصنيه الله عَزَّ وجَلَّ وأكرمني به وخصّني به على غيري، ولكني أتوب وأنزع ولا أعود بشيء عابه المسلمون فأني والله الفقير إلى الله قالوا: إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تُقم عليه لكان علينا أن نقبل منك وأن ننصرف عنك.(١)

أقول: وفي هذه المكالمة دقائق تاريخية للمعتبر.

١ - (الإمام يخطئ ويصيب): عقيدتنا أن الإمام إذا كان منصوباً من الله ورسوله فهو خليفة الله وخليفة رسوله ولا يخطئ، فإن قول الإمام وفعله حجتان للناس، وللناس أن يُطيعوا الإمام ويتبعوه، وإذا جاز له الخطأ والعمل بخلاف ما جاء به الرسول فكيف يكون حجة بين الله وبين الناس!؟

٢ - (فلا أقيد من نفسي): فإذا كان عثمان مُخطأ فهو كأحد من الناس، مضافاً إلى أن أحكام الديات والقصاص كسائر الأحكام الدينية غير مخصوصة بجماعة دون آخرين، حتى إن رسول الله (ص) قال في آخر أيامه: من كان له عليّ حق أو قصاص فليأخذه.

٣ - (فلا أنزع قميصاً قمَّصنيه الله): هذه دعوى يدّعيها كل من له مقام أو عنوان دنيوي، فهل يصح هذا القول ممن يُنتخب من جانب الرعية لمقام من أنواع الرئاسات والحكومات؟ أو يُنتخب من جانب هيئة الوكلاء أو الوزراء؟ فهل كان حيازة عثمان لهذا المقام من طريق آخر سماوّي؟!

٤ - (ولكنِّي أتوب وأنزع ولا أعود): هذا ينافي ما ادعاه من أن مقامه قميص قمّصه الله، فكيف يجوز التوبة من آثار ذلك القميص والأعمال اللاحقة به والمنتزعة منه!؟

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ١٢٠.

٢٩١

ما قيل في عثمان:

مسند أحمد: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليدَ بن عقبة، فقال له الوليد: ما لي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفرّ يوم أحد ولم أتخلف يوم بدر ولم أترك سنة عمر! قال: فخبر ذلك عثمان قال، فقال: أما قوله: إني لم أفر يوم أحد، فكيف يُعيّرني بذنب وقد عفا الله عنه فقال: ( إِنَّ الَّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُم‏ ) . وأما قوله: إني تخلّفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقيّة بنت رسول الله (ص) حين ماتت وقد ضرب لي رسول الله (ص) بسهمي، ومن ضرب له رسول الله (ص) بسهمه فقد شهد. وأما قوله: إني لم أترك سنة عمر، فإني لا أطيقها ولا هو. فحدِّثه.(١)

الاستيعاب: عبد الرحمن بن حنبل أخو كلدة، وهو القائل في عثمان لما أعطى مروان خمسمئة ألف من خُمس إفريقيّة:

وأحلف بالله جهد اليمين

ما ترك الله امرأ سُدى

ولكن جُعلت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تُبتلى

دعوت الطريد فأدنيته

خلافاً لما سنَّه المصطفى

وولّيت قرباك أمر العباد

خلافاً لسنة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس الغنيمة

آثرته وحميت الحمى

ومالاً أتاك به الأشعري

من الفيء أعطيته من دنى(٢)

العقد الفريد: وفي خطبة لعبد الملك بن مروان: إني والله ما أنا بالخليفة

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ٦٨.

٢ - الاستيعاب، ج ٢، ص ٨٢٨.

٢٩٢

المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المُداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد).(١)

ويروي: ومما نقم الناس على عثمان أنه آوى طريد رسول الله (ص) الحكم بن العاص ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر وأعطاه مئة ألف، وسيّر أبا ذر إلى الربذة وسيّر عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام، وطلب منه عبيد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمئة ألف، وتصدّق رسول الله (ص) بمهزور (موضع سوق المدينة) على المسلمين فأقطعها الحارث بن الحكم أخا مروان، وأقطع فدك مروان وهي صدقة رسول الله (ص)، وافتتح إفريقية وأخذ خُمسه فوهبه لمروان، فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي:

فإني الأمينين قد بيّنا

مناراً لحق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلة

وما تركا درهماً في هوى

وأعطيت مروان خُمس العبا

د هيهات شأوكَ ممَّنْ شَأَىَ(٢)

ويروي: واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة على مكة فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان قاعد عن أصل المنبر، فنال من طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان أرضيتُك من المدهنين في أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنك سُؤتني، حسبي أن يكونا برئين من أمره. وعلى هذا المعنى قال اسحاق بن عيسى: أعيد عليا بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان أن يكون قتله عليّ.(٣)

العقد الفريد: فجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فكتب إليه عثمان كتاباً يهدّده، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل، وضرب رجلاً ممن أتى عثمان فقتله، فخرج أهل مصر في سبعمئة رجل إلى المدينة فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب رسول الله (ص) في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح، فقام طلحة بن عبيد الله فكلّم عثمان بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة: قد تقدّم إليك

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٩٠.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٨٣.

٣ - نفس المصدر، ص ٣٠٤.

٢٩٣

أصحاب رسول الله (ص) وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلاً فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه عليّ وكان متكلم القوم فقال: إنما سألوك رجلاً مكان رجل، وقد ادّعوا قبله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم.(١)

نهج البلاغة ( الخطبة الشقشقية ): فيالله وللشورى!! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أقرن إلى هذه النظائر! لكني أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وطرت إذا طاروا، فصغا رجل منهم لِضِغْنِهِ ومال الآخر لصهره، مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ ومُعْتَلَفِهِ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خِضْمَة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انْتَكَثَ فَتْلُهُ، وأجهز عليه عملُه، وكبَت به بِطْنَتُهُ.

سنن الترمذي : إن رجلاً من أهل مصر حج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء؟ قالوا: قريش. قال: فمن هذا الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني! أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: أتعلم أنه تغيّب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: أتعلم أنه تغيّب يوم بدر فلم يشهده؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر. فقال له ابن عمر: تعال حتى أبين لك ما سألت عنه! أما فراره يوم أحد: فأشهد الله قد عفا عنه وغفر له، وأما تغيّبه يوم بدر: فإنه كانت عنده أو تحته ابنة رسول الله (ص) فقال له رسول الله (ص):لك أجر رجل شهد بدراً وسهمه . أما تغيّبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه رسول الله (ص).. إلخ.(٢)

وفي حاشية الكتاب: قوله قد عفا عنه يعني بقوله تعالى:( إِنَّ الَّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَليم‏ ) .

خصائص النسائي عن عرار: قال: سألت عبد الله بن عمر قلت: ألا تحدثني

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٢٨٨.

٢ - سنن الترمذي، ص ٥٣٢.

٢٩٤

عن عليّ وعثمان؟ قال: أما علي فهذا بيته من بيت رسول الله (ص) ولا أحدثك عنه بغيره، وأما عثمان فإنه أذنب يوم أحد ذنباً عظيماً عفى الله عنه، وأذنب فيكم ذنباً صغيراً فقتلتموه.(١)

ويروي روايات قريبة منها.

____________________

١ - خصائص النسائي، ص ٢٠.

٢٩٥

جريان إمرة أمير المؤمنين:

يراد إمارته وخلافته الظاهرية الحقة، وأما الإمارة الحقيقية والإمامة والخلافة الإلهية المنصوصة فهي ثابتة له (ع) من أول يوم ارتحل النبي (ص) سواء أقبْلَ الناس إليه أم أدبروا.

المحاسن للبيهقي: عن عبد الله بن معاوية: كان إياس بن معاوية لي صديقاً، فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق، وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف، ففضّل قوم أبا بكر وقوم عمر وآخرون علياً، فقال إياس: إن علياً (رحمه الله) كان يرى أنه أحق الناس بالأمر! فلما بايع الناس أبا بكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك قد أصلح العامة اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة، يعني بني هاشم. ثم وُلّي عمر، ففعل مثل ذلك به وبعثمان، فلما قتل عثمان واختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة: وجد أعواناً فقام بالحق ودعا إليه.(١)

نهج البلاغة: فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت عن القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم.(٢)

ويقول فيالخطبة الشقشقية: فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع إليَّ، ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُقّ عِطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخلى، وقسط آخرون.

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٤٨.

٢ - نهج البلاغة، خطبة ٢٥.

٢٩٦

وفيتاريخ الطبري: فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر، فصعد المنبر فجلس عليه وأمر بكتاب معه من أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بلغه فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عَزَّ وجَلَّ صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفَّاهما الله عَزَّ وجَلَّ رضي الله عنهما، ثم ولى بعدهما والٍ فأحدث أحداثاً فوجدت الأمة عليه مقالاً فقالوا، ثم نقموا عليه فغيّروا، ثم جاءوني فبايعوني، فأستهدي الله عَزَّ وجَلَّ بالهدى وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص) والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنته.(١)

أقول: إشارة إلى الحكومة الظاهرية والخلافة الدنيوية التي لا تتحصّل إلا بانتخاب الناس وانقيادهم وإطاعتهم، ثم أشار إلى أن الحاكمين الأولين كانا مقيّدين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص) بخلاف الثالث فإنه أحدث أحداثاً، ثم صرّح بأن اللازم للإمام والرعية العمل بالكتاب وسنة رسول الله (ص)، خلافاً لما قال أبو عبيدة في الشورى بأن اللازم العمل بهما وبسنة الخلفاء، فإن الخليفة إذا لم يكن منتخباً من جانب الله تعالى لا يجب العمل بسنته.

العقد الفريد: وفي خطبته بالكوفة: ثم ولي عثمان فنال منكم ونِلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا، فقلت لكم: لا أفعل، وقبضتُ يدي فبسطتموها، ونازعتم كفّي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك، وتداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى ظننت أنكم قاتليَّ وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة، فسارا إلى البصرة.(٢)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٢٧.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٧٢.

٢٩٧

الإمامة والسياسة: ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه! وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه: إن أمره إلى الله وقد أحدث أحداثاً والله وليه فيما كان. فقام الناس فأتوا علياً في داره فقالوا: نبايعك فمُدّ يدك، لابد من أمير فأنت أحقّ بها. فقال: ليس ذلك إليكم إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر، فأبى أن يبايعهم، فانصرفوا عنه وكلّم بعضهم بعضاً، فقالوا: يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده، فيثور كل رجل منهم في ناحية فلا نأمن أن يكون في ذلك إفساد، فارجعوا إلى عليّ فلا تتركوه حتى يبايع.(١)

أقول: فظهر أن مبايعة أمير المؤمنين (ع) كانت أقوى من مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان، فإنها وقعت من اتفاق أهل المدينة ومن مشاورة أهل الشورى وأهل بدر ومن دون أن يظهر خلاف منهم، فكيف يجوز القيام عليه؟

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٤١.

٢٩٨

القعود والخروج والقتال:

الشريعة: عن أبي هريرة، قال رسول الله (ص): تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرف له، ومن وجد منها ملجأ أو معاذً فَلَيُعذبه.(١)

أقول: القعود لازم في الأمور المشتبهة وموارد الفتن، لا في مقام يجب الطاعة والتسليم، كالطاعة لمن ولِيَ المسلمين، فالتحذير في الحديث يتوجه إلى الماشين والساعين إلى قتال أمير المؤمنين علي (ع) في حرب الجمل وصفين والخوارج، الذين نقضوا عهدهم ونكثوا بيعتهم وخرجوا عليه. وقد صرّح في الحديث بأن هذا الحكم مخصوص بمورد الفتنة وفي وجاهها، أي في مورد يشتبه التكليف وأن تكون الوظيفة الدينية من جهة القعود أو القتال مجهولة. فالتكليف الدينيّ الإلهي للخليفة الحق هو القيام والقتال في مقابل المخالفين ودفع شرهم ورفع فتنتهم، ويجب للمسلمين أن يكونوا مع الإمام وينصروه ويجاهدوا معه على أعدائه. وأما إذا لم يكونوا مع إمام إلهيّ واشتبه الأمر ولم يُعرف الحق فالتكليف يومئذٍ هو القعود والاحتياط.

فالقاعد في زمان الإمام الإلهي كالقاعد في زمان رسول الله (ص) قال تعالى: ( إِنَّكُمْ رَضيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفين‏ ) ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ عَلَى الْقاعِدينَ أَجْراً عَظيماً ) .

مستدرك الحاكم: عن أبي أيوب قال: سمعت النبي (ص) يقول لعليّ بن أبي

____________________

١ - الشريعة، ص ٤٢.

٢٩٩

طالب: تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات والشعفات، قال أبو أيوب: قلت يا رسول الله: مع من نُقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال: مع علي بن أبي طالب.(١)

أقول: ففي هذه الرواية الشريفة قد صرح رسول الله (ص) بأن تكليف الإمام الحق هو القتال والمجاهدة في مقابل الناكثين والقاسطين والمارقين، وبأن تكليف الرعية والمسلمين أيضاً هو إطاعته واتّباعه والقتال معه للمخالفين.

فتبيّن أن قعود بعض المتنسّكين والمتورّعين عن نصرة أمير المؤمنين علي (ع) ليس إلا على الباطل، ومن هؤلاء المتنسكين القاعدين أبو موسى الأشعري وأتباعه وأشباهه، الجاهلون بوظائفهم، والقاصرون عن معرفة إمامهم. والمقصّرون في العمل بما يجب عليهم.

وقد يُصرّح رسول الله (ص) أيضاً بهذه الوظائف ويُبيّنها ويوضحها حتى يرتفع الإشكال ويتبيّن الحق.

مسند أحمد: عن أبي سعيد، قال رسول الله (ص): إن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله، قال: فقام أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكن خاصف النعل، وعليّ يخصف النعل.(٢)

ويروي عنه ، قال: كنا جلوساً ننتظر رسول الله (ص) فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، قال: فقمنا معه فانقطعت نعله فتخلف عليها عليّ يخصفها، فمضى رسول الله (ص) ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قتلت على تنيله، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا ولكنه خاصف النعل، قال: فجئنا نُبشره، قال: وكأنه قد سمعه.(٣)

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٠.

٢ - مسند أحمد، ج ٣، ص ٣٣.

٣ - نفس المصدر، ص ٨٢.

٣٠٠