العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39492 / تحميل: 4344
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يدك أبايعك على ما أحببنا وكرهنا ». فكان أول العرب بايع عليها مالك ابن هبيرة.

وقال الزبرقان بن عبد الله السكوني :

معاوي أخدجت الخلافة بالتي

شرطت فقد بوالك الملك

مالك ببيعة فصل ليس فيها غميزة

ألا كل ملك ضمه الشرط هالك

وكان كبيت العنكبوت مذبذبا

فأصبح محجوبا عليه الأرائك

وأصبح لا يرجوه راج لعلة

ولا تنتحي فيه الرجال الصعالك

وما خير ملك يا معاوي مخدج

تجرع فيه الغيظ والوجه حالك

إذا شاء ردته السكون وحمير

وهمدان والحي الخفاف السكاسك

نصر : صالح بن صدقة ، عن ابن إسحاق ، عن خالد الخزاعي وغيره عمن لا يتهم(١) ، أن عثمان لما قتل وأتى معاوية كتاب علي بعزله عن الشام خرج حتى صعد المنبر ثم نادى في الناس أن يحضروا ، فحضروا المسجد فخطب الناس معاوية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال :

« يا أهل الشام ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وخليفة عثمان وقتل مظلوما ، وقد تعلمون أني وليه(٢) ، والله يقول في كتابه :( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) : وأنا أحب أن تعلموني ما في أنفسكم من قتل عثمان ».

قال : فقام كعب بن مرة السلمي ـ وفي المسجد يومئذ أربعمائة رجل

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٥٣ ) : « ممن لا يتهم ».

(٢) ح : « وخليفة عثمان وقد قتل وأنا ابن عمه ووليه ».

٨١

أو نحو ذلك من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال :

« والله لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ، ولكني قد شهدت من رسول الله مشهدا لعل كثيرا منكم لم يشهده. وإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار في يوم شديد الحر فقال : « لتكونن فتنة حاضرة ». فمر رجل مقنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا المقنع يومئذ على الهدى قال : فقمت فأخذت بمنكبيه(١) وحسرت عن رأسه فإذا عثمان ، فأقبلت بوجهه إلى رسول الله فقلت : هذا يارسول الله؟ قال : « نعم ».

فأصفق أهل الشام على معاوية ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ، ثم الأمر شورى.

وفي حديث محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال :

لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام ، أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال :

« يا عمرو ، إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله ابن عمر ، وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقتل عثمان ، وينال منه ».

فقال : الرأي ما رأيت. فبعث إليه فأتى ، فقال له معاوية : يا ابن أخي ، إن لك اسم أبيك ، فانظر بملء عينيك ، وتكلم بكل فيك(٢) فأنت المأمون المصدق! فا [ صعد المنبر ، وا ] شتم عليا واشهد عليه أنه قتل عثمان. فقال : يا أمير المؤمنين(٣) أما شتميه فإنه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن

__________________

(١) ح : « بمنكبه ».

(٢) ح ( ١ : ٢٥٦ ) : « وانطق بملء فيك ».

(٣) ح : « أيها الأمير ».

٨٢

هاشم ، فما عسى أن أقول في حسبه. وأما بأسه فهو الشجاع المطرق. وأما أيامه فما قدمت عرفت : ولكني ملزمه دم عثمان. فقال عمرو [ بن العاص ] : إذا والله قد نكأت القرحة(١) .

فلما خرج عبيد الله قال معاوية : أما والله لولا قتله الهرمزان ، ومخافة علي على نفسه(٢) ما أتانا أبدا. ألم تر إلى تقريظه عليا؟! فقال عمرو : « يا معاوية ، إن لم تغلب فاخلب ». فخرج حديث إلى عبيد الله ، فلما قام خطيبا تكلم بحاجته ، حتى إذا أتى إلى أمر علي أمسك [ ولم يقل شيئا ] ، فقال له معاوية(٣) : ابن أخي(٤) ، إنك بين عي أو خيانة! فبعث إليه : » كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان ، وعرفت أن الناس محتملوها عني [ فتركتها ] ». فهجره معاوية ، واستخف بحقه ، وفسقه فقال عبيد الله :

معاوي لم أخرص بخطبة خاطب

ولم أك عيا في لؤى بن غالب(٥)

ولكنني زاولت نفسا أبية

على قذف شيخ بالعراقين غائب

__________________

(١) ح : « قد وأبيك إذن نكأت القرحة ».

(٢) ح : « ومخافته عليا على نفسه ».

(٣) ح : « فلما نزل بعث إليه معاوية ».

(٤) في الأصل : « ابن أخ » تحريف ، والمنادي إذا كان مضافا إلى مضاف إلى الياء فالياء ثابتة لا غير كقولك : « يا ابن أخي » و « يا ابن خالي » إلى إن كان « ابن أم » أو « ابن عم » ففيهما مذاهب.

(٥) لم أخرص : لم أكذب. وفي الأصل وح : « لم أحرص » تحريف.

٨٣

وقذفي عليا بابن عفان جهرة

يجدع بالشحنا أنوف الأقارب(١)

فأما انتقافي أشهد اليوم وثبة

فلست لكم فيها ابن حرب بصاحب(٢)

ولكنه قد قرب القوم جهده

ودبوا حواليه دبيب العقارب(٣)

فما قال أحسنتم ولا قد أسأتم

وأطرق إطراق الشجاع المواثب

فأما ابن عفان فأشهد أنه

أصيب بريئا لابسا ثوب تائب

حرام على آهاله نتف شعره

فكيف وقد جازوه ضربة لازب(٤)

وقد كان فيها للزبير عجاجة

وطلحة فيها جاهد غير لاعب

وقد أظهرا من بعد ذلك توبة

فياليت شعري ما هما في العواقب

__________________

(١) الشحناء : البغض والعداوة ، وفي الأصل : « أجدع بالشحناء » : وفي ح : « كذاب وما طبعي سجايا المكاذب » ، وجه هذه « وما طبي ».

(٢) البيت لم يرو في ح ، وفي صدره تحريف.

(٣) ح : « ولكنه قد حزب القوم حوله ».

(٤) الآهال : جمع أهل ، وأنشد الجوهري : * وبلدة ما الجن من آهالها *

٨٤

فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه وقربه وقال : « حسبي هذا منك ».

نصر ، عن عمر بن سعد عن أبي ورق ، أن ابن عمر بن مسلمة الأرحبي أعطاه كتابا في إمارة الحجاج بكتاب من معاوية إلى علي. قال : وإن أبا مسلم الخولاني(١) قدم إلى معاوية في أناس من قراء أهل الشام ، [ قبل مسير أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى صفين ، ] فقالوا [ له ] : يا معاوية علام تقاتل عليا ، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته؟ قال لهم : ما أقاتل عليا وأنا أدعى أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ، ولكن خبروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟ قالوا : بلى. قال : فليدع إلينا(٢) قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه. قالوا : فاكتب [ إليه ] كتابا يأتيه [ به ] بعضنا. فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني ، فقدم به على علي ، ثم قام أبو مسلم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته(٣) ، والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلما محرما(٤) مظلوما ، فادفع

__________________

(١) أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي هو عبد الله بن ثوب ، بضم المثلثة وفتح الواو ، وقيل بإشباع الواو ، وقيل ابن أثوب بوزن أحمر ، ويقال ابن عوف وابن مشكم ، ويقال اسمه يعقوب بن عوف ، وكان ممن رحل إلى النبي فلم يدركه ، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية. انظر تقريب التهذيب ٦١٢ والمعارف ١٩٤. وفي الأصل : « الحولاني » بالمهملة ، صوابه بالخاء المعجمة ، كما في ح ( ٣ : ٤٠٧ ) نسبة إلى خولان ، بالفتح ، إحدى قبائل اليمن.

(٢) ح ( ٣ : ٤٠٧ ) : « فليدفع إلينا ».

(٣) ح : ( ٣ : ٤٠٨ ) : « وليته ».

(٤) محرما : أي له حرمة وذمة ، أو أراد أنهم قتلوه في آخر ذي الحجة ، وقال أبو عمرو :

٨٥

إلينا قتلته ، وأنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذر وحجة ».

فقال له على : اغد على غدا ، فخذ جواب كتابك. فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملؤوا المسجد وأخذوا ينادون : كلنا قتل ابن عفان [ وأكثروا من النداء بذلك ] ، وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين فدفع إليه جواب كتابه معاوية ، فقال له أبو مسلم : قد رأيت قوما ما لك معهم أمر. قال : وما ذاك؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان. فقال علي : « والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ».

فخرج بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضراب.

وكان كتاب معاوية إلى عليعليه‌السلام (١) :

بسم الله الرحمن الرحيم

من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ،

__________________

أي صائما ، ويقال أراد لم يحل بنفسه شيئا يوقع به ، فهو محرم. وبكل هذه التأويلات فسر بيت الراعي ، الذي أنشده صاحب اللسان ( ١٥ : ١٣ ) :

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مقتولا

وانظر خزانة الأدب ( ١ : ٥٠٣ ـ ٥٠٤ ).

(١) انظر هذا الكتاب أيضا في العقد ( ٣ : ١٠٧ ).

٨٦

فكانوا في منار لهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام. فكان أفضلهم في إسلامه ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة من بعده ، وخليفة خليفته ، والثالث الخليفة المظلوم عثمان ، فكلهم حسدت ، وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وفي قولك الهجر ، وفي تنفسك الصعداء ، وفي إبطائك عن الخلفاء ، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش(١) حتى تبايع وأنت كاره. ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك في قرابته وصهره ، فقطعت رحمه ، وقبحت محاسنه ، وألبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت ، حتى ضربت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الخيل العراب ، وحمل عليه السلاح في حرم رسول الله ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع في داره الهائعة(٢) ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك فيه بقول ولا فعل. فأقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا ، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه. وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين : إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ويدك وبطانتك(٣) . وقد ذكر لي أنك تنصل من دمه ، فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع [ الناس ] إليك. وإلا فإنه فليس لك ولا لأصحابك إلا السيف. والذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر ، حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقن أرواحنا بالله. والسلام.

__________________

(١) المخشوش : الذي جعل في عظم أنفه الخشاش ، وهو بالكسر ، عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع في انقياده.

(٢) الهائعة : الصوت الشديد.

(٣) بطانة الرجل : خاصته وصاحب سره. وفي الأصل : « بطاشك » صوابه في ح.

٨٧

فكتب إليه عليعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد فإن أخا خولان قدم على بكتاب منك تذكر فيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم ، وما أنعم الله عليه به من الهدى والوحي. والحمد لله الذي صدقه الوعد ، وتمم له النصر(١) ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداء(٢) والشنآن ، من قومه الذين وثبوا به ، وشنفوا له(٣) ، وأظهروا له التكذيب ، وبارزوه بالعداوة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه [ وأهله ] ، وألبوا عليه العرب ، وجامعوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وكان أشد الناس عليه ألبة(٤) أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله(٥) يا ابن هند. فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا ، ولقد قدمت فأفحشت ، إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وفينا ، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر ، أو كداعي مسدده إلى النضال(٦) . وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم ، فكانوا في منازلهم عنده عل قدر فضائلهم في الإسلام ،

__________________

(١) ح : « وأيده بالنصر ».

(٢) في الأصل : « العدى » تحريف. وفي ح : « العداوة ».

(٣) شنف له يشنف شنفا ، من باب تعب : أبغضه. وفي الحديث في إسلام أبي ذر : « فإنهم قد شنفوا له » ، أي أبغضوه.

(٤) الألبة : المرة من الألب ، وهو التحريض. والذي في ح : « تأليبا وتحريضا ».

(٥) الكلام بعد هذه إلى كلمة : « النضال » لم يرد في ح.

(٦) التسديد : التعليم. أي كمن يدعو من علمه النضال إلى النضال.

٨٨

فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام ، وأنصحهم لله ورسوله الخليفة ، وخليفة الخليفة. ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم ، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد. رحمهما الله وجزاهما بأحسن الجزاء(١) . وذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا(٢) ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقي ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره. ولعمر الله إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ورسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنا ـ أهل البيت ـ أول من آمن به ، وصدق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا مجرمة(٣) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، فمنعونا الميرة ، وأمسكوا عنا العذب(٤) ، وأحلسونا الخوف(٥) ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم فيقتلوه ويمثلوا به. فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام

__________________

(١) ح : « وجزاهما أحسن ما عملا ».

(٢) ح : « تاليا » :

(٣) أي سنين كاملة. والمجرمة ، بتشديد الراء المفتوحة.

(٤) الميرة ، بالكسر : ما يجلب من الطعام. والعذب ، عنى به الماء العذب.

(٥) أي ألزموناه. انظر ح ( ٣ : ٣٠٤ ). وفي الأصل : « وأحلسوا » صوابه في ح ( ٣ : ٣٠٣ ، ٤٠٨ ).

٨٩

بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار(١) ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي به عن الأصل. فأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء ، فمنهم حليف ممنوع ، أو ذو عشيرة تدافع عنه فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن. فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم أمر الله رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا احمر البأس ودعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى بهم أصحابه حر الأسنة والسيوف ، فقتل عبيدة(٢) يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم غير مرة ، إلا أن آجالهم عجلت ، ومنيته أخرت. والله مولى الإحسان إليهم ، والمنان عليهم ، بما قد أسلفوا من الصالحات. فما سمعت بأحد ولا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربه ، ولا أصبر على اللأواء والضراء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من هؤلاء النفر الذين سميت لك. وفي المهاجرين خير كثير نعرفه(٣) ، جزاهم الله بأحسن أعمالهم. وذكرت(٤) حسدي الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم. فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس ، لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه

__________________

(١) في الأصل : « والليل والنهار » ، وأثبت ما في ح.

(٢) هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وهو أول من عقدت له راية في الإسلام. انظر الإصابة ٥٣٦٧. وقد تزوج الرسول الكريم زوجته زينب بنت خزيمة بعده. انظر المعارف ٥٩.

(٣) ح ( ٣ : ٤٠٩ ) : « خير كثير يعرف ».

(٤) في الأصل : « فذكرت » صوابه بالواو ، كما في ح.

٩٠

صلى الله عليه وسلم قالت قريش : منا أمير ، وقالت الأنصار : منا أمير. فقالت قريش : منا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن أحق بذلك الأمر. فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان. فإذا استحقوها بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أحق بها منهم. وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا. [ بل ] عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم. وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه فإن عثمان عمل ما [ قد ] بلغك ، فصنع الناس [ به ] ما قد رأيت وقد علمت. إني كنت في عزلة عنه ، إلا أن تتجني ، فتجن ما بدا لك. وأما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك. ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ، ولا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر ، ولا جبل ولا سهل. وقد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك. ابسط يدك أبايعك. فلم أفعل. وأنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت ؛ لقرب عهد الناس بالكفر ، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام. فأبوك كان أعرف بحقي منك. فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك ، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام.

آخر الجزء الثاني من أضل عبدالوهاب

٩١

نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن إسماعيل بن يزيد ، والحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال :

لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : « أما بعد فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر. وقد أردنا المسير إلى عدونا ، وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم ».

فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : « أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك(١) لا يبقون(٢) جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها. وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان(٣) . كذبوا ليسوا بدمه يثأرون(٤) ولكن الدنيا يطلبون. فسر بنا إليهم(٥) ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبو إلا الشقاق فذلك الظن بهم(٦) . والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، و [ لا ] يسمع إذا أمر ».

نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود ، أن عمار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله ، وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فا [ فعل. ا ] شخص بنا

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٧٨ ) : « ومجادلوك » لعل هذه : « ومجالدوك ».

(٢) ح : « لا يبغون » تحريف.

(٣) ح : « من طلب دم ابن عفان ».

(٤) ح : « ليسوا لدمه ينفرون ».

(٥) ح : « انهض بنا إليهم ».

(٦) ح : « فذاك ظني بهم ».

٩٢

قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادعهم إلى رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إن سفك دمائهم ، والجد في جهادهم ، لقربة عند الله ، وهو كرامة منه ».

وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد(١) ، فوالله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم في دين الله(٢) ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه(٣) . وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم ـ فيما يزعمون ـ قطعين(٤) . قال : يعني رقيق.

فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم ، معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.

فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم. فقالوا : قم يا سهل بن حنيف. فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت ، وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك. وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ؛ فإنهم هم أهل البلد

__________________

(١) الانكماش : الإسراع والجد. والتعريد : الفرار والإحجام والانهزام. ح : « ولا تعرج ».

(٢) الإدهان : الغش والمصانعة. وفي التنزيل العزيز :( ودوا لو تدهن فيدهنون ) .

(٣) في اللسان : « سيره من بلده : أخرجه وأجلاه ».

(٤) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك.

٩٣

وهم الناس. فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس عليك منا خلاف ، متى دعوتنا أجبناك ، ومتى أمرتنا أطعناك ».

نصر : عمر بن سعد ، عن أبي مخنف ، عن زكريا بن الحارث ، عن أبي حشيش(١) ، عن معبد قال : قام علي خطيبا على منبره ، فكنت تحت المنبر حين حرض الناس وأمرهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام. فبدأ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« سيروا إلى أعداء [ الله. سيروا إلى أعداء ] السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ».

فقام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال : أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك ، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم. كلا ، ها الله إذا لا نفعل ذلك(٢) . فقام الأشتر فقال : من لهذا إيها الناس(٣) ؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره ، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين ، فوطئوه بأرجلهم وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم(٤) حتى قتل ، فأتى علي فقيل : يا أمير المؤمنين ، قتل الرجل. قال : ومن قتله؟ قالوا : قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس(٥) . فقال : قتيل عمية لا يدري

__________________

(١) ح ( ١ : ٢٧٩ ) : « أبي خشيش ».

(٢) ها التنبيه ، قد يقسم بها ، كما هنا. قال ابن منظور : « إن شئت حذفت الألف التي بعد الهاء ، وإن شئت أثبت ».

(٣) ح : « من هذا المأزق ».

(٤) نعل السيف : ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة.

(٥) ح : « ومعهم شوب من الناس ».

٩٤

من قتله(١) ، ديته من بيت مال المسلمين. وقال علاقة التيمي(٢) :

أعوذ بربي أن تكون منيتي

كما مات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم

إذا رفعت عنه يد وضعت يد

قال : وقام الأشتر فحمد الله وأثنى عليه فقال : « يا أمير المؤمنين ، لا يهدنك ما رأيت ، ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. جميع من ترى من الناس شيعتك ، وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ، ولا يحبون بقاء بعدك. فإن شئت فسر بنا إلى عدوك. والله ما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه ، وما يعيش بالآمال إلا شقى. وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفسا لن تموت حتى يأتي أجلها ، فكيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين ، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين [ بالأمس ] فأسخطوا الله ، وأظلمت بأعمالهم الأرض ، وباعوا خلاقهم(٣) بعرض من الدنيا يسير ».

فقال عليعليه‌السلام : « الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء ، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فله ما نوى وقد قضى ما عليه ». ثم نزل فدخل منزله.

نصر : عمر بن سعد قال : حدثني أبو زهير العبسي ، عن النضر بن صالح ، أن عبد الله بن المعتم العبسي ، وحنظلة بن الربيع التميمي ، لما أمر عليعليه‌السلام الناس بالمسير إلى الشام ، دخلا في رجال كثير من غطفان وبني تميم على

__________________

(١) العمية ، بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة المشددة ، ويقال أيضا « عميا » بوزنه مع القصر ، أي ميتة فتنة وجهالة.

(٢) بدلها في ح : « فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة ».

(٣) الخلاق ، بالفتح : الحظ والنصيب من الخير.

٩٥

أمير المؤمنين ، فقال له التميمي : « يا أمير المؤمنين ، إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها منا ، ورأينا لك رأيا فلا ترده علينا ، فإنا نظرنا لك ولمن معك. أقم وكاتب هذا الرجل ، ولا تعجل إلى قتال أهل الشام ، فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة ، وعلى من تكون الدبرة ».

وقام ابن المعتم فتكلم ، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل ما تكلم به ، فحمد على الله وأثنى عليه ، وقال :

« أما بعد فإن الله وارث العباد والبلاد ، ورب السموات السبع والأرضين السبع ، وإليه ترجعون. يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. أما الدبرة فإنها على [ الضالين ] العاصين ، ظفروا أو ظفر بهم. وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفا ، ولا ينكروا منكرا ».

فقام إليه معقل بن قيس اليربوعي ثم الرياحي فقال :

« يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء والله ما أتوك بنصح ، ولا دخلوا عليك إلا بغش ، فاحذرهم فإنهم أدنى العدو ».

فقال له مالك بن حبيب : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغني أن حنظلة هذا يكاتب معاوية ، فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف.

وقام إلى علي عياش بن ربيعة ، وقائد بن بكير العبسيان ، فقالا : يا أمير المؤمنين ، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية ، فأحبسه أو أمكنا منه نحبسه حتى تنقضي غزاتك وتنصرف. فأخذا يقولان : هذا جزاء من نظر لكم(١) وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم. فقال

__________________

(١) في الأصل : « من نصركم » صوابه من ح ( ١ : ٢٨٠ ).

٩٦

لهما علي : « الله بيني وبينكم ، وإليه أكلكم ، وبه أستظهر عليكم. اذهبوا حيث شئتم ». ثم بعث علي إلى حنظلة بن الربيع ، المعروف بحنظلة الكاتب(١) ، وهو من الصحابة ، فقال : يا حنظلة ، أعلي أم لي؟ قال : لا عليك ولا لك. قال : فما تريد؟ قال : اشخص إلى الرها(٢) ، فإنه فرج من الفروج ، اصمد له حتى ينقضى هذا الأمر. فغضب من ذلك خيار بني عمرو بن تميم ـ وهم رهطه ـ فقال : إنكم والله لا تغروني من ديني. دعوني فأنا أعلم منكم. فقالوا : والله لئن لم تخرج مع هذا الرجل لا ندع فلانة تخرج معك ـ لأم ولده ـ ولا ولدها. ولئن أردت ذلك لنقتلنك. فأعانه ناس من قومه فاخترطوا سيوفهم ، فقال : أجلوني [ حتى ] أنظر. فدخل منزله وأغلق بابه حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية ، وخرج من بعده إليه من قومه رجال كثير ، ولحق ابن المعتم أيضا حتى أتى معاوية ، وخرج معه أحد عشر رجلا من قومه. وأما حنظلة فخرج بثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، ولكنهما لم يقاتلا مع معاوية واعتزلا الفريقين جميعا ، فقال حنظلة حين خرج إلى معاوية :

يسل غواة عند بابي سيوفها

ونادى مناد في الهجيم لأقبلا

سأترككم عودا لأصعب فرقة

إذا قلتم كلا يقول لكم بلى

قال : فلما هرب حنظلة أمر علي بداره فهدمت ، هدمها عريفهم بكر بن تميم ، وشبث بن ربعي ، فقال في ذلك :

__________________

(١) هو حنظلة بن الربيع ـ ويقال ابن ربيعة ـ بن صيفي ، ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مرة كتابا فسمى بذلك « الكاتب ». وكانت الكتابة قليلة في العرب. وكان ممن تخف عن عليعليه‌السلام يوم الجمل. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « لليهود يوم وللنصارى يوم ، فلو كان لنا يوم » فنزلت سورة الجمعة. انظر الإسابة ١٨٥٥ والمعارف ١٣٠.

(٢) الرها ، بضم أوله والمد والقصر : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام

٩٧

أيا راكبا إما عرضت فبلغن

مغلغلة عني سراة بني عمرو

فأوصيكم بالله والبر والتقي

ولا تنظروا في النائبات إلى بكر

ولا شبث ذي المنخرين كأنه

أزب جمال في ملاحية صفر(١)

وقال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان :

أبلغ معاوية بن حرب خطة

ولكل سائلة تسيل قرار

انقبلن دنية تعطونها

في الأمر حتى تقتل الأنصار

وكما تبوء دماؤهم بدمائكم

وكما تهدم بالديار ديار(٢)

وترى نساؤهم يجلن حواسرا

ولهن من علق الدماء خوار(٣)

نصر : عمر بن سعد ، عن سعد بن طريف ، عن أبي المجاهد ، عن المحل ابن خليفة قال : قام عدي بن حاتم الطائي [ بين يدي عليعليه‌السلام ] فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه ثم قال : « يا أمير المؤمنين ، ما قلت إلا بعلم ، ولا دعوت إلا إلى حق ، ولا أمرت إلا برشد. فإن رأيت(٤) أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك ، ويقدم عليهم ررسلك ـ فعلت.

__________________

(١) الأزب من الإبل : الكثير شعر الوجه والعثنون. والملاحي ، بضم الميم وتخفيف اللام ، هو من الأراك ما فيه بياض وشهبة وحمرة. وفي ح : « قد غار ليلة النفر » ، وفي هامش الأصل : « قد دعا ليلة النفر » إشارة إلى أنه كذلك في نسخة أخرى. صواب هذين : « قد رغا ».

(٢) في الأصل :

وتجر قتلاهم بقتلى حروب

وكما يقدم بالديار ديار

وأثبت ما في ح ( ١ : ٢٨٠ ). وكتب في حاشية الأصل : « وكما تبوء دماؤهم بدمائكم » إشارة إلى أن صدره كذلك في نسخة أخر.

(٣) أصل الخوار صوت البقر والغنم والظباء. وفي ح : « من ثكل الرجال خوار ».

(٤) ح : ( ١ : ٢٨٠ ) : « ولكن إذا رأيت ».

٩٨

فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا(١) ، والعافية أوسع لنا ولهم. وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم. وقد قدمنا إليهم العذر(٢) ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق ، فوالله لهم من الله أبعد ، وعلى الله أهون ، من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس ، لما أجهد لهم الحق(٣) فتركوه ، ناوخناهم براكاء(٤) القتال حتى بلغنا منهم ما نحب ، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى ».

فقام زيد بن حصين الطائي ـ وكان من أصحاب البرانس(٥) المجتهدين فقال : الحمد لله حتى يرضى ، ولا إله إلا الله ربنا ، ومحمد رسول الله نبينا. إما بعد فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا ، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم. ما الأعمال إلا في تباب ، ولا السعي إلا في ضلال. والله يقول :( وأما بنعمة ربك فحدث ) . إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه(٦) ، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم ، القليل في الإسلام حظهم ، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان(٧) . ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ، ولا التابعين بإحسان.

__________________

(١) ح : « يصيبوا رشدهم ».

(٢) ح : « بالعذر ».

(٣) في اللسان : « أجهد لك الطريق وأجهد لك الحق : برز وظهر ووضح ». وفي الأصل « أجهدنا » والفعل لازم كما رأيت. كما رأيت. وفي ح : « لما دعوناهم إلى الحق ».

(٤) البراكاء ، بضم الراء وفتحها : الابتراك في الحرب ، وهو أن يجثو القوم على ركبهم. والمناوخة : مفاعله من النوخ ، وهو البروك. وفي الأصل : « ناوحناهم » بالمهملة ، صوابه في ح.

(٥) البرنس ، بالضم : قلنسوة طويلة ، أو كل ثوب رأسه منه.

(٦) ح : « فيمن يتبعونه ».

(٧) ح : « وأصحاب الجور والعدوان ».

٩٩

فقام رجل من طيئ فقال : يا زيد بن حصين ، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن؟ قال : فقال زيد : ما أنتم بأعرف بحق عدي مني ، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس. قال : فقال عدي بن حاتم : الطريق مشترك ، والناس في الحق سواء. فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه(١) .

نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة(٢) قال : دخل أبو زبيب(٣) بن عوف على علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا ، وأعظمنا في الخير نصيبا ، ولئن كنا في ضلالة إنك لأثقلنا ظهرا وأعظمنا وزرا : أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العداوة ، نريد بذلك ما يعلم الله [ من طاعتك ] ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها. أليس الذي نحن عليه الحق المبين ، والذي عليه عدونا الغي والحوب الكبير؟ ».

فقال علي : « [ بلى ] ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العداوة كما زعمت ، فإنك ولي الله تسيح(٤) في رضوانه ، وتركض في طاعته : فأبشر أبا زبيب ».

__________________

(١) ما بعد : « سخط الناس » ساقط من ح ، فهو إما دخيل على النسخة ، أو تمثل من عدي بقول عليعليه‌السلام ، الذي سبق في ص ٩٥.

(٢) سبقت ترجمته في ص ٣. وفي الأصل : « حضيرة » بالضاد المعجمة ، تحريف. وفي هامش الأصل « خ : حصين » إشارة إلى أنه « حصين » في نسخة أخرى. وهذه الأخيرة توافق ما ورد في ح ( ١ : ٢٨٠ ). وليس بشيء.

(٣) ح : « أبو زينب » في جميع المواضع.

(٤) ح : « تسبح » من السباحة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

لمّا انتهى إليهِ قتلُ جعفر بن أبي طالب ؛ دخَل على أسماء بنت عُميسٍ امرأة جعفر ، فقال : «أينَ بني جعفر (١) » فدعتْ بهم ، وهم ثلاثةٌ : عَبْد الله ، وعونٌ ، ومحمّدٌ ؛ فَمَسَحَ رُؤوسَهم.

فقالتْ : إنّك تمسحُ رؤوسَهم كأنّهم أيتامٌ!؟

فتعجّبَ رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ فقال : «يا أسماءُ! أَلَمْ تعلمي أنّ جعفراً رضي الله عنه استشهد! » فَبَكَتْ ؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : «لا تبكي ، فإنّ جبرئيل عليه السلام أخبرني أنّ له جناحينِ في الجنّة ، من ياقوت أحمر ».

فقالتْ : يا رسول الله! لو جمعتَ الناسَ وأخبرتَهم بفضل جعفرٍ ؛ لا يُنسى فضلُهُ.

فعجبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله من عقلها! ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «ابعثُوا إلى أهل جعفرٍ طعاماً ». فجَرَتْ بهِ السُنّةُ(٢) .

أقول : والعبّاسُ أبُو الفضل أشبهَ عمَّهُ جعفراً في الشهادة ، وفي الجناحينِ في الجنّة ، وله من الفضائل ما عبّرنا عن بعضها ، فكيفَ يُنسى فضلُ ابي الفَضْلِ السقّاء الشهيد؟. ولئنْ جَرَت (السُنّةُ) بتقديم الطعام لأهل الشهيد. فماذا قدّمت الأمّةُ لآلِ الرسول صلى الله عليه وآله بعد شهادة الحُسين والعبّاس عليهما السلام يوم كربلاء؟ سوى الأسر! والسبي! والقُيود في الأيدي والأرجل والرقاب! والحمل على العِجاف من بلدٍ إلى بلدٍ!؟.

__________________

(١) كذا! وفي طبعة : «أين بَنِيَّ؟» بدون الإضافة إلى اسم «جعفر».

(٢) المحاسن للبرقي (٢ / ٤٢٠) باب (٢٥) إطعام الطعام للمأتم ، رقم (١٩٤).

١٨١
١٨٢

البابُ الخامس :

سيرة العَبّاس عليه السلام في كربلاء

١ ـ الجهاد في سبيل الحقّ

٢ ـ الوفاء ، وردّ أمان الظلمة

٣ ـ المواساة والإيثار

٤ ـ الصبر والتحمُّل والمثابرة

٥ ـ الطاعة حتّى الشهادة

١٨٣
١٨٤

أوّلاً : الجهادُ في سبيل الحقّ

لا ريبَ أنّ العَبّاس عليه السلام مع صلته بالحسين عليه السلام نَسَبيّاً ؛ فهو أخُوهُ من أبيه ، ومعرفتُه بهِ سِبطاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وابناً للزهراء البتول عليها السلام.

وكلّ أَمرٍ من هذه يكفي حافِزاً لهُ على أداء ما يجبُ تجاهَ أخيه أبي عَبْد الله عليه السلام والأولى من بين ذلك كلّه اعترافُهُ بكونِ الحسين إماماً منصوباً من قبل الله والرسول المصطفى ، وأبيه المرتضى ، تجبُ على كلّ مسلمٍ طاعتُهُ المُطلقةُ ، ولم يكن العَبّاس عليه السلام ـ وهو في مقامه من المعرفة والإيمان والدين من هو ـ ليَتَخَلَّفُ عن ذلك أبداً.

وليس في الإقدام على الجهاد والقتل وبذل الدم والتضحية بالنفس ، مؤاربةٌ في منطق الدين ، فلا يُقبل إلاّ أن يكون في سبيل الله والعقيدة الحقّة ، والعَبّاس عليه السلام على معرفة تامّة بمثل هذا.

ومع ذلك ، فإنّ العَبّاس عليه السلام ـ وهو في محضر الإمام ـ يُريدُ أن يكون على بيّنةٍ تامّة من أمره ، كما يُريدُ أن يُعلنَ للتاريخ أنّه إنّما يخطُو على هذه السيرة ويرنُو إلى هذا الهدف ، ويعمل لأجل تحقيق هذه المعاني ، فهو يسألُ أخاهُ ـ قبلَ أن تلتحِمَ المعركةُ ـ : يا أبا عَبْد الله ، نحنُ على الحقّ ، فنقاتلُ؟ قال : «نعم»(١) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة (٢ / ٦ ـ ٧).

١٨٥

إنّها الطريقهُ المُثلى لمن يحتاطُ لدينه ، ولا يتصرّف حسبَ رغباتهِ ولم يُقدِم في تصرّفاته على أساس من العصبيّة العِرقيّة والعُنصريّة والقَبَليّة ، بل إنّما اتّبع ما هو الحقّ الإلهيّ الّذي هو مُنتهى غاية المؤمنين.

وهذه أولى خُطوةٍ وضعها العَبّاس عليه السلام على أرض الجهاد في كربلاء لتكون قَدَمُهُ ثابتةً على الإيمان الصادق بحقّ اليقين ، المُبتني على علم اليقين ، للبُلُوغ إلى عين اليقين ، وهو لِقاءُ الله بين يَدَيْ وليّ الله.

وثانياً : إعلان الوفاء :

لمّا اندحَرَ جيشُ الكوفة ، مساءَ يوم التاسع ، وابتعدُوا عن مخيّم الحسين عليه السلام وغشي الظلامُ فضاءَ المقام ، عند قُرب المساء ليلةَ عاشوراء ؛ جمع الإمامُ عليه السلام أصحابه ـ والحديث من هنا لولده علي زين العابدين ـ قال : فدنوتُ منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذْ ذاك مريضٌ ، فسمعتُ ابي يقولُ لأصحابه :

أُثْني على اللهِ أحسنَ الثناء ، وأحمدهُ على السرّاء والضرّاء ، الّلهمّ إنّي أحمدُكَ على أنْ أكْرَمْتَنا بِالنُبُوّة ، وعلّمْتَنا القُرآنَ ، وفَقَّهْتَنا في الدين ، وجعلتَ لَنا أَسْماعاً وأَبْصاراً وأَفْئِدةً ، فاجْعَلْنا من الشاكرين.

أمّا بعدُ ، فإنّي لا أَعْلَمُ أَصْحاباً أَوْفى ولا خَيْراً من أَصْحابي ، ولا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ ولا أَوْصَلَ من أَهل بَيتي ، فَجَزاكُمُ اللهُ مِنّي خَيراً.

أَلا ، وإنّي لأَظُنُّ أّنَّهُ آخِرَ يومٍ لَنا مِن هؤلاء.

أَلا ، وإنّي قد أَذِنْتُ لكُم ، فانْطَلِقُوا جَميعاً في حِلٍّ ، لَيْسَ عليكمُم مِنّي

١٨٦

ذِمامٌ. هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَملاً ».

فقال له إخوتُه ، وأبناؤُه وبنُو أخيه وأبناءُ عَبْد الله بن جعفر :

«لِمَ نفعلُ ذلك؟ لِنَبقى بعدَكَ؟ لا أَرانا اللهُ ذلِكَ أَبَداً.

بدأهم بهذا القول «العَبّاس بن عليّ رضوان الله عليه» واتّبعته الجماعةُ عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه(١) .

ولفظ أبي الفرج :

قال عليه السلام : «...فجزاكم الله خيراً ، فقد آزرْتُم وعاونتم والقوم لا يُريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أبداً ، فإذا جنّكم الليل فتفرّقوا في سواده ، وانجُو بِأنفسِكُم ».

فقام إليه العَبّاس بن علي أخوه ، وعليٌّ ابنه ، وبنو عقيل ، فقالوا :

معاذَ الله ، والشهر الحرام!

فماذا نقولُ للناسِ إذا رَجعنا إليهم : أنّا تَرَكْنا سيّدنَا وابنَ سيّدنا وعمادَنا ، تَرَكْناهُ غَرَضاً لِلنبل ودريئةً لِلرِماح ، وجَزراً لِلسباع ، وفَرَرْنا عنه رَغْبةً في الحياة؟!

معاذَ الله!

بَلْ نَحْيا بِحياتِكَ ونَمُوتُ مَعَكَ.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١) وتاريخ الطبري (٥ / ٤١٩) والمنتظم لابن الجوزي (٥ / ٣٣٨) واللهوف لابن طاوس (ص ٩٠) والنويري في نهاية الإرب (٢٠ / ٢٧٢) والتاريخ لأبي الفداء (١ / ١٩١).

١٨٧

فَبَكى ، وبَكَوا عليه ، وجَزَّاهُم خَيراً ، ثُمّ نزل صلوات الله عليه(١) .

وفي كثير من المصادر أنّهم أنهوا كلامَهم بقولهم : «فَقَبَّحَ اللهُ العَيْشَ بَعْدَكَ»(٢) .

إنّه موقفٌ صعبٌ ، وخطيرٌ : خَيارٌ يشقُّ على المرءِ فيهِ الاختيارُ والمجالُ ضيّقٌ لا يتحمّلُ التأخير للتفكير ، ولا التَلَكُؤَ في الجواب المختار.

والخُطورة هي في أنّ الأمرَ واقعٌ في وجه الإمام بذاته ، فليس إلاّ ما ذكر الحُرُّ الرِياحيّ ، حيثُ قال : «إنّي أُخيّرُ نفسي بينَ الجنّة والنار في الدنيا الآخرة!».

وهل المؤمنُ العاقلُ يختارُ على الجنّة شيئاً ، غير الخسار والبوار؟!

ولكنّ أصحاب الحسين عليه السلام في ذلك الموقف كان الخيارُ عندهم بين الجنّة وشيءٍ آخر ، وهو : المصيرُ المجهولُ ، والضياعُ في هذه الدُنيا قبل النار.

بل صوّرَ بعضهُم الخيارَ : بينَ الجنّة المضمونة في مقعدِ صِدْقٍ ، مع الحسين وجدّه الرسول المُصطفى وأبيه الوصيّ المُرتضى وأخيه الحسن المُجتبى وأُمّه فاطمة الزهراء ، عندَ مليكٍ مقتدرٍ.

وبينَ الأسفِ والحسرةِ والندم والحزن مدى الحياة ، على ترك الحسين وأهله عُرضةً لتلك الوُحوش الشرسة!.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ١١٣).

(٢) الإرشاد (٢ / ٩٥) وتجارب الأُمم لابن مسكويه (٢ / ٦٩) مقتل الحسين للخوارزمي (١ / ٢٤٦) والبداية والنهاية لابن كثير (٨ / ٢٥١).

١٨٨

لكنّ الّذين فازوا بالبقاء في تلك الليلة الحرجة ، كانُوا قد مرّوا بتجارب شديدة قبل هذه الساعة ، صقلتهم وصَفَّتْ ذواتَهم من دَرَنِ النُكُول والغدر ، ولم يبق في نفوسهم سوى معاني الوفاء والإخلاص ، وفي مقدّمتهم أهلُ بيتِ الحسين عليه السلام وفي طليعتهم الرائدُ المُجاهدُ «أبو الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام».

فهو أبو الوفاء ، الّذي نذرهُ أبُوهُ وبذرَهُ ، وأعدّهُ وبذرَهُ ، وأعدّهُ لِمثل هذا اليوم عندَما طلبَ مولوداً شجاعاً فارساً من أُمٍّ قد ولدتها الفُحولة من العرب ، وهي «أُمّ البَنِيْنَ عليها سلام الله».

إنّ التصميم السريع للإجابة على طلبٍ ، مثل ما جاء في كلام الإمام عليه السلام في مثل ذلك الموقف الخطير الصعبِ ، والانتخاب في مثل تلك الليلة الحرجة ؛ لَهُو من أصعب الأُمور ، لا يَتَأَتّى لكلّ أحدٍ بِيُسرٍ ، إلاّ ممّنْ كانَ سريعَ البديهة ، ويملكُ قلباً مُطمئنّاً ، ومعرفةً تامّةً ، وفكراً صائباً ، ولم يكنْ ذلك لشخصٍ سوى العَبّاس ، الّذي سبق الجميع بالجواب السريع.

إنّ العَبّاس بكلمته تلك وَفى بحقّ الجواب ، وفتح للآخرين الباب ، فانطلقوا يتبعوه بمثله ونحوه ، وكان كلام الآخرين كأنّه تفصيلٌ لما أوجزه العَبّاس بكلمته.

فبدأ من كان حاضراً من أهل البيت قبل سائر الأصحاب :

فقال آل عقيل :

«سُبحانَ الله! فما يقول الناس؟

١٨٩

يقولون : أنّا تركنا شيخَنا وسيّدَنا وبني عُمومَتنا خيرِ الأعمام! ولم نَرْمِ معهم بِسَهمٍ! ولم نَطْعَنْ معهم بِرُمحٍ! ولم نَضْرِبْ معهم بِسَيْفٍ!؟

ولا ندري ما صنعوا؟!

لا والله ، ما نفعل ذلك.

ولكن نفديك أنفسَنا وأموالَنا وأهلِينا ، ونقاتلُ معكَ حتّى نَرِدَ مَورِدَكَ.

فقبّحَ اللهُ العيشَ بعدَكَ»(١) .

وتلاهم الأصحاب :

فقام إليه مسلم بن عوسجة ، وزهير بن القين البجلي ، فتكلّما بما يدلّ على إخلاصهما ووفائهما. وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجهٍ واحد(٢) .

فجزّاهم الحسين عليه السلام خيراً ، وانصرف إلى مضربه(٣) .

إنّه لابتلاءٌ عظيمٌ ، عرضه الإمام على الملأ ، وخرج منه أهله وأصحابه الأوفياء بدرجة عالية ، وأثبتوا أنّ كلّ واحد منهم أُمثولة للوفاء ، بكلماتهم ليلة عاشوراء ، وفي يوم عاشوراء : طبّقوا أقوالهم بصمودهم أمام الأعداء ؛ ففازوا بشارات الفلاح والنجاح.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩٢).

(٢) لقد جمعنا هذه الكلمات في مقال بعنوان (شهداء حقّاً) نشر في مجلّة (ذكريات المعصومين عليهم السلام) الكربلائية الّتي كان يصدرها صديقنا المرحوم السيّد محمّد علي الطبسيّ رحمة الله في سنة (١٣٨٥).

(٣) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩٣) ولاحظ الطبري (٥ / ٤١٩ ـ ٤٢٠).

١٩٠

وكما خلدتْ قضيّتُهم وأهدافُهم ، فقد خلدُوا هُم في قائمة (شهداء الحقّ) مدى الدهر ، وفي طليعة القائمة اسمُ السقّاء ابي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام أبي الوفاء.

فقد سجّلوا مواقفهم بدمائهم الحمراء ، الّتي اختلطت بدماء أهل البيت من أولاد علي والحسين ، وها هي تظهر على الأُفق معلنةً انتصار الحقّ ، وتشهدُ لخُلُود أهله مَدى الدهرِ إلى يوم الخلود ، كما قال المعرّي :

وعلى الدَهْرِ من دِماءِ الشهيديـ ـنِ عليٍّ ونجلِهِ شاهِدانِ

فهُما في أواخرِ الليلِ فَجْرا نِ وفي أولَياتِهِ شَفَقانِ

ثَبَتَا فِي قَمِيصِهِ لِيَجِيءَ الحَشْـ ـرَ مُسْتَعْدِياً إلى الرَحْمنِ(١)

رفضُ أمان الولاة الجائرين :

ولئن واجَهَ العَبّاسُ وإخوتُهُ ذلك الامتحانَ الصعبَ معَ عامّة الأصحاب ، وخرجُوا جميعاً مرفوعي الرأس ، فإنّ العَبّاسَ وإخوتَه خاصّةً ، امتُحِنُوا ببلاءٍ أصعبَ وفتنةٍ أدهى وأَمَرَّ ، وهو «الأمان» الّذي اختصّهم به بعض أقاربهم من بني قبيلة أُمّ البَنِيْنَ أُمّهم.

والروايةُ ـ كما نقلها الطبريّ ـ هي : قال أبو مِخنَف : عن الحارث بن حصيرة ، عن عَبْد الله بن شريك العامريّ ، قال :

قام شَمِرُ [بن ذي الجَوْشَن الكِلابيّ] وعَبْد الله بن أبي المُحِلّ (الديّان)

__________________

(١) لأبي العلاء المعري وهو في ديوانه سقط الزند (ص ٩٦) والمرويّ : وعلى الأُفْقِ .

١٩١

ابن حَرام(١) بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن عامر بن كعب بن عامر بن كِلاب.

وكانت أُمُّ البَنِيْنَ ابنةُ حرام عمّتُهُ ، عند عليّ بن ابي طالب عليه السلام فولدتْ له : العَبّاسَ ، وعَبْد الله ، وجعفراً ، وعثمانَ ـ.

فقال عَبْد الله (لِعُبَيْد الله بن زياد) : أصلح الله الأمير ، إنّ بني أُختِنا معَ الحُسين ، فإنْ تكتبْ لهم أماناً ؛ فعلتَ.

قال : نعم ، ونعمة عينٍ.

فأمَرَ كاتبَهُ ؛ فكتب لهم أماناً ، فبعثَ به عَبْد الله بن أبي المُحِلّ مع مولىً له يقال له : «كرمان» فلمّا قدمَ عليهمْ دعاهمْ فقال : هذا أمانٌ بَعَثَ بِهِ خالُكُمْ.

وقال ابن الأعثم الكوفيّ : فلمّا وردَ كتابُ عَبْد الله بن أبي المُحِلّ على بني عليٍّ ، ونظروا فيه ، أَقْبَلوا بِه إلى الحُسين ؛ فَقَرَأَهُ.

فقال الفِتيةُ(٢) : اقْرأ خالَنا السلامَ وقلْ له : لا حاجَةَ لَنا في أمانِكُم ، أمانُ اللهِ خَيْرٌ من أمانِ ابنِ سُميّة(٣) .

وهذا الجواب يُعبّرُ عن نفسٍ مُطمئنّةٍ ، وأَدَبٍ فَذٍّ ، يَلِيقانِ بِأُولئك الأشراف ، ولو في مثل تلك الظروف الحرجة.

__________________

(١) في المصدر (حزام) وقد صوّبناه.

(٢) كلمة (الفتية) لم يرد في المصدر ، وإنّما ذكر من الطبري.

(٣) الطبري (٥ / ٤١٥) والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام (١ / ٢٤٦) ولاحظ الكامل لابن الأثير (٤ / ٥٦). وانظر : الفتوح لابن أعثم : (٥ / ٧ ـ ١٦٨).

١٩٢

والرواية في المصادر الشيعيّة تقول : إنّ الجائي بالأمان هو شَمِرُ بن ذي الجَوْشَنْ ، وهو ـ أيضاً ـ كِلابيّ ضِبابيّ ، من بني معاوية ـ الضِباب ـ ابن كِلابٍ. فقد روى الشيخ المفيدُ ، قال : ونهضَ عمرُ بن سعد للحُسين عليه السلام عشيّةَ الخميس لتسعٍ مضينَ من المُحرّم ، وجاء شَمِرٌ حتّى وقف على أصحاب الحُسين عليه السلام فقال : أينَ بَنُو أُختِنا؟.

فخرج إليه العَبّاسُ ، وجعفرٌ ، وعَبْد الله ، وعثمانُ ، بَنُو عليّ بن أبي طالب عليه وعليهم السلام ، فقالُوا : ما تُريدُ؟

فقال : أنتُمْ ـ يا بني أُختي ـ آمِنُونَ.

فقال له الفِتيةُ : لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ أمانَكَ! أتُؤمِننا وابنُ رسول الله لا أمانَ لَهُ(١) ؟!

وفي رواية ابن عِنَبة ، قال الرواةُ : لَمّا كانَ نومُ الطَفّ ؛ قال شَمِرُ بن ذي الجوشن الكلابيّ لِلعبّاس وإخوته : أينَ بَنُو أُختي؟ فلم يُجِيبُوهُ.

فقال الحُسينُ لإخوته : أَجِيبُوهُ وإنْ كان فاسِقاً ، فإنّه بعضُ أَخْوالِكم؟

فقالوا له : ما تُرِيدُ؟ قال : أُخرجُوا إليَّ ، فإنّكم آمِنُونَ ، ولا تقتلوا أنْفُسَكم معَ أَخِيكم.

فَسَبُّوهُ ، وقالُوا له : قَبُحْتَ وقَبُحَ ما جِئتَ بِهِ ، أنَتْرَكُ سيّدَنا وأخانا ونَخْرُجَ إلى أمانِكَ؟!(٢) .

__________________

(١) الإرشاد (٢ / ٨٩) ونحوه في تاريخ الطبري (٥ / ٤١٦).

(٢) عمدة الطالب (ص ٣٥٧).

١٩٣

وفي رواية ابن أعثم الكوفيّ : وأقبل شَمِرُ بن ذي الجوشن حتّى وقف على معسكر الحُسين عليه السلام فنادى بأعلى صوته أين بنو أُختنا : عَبْد الله ، وجعفر ، والعَبّاس ؛ بنو عليّ ابن أبي طالب؟ فقال الحسين لإخوته : أجيبوه وإن كان فاسقاً ، فإنّه من أخوالكم! فنادوه : ما شأنُك؟ وما تُريد؟

فقال : يا بني أُختي ، أنتم ىمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين ، والزموا طاعةَ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ يزيدَ بن مُعاوية.

فقال له العَبّاس بن عليّ رضي الله عنه : تبّاً لَكَ يا شَمِر ، لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ ما جِئتَ بهِ من أمانِكَ هذا ، يا عدوَّ الله! أتأمُرُنا أنْ ندخُلَ في طاعة العُتاة ، ونَتْرُكَ نُصرةَ أخِينا الحُسين؟!.

قال : فرجَعَ الشمر إلى معسكرهِ مُغْتاظاً(١) .

ونجدُ هنا أنّ المتكلّمَ في جواب شَمِرٍ هو العَبّاسُ عليه السلام وقد جاء في رواية الشَجَريّ الزيديّ أنّ المُخاطب كان هو العَبّاسُ أيضاً ، فقد روي بالسند إلى ابن الكلبي ، قال : صاحَ شَمِرُ بن ذي الجوشن ، يومَ واقَعوا الحُسين عليه السلام : أيا عبّاسُ ـ يعني العَبّاس بن عليّ عليهما السلام ـ أُخرجْ إليَّ أُكلّمْك!

فاستأذن الحُسينَ ، فأذِنَ لَهُ ؛ فقال له : ما لَكَ؟

قال : هذا أمانٌ لَكَ ، ولإخْوَتِكَ من أُمّك ، أَخَذْتُهُ لَكَ من الأمير ـ يعني ابن زياد ـ لِمكانِكم مِنّي ، لأنّي أحدُ أخوالِكم ، فاخْرُجُوا آمِنينَ.

فقال له العَبّاس : لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ أمانَكَ ، واللهِ ، إنّك تطلُبُ لَنا الأمانَ أنْ

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم (٥ / ٨ ـ ١٦٩) وانظر الكامل لابن الأثير (٤ / ٥٦).

١٩٤

كُنّا بني أُختك ، ولا يأمَنُ ابنُ رسول الله صلى الله عليه وآله!؟!(١) .

ويظهر من مجموع الروايات أنّ المحاولة قد تكرّرت :

تارةً : من عَبْد الله الكلابيّ.

وقد كان جواب العَبّاس وإخوته ، هادِئاً ومُعبِّراً عن أدب ، وإيمان بأمانِ اللهِ! وتذكير لمن غَفَلَ عن الله ورفض اللُجُوء إلى أمان الظالمين.

وتارةً أُخرى : من شَمِر الضِبابيّ الكِلابيّ.

وكأنّه لم يقنع بالمحاولة الأُولى ، أو أرادَ أنْ تكونَ له هذهِ المأثرةُ ، فتقدّمَ بنفسهِ على تنفيذها.

ثمّ إنّ روايات محاولة شَمِرٍ ، تحتوي على أُمور مهمّة تسترعي التنبّه :

١ ـ أنّ الفِتيةَ كانوا على علمٍ به ومعرفة ، حيثُ لم يُجيبوهُ أوّلاً.

٢ ـ أنّ الإمام عليه السلام ـ وفي تلك الظروف القاسية ـ أكّدَ على رِعاية صِلة الرَحِمِ ، مهما كانت بعيدةً ، فإنّ شَمِراً لم يرتبطْ بأُمّ البَنِيْنَ إلاّ في جدّها الأعلى ، فإنّها من بني عامر بن كلابٍ ، وشَمِرٌ من بني معاوية بن كِلابٍ ، فمع ذلك راعى الحسين عليه السلام هذه الرحم ، وأطلق عليه كلمة «الخال» الّتي تعوّد العربُ على إطلاقها في هذه الحال ، لأنّه من أقرباء الأُمّ.

وهذه دلالةٌ أُخرى على عظمة أهل البيت عليهم السلام وكونهم محافظين على الشريعة الإسلاميّة وآدابها ، لا تصرفهم عنها أحرجُ المواقف وأشدّ الأزمات!

__________________

(١) الأمالي الخميسية (١ / ٤ ـ ١٧٥).

١٩٥

وهل موقفٌ أعظم تأزّماً ممّا كان فيه الحسين يوم ذاك!؟

٣ ـ استنكار العَبّاس وإخوته ما ذكره شمر من (طاعة الطغاة) تلك الّتي اعتمدها الحشويّة شعاراً وديناً ، وقضوا بذلك على مكارم الإسلام ، وانتهكوا به محارم المسلمين ، بتسليطهم للفجرة والفسقة ، بل الكفرة ، على الحكم في البلاد الإسلاميّة(١) .

٤ ـ استنكارهم على شمر رعايته لرحمه منهم ، وعدم رعايته لرحم رسول الله ، بطلب الأمان لهم ، والحُسين عليه السلام ابن رسول الله لا أمانَ له.

بذلك أتمّوا الحُجّة على الّذين يُراعون جزئيّات أحكام الدين ويُحاولون امتثال فروع الفرائض والنوافل ، ويأتُون الكبائر من الجرائم العظائم من المظالم ، كما واجهوا به أهل البيت عليهم السلام عامّة ، وهم اليوم يُواجهون الحُسين عليه السلام خاصّة.

٥ ـ وتقبيحهم لما جاء به من الأمان ، ورفضهم طلبه منهم ترك الإمام بشدّةٍ وقُوّةٍ ، لما يحتوي عليه من الجهل بمقام الإمام أوّلاً ، وما فيه من غباءٍ ورذالةٍ وعَمَىً عن أنّ هؤلاء الأشراف أعمقُ إيماناً ، وأصدقُ مقاماً ، وأوفى ذِماماً من أن يتركوا سيّدهم وإمامهم ويلجؤُوا إلى الفسقة والقتلة!

٦ ـ وأهمّ ما في هذه الروايات : أنّ المخاطبَ فيها هو خصوص

__________________

(١) اقرأ عن هذا الموضوع مقالنا (الحشوية الأميريون) المنشور في مجلّة (علوم الحديث) الصادرة من كلّية علوم الحديث ـ بطهران.

١٩٦

العَبّاس عليه السلام وأنّ المُتكلّم المُجيب فيها هو العَبّاسُ نفسه. ممّا يدلّ على أنّه المحور المَعْنِيُّ ، بين أصحاب الحُسين عليه السلام وأهل بيته.

أهداف الأمان :

ثمّ لا ريب أنّ عملية «الأمان» هذه كانت تدبيراً من قبل أعداء الحسين عليه السلام وهدفهم تقطيع أوصال الركب الحسينيّ ، وتشتيت جمع أصحاب الإمام ، وتفتيت قوّته العسكريّة ، والفَتّ في عَضُد أنصاره ، فإنّ انفصال العَبّاس وإخوته عن أخيهم الحسين عليه السلام ـ بأيّ عُنوان كانَ وكيفما حصل ـ كان فيه تحقّق تلك الأهداف اللئيمة.

ولئنْ قال الحسين عليه السلام : «الآن ، انكسر ظهري » عند مقتل العَبّاس أخيه ، في آخر لَحظات الحَرب ، وبعدَ انفرادِهِ ، فإنّ هذه المحاولة ـ لو تحقّقت ـ كانت تقضي على كيانه كلّه من أوّل لَحظةٍ!

لكن الموقف المُشرّف للإخوة الأوفياء ـ وفي مقدّمتهم العَبّاسُ النافِذُ البصيرة بأحابيل الأعداء وأساليب مكرهم ـ أفشلَ تلك المُحاولة الدنيئة ، فدفنت في أهدافها الخفيّة ، بردّهم الحاسم على المحاولة من جذورها.

وأفضحُ ما في العمليّة من الخُبث : أنّها ظهرتْ بمظهر «صِلَة الرَحِم» من قبل عدوٍّ لئيمٍ ، كان من أشدّ الخوارج على الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وهو شَمِر ؛ فكان العَبّاسُ أذكى من أن تنطليَ عليه أمثالُ تلك المكائد الّتي أصدق ما يُطلَقُ عليها أنّها (كلمةُ حقٍّ يُرادُ بِها الباطِلُ) حيثُ العناوين الحَسَنةُ والطيّبةُ تنطوي على الأغراض الفاسدة والخبيثة وتُستخدمُ من

١٩٧

أجل تنفيذها!.

وإلاّ ؛ فكلّ مؤمنٍ يعلمُ أنّ صلة الدين والإيمان ، أحقُّ بالرعاية من صلة الرحم غير المؤمنة ، لو دارَ الأمرُ بينهما.

وأنّ صلة النُبُوّة والإمامة ، أقوى من صلة النَسَبِ بِدونهما ، وأنّ صلة رحم رسول الله وعليّ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ وأهل البيت الطاهرين من ذَوِي قُرباهُ ، هي اللازمة المراعاة ، لأنّها أجرُ الرسالة المُقدّسة بِنَصّ القُرآن حيثُ قال الله :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) الآية(٢٣) من سورة الشورى(٣٣) .

فهل يُصدّقُ من يُراعي صلةَ الأرحام النسبيّة بين الناس ، ويقوم بأداء حقّها؟ أن يكون ممّن يُحارِبُ ارحام الرسول وأهل بيته ، ويُريدُ قتلَ ابن بنت رسول الله!

وموقف العَبّاس ـ وبتبعه إخوتُهُ الكرامُ ـ احتوى على الجانب الدينيّ بوقوفهم غلى جانب إمامهم ووليّ أمرهم ، كما كشف عن الالتزام بالوفاء الّذي هو خُلُقٌ إنسانيٌّ محمودٌ ، ومن الصفات الخيّرة الممدوحة حيث أعرضوا عن هذه الفُرصة المُتاحة لنجاة أجسامهم من القتل المحتوم ، لكن على حساب أرواحهم الطيّبة ، وأهدافهم النبيلة ، وحفاظاً على مجدهم الخالد التليد ، وكرامتهم المتوارَثة والمُتواتِرة بينَ الناس منذُ الجاهليّة وحتّى يوم الناس هذا وإلى الأَبَد.

فلذلك اختاروا خُلودَ الذكر في سجِلّ المؤمنين الأوفياء ، لا فقط

١٩٨

لعقائدهم وإمامهم فحسب ، بل لشرفهم ومجدهم المؤثّل.

ومن أجل هذا ؛ فإنّ كثيراً من النصوص الواردة في (زيارات أبي الفَضْلِ العبّاس عليه السلام) تُركّزُ على عُنصر «الوفاء» الّذي جسّده في ذلك اليوم الخالد.

وثالثاً : المُواساة والإيثار :

كان الإيثارُ والمُواساةُ من أظهر ما ظهر من العَبّاس عليه السلام في يوم عاشوراء : حتّى ثبت في الحديث الشريف ، قول الإمام السجّاد عليه السلام ـ وهو شاهدُ عيانٍ وشاهدُ صدقٍ ـ : «رحمَ اللهُ العَبّاسَ فقد (آثَرَ) وأَبْلى ، وفَدَى أخاه بنفسه حتّى قُطِعَتْ يداه »(١) .

وكذلك في حديث الإمام الصادق عليه السلام : «كان عمّي العَبّاسُ نافِذَ البصيرةِ ، صلبَ الإيمان ، جاهَدَ مَعَ أبي عَبْد الله الحُسين عليه السلام وأبْلى بَلاءً حَسَناً ومَضى شَهِيداً »(٢) .

وقال ابن الطِقْطَقى : كان العَبّاسُ عليه السلام شُجاعاً ، فارساً ، نَجيباً ، كَريماً ، باسِلاً ، وفَيّاً لأخيه ، واساهُ بنفسه ، عليه وعلى أخيه صلوات الله(٣) .

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ص ٧ ـ ٥٤٨) وهو آخر حديث في المجلس (٧٠) تسلسل (٧٣١) ورواه في كتابه الخصال (ص ٦٨ رقم ١٠١) بالسند ، من قوله : «رحم الله العَبّاس ...» إلى آخره وقال والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العَبّاس بن علي عليهما السلام في كتاب (مقتل الحسين بن علي عليهما السلام).

(٢) مرّ الحديث عن سرّ السلسلة للبخاري (ص ٨٩).

(٣) الأصيلي (ص ٣٢٨).

١٩٩

وقد مثّل العَبّاسُ في كربلاء أروعَ أمثله الإيثار والمواساة ، وصدّق ذلك بفعله في عاشوراء. قال الدينوريّ : بقيَ العَبّاسُ بن عليّ قائماً أمامَ الحُسين ، يُقاتِلُ دُونَه ، ويَمِيلُ مَعَهُ حيثُ مالَ(١) .

وموقفٌ شهيرٌ تُضربُ به الأمثال ، ويَسْتَدِرُّ الدمعَ مع الإكبار ، ما ذكره الأُردوباديّ بقوله : وبلغَ من إيثاره ومواساته أنّه مَلَكَ الشريعةَ ، ولم يَذُقْ طعمَ الماء ، تذكاراً لِعَطَشِ أخيه ، ومُواساةً له(٢) .

وما برحَ يُؤْثِرُ ، حتّى أَقْدَمَ ، وفي كفيّه نَفْسُه ، باذِلاً مُرْخِصاً ثَمَنَها ، وهو غايَةُ الكَرَم ونهاية الجُود ، إذْ هي أَعَزُّ الأشياء وأَنْفَسُ ما يُستأثَر(٣) .

أقولُ : بل قدّم روحه الشريفة ، ويديِه ، بل ورجليه أيضاً ، إيغالاً في الإيثار ، حيث لا يملك سواها ، وذلك الغاية في الإيثار ، كما قال الشاعر أبو الشيص الخزاعيّ :

أَمْسى يَقِيْكَ بِنَفْسٍ قَدْ حَباكَ بِها

والجُودُ بِالنَفْسِ أَقْصى غايةِ الجُودِ

بل الأجْدَرُ أنْ أقولَ فيه :

يُدافِعُ عن أهلِ الهُدى وحريمِهِمْ

وأهدافِهِمْ بِالنَفْسِ والرِجْلِ واليَدِ

ورابعاً : الصبر والتحمُّل والمثابرة :

إنّ أهمّ ما كان يؤلم العَبّاس عليه السلام ما كان يراه من الظلم والجفاء من الأُمّة

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٥٧).

(٢) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٩٠ ـ ٩١) وعلّق عليه بقوله : الرواية الّتي تذكر (نفض العَبّاس الماء من يده) رواها العلّامة المجلسي في البحار ، وجلاء العيون ، وفي مقتل عوالم العلوم وغير ذلك.

(٣) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٩٢).

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603