العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته12%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39511 / تحميل: 4344
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

لكن الأُردوبادي رجّح أن تكون ولادته في (٢٧ هـ) اعتماداً على مقدّمات وحسابات وافتراضات تفرّد بها(١) وأنّه قُتِلَ شهيداً سنة (٦١ هـ) في العاشر من شهر محرّم الحرام ، في الطَفّ وهي كربلاء(٢) .

وأمّا محلّ ولادته :

فقد قال الأُردوبادي : وأمّا محلّ ولادته سلام الله عليه فلا شكّ أنّه المدينة المنوّرة ، فإنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه ـ إذْ ذاك ـ كان فيها ، وكانت هجرتُهُ عليه السلام إلى الكوفة بعد ثماني سنين تقريباً(٣) فقد كانتْ في حدود سنة (٣٥ هـ)(٤) .

موقف العبّاس عليه السلام من إخوته عند الشهادة :

قال البخاري النسّابة : لمّا كان يوم الطَفّ قدّم الحسين بن عليّ عليهما السلام إخوة العَبّاس ، وهم ثلاثة : جعفر ، وعثمان ، وعَبْد الله أبو بكر ، حتّى قتلوا وورثهم العَبّاس ، ثمّ قُتِلَ العَبّاس فورثهم جميعاً ابنه عُبَيْد الله بن العَبّاس(٥) . وهذا النصّ دليل على أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الّذي قدّم الإخوة الثلاثة على العَبّاس للقتال ، فقُتِلُوا قبله ، وليس المقدّم لهم هو

__________________

(١) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ١ ـ ٤٢).

(٢) عمدة الطالب (ص ٣٥٦).

(٣) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٤٤).

(٤) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٣٥).

(٥) سرّ السلسلة (ص ٨٩) معالم أنساب (ص ٢٥٦).

١٢١

العبّاس ، وإذا كان يرثهم ـ كما عبر البخاريّ ـ فلكونه أخاً لهم من الأبوين ، فهو يحجبُ الإخوة من طرفٍ واحدٍ ، كما عليه فقه الإماميّة(١) .

وقال الشيخ المفيد : لمّا رأى العَبّاسُ بن عليّ عليهما السلام كثرة القتلى في أهله ، قال لإخوته من أُمّه ـ وهم عَبْد الله ، وجعفرٌ ، وعُثمانُ ـ : «يا بني أُمّي ، تقدّموا أمامي حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، فإنّه لا ولد لكم »(٢) .

وقال الدينوريّ : لمّا رأى ذلك العَبّاس ، قال لإخوته : عَبْد الله ، وجعفر ، وعثمان : بني عليّ وعليهم السلام ، وأُمّهم جميعاً أُمُّ البنين العامريّة من آل الوحيد : «تقدّموا ـ بنفسي أنتم ـ فحامُوا عن سيّدكم ، حتّى تموتُوا دُونه ».

فتقدّموا جميعاً ، فصاروا أمام الحسين عليه السلام يقُونَهُ بِوُجُوهِهم ونُحُورِهم.

فحمل هانئ بن ثبيت(٣) الحَضرميّ على عَبْد الله بن عليّ ، فقتله.

ثمّ حمل على أخيه جعفر بن عليّ ، فقتله أيضاً.

ورمى يزيدُ الأصبحيّ عثمانَ بن عليّ بِسَهمٍ ، فقتله ، ثمّ خرج إليه فاحتزّ رأسه ، فأتى عُمَرَ بنَ سعدٍ ، فقال له : أثِبْنِي! فقال عمرُ : عليك بأميرك ـ يعني عُبَيْد الله بن زياد ـ فسَلْهُ انْ يُثِيبَكَ!

وبقي العَبّاس بن عليّ قائماً أمامَ الحسين يُقاتلُ دُونه ، ويميلُ معهُ

__________________

(١) راجع الروضة البهيّة شرح اللمعة الدمشقية ، ويلاحظ أنّ الأخ من الأبوين إنّما يحجب الإخوة غير الأشقاء فقط ، ولا يحجب غيرهم من الورثة ؛ كالأبوين والزوجة وغيرهما.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد (٢ / ١٠٩).

(٣) كذا الصواب وفي المصدر : ثويب.

١٢٢

حيثُ مالَ ، حتّى قُتِلَ رحمةُ الله عليه(١) .

ونقل أبو الفرج ، قال : قال العَبّاس بن عليّ لأخيه من أبيه وأُمّه عَبْد الله ابن عليّ : «تقدّم بين يَدَيَّ حتّى أَراكَ (٢) وأَحْتَسِبَكَ ، فإنّه لا وَلَدَ لَكَ » فتقدّم بين يديه ، وشدّ عليه هانئ بن ثُبَيْت الحضرميّ ، فقتله(٣) .

تحريف مبنيّ على تصحيف :

علّق محقّق مقاتل الطالبيين على قول العَبّاس عليه السلام لأخيه عَبْد الله : «تقدّم بين يديَّ حتّى أراك وأحتسبك » ما نصّه : في الخطيّة : حتّى أرثك(٤) .

أقولُ : أنّ رسم الخطّ العربيّ القديم هو كتابة الألف المتوسّطة في مثل كلمة (أراك ) و(أراكم ) بصورة ألفٍ صغيرةٍ على كرسيّ الياء هكذا : (أريك ) و(أريكم ) ومع حذف الألف القصيرة على الكرسيّ (يـ) وعدم تنقيط الكلمة يُشَبَّهُ على مَنْ لم يعرفْ هذا الرسم ، فتتصحّف الكلمةُ عنده بـ (أرثك ) أو (أرثكم ) وهذا ما حصل للبعض في نقل كلام العَبّاس عليه السلام.

فعن ابن الأثير : أنّ العَبّاس قال لإخوته من أُمّه : عبد الله وجعفر

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٥٧).

(٢) في هامش المطبوعة ما نصّه : «في الخطيّة (حتّى أرثك»).

أقول : هذا من التصحيف ؛ لأنّ رسم كلمة (أَراكَ) قديماً يُكتب : (أريك) حيثُ تجعل الألف القصيرة على نبرةٍ تشبهُ كرسيّ الياء المتّصلة هكذا (يـ) ومع حذف الألف القصيرة وعدم تنقيط الكلمة تقرب في الرسم من (أرثك) فلاحظ. كما ذكرنا في المتن أيضاً.

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨).

(٤) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨) هـ (١).

١٢٣

وعثمان : «تقدّموا حتّى أرثكم فإنّه لا ولد لكم » ففعلوا فقتلوا(١) .

وهو المنقول عن الطبري عن أبي مخنف قال : وزعموا أنّ العَبّاس قال(٢) .

وهو تصحيف أدّى إلى تحريف المَعْنى بلا ريب ، فإنّ المنقول عنه في مهمّات الكتب ـ كما قدّمنا ـ هو حثّ العبّاس عليه السلام إخوتَه على الطاعة والانقياد والتفاني والتضحية في سبيل أخيهم الحسين الإمام عليه السلام ولمّا قدّم الحسينُ عليه السلام إخوته للقتال ، ما كان من العَبّاس إلاّ التشجيع لهم ، وبَعثهم على التقدّم والحماية عن سيّدهم الإمام عليه السلام لأخيه من أبيه وأُمّه عَبْد الله : «أَحْتَسِبَكَ » لِما في تحمّلمصيبة قتلهم ؛ وصبرِه على فقدهم من الأجر ، وأرادَ لهم رفيع المنزلة بتحصيل الشهادة ، وهو شاهدٌ على تفانيهم ، وهذا يدلّ على أرفع معاني الكرامة عنده ، وعظيم المحبّة لهم ، وكريم المنزلة لديه حيث حثّهم على مثل ذلك الجهاد العظيم بين يدي الإمام عليه السلام الوحيد.

فمثل هذا الأخ ، وفي ذلك الموقف الحرج الرهيب ، لا يتصوّر منهُ أن يفكّرَ أو يذكر أمَر الإرث وما أشبه من حُطام الدُنيا الفانية ؛ وهو مقبلٌ على نعيم الآخرة الّذي لا يفنى.

وقد أدّى هذا التصحيف إلى اجتهاد خاطئ ، ممّن نقل : أنّ العبّاس بن

__________________

(١) الكامل لابن الأثير (٤ / ٧٦).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٩) وانظر فصول الأُردوبادي (ص ٧١).

١٢٤

عليّ ، قدّم أخاه جعفراً بين يديه ، لأنّه لم يكن له ولد ؛ ليحوزَ ولد العبّاس ابن عليّ ميراثه ، فشدّ عليه هانئ بن ثبيت الّذي قتل أخاه ، فقتله(١) .

وقد عارض أبو الفرج هذه الرواية بما ذكر بعدها مباشرةً من قوله : «هكذا قال الضحّاك ».

ولعلّ كلام الضحّاك هذا هو الذي سبب تصحيف الكلمة الواحدة من (أراكم ) إلى (أرثكم ).

فانظر : كيف أدّى إلى تحريف المعنى السامي الذي أراده العبّاس عليه السلام إلى معنى هابطٍ رذلٍ بعيدٍ عن روح النضال والجهاد والتضحية والمواساة؟.

وتَعِسَ من يُحاولُ أن يُسيء إلى تلك الروح العالية ، ويهبط بالكرامة والنجدة والمواساة إلى ما يُعارضها ويُنافيها من التفكير بالمادّة ، وما يتبع ذلك من الرذالة والخساسة الّتي هي من شأن أعداء آل محمّد ، ويجلّ آل البيت عليهم السلام ومن معهم منها ، كما نربؤ بهم عنها.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٨).

١٢٥
١٢٦

البابُ الثاني

سِماتُ العَبّاس عليه السلام الجَسَدِيّةُ

١٢٧
١٢٨

كان العبّاس عليه السلام طوالاً من الرجال

قال أبو الفرج الأصفهانيّ : كانّ العَبّاس رجلاً وسيماً جميلاً ، يكرب الفَرَسَ المُطَهَّم(١) ورجلاه تخطّان الأرض ، وكان يقال له : قمر بني هاشم(٢) .

وقال أبو العَبّاس الحَسَنيّ في ذكر آخر من قُتِلَ من أهل البيت عليهم السلام مع الحسين : ثمّ العَبّاس بن علي بن أبي طالب ، وكان يُقاتلُ قتالاً شديداً ، فاعتوره الرجّالةُ برماحهم فقتلُوه ، فبقي الحسين عليه السلام وحدَهُ ليسَ معهُ أَحَدٌ(٣) .

وقال ابن الطِقْطقَى : كان العَبّاس عليه السلام شجاعاً ، فارساً ، كريماً ، باسلاً ، وفيّاً لأخيه ، واساه بنفسه عليه وعلى أخيه صلوات الله(٤) .

أقول : إنّ ضخامة الجسم بطول اليدين والرجلين ، والشجاعة تقتضي البسالة وشدّة القتال ، وقد وفى العبّاس عليه السلام بحقّ ذلك وأبلى في الأعداء ، فحنَقُوا عليه ، وقطعوا يديه ورجليه(٥) .

__________________

(١) المطهّم : السمين الفاحش السمن ، وـ المنتفخ الوجه ، وـ التامّ من كلّ شيء ، المعجم الوسيط (طهم) ص ٥٦٩ ، والمراد هنا : الفرس الضخم المرتفع.

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٩٠).

(٣) المصابيح (ص ٣٣١).

(٤) الأصيلي (ص ٣٢٨).

(٥) راجع : شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (٣ / ١٩١ ـ ١٩٣).

١٢٩

رأس العبّاس الأصغر :

ثمّ إنّ الشيخ الصدوق(١) نقل عن هِشام بن محمّد ، عن القاسم بن الأَصْبَغ المُجاشعيّ قال : لمّا أُتِيَ بِالرؤوس إلى الكوفة إذا بِفارسٍ قد عَلّقَ في لَبَبِ فَرَسِهِ(٢) رأسَ غُلامٍ أَمْرَدَ ، كأنّهُ القمرُ في ليلة تَمِّهِ ، والفَرَسُ يَمْرَحُ ، فإذا طأطأَ رأسَهُ لَحَقَ الرأسُ بالأرض. فقلتُ لهُ : رأسُ مَنْ هذا؟

فقال : رأسُ العَبّاسِ بن عليٍّ.

قلتُ : ومنْ أنتَ؟ قال : حَرْمَلَةُ بنُ كاهِلِ الأسديّ.

ونقله سبط ابن الجوزيّ ، واللفظ له(٣) وانظر ما رواهُ أبو الفرج(٤) .

ومن الواضح أنّ وصف «الغُلام الأمرد» لا يَتناسَبُ مع أوصاف العَبّاس الأكبر السقّاء عليه السلام.

فلابدّ من حمله على أخيه العَبّاس الأصغر من الأصاغر من أولاد أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وقد سبق ذكره ، وذكرنا أنّ أُمّهُ أُمُّ ولدٍ ، كما عن بعض ، وغيرها عن آخرين.

__________________

(١) عقاب الأعمال (ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠) ح ٨ باب عقاب من قاتل الحسين عليه السلام.

(٢) اللبب : ما يشدّ في صدر الدابة ليمنع تأخّر السرج (المعجم الوسيط : لبب).

(٣) تذكرة الخواص (٢ / ٢ ـ ٢٥٣).

(٤) مقاتل الطالبيين (ص ١١٧ ـ ١١٨) والأمالي الخميسية (١ / ٢ ـ ١٨٣) والحدائق الوردية (١ / ٧ ـ ١٢٨) ولاحظ تذكرة الخواص (ص ٢٩١) وثواب الأعمال (٢١٩).

١٣٠

البابُ الثالث

سِماتُ العَبّاس عليه السلام الروحيّة

١٣١
١٣٢

إنّ مَنْ يترعرع في البيت الّذي طهّرَ اللهُ أهلَهُ ، فقال :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (الآية ٣٣ من سورة الأحزاب).

لَحَرِيٌّ بكلّ الكمالات الروحيّة ، والعَبّاس عليه السلام نشأ في أحضان أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام ونَما في كنف الحَسَنِ المُجتبى ، وزاول الحياة في مدرسة الحُسين عليه السلام فاستأهَلَ المقاماتِ المعنويّة العالية ، واستحقّ المديحَ الصادقَ على لسان المعصومين عليهم السلام وقد رُوِيَت عنهم فيه ما يلي :

في كلمات الإمام الحسين عليه السلام ـ :

فهو من أهل بيت الحُسين عليه السلام الّذين توّجَهُمْ ليلةَ عاشوراء وأكرمهم بقوله :

«أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت (أبرّ ولا أوصل) (١) من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً (٢) .

فقد آزرتم وعاونتم ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً ، فإذا جنّكم الليلُ فتفرّقوا في سواده فانجوا بأنفسكم ».

فقام إليه العَبّاسُ بنُ عليّ أخوه ، وعليٌّ ابنه ، وبَنُو عقيلٍ ؛ فقالوا :

__________________

(١) في مقاتل الطالبیین (خيراً) بدل ما بين القوسين.

(٢) إلى هنا من الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١).

١٣٣

معاذَ الله ، والشهر الحرام ، فماذا نقول للناس؟!(١) .

قال الشيخ المفيد :

فقال له إخوتُه ، وأبناؤُهُ ، وبَنُو أخيه ، وابنا عَبْد الله بن جعفر : لِمَ نفعلُ ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.

بَدَأَهُم بِهذا القول العَبّاسُ بنُ عليٍّ رضوانُ الله عليه ، واتّبعته الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه(٢) .

وقال أبو الفرج :

فقام إليه العبّاس أخوه ، وعليٌّابنه ، وبنو عقيلٍ فقالوا له :

معاذ الله والشهر الحرام! فماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ إنّا تركنا سيّدنا وابن سيّدنا وعمادنا ، وتركناهُ غرضاً للنبل ودريئةً للرماح ، وجزراً للسباع.

وفررنا منه رغبةً في الحياة!؟ معاذ الله! بل نحيا بحياتك ، ونموت معك(٣) .

إنّ وصف الإمام الحسين عليه السلام لأهل بيته بالبرّ والصلة ، وجعلهم خيرَ أهلِ بيتٍ في المؤازرة والمعاونة ، والتمجيد لهم بهذه الكلمات الذهبيّة ؛ لهي شارةُ مجدٍ وكرامة في صَدْرِ مَنْ حَضَرَ من أهل بيته معهُ في تلك المِحنة الرهيبة ، وفي ذلك الموقف الصعب العصيب.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج (٢ ـ ١١٣).

(٢) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١) وراجع الكامل في التاريخ لابن الأثير (٤ / ٥٧).

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ١١٣).

١٣٤

ثمّ إنّ تقدّم العَبّاس عليه السلام على جميع الحاضرين من أهل البيت ومن الأصحاب ، وفيهم أبناءُ الإمام وصحابة الرسول ، وكبار الشيبة والمشايخ ، وكون العَبّاس هو المتكلّمَ الأوّلَ في هذا المجمعِ الضخمِ الفخمِ ، والملتقى الشريف ، وفي مثل الموقف الحرج الّذي يرتج فيه الكلامُ على كلّ منطيقٍ ، إنّ تصدّرَ العَبّاس بمثلِ ذلك الكلام ، لدليلٌ على تملّيهِ بالإيمان واليقينِ بِما يقومُ به من المُتابعة لإمامِهِ ، كما ينمُّ عمّا يملكهُ من البُطولة والحميّة والدفاع عن الحقّ وأهله.

وممّا جاء في حديث المقتل : أنّ الإمام عليه السلام خاطب أخاهُ العَبّاس ، عند زحف جيش الكوفة نحو المخيّم الحسينيّ ، عصر التاسع من المحرّم ، فقال الإمام عليه السلام له :

يا عبّاسُ ، اركبْ ـ بِنفسي أنْتَ ، يا أخي! ـ حتّى تلقاهم ، فتقول لهم : مالكُم؟ وما بدا لكُم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم (١) ؟

إنّ تخصيصَ الإمام عليه السلام لأخيه العَبّاس لهذه الرسالة المهمّة فيها من الدلالة على المدى الفائق في اعتماده عليه بلا ريبٍ ، وهذا ما سنتحدّث عنه في الباب التالي من هذا الكتاب.

لكن تَفَدِّي الإمامِ بنفسهِ الشريفةِ أخاهُ العباسَ بقوله : «بِنفسي أنْتَ ، يا أخي! ...» فيه دلالةٌ أكبرُ ، لأنّ نفس الإمام عليه السلام هي أشرفُ نفسٍ على وجه الأرض ، والعَبّاس وكلُّ مَن معهُ إنّما حَضَرُوا معهُ لِيُحافِظُوا على نَفسهِ

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٦).

١٣٥

العزيزة والعظيمة ، وهذا واجبُهُم الإلهيّ ، فكيفَ يَتفَدّى الإمامُ بِنفسهِ هذِهِ لِلعبّاسِ!

إنّ في ذلك تقديساً لِلعَبّاسِ يُساوي قُدسيّة نفسِ الإمامِ عليه السلام ويرفع مستوى عظمة العَبّاس وكرامته إلى مُستوى اليقينِ بعظمةِ الإمامِ وكرامته.

وهذا ما تُؤكّدُهُ مجموعةُ الأحاديث والروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام في حقّ العَبّاس عليه السلام وتبيين بعض فضائله وفواضله ، نسردها هُنا :

كلام الإمام زين العابدين السجّاد عليه السلام في عمّه العَبّاس :

أسندَ الشيخُ الصدوقُ إلى أبي حمزة الثُمالي ؛ ثابت بن أبي صفيّة ، قال : نظر سيّدُ العابدين عليُّ بنُ الحسين عليهما السلام إلى عُبَيْد الله بن العَبّاس بن عليّ ابن أبي طالب عليهم السلام فاستعبرَ ، وقال :

«ما من يومٍ أشدَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله من يومِ أُحُدٍ ، قُتِلَ فيه عمّه حمزةُ ابن عَبْد المطّلب أسدُ الله وأسدُ رسوله ، وبعدهُ يوم مُؤتة قُتِلَ فيه ابن عمّه جعفرُ بنُ أبي طالب.

ثمّ قال : ولا يومَ كيومِ الحسين عليه السلام ازدلَفَ إليه ثلاثونَ ألفِ رجلٍ يزعمون أنّهمْ من هذه الأُمّة!!؟؟ كلٌّ يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ عزّ وجلّ بِدَمِهِ!!! وهو باللهِ يذكّرهُمْ فلا يتّعِظُون ، حتّى قَتَلُوهُ بَغْياً وظُلْماً وعُدْواناً.

ثمّ قال : رَحِمَ اللهُ العَبّاسَ ، فقدْ آثَرَ ، وأَبْلى ، وفَدَى أخاهُ بِنَفسهِ ، حتّى قُطِعَتْ يداهُ ، فأبْدَلَهُ اللهُ عزّ وجلّ بِهما جَناحينِ يَطِيرُ بِهما مَعَ الملائكةِ في الجنّة ، كما جَعل لِجَعفرِ بنِ أبي طالب.

١٣٦

وإنّ للعبّاسِ عندَ اللهِ تبارك وتعالى منزلةً يغبطُهُ بِها جميعُ الشُهداء يومَ القيامةِ »(١) .

إنّ ما يحتويه هذا النصُّ من كلمات الثناء والتمجيد لِمواقِفِ العَبّاسِ واضحةٌ صريحةٌ ، ونقرأُ وراءَها دلالاتٍ عميقةٍ :

فتذكيرُ الإمام السجّاد عليه السلام بأيّام الرسول صلى الله عليه وآله وغزواته ، وما جرى فيها عليه من الشدائد بِقَتل أهلِ بيتهِ في أُحُدٍ ومُؤتَةَ ، تدلُّ على المُقارَنةِ بينَ تلكَ الأيّامِ ، وبين يومِ الحُسين عليه السلام وفي ذلك :

١ ـ التوحيد بين الأهدافِ في الأيّامِ كلّها ، بِفارقِ أنّ القائدَ هُناكَ هُو رسول الله ، وهُنا هو ابنُه الحُسين الّذي نَصَّ على أنّهُ «مِنْهُ» في حديث : «حُسينٌ مِنّي وأنا من حُسينٍ أَحَبَّ اللهُ مَن أَحَبَّ حُسيناً »(٢) .

وبهذا حدّد الرسولُ صلى الله عليه وآله المسيرَ والمصيرَ ، بأنّ حركة الحسين عليه السلام هي استمرارٌ لحركة الرسول صلى الله عليه وآله.

وعلى ذلك فإنّ المقارنة تقعُ بين أصحاب الرسول في تلك الأيّام ، والأصحاب في يوم الحسين عليه السلام. وتخصّص المقارنة بين الشهداء في أيّام الرسول من أقاربه وأهل بيته ، والشهداء في يوم الحسين من أهل بيته.

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ص ٧ ـ ٥٤٨) وهو آخر حديث في المجلس (٧٠) تسلسل (٧٣١) ورواه في كتابه الخصال (ص ٦٨ رقم ١٠١) بالسند ، من قوله : «رحم الله العَبّاس ...» إلى آخره وقال : والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العَبّاس بن علي عليهما السلام في كتاب (مقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام).

(٢) وقد شرحنا الحديث في كتابنا (الحسين عليه السلام سماته وسيرته) الفقرة (١١).

١٣٧

وقد سبق الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْن عليّ عليه السلام إلى ذلك في ما رواه الگنجي عنه ، أنه قال عند مروره بكربلاء : «يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر »(١) .

٢ ـ ثمّ المقارنة بين حمزة الّذي مثّلَ بِجسدهِ الكُفّارُ يومَ أُحُدٍ ، وبين منْ قطّع إرباً إرباً في كربلاء يوم عاشُوراء. وبين جعفر الطيّار ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وبين العَبّاس أخ الحسين عليه السلام وصولاً إلى تساويهما في ما جرى عليهما من قطع اليدين ، وإبدالهما بجناحين ، فهما معاً يطيران في الجنّة مع الملائكة. على أنّ العبّاسَ امتاز بقطع الرِجْلين كما سيأتي عند ذكر مقتله عليه السلام.

٣ ـ وفي المقارنة الدلالةُ على أنّ يوم الحُسين عليه السلام هو كأيّام رسول الله صلى الله عليه وآله الّتي حدثتْ واستمرّتْ باستمرار الحقّ الّذي جاءَ بهِ الرسُولُ وضحّى بوجوده وأهل بيته وأصحابه ، كما الحُسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.

٤ ـ وفي المقارنة دلالةٌ أُخرى عميقةٌ ، وهي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله إنّما كان يقدّم أهلَ بيته أضاحي في سبيل مَبْدَئِهِ ورسالته ، وهو من أبلغ الأدلّة على حقّية رسالته ، بل أهل بيته بما قدّموه من التضحيات الكبيرة هُم مِن المُعجزات الإلهيّة للرسول ، حيثُ إنّ الملوك يُحاوِلُون الاحتفاظَ بِذويهم والابتعاد بهم عن مواقعِ الخطرِ ، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقدّم أعزَّ أهلِهِ وذَويهِ في لَهَواتِ الحُرُوبِ ، يُدافِعُون عن الحقّ حتّى الشهادة.

__________________

(١) كفاية الطالب (ص ٤٢٧) وتاريخ دمشق لابن عساكر (١٤ / ٢٢٢).

١٣٨

فكذلك الحُسينُ عليه السلام اتِّباعاً لسيرةِ جدّهِ وأبيهِ قَدَّمَ أمامَ المُواجهاتِ الرَهيبةِ ، أَعَزَّ مَن كانَ معهُ من أهلِ بيتهِ ، فلا بُدّ أنْ تعدّ معركةُ كربلاء من مُعجزات الحسين صلى الله عليه وآله.

٥ ـ ثمّ إنّ المفارقةَ المؤلِمَةَ بين تلك الأيّام ـ أيّام الرسول ـ وبين يوم الحسين : أنّ المُواجهةَ في أيّام الرسول صلى الله عليه وآله كانت بين الكُفّار ؛ وبين المُسلمين ، والحُدودُ والأهدافُ كانت مُتمايِزةً ومعروفةً وواضحةً. لكنّها في يوم الحسين عليه السلام كانت بين الحسينِ سِبطِ رسول الله وأصحابِه من جِهَةٍ ، وبينَ شرذمةٍ مِمّن يَدَّعُون الانتِماءِ إلى دينِ جدِّهِ الرسول ، ويعتبرُونَ أنفسَهم مسلمين ومن أُمّتِهِ! ، لكنّهم جاءُوا : (يَتَقَرَّبُون إلى الله بِسفكِ دَمِ سبطهِ وريحانته الحُسين ).

إنّها من أصعبِ المواقِفِ وأحرجِها ، حيثُ صارت الحقيقةُ خافيةً على الأُمّةِ إلى هذهِ الدرجةِ ، ولمّا يَمْضِ على وفاةِ رسول الله نصفُ قرنٍ (خمسون سَنَةً) فقط!!!

فما أضلَّها من أُمّةٍ؟! وما أكثرها من خسارة أن تضيع تلك الجهود الغالية ، في سبيل هداية الأمّة!.

وما أقبحَها من رِدّةٍ على الأعقابِ!؟

وما أسرعَه من نقض للعهد!!؟؟

وما أعظمَ مقامَ مَن وَقَفَ مَعَ الحَقّ ، وجاهَدَ في سبيلهِ! في مثل ذلك الجهلِ والعَمى المُطبق!

١٣٩

وقد ذكر الإمام السجاد عمه أبا الفضل في حديث آخر :

أورده الشيخ الصدوق(١) ، قال : حدّثنا المظفّر بن جعفر [بن المظفّر] ابن العلويّ السّمر قنديّ : حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسعود العيّاشيّ ، عن أبيه ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن خالد الطّيالسيّ ، قال : حدّثني أبي ، عن محمّد بن زياد ، عن الأزديّ ، عن حمزة بن حُمران ، عن أبيه حُمران ابن أعين ، عن أبي جعفر ؛ محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام قال :

كان عليُّ بنُ الحسين عليهما السلام يُصلِّي في اليوم والليلة أَلْفَ رَكعة [...] .

ولَقَدْ كانَ بَكى على أَبيهِ الحُسين عليه السلام عِشرينَ سنةً ، وما وُضِعَ بَينَ يَديهِ طعامٌ إلاّ بَكى ، حتّى قال له مَولىً لهُ : يا ابنَ رَسُول الله! أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أنْ يَنْقَضِيَ؟! فقالَ له : وَيْحَكَ إنّ يَعقُوبَ النّبيَّ عليه السلام كانَ لهُ اثنا عَشَر ابْناً ، فغَيّبَ اللهُ عنهُ واحِداً منهم ، فابْيَضَّتْ عَيْناهُ من كَثْرةِ بُكائِهِ عليهِ ، وشابَ رَأسُهُ من الحُزْنِ ، واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ من كَثْرةِ بُكائِهِ عليهِ ، وشابَ رَأسُهُ من الحُزْنِ ، واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ من الغَمِّ ، وكان ابْنُهُ حَيّاً في الدُنْيا ؛ وأنَا نَظَرْتُ إلى أَبِي ، وأَخِي ، وعَمِّي ، وسَبعة عَشَرَ من أَهل بَيْتِي : مَقْتُولِين حَوْلِي!!! فَكيفَ يَنْقَضِي حُزْني؟؟؟ (٢) .

والمراد بقوله : «عمّي » هوالعباس عليه السلام. فمِن هُنا كانت كلمة : «لا يومَ كيومِ أبي عَبْد الله الحُسين » أصدقَ. وكان مقامُ شُهداء كربلاء أشرفَ. وكانَ مقامُ العَبّاسِ يومَ القيامة بحيثُ «يغبِطُهُ جميعُ الشُهداء » بِلا استثناءٍ.

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق (ص ٥١٧ ـ ٥١٩) باب «ثلاث وعشرين» من الخصال المحمودة.

(٢) الخصال ، للشيخ الصدوق (٢ / ٦١٥ ـ ٥١٨) ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (٤ / ١٨٠) وراجع : حلية الأولياء لأبي نعيم (٣ / ١٣٣ ـ ١٤٥) (١٣٨) والبحار (٤٦ / ٣٦).

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مسألة ١٤ : إذا صارت الوديعة مضمونةً على المستودع‌ إمّا بنقل الوديعة أو إخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابّة ولُبْس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ثمّ إنّه ترك الخيانة وردّ الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب ، لم يبرأ بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ، ولم تَعُدْ أمانته - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه ضمن الوديعة بعدوان ، فوجب أن يبطل الاستئمان ، كما لو جحد الوديعة ثمّ أقرّ بها.

وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ؛ لأنّه إذا ردّها فهو ماسك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن عليه ضمانها ، كما لو لم يخرجها(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّه إذا لم يخرجها لم يضمنها بعدوان ، بخلاف صورة النزاع.

ثمّ يُنقض على أبي حنيفة بما سلّمه من أنّه إذا جحد الوديعة وضمنها بالجحود ثمّ أقرّ بها ، فإنّه لا يبرأ ، وبالقياس على السارق ، فإنّه لو ردّ المسروق إلى موضعه ، لم يبرأ(٣) ، فكذا هنا.

فروع :

أ - لو ردّ الوديعة - بعد أن تعلّق ضمانها به إمّا بالإخراج من الحرز أو بالتصرّف أو بغيرهما من الأسباب‌ - إلى المالك وأعادها عليه ثمّ إنّ المالك‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٦.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٦ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥.

١٦١

أودعه إيّاها ثانياً ، فإنّه يعود أميناً إجماعاً ، ويبرأ من الضمان.

ب - لو لم يسلّمها إلى المالك ولكن أحدث المالك له استئماناً‌ ، فقال : أذنتُ لك في حفظها ، أو أودعتُكها ، أو استأمنتُك ، أو أبرأتُك عن الضمان ، فالأقرب : سقوط الضمان عنه ، وعوده أميناً ؛ لأنّ التضمين لحقّ المالك ، وقد رضي بسقوطه ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يزول الضمان ولا يعود أميناً - وهو قول ابن سريج - لظاهر قولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(١) (٢) .

وكذا الخلاف فيما لو حفر بئراً في ملك غيره عدواناً ثمّ أبرأه المالك عن ضمان الحفر(٣) .

ج - لو قال المالك : أودعتُك كذا - ابتداءً - فإن خُنتَ ثمّ تركتَ الخيانة عُدْتَ أميناً لي‌ ، فخان وضمن ثمّ ترك الخيانة ، لم تزل الخيانة ، ولم يَعُدْ أميناً - وبه قال الشافعي(٤) - لأنّه لا ضمان حينئذٍ حتى يسقط ، وهناك الضمان ثابت فيصحّ إسقاطه ، ولأنّ الاستئمان الثاني معلّق.

د : لو قال : خُذْ هذا وديعةً يوماً وغير وديعةٍ يوماً ، فهو وديعة أبداً. ولو قال : خُذْه وديعةً يوماً وعاريةً يوماً ، فهو وديعة في اليوم الأوّل ، وعارية في اليوم الثاني.

وهل يعود وديعةً؟ مَنَع الشافعيّة منه ، وقالوا : لا يعود وديعةً أبداً(٥) .

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٨ / ١٩٦٢٠ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٧ : ٢٥٢ / ٦٨٦٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ - ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

١٦٢

مسألة ١٥ : إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجاً لا يتميّز أحدهما عن صاحبه‌ ، كدراهم مزجها بمثلها ، أو دنانير مزجها بمثلها بحيث لا مائز بين الوديعة وبين مال المستودع ، أو مزج الحنطة بمثلها ، كان ضامناً ، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها أو أزيد منها - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه قد تصرّف في الوديعة تصرّفاً غير مشروعٍ ، وعيّبها بالمزج ، فإنّ الشركة عيب ، فكان عليه الضمان ، ولأنّه خلطها بماله خلطاً لا يتميّزا ، فوجب أن يضمنها ، كما لو خلطها بدونه.

وقال مالك : إن خلطها بمثلها أو الأجود منها لم يضمن ، وإن خلطها بدونها ضمن ؛ لأنّه لا يمكنه ردّها إلّا ناقصةً(٢) .

وهو آتٍ في المساوي والأزيد ؛ فإنّ الشركة عيب ، والوقوف على عين الوديعة غير ممكنٍ ، فاشتمل ذلك على المعاوضة ، وإنّما تصحّ برضا المالك.

ولو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعةً ، فمزج أحدهما بالآخَر بحيث لا يتميّز ، ضمن أيضاً ؛ لأنّه تصرّف تصرّفاً غير مشروعٍ في الوديعة ، وربما ميّز بينهما لغرضٍ دعا إليه ، فالخلط خيانة.

وكذا لو أودعه كيساً وكان في يده له كيسٌ آخَر أمانة مجرّدة بأن وقع عليه اتّفاقاً فمزج أحدهما بالآخَر ، كان ضامناً أيضاً.

وكذا لو كان الكيس الآخَر في يده على سبيل الغصب من مالك‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨ ، المغني ٧ : ٢٨١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٦ - ٣٠٧.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، المغني ٧ : ٢٨١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٧.

١٦٣

الوديعة ، وبالجملة على أيّ وجهٍ كان.

مسألة ١٦ : لو أودعه عشرة دراهم - مثلاً - في كيسٍ‌ ، فإن كان مشدوداً مختوماً فكسر الختم وحلّ الشدّ أو فَعَل واحداً منهما ، ضمن ؛ لأنّه هتك الحرز على ما تقدّم.

وإن لم يكن الكيس مشدوداً ولا مختوماً فأخرج منه درهماً لنفقته ، ضمنه خاصّةً ؛ لأنّه لم يتعدّ في غيره ، فإن ردّه لم يزل عنه الضمان ، فإن لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي ؛ لأنّه لم يتصرّف فيه.

وكذا إن اختلط وكان متميّزاً لم يلتبس بغيره.

وإن امتزج بالباقي مزجاً ارتفع معه الامتياز ، فالوجه : إنّه كذلك لا يضمن الباقي ، بل الدرهم خاصّةً ؛ لأنّ هذا الاختلاط كان حاصلاً قبل الأخذ ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّ عليه ضمان الباقي ؛ لخلطه المضمون بغير المضمون(١) .

فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه إلّا درهم واحد ، ولو تلفت منها خمسة لم يلزمه إلّا نصف درهمٍ.

ولو أنفق الدرهم الذي أخذه ثمّ ردّ مثله إلى موضعه ، لم يبرأ من الضمان ، ولا يملكه صاحب الوديعة إلّا بالقبض والدفع إليه.

ثمّ إن كان المردود لا يتميّز عن الباقي ، صار الكلّ مضموناً عليه ؛ لخلطه الوديعةَ بمال نفسه ، وإن كان يتميّز فالباقي غير مضمونٍ عليه.

مسألة ١٧ : لو أتلف بعضَ الوديعة ، فإن كان ذلك البعض منفصلاً عن الباقي‌ - كالثوبين إذا أتلف أحدهما - لم يضمن إلّا الـمُتْلَف ؛ لأنّ العدوان‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

١٦٤

إنّما وقع فيه ، فلا يتعدّى الضمان إلى غيره وإن كان الإيداع واحداً.

وإن كان متّصلاً ، كالثوب الواحد يخرقه ، أو يقطع طرف العبد أو البهيمة ، فإن كان عامداً في الإتلاف فهو جانٍ على الجميع ، فيضمن الكلّ.

وإن كان مخطئاً ، ضمن ما أتلفه خاصّةً ، ولم يضمن الباقي - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه لم يتعدّ في الوديعة ، ولا خان فيها ، وإنّما ضمن الـمُتْلَف ؛ لفواته وصدور الهلاك منه فيه مخطئاً.

وفي الثاني لهم : إنّه يضمنه أيضاً ، ويستوي العمد والخطأ فيه ، كما استويا في القدر التالف(٢) .

البحث الثاني : في الإيداع.

مسألة ١٨ : إذا أودع المستودعُ الوديعةَ غيرَه ، فإن كان بإذن المالك فلا ضمان عليه إجماعاً ؛ لانتفاء العدوان.

وإن لم يكن بإذن المالك ، فلا يخلو إمّا أن يودع من غير عذرٍ أو لعذرٍ ، فإن أودع من غير عذرٍ ضمن إجماعاً ؛ لأنّ المالك لم يرض بيد غيره وأمانته.

ولا فرق بين أن يكون ذلك الغير عبدَه أو جاريتَه(٣) أو زوجتَه أو ولدَه أو أجنبيّاً عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(٤) - وذلك لعموم الدليل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ - ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٣) « أو جاريته » لم ترد في النسخ الخطّيّة المعتمدة لدينا.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، الوسيط ٤ : ٥٠٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ و ١٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، البيان ٦ : ٤٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩ ، المغني ٧ : ٢٨٢ و ٢٨٣ ، الشرح =

١٦٥

في الجميع.

وقال مالك : إنّ له أن يودع زوجته(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة : إذا استعان بزوجته أو خادمه في خباء الوديعة ولم تغب عن نظره جاز ، ولا ضمان عليه(٢) .

وقال أبو حنيفة وأحمد : له أن يودع مَنْ عليه نفقته من ولدٍ ووالدٍ وزوجةٍ وعبدٍ ، ولا ضمان عليه بكلّ حال ؛ لأنّه حفظ الوديعة بمن يحفظ به ماله ، فلم يلزمه الضمان ، كما لو حفظها بنفسه(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّه سلّم الوديعةَ إلى مَنْ لم يرض به صاحبها مع قدرته على صاحبها ، فضمنها ، كما لو سلّمها إلى الأجنبيّ.

والقياس عليه باطل ؛ لأنّه إذا حفظ ماله بخادمه أو زوجته فقد رضي المالك بذلك ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ١٩ : إذا أودع من غير إذن المالك ولا عذر ، ضمن‌ ، وكان لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما إذا تلفت ، فإن رجع على المستودع‌

____________________

= الكبير ٧ : ٢٩٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩ ، روضة القُضاة ٢ : ٦١٨ / ٣٥٦٠٤.

(١) بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الذخيرة ٩ : ١٦٢ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٥ - ٤٣٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٧ - ٢٠٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٦١٨ / ٣٥٦٠٣ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٠٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٨ ، الفقه النافع ٣ : ٩٣٩ / ٦٦١ ، المحيط البرهاني ٥ : ٥٢٨ ، المغني ٧ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٩ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٥ / ١٠٦٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الذخيرة ٩ : ١٦٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩.

١٦٦

الأوّل فلا رجوع له على الثاني ، وإن رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأوّل ؛ لأنّه دخل معه على أن لا يضمن ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : ليس للمالك أن يضمن الثاني ؛ لأنّ قبض الثاني تعلّق به الضمان على الأوّل ، فلا يتعلّق به ضمان على الآخَر(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّه قبض مال غيره ، ولم يكن له قبضه ، فإذا كان من أهل الضمان في حقّه ضمنه ، كما استودعه إيّاه الغاصب.

ودليله ضعيف ؛ لأنّ المستودع الأوّل ضمن بالتسليم ، والثاني بالتسلّم.

مسألة ٢٠ : ولا فرق عندنا بين أن يودع المستودع الوديعةَ عند القاضي أو عند غيره.

وللشافعيّة وجهان - حكاهما [ أبو ](٣) حامد فيما إذا وجد المالك وقدر على الردّ عليه ، وفيما إذا لم يجد - أحدهما : إنّه لا يضمن.

أمّا إذا كان المالك حاضراً : فلأنّ أمانة القاضي أظهر من أمانة المستودع ، فكأنّه جعل الوديعة في مكانٍ أحرز.

وأمّا إذا كان غائباً : فلأنّه لو كان حاضراً لألزمه المودع الردّ ، فإذا كان غائباً ناب عنه القاضي.

والأظهر عند أكثر الشافعيّة : إنّه يضمن.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢١ ، المغني ٧ : ٢٨٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠١.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧١ - ١٧٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٨ ، المغني ٧ : ٢٨٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ابن ». والصحيح ما أثبتناه.

١٦٧

أمّا إذا كان المالك حاضراً : فلأنّه لا ولاية للقاضي على الحاضر الرشيد ، فأشبه سائر الناس.

وأمّا إذا كان غائباً : فلأنّه لا ضرورة بالمودع إلى إخراجها من يده ، ولم يرض المالك بيد غيره ، فليحفظه إلى أن يجد المالك أو يتجدّد له عذر(١) .

وعلى تقدير تجويز الدفع إلى القاضي هل يجب على القاضي القبول إذا عرضها المستودع عليه؟

أمّا إذا كان المالك حاضراً والتسليم إليه متيسّراً ، فلا وجه لوجوبه عليه.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، ففي إيجاب القبول للشافعيّة وجهان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّه التزم حفظه ، فيؤمر بالوفاء به.

وأظهرهما : الإيجاب ؛ لأنّه نائب عن الغائب ، ولو كان المالك حاضراً لألزم القبول(٢) .

ولو دفع الغاصبُ الغصبَ إلى القاضي ، ففي وجوب القبول عليه الوجهان(٣) .

لكن هذه الصورة أولى بعدم الوجوب ، ليبقى مضموناً للمالك.

والمديون إذا حمل الدَّيْن إلى القاضي ، فكلّ موضعٍ لا يجب على ربّ الدَّيْن القبول لو كان حاضراً ففي القاضي أولى ، وكلّ موضعٍ يجب على المالك قبوله ففي القاضي الوجهان(٤) .

وهذه الصورة أولى بعدم الوجوب - وهو الأظهر عندهم(٥) - لأنّ الدَّيْن‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ - ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩ - ٢٩٠.

(٢ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠.

١٦٨

ثابت في الذمّة لا يتعرّض للتلف ، وإذا تعيّن تعرّض له ، ولأنّ مَنْ في يده العين يثقل عليه حفظها.

وجميع ما ذكرناه فيما إذا استحفظ الغير وأزال يده ونظره على الوديعة ، أمّا إذا استعان به في حملها إلى الحرز فلا بأس ، كما لو استعان في سقي البهيمة وعلفها.

فروع :

أ - لو كانت له خزانة مشتركة بينه وبين أبيه فدفع الوديعة إلى أبيه ليضعها في الخزانة المشتركة ، فالأقرب : الضمان ، إلّا إذا علم المالك بالحال.

ب - لا يجوز أن يضع الوديعة في مكانٍ مشترك بينه وبين غيره‌ ، كدكّانٍ مشترك ودارٍ مشتركة ، فلو وضعها فيه ثمّ أراد الخروج لحاجاته فاستحفظ مَنْ يثق به من متّصليه وكان يلاحظ المحرز في عوداته ، فلا بأس ؛ لأنّه في الحقيقة إيداع مع الحاجة.

ولو فوّض الحفظ إلى بعضهم ولم يلاحظ الوديعة أصلاً ، فالأقرب : الضمان.

ج - لو كان المحرز خارجاً عن داره التي يأوي إليها وكان لا يلاحظه‌ ، فإن كان يشاركه غيره ضمن ، وإلّا فلا.

مسألة ٢١ : لو جعل الوديعة في دار جاره ، فإن كان الموضع محرزاً لا يدخله المالك وكان عاريةً أو مأذوناً فيه فلا ضمان‌ ، وإن لم يكن كذلك ضمن ؛ لأنّه فرّط حيث وضع الوديعة في غير حرزٍ أو في حرزٍ ممنوع منه شرعاً.

ولما رواه محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد‌

١٦٩

العسكريعليه‌السلام : رجل دفع إلى رجلٍ وديعةً فوضعها في منزل جاره فضاعت هل تجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها من ملكه؟ فوقّععليه‌السلام : « هو ضامن لها إن شاء الله »(١) .

مسألة ٢٢ : إذا أراد المستودع ردَّ الوديعة على صاحبها ، كان له ردّها عليه أو على وكيله في قبضها‌ ؛ لأنّ المستودع لا يلزمه إمساكها.

فإن دفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ مع وجود صاحبها أو وكيله ، ضمنها على ما قدّمناه ؛ لأنّ الحاكم والأمين لا ولاية له على الحاضر الرشيد.

وإن لم يقدر على صاحبها ولا وكيله فدفعها إلى الحاكم أو أمينٍ ، فإن كان لغير عذرٍ ضمن ؛ لأنّه لا حاجة به إلى ذلك ، ولا ينوب الحاكم في غير حال الحاجة.

وإن كان به حاجة إلى الإيداع - كأن يخاف حريقاً أو نهباً أو غير ذلك - فدفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ ليخلصها من ذلك جاز ، وإن تلفت لا ضمان عليه ؛ لأنّه موضع حاجةٍ ، وقد تقدّم.

مسألة ٢٣ : لو عزم المستودع على السفر ، كان له ذلك‌ ، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة ؛ لأنّه متبرّع بإمساكها ، ويلزمه ردّها إلى صاحبها أو وكيله في استردادها أو في عامّة أشغاله ، فإن لم يظفر بالمالك ؛ لغيبته ، أو تواريه ، أو حبسه وتعذّر الوصول إليه ، ولا ظفر بوكيله ، فإنّه يدفعها إلى الحاكم ، ويجب عليه قبولها ؛ لأنّه موضوع للمصالح ، فإن لم يجد دَفَعها إلى أمينٍ ، ولا يُكلّف تأخير السفر ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت عنده ودائع ، فلـمّا أراد الهجرة سلّمها إلى أُمّ أيمن ، وأمر عليّاًعليه‌السلام بردّها(٢) .

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٠ / ٧٩١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٤٢ ، الهامش (٣)

١٧٠

فإن ترك هذا الترتيب فدفعها إلى الحاكم أو إلى الأمين مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله ، ضمن.

وللشافعيّة خلاف في الحاكم(١) سبق(٢) .

وإن دفع إلى أمينٍ وهو يجد الحاكم ، فللشافعي قولان :

أحدهما - وبه قال علماؤنا ، وأحمد بن حنبل وابن خيران من الشافعيّة والاصطخري منهم - : إنّه يضمنه ؛ لأنّ أمانة الحاكم ظاهرة متّفق عليها ، فلا يُعدل عنها ، كما لا يُعدل عن النصّ إلى الاجتهاد ، ولأنّ الحاكم نائب الغائبين ، فكان كالوكيل ، ولأنّ له ولايةً ، فهو يمسكها بالولاية والعدالة ، بخلاف غيره ، فإنّه ليس له الولاية.

والثاني : إنّه لا يضمن - وبه قال مالك - لأنّه أودع بالعذر أميناً ، فأشبه الحاكم ، ولأنّ مَنْ جاز له دفعها إليه مع عدم الحاكم جاز دفعها إليه مع وجوده ، كوكيل صاحبها(٣) .

وقد نقل أصحاب الشافعي عنه اضطراباً في القول ، فقالوا : هذان القولان للشافعي.

قال في باب الرهن فيما إذا أراد العَدْل ردّ الرهن أو الوديعة - يعني إلى عَدْلٍ - بغير أمر الحاكم : ضمن.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠.

(٢) في ص ١٦٦ ، المسألة ٢٠.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٤٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠ ، المغني ٧ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٥ / ١٠٦٩ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩ - ٢٠.

١٧١

وقال هنا في ردّ الوديعة : ولو لم يكن حاضراً - يعني ربّ الوديعة - فأودعها أميناً يودعه ماله، لم يضمن. فلم يفرّق بين أن يجد الحاكم أو لا يجد(١) .

ونقل عنه طريقة قاطعة بأنّه يضمن(٢) .

ونقل عنه أيضاً طريقة قاطعة أنّه لا يضمن(٣) .

وحكى بعض الشافعيّة وجهاً : إنّه يشترط أن يكون الأمين الذي يودعه بحيث يأتمنه ويودع ماله عنده(٤) .

لكنّ الظاهر عندهم خلافه ، وقول الشافعي : « يودعه ماله » على سبيل التأكيد والإيضاح(٥) .

مسألة ٢٤ : ولا يجوز للمستودع إذا عزم على السفر أن يسافر بالوديعة‌ ، بل يجب عليه دفعها إلى صاحبها أو وكيله الخاصّ في الاسترداد أو العامّ في الجميع ، فإن لم يوجد أحدهما دفعها إلى الحاكم ، فإن تعذّر الحاكم دفعها إلى أمينٍ ، ولا يسافر بها ، فإن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ، ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفاً أو غير مخوفٍ - وبه قال الشافعي(٦) - لأنّه سافر بالوديعة من غير ضرورةٍ بغير إذن مالكها فضمن ، كما لو كان الطريق مخوفاً ، ولأنّ حرز‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ - ٢٩٥.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥.

(٦) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، الوسيط ٤ : ٥٠١ ، حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١ ، المغني ٧ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢٠.

١٧٢

السفر دون حرز الحضر ، وفي الحديث : « إنّ المسافر ومتاعه لعلى قَلَتٍ(١) إلّا ما وقى الله »(٢) .

وقال أبو حنيفة : إذا كان السفر آمناً ، لم يضمن ؛ لأنّه نقل الوديعة إلى موضعٍ مأمون فلم يضمن ، كما لو نقلها في البلد من موضعٍ إلى موضعٍ(٣) .

وهو وجهٌ للشافعيّة ، وكذا إذا كان السفر في البحر إذا كان الغالب فيه السلامة(٤) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ البلد يؤمن أن يطرأ عليه الخوف ، والسفر لا يؤمن فيه مثل ذلك ، ولأنّ البلد في حكم المنزل الواحد وقد رضي مالك الوديعة به ، بخلاف السفر.

مسألة ٢٥ : لو اضطرّ المستودع إلى السفر بالوديعة بأن يضطرّ إلى السفر وليس في البلد حاكم‌ ولا ثقة ولم يجد المالك ولا وكيله ، أو اتّفق جلاءٌ لأهل البلد ، أو وقع حريق أو غارة ونهب ولم يجد المالك ولا وكيله ولا الحاكم ولا العَدْل ، سافر بها ، ولا ضمان عليه إجماعاً ؛ لأنّ حفظها حينئذٍ في السفر بها ، والحفظ واجب ، وإذا لم يتمّ إلّا بالسفر بها كان السفر بها واجباً ، ولا نعلم فيه خلافاً.

____________________

(١) القلت : الهلاك. راجع الهامش التالي.

(٢) غريب الحديث - لابن قتيبة - ٢ : ٥٦٤.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٢٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٧ ، المحيط البرهاني ٥ : ٥٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٧ ، الوسيط ٤ : ٥٠٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ - ٢٩٦ ، المغني ٧ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢٠.

(٤) حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩ (١)

١٧٣

أمّا لو عزم على السفر من غير ضرورةٍ في وقت السلامة وأمن البلد وعجز عن المالك ووكيله وعن الحاكم والأمين فسافر بها ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّه التزم الحفظ في الحضر ، فليؤخّر السفر ، أو ليلتزم خطر الضمان ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا ضمان عليه ، وإلّا لزم أن ينقطع عن السفر ، وتتعطّل مصالحه ، وفيه تنفير عن قبول الودائع(١) .

وشرطوا لجواز السفر بها أمن الطريق ، وإلّا فيضمن(٢) .

أمّا عند وقوع الحريق ونحوه فإنّا نقول : إذا كان احتمال الهلاك في الحضر أقرب منه في السفر ، فله أن يسافر بها ، ولو كان الطريق آمناً فحدث خوفٌ أقام.

ولو هجم القطّاع فألقى المال في مضيعة إخفاءً له فضاع ، فعليه الضمان.

مسألة ٢٦ : لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثمّ سافر ، ضمنها إن كان قد دفن في غير حرزٍ.

وإن دفنها في منزله في حرزٍ ولم يُعلمْ بها أحداً ، ضمنها أيضاً ؛ لأنّه غرّر بها ، لأنّه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها ، ولأنّه ربما يخرب المكان أو يغرق فلا يعلم أحد بمكانها لينقلها فتتلف.

وإن أعلم بها غيره ، فإن كان غير أمينٍ ضمن ؛ لأنّه قد زادها تضييعاً ، لأنّه قد يخون فيها ويطمع.

وإن كان أميناً فإن لم يكن ساكناً في الموضع ، ضمنها ؛ لأنّه لم يودعها‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٢.

١٧٤

عنده.

وإن كان ساكناً في الموضع ، فإن كان ذلك مع عدم صاحبها والحاكم جاز ؛ لأنّ الموضع وما فيه في يد الأمين ، فالإعلام كالإيداع ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه يضمن ؛ لأنّه إعلام لا إيداع(١) .

وإن كان مع القدرة على صاحبها أو وكيله ضمن.

وإن كان مع القدرة على الحاكم ، فعلى الوجهين السابقين.

ولو جعلها في بيت المال ، ضمن ، قاله الشافعي في الأُمّ(٢) .

واختلف أصحابه في معناه.

فمنهم مَنْ قال : أراد بذلك إذا تركها في بيت المال مع القدرة على صاحبها.

ومنهم مَنْ قال : أراد إذا جعلها في بيت المال بنفسه ولم يسلّمها إلى الحاكم(٣) .

ولو خاف المعاجلة عليها فدفنها فلا ضمان.

فروع :

أ - لو راقبها من الجوانب أو من فوق مراقبة الحارس‌ ، فهو كالسكنى في الموضع الذي دُفنت فيه.

ب - قال بعض الشافعيّة : الإعلام كالإيداع‌ من غير فرقٍ بين أن يسكن الموضع أو لا يسكنه(٤) .

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

(٢) الأُمّ ٤ : ١٣٥ ، وعنه في البيان ٦ : ٤٣٤.

(٣) البيان ٦ : ٤٣٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

١٧٥

وإذا دفن الوديعة في غير حرزٍ عند إرادة السفر ، ضمن على ما تقدّم ، إلّا أن يخاف عليها المعاجلة.

وكذا يضمن لو دفنها في حرزٍ ولم يُعلِمْ بها أميناً ، أو أعلم أميناً حيث لا يجوز الإيداع عند الأمين.

ج - هل سبيل هذا الإعلام الإشهاد أو الائتمان؟ إشكال.

وللشافعيّة وجهان(١) .

فعلى الأوّل لا بدّ من إعلام رجلين أو رجل وامرأتين. والظاهر الثاني.

د - كما يجوز إيداع الغير لعذر السفر كذا يجوز لسائر الأعذار‌ ، كما لو وقع في البقعة حريق أو غارة أو خاف الغرق.

وفي معناها ما إذا أشرف الحرز على الخراب ولم يجد حرزاً ينقلها إليه.

ه- لو أودعه حالة السفر فسافر بها أو كان المستودع منتجعاً(٢) فانتجع بها ، فلا ضمان‌ ، لأنّ المالك رضي به حيث أودعه ، فكان له إدامة السفر والسير بالوديعة.

مسألة ٢٧ : إذا مرض المستودع مرضاً مخوفاً أو حُبس ليُقتل ، وجب عليه الإيصاء بالوديعة‌ ، وإن تمكّن من صاحبها أو وكيله ، وجب عليه ردّها إليه ، وإن لم يقدر على صاحبها ولا على وكيله ، ردّها إلى الحاكم.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

(٢) النجعة : طلب الكلأ في موضعه. الصحاح ٣ : ١٢٨٨ « نجع ».

١٧٦

ولو أودعها عند ثقةٍ مع عدم الحاكم جاز ، وإن كان مع القدرة عليه ضمن.

وللشافعيّة وجهان(١) .

ولو لم يوص بها لكن سكت عنها وتركها بحالها حتى مات ، ضمن ؛ لأنّه غرّر بها وعرّضها للفوات ، فإنّ الورثة يقتسمونها ويعتمدون على ظاهر اليد ولا يحسبونها وديعةً ، ويدّعونها لأنفسهم ، فكان ذلك تقصيراً منه يوجب التضمين.

فروع :

أ - التقصير هنا إنّما يتحقّق بترك الوصاية إلى الموت‌ ، فلا يحصل التقصير إلّا إذا مات ، لكن نتبيّن عند الموت أنّه كان مقصّراً من أوّل ما مرض ، فضمّناه ، أو يلحق التلف إذا حصل بعد الموت بالتردّي بعد الموت في بئرٍ حفرها متعدٍّ.

ب - قد توهّم بعض الناس أنّ المراد من الوصيّة بها تسليمها إلى الوصي‌ ليدفعها إلى المالك ، وهو الإيداع بعينه(٢) .

وليس كذلك ، بل المراد الأمر بالردّ من غير أن يخرجها من يده ، فإنّه والحالة هذه مخيّر بين أن يودع للحاجة ، وبين أن يقتصر على الإعلام والأمر بالردّ ؛ لأنّ وقت الموت غير معلومٍ ، ويده مستمرّة على الوديعة ما دام حيّاً.

ج - الأقرب : الاكتفاء بالوصيّة وإن أمكنه الردّ إلى المالك‌ ؛ لأنّه‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٦.

١٧٧

مستودع لا يدري متى يموت ، فيستصحب الحكم.

ويحتمل أنّه يجب عليه الردّ إلى المالك أو وكيله عند المرض ، فإن تعذّر أودع عند الحاكم أو أوصى إليه ، كما إذا عزم على السفر ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

د - يجب الإيصاء إلى الأمين‌ ، فإن أوصى إلى غير ثقةٍ ، فهو كما لو لم يوص ، ويجب عليه الضمان ؛ لأنّه غرّر بالوديعة.

ولا يجب أن يكون أجنبيّاً ، بل يجوز أن يوصي بها إلى وارثه ، ويُشهد عليه ؛ صوناً لها عن الإنكار.

وكذا الإيداع حيث يجوز أن يودع أميناً.

مسألة ٢٨ : إذا أوصى بالوديعة ، وجب عليه أن يبيّنها ويميّزها عن غيرها‌ بالإشارة إلى عينها أو بيان جنسها ووصفها ، فلو لم يبيّن الجنس ولا أشار إليها بل قال : عندي وديعة ، فهو كما لو لم يوص.

ولو ذكر الجنس فقال : عندي ثوب لفلان ، ولم يصفه ، فإن لم يوجد في تركته جنس الثوب ، فأكثر علمائنا على أنّ المالك يضارب ، فيضارب ربّ الوديعة الغرماء بقيمة الوديعة ؛ لتقصيره بترك البيان ، وهو قول بعض الشافعيّة ، وهو ظاهر مذهبهم(٢) أيضاً.

وقال بعضهم : لا يضمن ؛ لأنّها ربما تلفت قبل الموت ، والوديعة أمانة ، فلا تُضمن بالشكّ(٣) .

وإن وُجد في تركته جنس الثوب ، فإمّا أن يوجد أثواب أو ثوب واحد ، فإن وُجد أثواب ضمن ؛ لأنّه إذا لم يميّز كان بمنزلة ما لو خلط الوديعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٣.

١٧٨

بغيرها ، وذلك سبب موجب للضمان ، فكذا ما ساواه ، وهو عدم تنصيصه على التخصيص.

وإن وُجد ثوبٌ واحد ، ففي تنزيل كلامه عليه إشكال.

قال بعض الشافعيّة : إنّه ينزّل عليه ، ويدفع إليه(١) .

ومنهم مَنْ أطلق القول بأنّه إذا وجد جنس الثوب ضمن ، ولا يدفع إليه عين الموجود.

أمّا الضمان : فللتقصير بترك البيان.

وأمّا أنّه لا يدفع إليه عين الموجود : فلاحتمال أن تكون الوديعة قد تلفت ، والموجود غيرها(٢) . وهو جيّد.

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه إنّما يضمن إذا قال : عندي ثوب لفلان ، وذكر معه ما يقتضي الضمان ، أمّا إذا اقتصر عليه فلا ضمان(٣) .

مسألة ٢٩ : لو مات ولم يذكر عنده وديعة ولكن وُجد في تركته كيس‌ مختوم أو غير مختومٍ مكتوب عليه : إنّه وديعة فلان ، أو وُجد في جريدته : إنّ لفلان عندي كذا وكذا وديعة ، لم يجب على الوارث التسليم بهذا القدر ؛ لأنّه ربما كتبه عبثاً ولهواً أو تلقّناً(٤) أو ربما اشترى الكيس بعد تلك الكتابة فلم يمحها ، أو ردّ الوديعة بعد ما أثبت في الجريدة ولم يمحه.

وبالجملة ، إنّما يثبت كونها وديعةً بأن يُقرّ أنّ هذه وديعة ، ثمّ يموت ، ولا يكون متّهماً في إقراره عندنا ومطلقاً عند جماعةٍ من علمائنا ، أو يُقرّ الورثة بأنّها وديعة ، أو تقوم البيّنة بذلك ، فإذا ثبتت الوديعة بأحد‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٣.

(٤) كذا قوله : « تلقّناً » ، وبدله في العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٨ ، وروضة الطالبين ٥ : ٢٩٤ : « تلبيساً ».

١٧٩

هذه الوجوه وجب على الورثة دفعها إلى مالكها ، فإن أخّروا الدفع مع الإمكان ضمنوا.

ولو لم يعلم صاحبها بموت المستودع ، وجب على الورثة إعلامه ذلك ، ولم يكن لهم إمساك الوديعة إلى أن يطلبها المالك منهم ؛ لأنّ المالك لم يأمنهم عليها ، وذلك كما لو أطارت الريح ثوباً إلى دار إنسانٍ وعلم صاحبها فإنّ عليه إعلامه ، فإن أخّر ذلك مع إمكانه ضمن.

تذنيب : لو لم يوص المستودع بالوديعة فادّعى ربّ الوديعة أنّه قصّر‌ ، وقال الورثة : لعلّها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير ، فالظاهر براءة الذمّة.

ويحتمل الضمان.

تذنيبٌ آخَر : جميع ما قلناه ثابت فيما إذا وجد فرصةً للإيداع أو الوصيّة‌ ، أمّا إذا لم يجد بأن مات فجأةً أو قُتل غيلةً ، فلا ضمان ؛ لأنّه لم يقصّر.

مسألة ٣٠ : قد بيّنّا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ثمّ مات ولم توجد في تركته ، وأنّ الذي يقتضيه النظر عدم الضمان.

والذي عليه فتوى أكثر العلماء منّا ومن الشافعيّة(١) وجوب الضمان.

وقد قال الشافعي : إذا لم توجد بعينها حاصّ المالك الغرماء(٢) .

واختلف أصحابه في هذه المسألة على ثلاث طُرق :

منهم مَنْ قال : إنّما يحاصّ الغرماء بها إذا كان الميّت قد أقرّ قبل موته ، فقال : عندي أو علَيَّ وديعة لفلان ، فإذا لم تُوجد ، كان الظاهر أنّه أقرّ‌

____________________

(١) راجع الهامش (٢) من ص ١٧٧.

(٢) الأُم ٤ : ١٣٨ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦ - ١٧٧.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603