العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39493 / تحميل: 4344
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يدك أبايعك على ما أحببنا وكرهنا ». فكان أول العرب بايع عليها مالك ابن هبيرة.

وقال الزبرقان بن عبد الله السكوني :

معاوي أخدجت الخلافة بالتي

شرطت فقد بوالك الملك

مالك ببيعة فصل ليس فيها غميزة

ألا كل ملك ضمه الشرط هالك

وكان كبيت العنكبوت مذبذبا

فأصبح محجوبا عليه الأرائك

وأصبح لا يرجوه راج لعلة

ولا تنتحي فيه الرجال الصعالك

وما خير ملك يا معاوي مخدج

تجرع فيه الغيظ والوجه حالك

إذا شاء ردته السكون وحمير

وهمدان والحي الخفاف السكاسك

نصر : صالح بن صدقة ، عن ابن إسحاق ، عن خالد الخزاعي وغيره عمن لا يتهم(١) ، أن عثمان لما قتل وأتى معاوية كتاب علي بعزله عن الشام خرج حتى صعد المنبر ثم نادى في الناس أن يحضروا ، فحضروا المسجد فخطب الناس معاوية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال :

« يا أهل الشام ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وخليفة عثمان وقتل مظلوما ، وقد تعلمون أني وليه(٢) ، والله يقول في كتابه :( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) : وأنا أحب أن تعلموني ما في أنفسكم من قتل عثمان ».

قال : فقام كعب بن مرة السلمي ـ وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٥٣ ) : « ممن لا يتهم ».

(٢) ح : « وخليفة عثمان وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه ».

٨١

أو نحو ذلك من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال :

« والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ، ولكني قد شهدت من رسول الله مشهدا لعل كثيرا منكم لم يشهده. وإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار في يوم شديد الحر فقال : « لتكونن فتنة حاضرة ». فمر رجل مقنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا المقنع يومئذ على الهدى قال : فقمت فأخذت بمنكبيه(١) وحسرت عن رأسه فإذا عثمان ، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله فقلت : هذا يارسول الله؟ قال : « نعم ».

فأصفق أهل الشام على معاوية ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ، ثم الأمر شورى.

وفي حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال :

لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال :

« يا عمرو ، إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله ابن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقتل عثمان ، وينال منه ».

فقال : الرأي ما رأيت. فبعث إليه فأتى ، فقال له معاوية : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلم بكل فيك(٢) فأنت المأمون المصدق! فا [ صعد المنبر ، وا ] شتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان. فقال : يا أمير المؤمنين(٣) أما شتميه فإنه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن

__________________

(١) ح : « بمنكبه ».

(٢) ح ( ١ : ٢٥٦ ) : « وانطق بملء فيك ».

(٣) ح : « أيها الأمير ».

٨٢

هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه. وأما بأسه فهو الشجاع المطرق. وأما أيامه فما قدمت عرفت : ولكني ملزمه دم عثمان. فقال عمرو [ بن العاص ] : إذا والله قد نكأت القرحة(١) .

فلما خرج عبيد الله قال معاوية : أما والله لولا قتله الهرمزان ، ومخافة علي على نفسه(٢) ما أتانا أبدا. ألم تر إلى تقريظه عليا؟! فقال عمرو : « يا معاوية ، إن لم تغلب فاخلب ». فخرج حديث إلى عبيد الله ، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته ، حتى إذا أتى إلى أمر علي أمسك [ ولم يقل شيئا ] ، فقال له معاوية(٣) : ابن أخي(٤) ، إنك بين عي أو خيانة! فبعث إليه : » كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني [ فتركتها ] ». فهجره معاوية ، واستخف بحقه ، وفسقه فقال عبيد الله :

معاوي لم أخرص بخطبة خاطب

ولم أك عيا في لؤى بن غالب(٥)

ولكنني زاولت نفسا أبية

على قذف شيخ بالعراقين غائب

__________________

(١) ح : « قد وأبيك إذن نكأت القرحة ».

(٢) ح : « ومخافته عليا على نفسه ».

(٣) ح : « فلما نزل بعث إليه معاوية ».

(٤) في الأصل : « ابن أخ » تحريف ، والمنادي إذا كان مضافا إلى مضاف إلى الياء فالياء ثابتة لا غير كقولك : « يا ابن أخي » و « يا ابن خالي » إلى إن كان « ابن أم » أو « ابن عم » ففيهما مذاهب.

(٥) لم أخرص : لم أكذب. وفي الأصل وح : « لم أحرص » تحريف.

٨٣

وقذفي عليا بابن عفان جهرة

يجدع بالشحنا أنوف الأقارب(١)

فأما انتقافي أشهد اليوم وثبة

فلست لكم فيها ابن حرب بصاحب(٢)

ولكنه قد قرب القوم جهده

ودبوا حواليه دبيب العقارب(٣)

فما قال أحسنتم ولا قد أسأتم

وأطرق إطراق الشجاع المواثب

فأما ابن عفان فأشهد أنه

أصيب بريئا لابسا ثوب تائب

حرام على آهاله نتف شعره

فكيف وقد جازوه ضربة لازب(٤)

وقد كان فيها للزبير عجاجة

وطلحة فيها جاهد غير لاعب

وقد أظهرا من بعد ذلك توبة

فياليت شعري ما هما في العواقب

__________________

(١) الشحناء : البغض والعداوة ، وفي الأصل : « أجدع بالشحناء » : وفي ح : « كذاب وما طبعي سجايا المكاذب » ، وجه هذه « وما طبي ».

(٢) البيت لم يرو في ح ، وفي صدره تحريف.

(٣) ح : « ولكنه قد حزب القوم حوله ».

(٤) الآهال : جمع أهل ، وأنشد الجوهري : * وبلدة ما الجن من آهالها *

٨٤

فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقربه وقال : « حسبي هذا منك ».

نصر ، عن عمر بن سعد عن أبي ورق ، أن ابن عمر بن مسلمة الأرحبي أعطاه كتابا في إمارة الحجاج بكتاب من معاوية إلى علي. قال : وإن أبا مسلم الخولاني(١) قدم إلى معاوية في أناس من قراء أهل الشام ، [ قبل مسير أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى صفين ، ] فقالوا [ له ] : يا معاوية علام تقاتل عليا ، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته؟ قال لهم : ما أقاتل عليا وأنا أدعى أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ، ولكن خبروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟ قالوا : بلى. قال : فليدع إلينا(٢) قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه. قالوا : فاكتب [ إليه ] كتابا يأتيه [ به ] بعضنا. فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني ، فقدم به على علي ، ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته(٣) ، والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلما محرما(٤) مظلوما ، فادفع

__________________

(١) أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي هو عبد الله بن ثوب ، بضم المثلثة وفتح الواو ، وقيل بإشباع الواو ، وقيل ابن أثوب بوزن أحمر ، ويقال ابن عوف وابن مشكم ، ويقال اسمه يعقوب بن عوف ، وكان ممن رحل إلى النبي فلم يدركه ، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية. انظر تقريب التهذيب ٦١٢ والمعارف ١٩٤. وفي الأصل : « الحولاني » بالمهملة ، صوابه بالخاء المعجمة ، كما في ح ( ٣ : ٤٠٧ ) نسبة إلى خولان ، بالفتح ، إحدى قبائل اليمن.

(٢) ح ( ٣ : ٤٠٧ ) : « فليدفع إلينا ».

(٣) ح : ( ٣ : ٤٠٨ ) : « وليته ».

(٤) محرما : أي له حرمة وذمة ، أو أراد أنهم قتلوه في آخر ذي الحجة ، وقال أبو عمرو :

٨٥

إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة ».

فقال له على : اغد على غدا ، فخذ جواب كتابك. فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملؤوا المسجد وأخذوا ينادون : كلنا قتل ابن عفان [ وأكثروا من النداء بذلك ] ، وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين فدفع إليه جواب كتابه معاوية ، فقال له أبو مسلم : قد رأيت قوما ما لك معهم أمر. قال : وما ذاك؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان. فقال علي : « والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ».

فخرج بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضراب.

وكان كتاب معاوية إلى عليعليه‌السلام (١) :

بسم الله الرحمن الرحيم

من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ،

__________________

أي صائما ، ويقال أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به ، فهو محرم. وبكل هذه التأويلات فسر بيت الراعي ، الذي أنشده صاحب اللسان ( ١٥ : ١٣ ) :

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مقتولا

وانظر خزانة الأدب ( ١ : ٥٠٣ ـ ٥٠٤ ).

(١) انظر هذا الكتاب أيضا في العقد ( ٣ : ١٠٧ ).

٨٦

فكانوا في منار لهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام. فكان أفضلهم في إسلامه ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ، وخليفة خليفته ، والثالث الخليفة المظلوم عثمان ، فكلهم حسدت ، وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وفي قولك الهجر ، وفي تنفسك الصعداء ، وفي إبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش(١) حتى تبايع وأنت كاره. ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك في قرابته وصهره ، فقطعت رحمه ، وقبحت محاسنه ، وألبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب ، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة(٢) ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل. فأقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك(٣) . وقد ذكر لي أنك تنصل من دمه ، فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع [ الناس ] إليك. وإلا فإنه فليس لك ولا لأصحابك إلا السيف. والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر ، حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقن أرواحنا بالله. والسلام.

__________________

(١) المخشوش : الذي جعل في عظم أنفه الخشاش ، وهو بالكسر ، عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع في انقياده.

(٢) الهائعة : الصوت الشديد.

(٣) بطانة الرجل : خاصته وصاحب سره. وفي الأصل : « بطاشك » صوابه في ح.

٨٧

فكتب إليه عليعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد فإن أخا خولان قدم على بكتاب منك تذكر فيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم ، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي. والحمد لله الذي صدقه الوعد ، وتمم له النصر(١) ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء(٢) والشنآن ، من قومه الذين وثبوا به ، وشنفوا له(٣) ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه [ وأهله ] ، وألبوا عليه العرب ، وجامعوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أشد الناس عليه ألبة(٤) أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله(٥) يا ابن هند. فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا ، ولقد قدمت فأفحشت ، إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وفينا ، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدده إلى النضال(٦) . وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده عل قدر فضائلهم في الإسلام ،

__________________

(١) ح : « وأيده بالنصر ».

(٢) في الأصل : « العدى » تحريف. وفي ح : « العداوة ».

(٣) شنف له يشنف شنفا ، من باب تعب : أبغضه. وفي الحديث في إسلام أبي ذر : « فإنهم قد شنفوا له » ، أي أبغضوه.

(٤) الألبة : المرة من الألب ، وهو التحريض. والذي في ح : « تأليبا وتحريضا ».

(٥) الكلام بعد هذه إلى كلمة : « النضال » لم يرد في ح.

(٦) التسديد : التعليم. أي كمن يدعو من علمه النضال إلى النضال.

٨٨

فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام ، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة ، وخليفة الخليفة. ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم ، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد. رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء(١) . وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا(٢) ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقي ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره. ولعمر الله إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنا ـ أهل البيت ـ أول من آمن به ، وصدق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرمة(٣) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، وأمسكوا عنا العذب(٤) ، وأحلسونا الخوف(٥) ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم فيقتلوه ويمثلوا به. فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام

__________________

(١) ح : « وجزاهما أحسن ما عملا ».

(٢) ح : « تاليا » :

(٣) أي سنين كاملة. والمجرمة ، بتشديد الراء المفتوحة.

(٤) الميرة ، بالكسر : ما يجلب من الطعام. والعذب ، عنى به الماء العذب.

(٥) أي ألزموناه. انظر ح ( ٣ : ٣٠٤ ). وفي الأصل : « وأحلسوا » صوابه في ح ( ٣ : ٣٠٣ ، ٤٠٨ ).

٨٩

بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار(١) ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي به عن الأصل. فأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء ، فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن. فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حر الأسنة والسيوف ، فقتل عبيدة(٢) يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم غير مرة ، إلا أن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت. والله مولى الإحسان إليهم ، والمنان عليهم ، بما قد أسلفوا من الصالحات. فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربه ، ولا أصبر على اللأواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من هؤلاء النفر الذين سميت لك. وفي المهاجرين خير كثير نعرفه(٣) ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم. وذكرت(٤) حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم. فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس ، لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه

__________________

(١) في الأصل : « والليل والنهار » ، وأثبت ما في ح.

(٢) هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وهو أول من عقدت له راية في الإسلام. انظر الإصابة ٥٣٦٧. وقد تزوج الرسول الكريم زوجته زينب بنت خزيمة بعده. انظر المعارف ٥٩.

(٣) ح ( ٣ : ٤٠٩ ) : « خير كثير يعرف ».

(٤) في الأصل : « فذكرت » صوابه بالواو ، كما في ح.

٩٠

صلى الله عليه وسلم قالت قريش : منا أمير ، وقالت الأنصار : منا أمير. فقالت قريش : منا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن أحق بذلك الأمر. فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان. فإذا استحقوها بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أحق بها منهم. وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا. [ بل ] عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم. وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه فإن عثمان عمل ما [ قد ] بلغك ، فصنع الناس [ به ] ما قد رأيت وقد علمت. إني كنت في عزلة عنه ، إلا أن تتجني ، فتجن ما بدا لك. وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك. ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ، ولا جبل ولا سهل. وقد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك. ابسط يدك أبايعك. فلم أفعل. وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت ؛ لقرب عهد الناس بالكفر ، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام. فأبوك كان أعرف بحقي منك. فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام.

آخر الجزء الثاني من أضل عبدالوهاب

٩١

نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن يزيد ، والحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال :

لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر. وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم ».

فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك(١) لا يبقون(٢) جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها. وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان(٣) . كذبوا ليسوا بدمه يثأرون(٤) ولكن الدنيا يطلبون. فسر بنا إليهم(٥) ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم(٦) . والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و [ لا ] يسمع إذا أمر ».

نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فا [ فعل. ا ] شخص بنا

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٧٨ ) : « ومجادلوك » لعل هذه : « ومجالدوك ».

(٢) ح : « لا يبغون » تحريف.

(٣) ح : « من طلب دم ابن عفان ».

(٤) ح : « ليسوا لدمه ينفرون ».

(٥) ح : « انهض بنا إليهم ».

(٦) ح : « فذاك ظني بهم ».

٩٢

قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ».

وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد(١) ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله(٢) ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه(٣) . وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين(٤) . قال : يعني رقيق.

فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.

فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم. فقالوا : قم يا سهل بن حنيف. فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك. وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلد

__________________

(١) الانكماش : الإسراع والجد. والتعريد : الفرار والإحجام والانهزام. ح : « ولا تعرج ».

(٢) الإدهان : الغش والمصانعة. وفي التنزيل العزيز :( ودوا لو تدهن فيدهنون ) .

(٣) في اللسان : « سيره من بلده : أخرجه وأجلاه ».

(٤) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك.

٩٣

وهم الناس. فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ».

نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش(١) ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام. فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« سيروا إلى أعداء [ الله. سيروا إلى أعداء ] السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ».

فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم. كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك(٢) . فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس(٣) ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم(٤) حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل. قال : ومن قتله؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس(٥) . فقال : قتيل عمية لا يدري

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٧٩ ) : « أبي خشيش ».

(٢) ها التنبيه ، قد يقسم بها ، كما هنا. قال ابن منظور : « إن شئت حذفت الألف التي بعد الهاء ، وإن شئت أثبت ».

(٣) ح : « من هذا المأزق ».

(٤) نعل السيف : ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة.

(٥) ح : « ومعهم شوب من الناس ».

٩٤

من قتله(١) ، ديته من بيت مال المسلمين. وقال علاقة التيمي(٢) :

أعوذ بربي أن تكون منيتي

كما مات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم

إذا رفعت عنه يد وضعت يد

قال : وقام الأشتر فحمد الله وأثنى عليه فقال : « يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك. فإن شئت فسر بنا إلى عدوك. والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقى. وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفسا لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين [ بالأمس ] فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم(٣) بعرض من الدنيا يسير ».

فقال عليعليه‌السلام : « الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه ». ثم نزل فدخل منزله.

نصر : عمر بن سعد قال : حدثني أبو زهير العبسي ، عن النضر بن صالح ، أن عبد الله بن المعتم العبسي ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، لما أمر عليعليه‌السلام الناس بالمسير إلى الشام ، دخلا في رجال كثير من غطفان وبني تميم على

__________________

(١) العمية ، بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة المشددة ، ويقال أيضا « عميا » بوزنه مع القصر ، أي ميتة فتنة وجهالة.

(٢) بدلها في ح : « فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة ».

(٣) الخلاق ، بالفتح : الحظ والنصيب من الخير.

٩٥

أمير المؤمنين ، فقال له التميمي : « يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأيا فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك. أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة ».

وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال :

« أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون. يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. أما الدبرة فإنها على [ الضالين ] العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم. وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ».

فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال :

« يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ».

فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف.

وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف. فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم(١) وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم. فقال

__________________

(١) في الأصل : « من نصركم » صوابه من ح ( ١ : ٢٨٠ ).

٩٦

لهما علي : « الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم. اذهبوا حيث شئتم ». ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب(١) ، وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي؟ قال : لا عليك ولا لك. قال : فما تريد؟ قال : اشخص إلى الرها(٢) ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر. فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني. دعوني فأنا أعلم منكم. فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها. ولئن أردت ذلك لنقتلنك. فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني [ حتى ] أنظر. فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه. وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :

يسل غواة عند بابي سيوفها

ونادى مناد في الهجيم لأقبلا

سأترككم عودا لأصعب فرقة

إذا قلتم كلا يقول لكم بلى

قال : فلما هرب حنظلة أمر علي بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :

__________________

(١) هو حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مرة كتابا فسمى بذلك « الكاتب ». وكانت الكتابة قليلة في العرب. وكان ممن تخف عن عليعليه‌السلام يوم الجمل. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم » فنزلت سورة الجمعة. انظر الإسابة ١٨٥٥ والمعارف ١٣٠.

(٢) الرها ، بضم أوله والمد والقصر : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام

٩٧

أيا راكبا إما عرضت فبلغن

مغلغلة عني سراة بني عمرو

فأوصيكم بالله والبر والتقي

ولا تنظروا في النائبات إلى بكر

ولا شبث ذي المنخرين كأنه

أزب جمال في ملاحية صفر(١)

وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :

أبلغ معاوية بن حرب خطة

ولكل سائلة تسيل قرار

انقبلن دنية تعطونها

في الأمر حتى تقتل الأنصار

وكما تبوء دماؤهم بدمائكم

وكما تهدم بالديار ديار(٢)

وترى نساؤهم يجلن حواسرا

ولهن من علق الدماء خوار(٣)

نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبي المجاهد ، عن المحل ابن خليفة قال : قام عدي بن حاتم الطائي [ بين يدي عليعليه‌السلام ] فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد. فإن رأيت(٤) أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم ررسلك ـ فعلت.

__________________

(١) الأزب من الإبل : الكثير شعر الوجه والعثنون. والملاحي ، بضم الميم وتخفيف اللام ، هو من الأراك ما فيه بياض وشهبة وحمرة. وفي ح : « قد غار ليلة النفر » ، وفي هامش الأصل : « قد دعا ليلة النفر » إشارة إلى أنه كذلك في نسخة أخرى. صواب هذين : « قد رغا ».

(٢) في الأصل :

وتجر قتلاهم بقتلى حروب

وكما يقدم بالديار ديار

وأثبت ما في ح ( ١ : ٢٨٠ ). وكتب في حاشية الأصل : « وكما تبوء دماؤهم بدمائكم » إشارة إلى أن صدره كذلك في نسخة أخر.

(٣) أصل الخوار صوت البقر والغنم والظباء. وفي ح : « من ثكل الرجال خوار ».

(٤) ح : ( ١ : ٢٨٠ ) : « ولكن إذا رأيت ».

٩٨

فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا(١) ، والعافية أوسع لنا ولهم. وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم. وقد قدمنا إليهم العذر(٢) ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق(٣) فتركوه ، ناوخناهم براكاء(٤) القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ».

فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس(٥) المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا. إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم. ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال. والله يقول :( وأما بنعمة ربك فحدث ) . إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه(٦) ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان(٧) . ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان.

__________________

(١) ح : « يصيبوا رشدهم ».

(٢) ح : « بالعذر ».

(٣) في اللسان : « أجهد لك الطريق وأجهد لك الحق : برز وظهر ووضح ». وفي الأصل « أجهدنا » والفعل لازم كما رأيت. كما رأيت. وفي ح : « لما دعوناهم إلى الحق ».

(٤) البراكاء ، بضم الراء وفتحها : الابتراك في الحرب ، وهو أن يجثو القوم على ركبهم. والمناوخة : مفاعله من النوخ ، وهو البروك. وفي الأصل : « ناوحناهم » بالمهملة ، صوابه في ح.

(٥) البرنس ، بالضم : قلنسوة طويلة ، أو كل ثوب رأسه منه.

(٦) ح : « فيمن يتبعونه ».

(٧) ح : « وأصحاب الجور والعدوان ».

٩٩

فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس. قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء. فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه(١) .

نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة(٢) قال : دخل أبو زبيب(٣) بن عوف على علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله [ من طاعتك ] ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها. أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير؟ ».

فقال علي : « [ بلى ] ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح(٤) في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ».

__________________

(١) ما بعد : « سخط الناس » ساقط من ح ، فهو إما دخيل على النسخة ، أو تمثل من عدي بقول عليعليه‌السلام ، الذي سبق في ص ٩٥.

(٢) سبقت ترجمته في ص ٣. وفي الأصل : « حضيرة » بالضاد المعجمة ، تحريف. وفي هامش الأصل « خ : حصين » إشارة إلى أنه « حصين » في نسخة أخرى. وهذه الأخيرة توافق ما ورد في ح ( ١ : ٢٨٠ ). وليس بشيء.

(٣) ح : « أبو زينب » في جميع المواضع.

(٤) ح : « تسبح » من السباحة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وأمّا النَبِيُّ صلى الله عليه وآله :

فقد حضر بمَنْ أشبهَهُ ، وهو عليّ بنُ الحسين الأكبر. وقد أعلنَ والدُهُ الإمامُ عن ذلك عندَ شُخوص الأكبر إلى المعركة ، فلمّا استأذَنَ أَباهُ ؛ أَرخى الإمامُ عينيه بِالدُموع وأَطْرَقَ ، ثُمّ قال :

«اللّهمّ اشهدْ أنّه قد بَرَزَ إليهم غُلامٌ أَشْبَهُ الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بِرَسُولك ، وكُنّا إذا اشْتَقْنا إلى نبيّكَ نَظَرْنا إليه ». ثمّ صاحَ الإمامُ :يابن سعدٍ! قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ كَما قَطَعْتَ رَحِمِي ولم تَحْفَظْني في رسول الله ».

مع أنّ الرسول كان شاهداً بوجود بعض الأوفياء من الصحابة في ساحة المعركة ، وفازوا بالشهادة هُناك ، وهم خمسةٌ(١) :

عابسُ بنُ الحارث الکاهلیّ.

حبيبُ بنُ مُظاهر الأسديّ.

مُسلمُ بنُ عَوسَجَة الأسديّ.

هانئُ بنُ عُروَة المُراديّ.

عَبْد الله بنُ يَقْطُر الحِمْيَريّ.

ومن الصحابيّات الّلاتي أسرهنّ الجيشُ الأمَوِيّ :

فِضّةُ النوبيّة خادم الزهراء فاطمة عليها السلام.

زينب العقيلة أخت الحسين عليهما السلام(٢) .

__________________

(١) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

(٢) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

١٦١

وأمّا الزَهراءُ فاطمة عليها السلام :

فقد حضرت بمَنْ وَرِثَتْ مصائِبَها وتعلّمتْ منها الصبرَ والجهادَ في سبيل الولاية ، تلك زينبُ عليها السلام عقيلةُ بني هاشم.

وحضرت بفاطمة بنت الحسين ؛ فقد كانتْ تُشبّه بجدّتها.

وأمّا الحسنُ المجتبى عليه السلام :

فقد مثله أولاده الثلاثة ، وهم : القاسم ، وعَبْد الله ، وأبو بكرٍ.

ومثّلَ العَبّاسُ أباهُ :

فقد كان يمثله بأكثر من دور وفي أكثر من موقع :

قام بحمل لواء الحسين عليه السلام كما كان أبوهُ حامل لواء الرسول في المغازي كلّها ، وهو حاملُ لواء الحمد يوم القيامة.

وقام العَبّاسُ عليه السلام في كربلاء بِمُهمّة السقي فهو الساقي لِعطاشى ذلك الموقف الحَرِج ، كما أنّ أباهُ عليّ هو الساقي على حوض الكوثر في غدٍ ، يسقي أولياءَهُ ، ويذودُ عنه أعداءه :

أبوهُ هُو الساقي على الحوضِ في غَدٍ وساقي عطاشى كربلاءَ أبُو الفَضْلِ مضافاً إلى الإخاء والوفاء والنصيحة والفداء بشجاعة ذكّرتْ شجاعة أبيه.

١٦٢

ثانياً : في ظلّ أخيه الحسن السِبط المُجتبى عليه السلام :

وإذا كان العَبّاسُ عليه السلام في عصر والده أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام على ما عرفَ من الشأن والمقام ، فهو أنْ يكونَ له دورٌ أكبرُ في عصر أخيه الإمام السِبط المُجتبى عليه السلام أجدرُ ؛ إذْ كان له من العمر (٢٤) سنةً.

لكنّ التاريخ يَضَنُّ بأخباره في ذلك العصر من سنة (٤٠) إلى (٥٠) مدّة إمامة الحَسَن عليه السلام.

ومن المُحرَزِ المُتيقّن أنْ يكونَ المؤمن مُطيعاً لأمر إمامه ، يسيرُ في رِكابه ، مُخلصاً في طاعته وولائه ، كما هو شأنُ كلّ مؤمنٍ ، فكيفَ بالعَبّاس عليه السلام العارف بدخيلة أخيه والواقف من كَثَبٍ على أخباره وأسراره ، والناظر المطّلع عليها لكونه يعيشها؟

وقد جاء في الحديث الّذي أسنده المحدّث الدولابيّ ، ورواه المحدّث ابن الأخضر الجنابذيّ ، في تاريخ الإمام الحَسَن عليه السلام عند ذكر صفته :

توفّي وهو ابن خمس وأربعين سنةً ، وولي غسلَهُ الحسينُ ، ومحمّدٌ ، والعَبّاسُ ، إخوتُه من عليّ بن أبي طالب(١) .

__________________

(١) الذرّية الطاهرة للدولابي (ص ١١٨ رقم ١٣٤) ط الأعلمي ، ونقله الإربلي في كشف الغمّة (٢ / ٤١٦) عن ابن الأخضر الجنابذي في (معالم العترة النبوية) ورواه الطبري المحبّ في ذخائر العقبى (ص ٢٤٢ والديار بكري في تاريخ الخميس (٢ / ٢٩٣).

١٦٣

ولم نجد مزيداً من الحديث عن العَبّاس في عصر أخيه المجتبى عليه السلام ولعلّ البحث يُوقفنا على ما يُفيدُ ، بعون الله العزيز المجيد.

١٦٤

ثالثاً : في ظلّ الإمام الحُسين السِبط الشهيد عليه السلام :

ويدخل العَبّاس عليه السلام (الرابعة والعشرين) من سنيّ عمره في بداية إمامة أخيه السِبط أبي عَبْدالله الحسين عليه السلام ويعيش في ظلّه (عشر) سنوات.

وهُنا أيضاً يَضَنّ التاريخُ بِالحديث عنه ، وعن دورِهِ وأثرِهِ طيلةَ هذه المدّة ، ولا بدَّ أن يكونَ كما كان في عهد الإمام الحسن عليه السلام مُطيعاً لإمامه ، مُخلصاً له ، كما هو شأن كلّ مؤمنٍ ؛ بلهَ العارف الواقف على الأُمور عن كَثَبٍ ، كما كان العباس.

لكن الأحداثَ الّتي جرتْ في آخر أيّام الإمامة الحُسينية من (رجب سنة ٦٠ ـ حتّى عاشوراء سنة ٦١ هـ) احتوتْ على مجرياتٍ مهمّةٍ كانَ للعبّاس فيها الدورُ الكبير ، ممّا يكشفُ عن أبعادٍ واسعةٍ من سيرة العَبّاس عليه السلام ومواقفه الإيمانيّة والعمليّة وما كان عليه من إيمانٍ صلبٍ ، وبصيرةٍ نافذةٍ ، وعملٍ صالحٍ مُستميتٍ ، وإخلاصٍ ووفاءٍ وشجاعةٍ.

ونستعرض هُنا أهمّ العناصر الّتي رصدناها التي تكشفُ عن مدى ما أدّاهُ عليه السلام في ظلّ الإمام عليه السلام وهو معهُ في مسيره العسير ، وفي الزمن القصير ، على أثر الحضور في مدرسة الإمام واستلهام المعرفة منه ، فقد اتّفق الرجاليّون على أنّه عليه السلام روى الحديث الشريف عن أخيه الإمام عليه السلام :

١٦٥

رواية العبّاس عن الإمام الحسين عليه السلام :

قال الشيخ الطوسيّ في (تسمية من روى عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام) في «باب أصحاب الإمام أبي عَبْد الله الحُسين بن عليّ عليهما السلام» ما نصّه :

العَبّاسُ بنُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قُتِلَ معهُ عليه السلام وهو السقّاء. قتله حُكيم ابن الطُفيل. أُمّهُ أُمُّ البَنِيْنَ بنت حرام (١) بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ، من بني عامر (٢) .

وقد كرّر هذا النصّ كلُّ من تأخّر عن الشيخ الطوسيّ من علماء رجال الحديث في كتبهم الكثيرة.

والكلام عن نصوص رواية العَبّاس عليه السلام عن أخيه الإمام الحُسين عليه السلام هو بعينه كما مرّ في روايته عن أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام يحمل على ذمّة البحث والتنقيب في كتب التراث ، والحديثيّ منه خاصّة.

مع أنّ كثيراً من الحوار الواقع في النهضة الحسينية ، والحديث عن المواقف الواقعة في السيرة الحسينيّة الّتي تناقلتها كُتُبُ المقاتل والتواريخ عن الإمام الحسين ، يُمكن اعتبارُهُ من رواية العَبّاس عليه السلام نفسه لكونه من أقرب الناس إلى صاحبها الإمام الحسين عليه السلام.

ومهما يكن ، فإنّ أهمّ ما يمكن عرضه من سيرة العَبّاس عليه السلام في عهد

__________________

(١) التزمنا في ضبط هذه الكلمة على ما اختاره الحجّة السيّد الشبيري الزنجاني في تعليقه على رجال الطوسي ، كما ذكرنا ذلك في عنوان والدة العَبّاس عليه السلام في هذا الكتاب.

(٢) رجال الطوسي (بعد الرقم ٥٩٨) من النسخة المخطوطة الّتي كتبها الحجّة المحقّق الشبيري الزنجانيّ دام ظلّه.

١٦٦

أخيه الإمام الحسين عليه السلام ممّا يدخل في عنوان (آثار المعرفة) هو ما يلي :

١ ـ خروجه مع الإمام عليه السلام :

كان العَبّاس عليه السلام في مَنْ رافق الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من المدينة ، وقد نصّ على ذلك خصوصاً ، وعموماً في ذكر مَنْ خرجَ مَعَهُ من أهل البيت عليهم السلام.

قال الدينوري : فلمّا أمسوا واظلمَّ الليل مضى الحسين رضي الله عنه ـ أيضاً ـ نحو مكّة ومعه أُختاه أُمّ كلثوم وزينب ، وولد أخيه ، وإخوته أبو بكر ، وجعفر ، والعَبّاس ، وعامّة من كان بالمدينة من أهل بيته عليهم السلام إلاّ أخاه محمّد ابن الحنفيّة فإنّه أقام(١) .

وذكر الصدوق في من خرج مع الحسين عليه السلام فقال : ثمّ سارَ في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته ، منهم أبو بكر بن عليّ ، ومحمّد بن عليّ ، وعثمان بن عليّ ، والعَبّاس بن عليّ ، وعَبْد الله بن مسلم بن عقيل ، وعليّ بن الحسين الأكبر ، وعليّ بن الحسين الأصغر(٢) .

وقال الشيخ المفيد : فخرج عليه السلام من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيتا من رجب ـ متوجّهين نحو مكّة ، ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه ، وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد ابن الحنفية(٣) .

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٢٨).

(٢) أمالي الصدوق (ص ٢١٧) المجلس الثلاثون / الحديث رقم (٢٣٩) وعنه البحار (٤٤ / ٢ ـ ٣١٣).

(٣) الإرشاد للمفيد (٢ / ٣٢).

١٦٧

إنّ الخروج مع الإمام الحسين عليه السلام والتزام ركبه المقدّس في مثل هذه السفرة الّتي هي هجرة مقدّسة ، في ظلّ إمام عصره ، يعتبر من مفاخر العَبّاس عليه السلام ، ولا بُدّ أن يكون عمله نابعاً عن عزمٍ وإرادة بعيدة عن مجرّد العواطف البشرية أو الرغبات والنزوات الدنيوية ، ويشهد لكلّ هذا ما صدر منه من المواقف المشرّفة على أرض المعركة في كربلاء.

فهذا الخروج مع الحسين عليه السلام شارة مجدٍ وكرامةٍ للعبّاس عليه السلام في سيرته المُثْلى.

٢ ـ الانقياد والطاعة :

إنّ العَبّاس عليه السلام وهو في ركب الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة ، ثمّ من مكّة إلى كربلاء ، ثمّ يقوم في كربلاء ذلك المقام المشرِّف ، لم يسمع عنه ما يدلّ على التقاعد عن طاعة إمامه ، على طول المسير ، ولا التقاعس عن تلبية ندائه واستجابة طلباته.

ثمّ حضوره في المعركة وأيّامها الحرجة إلى جانب الحسين ، وقائماً برسم أوامره وخدمته ، حتّى الشهادة في سبيله ، فكلّ ذلك دليلٌ على الانقياد المُطلق ، والطاعة المُطلقة له.

ثمّ المشاهد المنقولة في سيرته أيّام كربلاء كلّها تُنادي بهذه الحقيقة ، حيث اختاره الإمامُ عليه السلام للقيام بأصعب المُهمّات وأخطرها ، وقد أدّاها العبّاسُ أفضل أداءٍ.

١٦٨

٣ ـ الوفاء :

إذا كان الوفاء هو : ملازمة طريق المواساة ومعاهدة عهود الخلطاء(١) فإنّ العَبّاس عليه السلام قد طبّق ذلك حرفيّاً ، وبأفضل ما يمكن من التطبيق.

وسنعرفُ على عدد الفُرَص الّتي أُتيحتْ لهُ للخُروج من المعركة ، ولكنّه عليه السلام وقف منها موقفَ الرفض ، بل كان فيها يعلنُ عن التزامه بواجب الحفاظ على الحسين سيّده وإمامه قبل وبعد أن يكون أخاه وابن أبيه.

وبذلك كانت الأُسرة الحسينيّة من رجال ونساء وأطفال تستقرّ وتركن إلى الطمأنينة ما دام العَبّاسُ لا زال على العهد ، والوفاء والمواساة. وهكذا كان «الوفاءُ» من الأوصاف الّتي لهجتْ به نصوصُ زياراته الّتي سنتلوها في الملاحق.

٤ ـ اعتماد الحسين عليه السلام عليه في المهمّات :

تقرأ في السيرة الحسينية ، وفي ساحة كربلاء بالخصوص ـ منذ ورود الإمام عليه السلام وحتّى مقتل جميع الشهداء ، وانفراد العَبّاس بالمثول بين يديه ـ مواقع حسّاسة كان الإمام عليه السلام يدعو العّبّاس فيها بالقيام بالمهمّات اللازمة والخاصّة ، فشأنه في ذلك هو شأن الوزير المعتمَد.

ولا ريب أنّ مثل ذلك الإمام عليه السلام على خصوص العَبّاس دون من حولَه من أبنائه وأصحابه الكثيرين ، والكبار عُمراً ، لهوَ الدليلُ على تقدّم العَبّاس عنده عليه السلام واللياقة لهذا المقام الرفيع.

__________________

(١) التعريفات للجرجاني (ص ١٧٤).

١٦٩

٥ ـ اصطحابه في الجلسات الخاصّة :

ومن تلك المواقف : أنّ الإمام عليه السلام إتماماً للحجّة على الأعداء ، وعلى أمير جيش الكوفة ، صمّم قبل احتدام المعركة وشدّة الأزمة على اللقاء بعمر بن سعد ، فاصطحب إلى محلّ الاجتماع أخاه العَبّاسَ وابنَه عليّاً الشهيد(١) ولمّا التقيا أمر الحُسين أصحابه ، فتنحُوا عنه وبقي معه أخوه العَبّاس وابنُه عليّ الأكبر(٢) .

وقد حدّد المؤرّخون ذلك قبل اليوم السابع من المحرّم ، أي قبل منع الماء عن الحسين عليه السلام وأصحابه. وفي تنحية الأصحاب وبقاء العَبّاس معه دلالةٌ واضحةٌ على العناية الخاصّة الّتي عنونّاها هُنا.

٦ ـ القيام بِشُؤون الأسرة :

إنّ من أهمّ جوانب السيرة الحسينيّة هو وجود الأُسرة الشريفة العلويّة الحسينيّة الفاطميّة ، مع الحسين عليه السلام في ساحة الوغى ، فمن أصعب الأثقال على قلب البطل المقدام الغيور ، وجود مجموعةٍ من النساء والأطفال في مثل موقف كربلاء ، وفي ساحة الحرب بحيث تتطلّع الأسرةُ إلى ما يُقال ، وتنظر إلى ما يقعُ من مشاهد صغيرةٍ وكبيرةٍ ، فذلك أثقلُ على قلب صاحب المعركة الّذي يُواجه العدوّ ، وهو ممّا يكبّل يديه ، ويزيد من تقيُّده ، ويمنعُه من الانطلاق نحو عدوّه ، وهذا أمرٌ واضحٌ لمن يتأمّل مثل

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم الكوفي (٥ / ٤ ـ ١٦٦) ومقتل الخوارزمي (١ / ٢٤٧).

(٢) الخوارزمي مقتل الحسين عليه السلام (١ / ٢٤٥).

١٧٠

ذلك الموقف.

وكان هذا أمراً واقعاً على قلب الحسين عليه السلام ويستقطب مساحة كبيرة من اهتمامه ، وهو القائدُ لمعركةٍ مصيريّة إلهيّة كانت على عاتقه ، لأنّ الإسلام ـ بكلّه ـ ينتظر نتائجها. فنقرأ في السيرة : لمّا دنا القومُ من الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ؛ خطبَ خطبته الأُولى ـ ذلك اليوم ـ وقال فيها :

«أيّها الناسُ ، اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني ، حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعتذرَ إليكم من مقدمي إليكم ، فإنْ قبلتُم عُذري وصدّقتُم قولي وأعطيتُموني النَصَفَ كُنتُم بذلك أسْعَدَ ، ولم يكن لكم عليَّ سبيلٌ ، وإنْ لم تقبلُوا منّي العُذرَ ، ولم تُعطوا النَصَفَ من أنفسكم :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ) يونس ٨١( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف : ١٩٦».

فلمّا سمعنَ أخواتُه كلامه هذا ـ وهو لم يُتمّ بعدُ خطبته ـ صِحْنَ وبكينَ ، وبكتْ بناتُه ، فارتفعت أصواتهنّ! فلمّا بلغهُ بُكاؤهنَّ وأصواتُهنَّ : أرسلَ إليهنّ أخاهُ العَبّاسَ بن عليّ ، وعليّاً ابنه ، وقال لهما : أَسْكِتاهُنَّ ، فلَعَمْري لَيَكْثُرنَّ بُكاؤُهنَّ(١) .

إنّه لمن أصعب المواقف وأكثرها حساسيّةً ، أنْ يقع مثل هذا لشخصٍ عظيمٍ مثل الإمام عليه السلام وفي موقفٍ خطيرٍ مثل هذا ، حيثُ هو في خطابٍ

__________________

(١) تاريخ الطبري : (٥ / ٤٢٤).

١٧١

مهمٍّ ، يُتمّ فيه الحُجّة على الأعداء ، وإنّه لممّا يُوهن عزمَ صاحب الموقف ويفُتّ في عضد الخطيب!

ولكنَّ الحسين عليه السلام وقيامه ومجريات عاشوراء كلّها أُمورٌ خارقةٌ للعادة ، وقد تمكّن الإمام عليه السلام أن يُحقّقَ أهدافه ، ويُعلنَ مظلوميّته حتّى في هذا الجانب الفريدِ في نوعه في تاريخ الإسلام وبعد انتشار الرسالة ، بل هذا الأمر إنّما هو جزءٌ من مكوّنات عظمة الحركة الحسينيّة وركائزها العميقة لإحياء الإسلام الّذي أماته الخلفاء بتدابيرهم المُعادية ، وقد بلغ تنفيذه على يد معاوية أبلغ مداه ، وانتهى بمثل هذا الموقف الرهيب الفجيع على يد ابنه يزيد.

والحسين عليه السلام لم يخضع للضغوط العسكريّة ولا النفسيّة وإنّما استمرَّ على ما أُمرَ به ، فأخذ أسرتَه معه ، ولمّا التَمَسَهُ ابن عبّاس أن لا يُخرجهنَّ معه ، قال الإمام في جوابه : «شاءَ اللهُ أن يراهُنَّ سبايا».

إنّه الإمام عليه السلام الّذي يسير وفق المشيئة الإلهيّة ، فلا يمنعه شيءٌ عن الاستمرار في تحقيق أهدافه.

لكنّ الإمام عليه السلام استعان بالعَبّاس وابنه عليّ ، ليُسْكتا الأُسرةَ ، فإنّ الرسالة الّتي أخذهنَّ معه لأجلها ، يتوقّف تبليغها ، وستُبَلَّغُ بعد عاشوراء ، بإعلانِهِنَّ عن ظُلامة أهل البيت ومظلوميّة الحُسين بخاصّة.

وهذه المهمّةُ الداخليّة لم يكن ليؤدِّيَ وظيفَتَها غيرُ من هو من محارم الأُسرة ، فلم يكن غير العَبّاس وعليّ.

١٧٢

وأمّا الحُسين عليه السلام فكانت عليه المهمّة الاكبر ، وهي إتمام الحجّة في خطبته ، فلمّا سكتن ، استمرّ في خطبته العظيمة تلك(١) .

ويعرف الملاحظُ ما في مثل هذه المهمّة الّتي قام بها العَبّاس من الصعوبة ، كما فيها من الحرج والقلق ما هو معلوم.

٧ ـ رسولُ الإمام عليه السلام إلى القوم :

قال الشيخُ المُفيدُ : ونهضَ عمرُ بن سعد إلى الحُسين عشيّة الخميس لِتسعٍ مضينَ من المُحرّم ، ، ثمّ نادى : يا خيلَ الله اركبي ، وأبشري ...!.

فركبَ الناسُ ، ثمّ زحف نحوَهم بعدَ العصر ، وحسينٌ جالسٌ أمامَ بيته ، مُحْتَبٍ بسيفِهِ ، إذْ خفقَ برأسهِ ، وسمعتْ أُختُه الصَيحَةَ ، فَدَنَتْ من أخيها فقالتْ : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت!؟

وقال لهُ العَبّاسُ بن علي رحمة الله عليه : يا أخي ، أتاك القومُ!

فنهضَ وقال َ :

«يا عبّاسُ ، اركبْ ـ بِنَفسي أَنْتَ يا أخي ـ حتّى تلقاهُم ، وتقول لهم : ما لَكُمْ؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ ».

فأتاهُمُ العَبّاسُ في نحوٍ من عشرين فارساً ، منهم زُهير بن القَيْن ، وحبيبُ بن مُظاهِر. فقال لهم العَبّاسُ : ما بدا لكم؟ وما تُريدون!؟

قالوا :جاءَ أمرُ الأمير أنْ نعرضَ عليكم أنْ تنزِلُوا على حُكمه ، أو نُناجِزكم !

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٤ ـ ٤٢٦) وانظر الكامل لابن الأثير (٤ / ٦١).

١٧٣

قال :فلا تعجلُوا ، حتّى أرجعَ إلى أبي عَبْد الله ، فأعرضَ عليه ما ذكرتُم .

فوقفوا وقالوا :إلقَهْ وأَعْلِمْهُ ، ثُمَّ الْقِنا بِما يقولُ لك .

فانصرفَ العَبّاسُ راجعاً يركُضُ إلى الحُسين عليه السلام يُخبرُهُ الخَبَرَ ، ووقفَ أصحابُه يُخاطِبُون القومَ ويَعِظُونَهم ويَكُفّونَهُم عن قتال الحسين.

فجاء العَبّاسُ إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما قال القوم. فقال :

«ارجعْ إليهم ، فإن استطعتَ أنْ تُؤخّرَهُم إلى الغُدْوة ، وتدفَعَهم عَنّا العشيّةَ ، لَعَلّنا نُصلّي لِربّنا الليلةَ وندعُوَه ونستغفِرَهُ ، فهوَ يعلمُ أنّي قد أُحبُّ الصلاةَ لهُ وتلاوَةَ كِتابه والدُعاءَ والاستغفارَ ».

فمضى العَبّاسُ إلى القوم(١) وقال الطبري : فعاد العَبّاس يُركض فرسه حتّى انتهى إليهم فقال لهم :

يا هؤلاء ، إنّ أبا عَبْد اللله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطق (٢) .

ورجع من عندهم ومعه رسولٌ من عمر بن سعد يقول :

إنّا قد أجّلناكم إلى غدٍ ، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عُبَيْد الله بن زياد ، وإنْ أبيتُم فَلَسنا بِتاركيكم .

وانصرفَ.

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد (٢ / ٨٩ ـ ٩١) وفيه : فركب العبّاس في إخوته رضي الله عنهم ومعه أيضاً عشرة فوارس حتّى دنا من القوم. ومقتل الخوارزمي (١ / ٤ ـ ٣٥٤) والفتوح لابن الأعثم (٥ / ١٧٦).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٧).

١٧٤

إنّ اختيار العَبّاس لهذه المهمّة الخطيرة ، فيه الدلالةُ الكبيرةُ على الاعتماد والركون ، لما هو معلومٌ من شأن الرسول أن يكون من أفاضل الأصحاب وأعقلهم وأوفاهم ، ومهما كان الرسولُ أقربَ نَسَباً إلى المُرْسِل كانَ لهُ ولرسالتهِ الوقعُ الأقوى والأتمّ في الثِقة ، وتحقيق المقصود.

وما نقل عن العَبّاس من الكلام مع جيش الكوفة ، حيثُ عبّر عن أخيه مهما ذكره بأبي عَبْد الله ، بالكُنية الّتي إنّما تستعمل في الثقافة العربيّة وعرف العرب للتعظيم والتكريم فيه ـ في ذلك الموقف ـ دلالةٌ على مُنتهى رعاية العَبّاس عليه السلام للآداب مع أخيه وسيّده وإمامه ، وهذا في تلك الظروف يكشفُ عن ثُبوت هذه الرعاية في ضمي العَبّاس لا يغفل عنها رغم الظروف تلك.

٨ ـ الاستنجادُ به لإنقاذ الأصحاب :

وفي يوم عاشوراء لمّا نَشَبَت الحربُ ، تقدّم أربعةٌ من أصحاب الحسين عليه السلام من الّذين التحقوا بركب الحسين من الكوفة ، لمّا كان محاصَراً من قبل الحرّ بن يزيد الرِياحي في كربلاء ، ففي وقت الحرب شدّ هؤلاء ـ وهم جابر بن الحارث السلمانيّ ، ومجمّع بن عَبْد الله العائذيّ ، وعمرو بن خالد الصيداويّ الأسديّ ، وسعد مولى عمرو ـ فشدّوا على عسكر ابن سعد بأسيافهم ، وأوغلُوا فيهم ، فعطفَ عليهم العسكرُ حتّى قطعوهم عن أصحاب الحسين(١) .

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

١٧٥

فَنَدَبَ الإمامُ عليه السلام لهم أخاهُ العَبّاسَ ، فحملَ على القوم وَحْدَهُ ، فضربَ فيهم بسيفه حتّى فرّقهم ، وخَلَصَ إليهم ، فسلّموا عليه ، (فاستنقذَهم وقد جُرِحُوا)(١) فأتى بهم لكنّهم عاوَدُوا القتالَ وهو يدفعُ عنهم ، حتّى قُتِلُوا في مكانٍ واحدٍ.

فعادَ العَبّاسُ إلى أخيه وأخبرهُ خَبَرَهم(٢) .

إنّ انتخابَ العبّاس لهذِهِ المهمّةِ وقيامَه وحدَهُ بِها ، إنّما يَنُمُّ عن الاعتماد الكامل بهمّتِه وشجاعتِه وقدرتِه عليها.

٩ ـ حمل الراية :

إنّ للراية شأناً في الحروب ، لأنّها شارة الجيش ، وقيامها دليل على استقامته واستمرار نضاله ، ولذلك فإنّما تُوضع في يَدِ مَنْ ينوءُ بحملها من أُولي الأيْدِ والقُوّة والنجدة والشهامة والإقدام والحميّة.

ولم يجد الحُسين عليه السلام في مَن حوله أولى من أخيه العَبّاس مَنْ يستحِقُّ حملَها ؛ فلمّا قام عليه السلام بتعبئة جيشه «أعطى رايتَهُ العَبّاسَ بن عليّ أخاهُ»(٣) . ولذلك لُقِّبَ العَبّاسُ عليه السلام بـ «صاحب الراية» و«صاحب اللواء»(٤) .

١٠ ـ بعثه لطلب الماء :

لعلّ من أهمّ الحوادث وأمضّها أَلَمَاً وفجيعةً في وقعة الطفّ المؤلمة هو

__________________

(١) هذه الجملة وردت في رواية الكامل لابن الأثير (٤ / ٧٤).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

(٣) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٢) وأنساب الأشراف (٣ / ١٨٧).

(٤) وقد مضى في بحث (ألقابه عليه السلام) ما يتعلّق بذلك.

١٧٦

قضيّة العَطَش وقد منع جيش الكوفة الماءَ عن الحُسين وأهله وأصحابه عليهم السلام وبينهم الشيوخُ والنساء ، والصغار والرُضّع والمُرضِعات ، حتّى تلظّوا من العَطَش في لظى هجير ذلك الوادي ، وفي حرّ أيّام ذلك الفصل الحارق المُلتهبة ، وفي حصار الفزع والخوف ، وحيث كان الماء يُساوي الحياة الّتي جعلها الله في الماء لكلّ شيء حيّ.

فاختيار العَبّاس عليه السلام لِطَلَب الماء ، والجيش الأموي قد شدّد المنع من الورود ، دليل على مقامه الرفيع عند الحسين عليه السلام وقد قام العَبّاس عليه السلام بهذا الواجب الإنسانيّ والإلهيّ ، فسمّي «السقّاء» و«أبا قربة»(١) .

وأخيراً :

فإنّ قيام العَبّاس عليه السلام بأداء هذه المُهمّات الصعبة ، بأفضل ما حصل ، فيه الدلالةُ الواضحةُ على الكفاية الكاملة لديه ، مع ما تقتضيه من خاصيّات الشجاعة للإقدام على مخاطرها ، حيث لا يُقدمُ على مثلها سوى الأفذاذ من الرجال. وكذلك الطاعة المُطلقة الّتي لا توجد إلاّ عند الأوحدي من المخلصين بل كُمّليهم. والوفاء والنصيحة الّتي قلّ أن تحصل عند أحدٍ من غير المؤمنين الصُلْبي الإيمان ، والنافذي البصيرة.

ولاجتماع هذه كلّها عند العَبّاس عليه السلام كان الحقّ في أن يَختاره الإمام الحسين عليه السلام للاعتماد عليه والركون إليه.

__________________

(١) كما شرحنا في «ألقابه عليه السلام» وذكرنا مواقفه العديدة ، وفصّلناها في الباب الثالث من هذا الكتاب.

١٧٧

فهذه شارةٌ كبيرةٌ في سجلّ مكارم أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

كما ظلّ الأئمّة المعصومون عليهم السلام يكرّرون ذكرها ويُعلنونها ويتلونها في ما يَتْلُونَ من زيارات أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

ولقد انتشر الذكرُ الخالدُ للعبّاس عليه السلام في ضمير المسلمين كافّة ، وفي تراثهم ، ومنهم الطائفة الزيديّة ، فنجدُ عندهم ـ وعلى مدى القُرون من تاريخهم المجيد ـ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً بالأُسَر العلويّة الشريفة من ذرّيته العبّاسيّة الكريمة ، وفيهم من الأعلام عددٌ كبيرٌ ، سنذكرهم في الملحق الثاني الخاصّ بذريّته.

كما أنّ أئمّتهم قَدَّسوا العبّاسَ عليه السلام فهذا المنصور بالله ، عبد الله بن حمزة (ت ٦١٠ هـ) أنشأ للعبّاس عليه السلام زيارةً خاصّةً ملؤُها الثناءُ العاطر ، والإشادةُ بالأمجاد الأثيلة ، والمآثر العظيمة الّتي ازدانَ بها الشهيدُ أبو الفضل عليه السلام سنوردها في عنوان : «زياراته عليه السلام».

١٧٨

رابعاً : في حديث سائر الأئمّة عليهم السلام

إنّ أبا الفَضْلِ العَبّاسَ عليه السلام بمآثره الجسيمة تلك ، وأمجاده وبُطولاته ومواقفه المجيدة الّتي سجّلها له التاريخُ ، قد خَلَدَ في خَلَدَ أهل البيت عليهم السلام.

فها هي النصوصُ المأثورةُ عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام تزدهرُ بذكر فضل أبي الفضل ، وتزدهي بذكر مكانته السامية.

وقد تلونا ما ورد عن الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام وهو شاهَدَ مواقفَ عمّه العَبّاس عليه السلام وبطولاته عن كَثَبٍ ، حيث عاصرهُ ، وعاشرهُ في عاشوراء ، فكان أصدقَ شاهد عيانٍ على كلّ ذلك.

وما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام وفيه الوصفُ البليغُ عن صلابة إيمان العَبّاس عليه السلام ونفاذ بصيرته ، ومواساته ، وفدائه.

وتلك نصوص الزيارات الواردة عنهم عليهم السلام المليئة بأبلغ الأوصاف وأزهى المحاسن وأشرف المآثر والمكارم.

حتّى قرأنا أنّ أهل البيت عليهم السلام خصّصوا للعبّاس وبنيه ، حصّةً من تراثهم في «فَدَكٍ» ذلك الميراثُ النبويُّ الفاطميُّ العلويُّ ، كي يُوثقوا روابط العُلقة بينهم وبين إخوتهم من فاطمة الزهراء وأولادها ، فأشركوهم في هذا الميراث الّذي ما زالت ظُلامتُه تُدوّي في أذن التاريخ ، والّذي يعتبرُ كلّ ذرّةٍ من تُرابه صَرخةً على الظالمين لبضعة رسول الله وأُمّ عترته وأهل بيته.

١٧٩

ونقرأ في أخبار المهدي عليه السلام ، وفي الإرهاصات الّتي تسبقُ ظهورهُ ، ما عن المحدّث محمّد بن سليمان الكوفي (عن محمّد بن عُبَيْد الله)(١) قال :

«وجدتُ في كُتُب جدّي عُبَيْد الله بن العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام : أنّ القائمَ(٢) ـ من وُلد الحَسَن ـ يبدأُ بالمسير من (نَجْدٍ)(٣) فيمُرُّ ببطْنٍ من عقيلٍ يُقالُ لهم : «بنو معاوية بن حرب» فيسيرُ إلى اليمن ؛ فيسوقُ يَمَنَها إلى تهامَتِها إلى مَكّة ؛ كَسَوْقِ الراعي غَنَمَهُ إلى مَراحِها. يقدمُهُ بينَ يَدَيهِ رَجُلٌ من وُلد العبّاس بن عليّ»(٤) .

فوجود الرجل من ذريّة العبّاس مع الحَسَنيّ الَيمانيّ ، وفي مقدّمة جيشه ، فيه الدلالةُ الوافيةُ على تمثيل العبّاس في حركة المهديّ المُنْتَظَر عليه السلام.

فكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً في ضمير الأئمّة عليهم السلام وفي وجدان أهل البيت عليهم السلام وتاريخهم ؛ لا يمكن أن يُنسى.

هذا ، وقد ورد في الحديث الشريف ما رواه البرقيّ بسنده عن العبّاس ابن موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألتُ ابي عن المأتَم؟ فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله

__________________

(١) ما بين القوسين من طبعة مؤسسة زيد.

(٢) هذا الاسم يُطلق على كلّ من يقومُ بطلب الحقّ والنضال في سبيله ، لكنّ ذلك عند الشيعة خاصٌّ بمن يكون من أهل البيت عليهم السلام والمُراد منهُ في العبارة المذكورة في الحديث هو خُصوص الحَسَنيّ الّذي يخرجُ في آخر الزمان يُمَهّدُ للمهديّ الّذي بشّرَ الرسولُ صلى الله عليه وآله بظهوره ، والمتّفق عليه بن المسلمين أنّه من وُلد فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وآله. والمهمّ هُنا هو ذكرُ الرجل من وُلد العبّاس بن عليّ عليهما السلام في مقدّمة جيش هذا القائم الحَسَنيّ نصرهُ اللهُ.

(٣) المراد هنا : نجْدُ اليمن وهو في شرقي تهامة ، لاحظ معجم البلدان (٥ / ٢٦٥).

(٤) درر الأحاديث اليحيوية ، في الخاتمة التي ذكر فيها ترجمة الهادي صاحب الأحاديث (ص ١٧٣) من طبعة مؤسسة زيد ، و(ص ١٩٤) من طبعة الأعلمي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603