العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39499 / تحميل: 4344
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

لمّا انتهى إليهِ قتلُ جعفر بن أبي طالب ؛ دخَل على أسماء بنت عُميسٍ امرأة جعفر ، فقال : «أينَ بني جعفر (١) » فدعتْ بهم ، وهم ثلاثةٌ : عَبْد الله ، وعونٌ ، ومحمّدٌ ؛ فَمَسَحَ رُؤوسَهم.

فقالتْ : إنّك تمسحُ رؤوسَهم كأنّهم أيتامٌ!؟

فتعجّبَ رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ فقال : «يا أسماءُ! أَلَمْ تعلمي أنّ جعفراً رضي الله عنه استشهد! » فَبَكَتْ ؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله : «لا تبكي ، فإنّ جبرئيل عليه السلام أخبرني أنّ له جناحينِ في الجنّة ، من ياقوت أحمر ».

فقالتْ : يا رسول الله! لو جمعتَ الناسَ وأخبرتَهم بفضل جعفرٍ ؛ لا يُنسى فضلُهُ.

فعجبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله من عقلها! ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «ابعثُوا إلى أهل جعفرٍ طعاماً ». فجَرَتْ بهِ السُنّةُ(٢) .

أقول : والعبّاسُ أبُو الفضل أشبهَ عمَّهُ جعفراً في الشهادة ، وفي الجناحينِ في الجنّة ، وله من الفضائل ما عبّرنا عن بعضها ، فكيفَ يُنسى فضلُ ابي الفَضْلِ السقّاء الشهيد؟. ولئنْ جَرَت (السُنّةُ) بتقديم الطعام لأهل الشهيد. فماذا قدّمت الأمّةُ لآلِ الرسول صلى الله عليه وآله بعد شهادة الحُسين والعبّاس عليهما السلام يوم كربلاء؟ سوى الأسر! والسبي! والقُيود في الأيدي والأرجل والرقاب! والحمل على العِجاف من بلدٍ إلى بلدٍ!؟.

__________________

(١) كذا! وفي طبعة : «أين بَنِيَّ؟» بدون الإضافة إلى اسم «جعفر».

(٢) المحاسن للبرقي (٢ / ٤٢٠) باب (٢٥) إطعام الطعام للمأتم ، رقم (١٩٤).

١٨١
١٨٢

البابُ الخامس :

سيرة العَبّاس عليه السلام في كربلاء

١ ـ الجهاد في سبيل الحقّ

٢ ـ الوفاء ، وردّ أمان الظلمة

٣ ـ المواساة والإيثار

٤ ـ الصبر والتحمُّل والمثابرة

٥ ـ الطاعة حتّى الشهادة

١٨٣
١٨٤

أوّلاً : الجهادُ في سبيل الحقّ

لا ريبَ أنّ العَبّاس عليه السلام مع صلته بالحسين عليه السلام نَسَبيّاً ؛ فهو أخُوهُ من أبيه ، ومعرفتُه بهِ سِبطاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وابناً للزهراء البتول عليها السلام.

وكلّ أَمرٍ من هذه يكفي حافِزاً لهُ على أداء ما يجبُ تجاهَ أخيه أبي عَبْد الله عليه السلام والأولى من بين ذلك كلّه اعترافُهُ بكونِ الحسين إماماً منصوباً من قبل الله والرسول المصطفى ، وأبيه المرتضى ، تجبُ على كلّ مسلمٍ طاعتُهُ المُطلقةُ ، ولم يكن العَبّاس عليه السلام ـ وهو في مقامه من المعرفة والإيمان والدين من هو ـ ليَتَخَلَّفُ عن ذلك أبداً.

وليس في الإقدام على الجهاد والقتل وبذل الدم والتضحية بالنفس ، مؤاربةٌ في منطق الدين ، فلا يُقبل إلاّ أن يكون في سبيل الله والعقيدة الحقّة ، والعَبّاس عليه السلام على معرفة تامّة بمثل هذا.

ومع ذلك ، فإنّ العَبّاس عليه السلام ـ وهو في محضر الإمام ـ يُريدُ أن يكون على بيّنةٍ تامّة من أمره ، كما يُريدُ أن يُعلنَ للتاريخ أنّه إنّما يخطُو على هذه السيرة ويرنُو إلى هذا الهدف ، ويعمل لأجل تحقيق هذه المعاني ، فهو يسألُ أخاهُ ـ قبلَ أن تلتحِمَ المعركةُ ـ : يا أبا عَبْد الله ، نحنُ على الحقّ ، فنقاتلُ؟ قال : «نعم»(١) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة (٢ / ٦ ـ ٧).

١٨٥

إنّها الطريقهُ المُثلى لمن يحتاطُ لدينه ، ولا يتصرّف حسبَ رغباتهِ ولم يُقدِم في تصرّفاته على أساس من العصبيّة العِرقيّة والعُنصريّة والقَبَليّة ، بل إنّما اتّبع ما هو الحقّ الإلهيّ الّذي هو مُنتهى غاية المؤمنين.

وهذه أولى خُطوةٍ وضعها العَبّاس عليه السلام على أرض الجهاد في كربلاء لتكون قَدَمُهُ ثابتةً على الإيمان الصادق بحقّ اليقين ، المُبتني على علم اليقين ، للبُلُوغ إلى عين اليقين ، وهو لِقاءُ الله بين يَدَيْ وليّ الله.

وثانياً : إعلان الوفاء :

لمّا اندحَرَ جيشُ الكوفة ، مساءَ يوم التاسع ، وابتعدُوا عن مخيّم الحسين عليه السلام وغشي الظلامُ فضاءَ المقام ، عند قُرب المساء ليلةَ عاشوراء ؛ جمع الإمامُ عليه السلام أصحابه ـ والحديث من هنا لولده علي زين العابدين ـ قال : فدنوتُ منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذْ ذاك مريضٌ ، فسمعتُ ابي يقولُ لأصحابه :

أُثْني على اللهِ أحسنَ الثناء ، وأحمدهُ على السرّاء والضرّاء ، الّلهمّ إنّي أحمدُكَ على أنْ أكْرَمْتَنا بِالنُبُوّة ، وعلّمْتَنا القُرآنَ ، وفَقَّهْتَنا في الدين ، وجعلتَ لَنا أَسْماعاً وأَبْصاراً وأَفْئِدةً ، فاجْعَلْنا من الشاكرين.

أمّا بعدُ ، فإنّي لا أَعْلَمُ أَصْحاباً أَوْفى ولا خَيْراً من أَصْحابي ، ولا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ ولا أَوْصَلَ من أَهل بَيتي ، فَجَزاكُمُ اللهُ مِنّي خَيراً.

أَلا ، وإنّي لأَظُنُّ أّنَّهُ آخِرَ يومٍ لَنا مِن هؤلاء.

أَلا ، وإنّي قد أَذِنْتُ لكُم ، فانْطَلِقُوا جَميعاً في حِلٍّ ، لَيْسَ عليكمُم مِنّي

١٨٦

ذِمامٌ. هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَملاً ».

فقال له إخوتُه ، وأبناؤُه وبنُو أخيه وأبناءُ عَبْد الله بن جعفر :

«لِمَ نفعلُ ذلك؟ لِنَبقى بعدَكَ؟ لا أَرانا اللهُ ذلِكَ أَبَداً.

بدأهم بهذا القول «العَبّاس بن عليّ رضوان الله عليه» واتّبعته الجماعةُ عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه(١) .

ولفظ أبي الفرج :

قال عليه السلام : «...فجزاكم الله خيراً ، فقد آزرْتُم وعاونتم والقوم لا يُريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أبداً ، فإذا جنّكم الليل فتفرّقوا في سواده ، وانجُو بِأنفسِكُم ».

فقام إليه العَبّاس بن علي أخوه ، وعليٌّ ابنه ، وبنو عقيل ، فقالوا :

معاذَ الله ، والشهر الحرام!

فماذا نقولُ للناسِ إذا رَجعنا إليهم : أنّا تَرَكْنا سيّدنَا وابنَ سيّدنا وعمادَنا ، تَرَكْناهُ غَرَضاً لِلنبل ودريئةً لِلرِماح ، وجَزراً لِلسباع ، وفَرَرْنا عنه رَغْبةً في الحياة؟!

معاذَ الله!

بَلْ نَحْيا بِحياتِكَ ونَمُوتُ مَعَكَ.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩١) وتاريخ الطبري (٥ / ٤١٩) والمنتظم لابن الجوزي (٥ / ٣٣٨) واللهوف لابن طاوس (ص ٩٠) والنويري في نهاية الإرب (٢٠ / ٢٧٢) والتاريخ لأبي الفداء (١ / ١٩١).

١٨٧

فَبَكى ، وبَكَوا عليه ، وجَزَّاهُم خَيراً ، ثُمّ نزل صلوات الله عليه(١) .

وفي كثير من المصادر أنّهم أنهوا كلامَهم بقولهم : «فَقَبَّحَ اللهُ العَيْشَ بَعْدَكَ»(٢) .

إنّه موقفٌ صعبٌ ، وخطيرٌ : خَيارٌ يشقُّ على المرءِ فيهِ الاختيارُ والمجالُ ضيّقٌ لا يتحمّلُ التأخير للتفكير ، ولا التَلَكُؤَ في الجواب المختار.

والخُطورة هي في أنّ الأمرَ واقعٌ في وجه الإمام بذاته ، فليس إلاّ ما ذكر الحُرُّ الرِياحيّ ، حيثُ قال : «إنّي أُخيّرُ نفسي بينَ الجنّة والنار في الدنيا الآخرة!».

وهل المؤمنُ العاقلُ يختارُ على الجنّة شيئاً ، غير الخسار والبوار؟!

ولكنّ أصحاب الحسين عليه السلام في ذلك الموقف كان الخيارُ عندهم بين الجنّة وشيءٍ آخر ، وهو : المصيرُ المجهولُ ، والضياعُ في هذه الدُنيا قبل النار.

بل صوّرَ بعضهُم الخيارَ : بينَ الجنّة المضمونة في مقعدِ صِدْقٍ ، مع الحسين وجدّه الرسول المُصطفى وأبيه الوصيّ المُرتضى وأخيه الحسن المُجتبى وأُمّه فاطمة الزهراء ، عندَ مليكٍ مقتدرٍ.

وبينَ الأسفِ والحسرةِ والندم والحزن مدى الحياة ، على ترك الحسين وأهله عُرضةً لتلك الوُحوش الشرسة!.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ١١٣).

(٢) الإرشاد (٢ / ٩٥) وتجارب الأُمم لابن مسكويه (٢ / ٦٩) مقتل الحسين للخوارزمي (١ / ٢٤٦) والبداية والنهاية لابن كثير (٨ / ٢٥١).

١٨٨

لكنّ الّذين فازوا بالبقاء في تلك الليلة الحرجة ، كانُوا قد مرّوا بتجارب شديدة قبل هذه الساعة ، صقلتهم وصَفَّتْ ذواتَهم من دَرَنِ النُكُول والغدر ، ولم يبق في نفوسهم سوى معاني الوفاء والإخلاص ، وفي مقدّمتهم أهلُ بيتِ الحسين عليه السلام وفي طليعتهم الرائدُ المُجاهدُ «أبو الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام».

فهو أبو الوفاء ، الّذي نذرهُ أبُوهُ وبذرَهُ ، وأعدّهُ وبذرَهُ ، وأعدّهُ لِمثل هذا اليوم عندَما طلبَ مولوداً شجاعاً فارساً من أُمٍّ قد ولدتها الفُحولة من العرب ، وهي «أُمّ البَنِيْنَ عليها سلام الله».

إنّ التصميم السريع للإجابة على طلبٍ ، مثل ما جاء في كلام الإمام عليه السلام في مثل ذلك الموقف الخطير الصعبِ ، والانتخاب في مثل تلك الليلة الحرجة ؛ لَهُو من أصعب الأُمور ، لا يَتَأَتّى لكلّ أحدٍ بِيُسرٍ ، إلاّ ممّنْ كانَ سريعَ البديهة ، ويملكُ قلباً مُطمئنّاً ، ومعرفةً تامّةً ، وفكراً صائباً ، ولم يكنْ ذلك لشخصٍ سوى العَبّاس ، الّذي سبق الجميع بالجواب السريع.

إنّ العَبّاس بكلمته تلك وَفى بحقّ الجواب ، وفتح للآخرين الباب ، فانطلقوا يتبعوه بمثله ونحوه ، وكان كلام الآخرين كأنّه تفصيلٌ لما أوجزه العَبّاس بكلمته.

فبدأ من كان حاضراً من أهل البيت قبل سائر الأصحاب :

فقال آل عقيل :

«سُبحانَ الله! فما يقول الناس؟

١٨٩

يقولون : أنّا تركنا شيخَنا وسيّدَنا وبني عُمومَتنا خيرِ الأعمام! ولم نَرْمِ معهم بِسَهمٍ! ولم نَطْعَنْ معهم بِرُمحٍ! ولم نَضْرِبْ معهم بِسَيْفٍ!؟

ولا ندري ما صنعوا؟!

لا والله ، ما نفعل ذلك.

ولكن نفديك أنفسَنا وأموالَنا وأهلِينا ، ونقاتلُ معكَ حتّى نَرِدَ مَورِدَكَ.

فقبّحَ اللهُ العيشَ بعدَكَ»(١) .

وتلاهم الأصحاب :

فقام إليه مسلم بن عوسجة ، وزهير بن القين البجلي ، فتكلّما بما يدلّ على إخلاصهما ووفائهما. وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجهٍ واحد(٢) .

فجزّاهم الحسين عليه السلام خيراً ، وانصرف إلى مضربه(٣) .

إنّه لابتلاءٌ عظيمٌ ، عرضه الإمام على الملأ ، وخرج منه أهله وأصحابه الأوفياء بدرجة عالية ، وأثبتوا أنّ كلّ واحد منهم أُمثولة للوفاء ، بكلماتهم ليلة عاشوراء ، وفي يوم عاشوراء : طبّقوا أقوالهم بصمودهم أمام الأعداء ؛ ففازوا بشارات الفلاح والنجاح.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩٢).

(٢) لقد جمعنا هذه الكلمات في مقال بعنوان (شهداء حقّاً) نشر في مجلّة (ذكريات المعصومين عليهم السلام) الكربلائية الّتي كان يصدرها صديقنا المرحوم السيّد محمّد علي الطبسيّ رحمة الله في سنة (١٣٨٥).

(٣) الإرشاد للمفيد (٢ / ٩٣) ولاحظ الطبري (٥ / ٤١٩ ـ ٤٢٠).

١٩٠

وكما خلدتْ قضيّتُهم وأهدافُهم ، فقد خلدُوا هُم في قائمة (شهداء الحقّ) مدى الدهر ، وفي طليعة القائمة اسمُ السقّاء ابي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام أبي الوفاء.

فقد سجّلوا مواقفهم بدمائهم الحمراء ، الّتي اختلطت بدماء أهل البيت من أولاد علي والحسين ، وها هي تظهر على الأُفق معلنةً انتصار الحقّ ، وتشهدُ لخُلُود أهله مَدى الدهرِ إلى يوم الخلود ، كما قال المعرّي :

وعلى الدَهْرِ من دِماءِ الشهيديـ ـنِ عليٍّ ونجلِهِ شاهِدانِ

فهُما في أواخرِ الليلِ فَجْرا نِ وفي أولَياتِهِ شَفَقانِ

ثَبَتَا فِي قَمِيصِهِ لِيَجِيءَ الحَشْـ ـرَ مُسْتَعْدِياً إلى الرَحْمنِ(١)

رفضُ أمان الولاة الجائرين :

ولئن واجَهَ العَبّاسُ وإخوتُهُ ذلك الامتحانَ الصعبَ معَ عامّة الأصحاب ، وخرجُوا جميعاً مرفوعي الرأس ، فإنّ العَبّاسَ وإخوتَه خاصّةً ، امتُحِنُوا ببلاءٍ أصعبَ وفتنةٍ أدهى وأَمَرَّ ، وهو «الأمان» الّذي اختصّهم به بعض أقاربهم من بني قبيلة أُمّ البَنِيْنَ أُمّهم.

والروايةُ ـ كما نقلها الطبريّ ـ هي : قال أبو مِخنَف : عن الحارث بن حصيرة ، عن عَبْد الله بن شريك العامريّ ، قال :

قام شَمِرُ [بن ذي الجَوْشَن الكِلابيّ] وعَبْد الله بن أبي المُحِلّ (الديّان)

__________________

(١) لأبي العلاء المعري وهو في ديوانه سقط الزند (ص ٩٦) والمرويّ : وعلى الأُفْقِ .

١٩١

ابن حَرام(١) بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن عامر بن كعب بن عامر بن كِلاب.

وكانت أُمُّ البَنِيْنَ ابنةُ حرام عمّتُهُ ، عند عليّ بن ابي طالب عليه السلام فولدتْ له : العَبّاسَ ، وعَبْد الله ، وجعفراً ، وعثمانَ ـ.

فقال عَبْد الله (لِعُبَيْد الله بن زياد) : أصلح الله الأمير ، إنّ بني أُختِنا معَ الحُسين ، فإنْ تكتبْ لهم أماناً ؛ فعلتَ.

قال : نعم ، ونعمة عينٍ.

فأمَرَ كاتبَهُ ؛ فكتب لهم أماناً ، فبعثَ به عَبْد الله بن أبي المُحِلّ مع مولىً له يقال له : «كرمان» فلمّا قدمَ عليهمْ دعاهمْ فقال : هذا أمانٌ بَعَثَ بِهِ خالُكُمْ.

وقال ابن الأعثم الكوفيّ : فلمّا وردَ كتابُ عَبْد الله بن أبي المُحِلّ على بني عليٍّ ، ونظروا فيه ، أَقْبَلوا بِه إلى الحُسين ؛ فَقَرَأَهُ.

فقال الفِتيةُ(٢) : اقْرأ خالَنا السلامَ وقلْ له : لا حاجَةَ لَنا في أمانِكُم ، أمانُ اللهِ خَيْرٌ من أمانِ ابنِ سُميّة(٣) .

وهذا الجواب يُعبّرُ عن نفسٍ مُطمئنّةٍ ، وأَدَبٍ فَذٍّ ، يَلِيقانِ بِأُولئك الأشراف ، ولو في مثل تلك الظروف الحرجة.

__________________

(١) في المصدر (حزام) وقد صوّبناه.

(٢) كلمة (الفتية) لم يرد في المصدر ، وإنّما ذكر من الطبري.

(٣) الطبري (٥ / ٤١٥) والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام (١ / ٢٤٦) ولاحظ الكامل لابن الأثير (٤ / ٥٦). وانظر : الفتوح لابن أعثم : (٥ / ٧ ـ ١٦٨).

١٩٢

والرواية في المصادر الشيعيّة تقول : إنّ الجائي بالأمان هو شَمِرُ بن ذي الجَوْشَنْ ، وهو ـ أيضاً ـ كِلابيّ ضِبابيّ ، من بني معاوية ـ الضِباب ـ ابن كِلابٍ. فقد روى الشيخ المفيدُ ، قال : ونهضَ عمرُ بن سعد للحُسين عليه السلام عشيّةَ الخميس لتسعٍ مضينَ من المُحرّم ، وجاء شَمِرٌ حتّى وقف على أصحاب الحُسين عليه السلام فقال : أينَ بَنُو أُختِنا؟.

فخرج إليه العَبّاسُ ، وجعفرٌ ، وعَبْد الله ، وعثمانُ ، بَنُو عليّ بن أبي طالب عليه وعليهم السلام ، فقالُوا : ما تُريدُ؟

فقال : أنتُمْ ـ يا بني أُختي ـ آمِنُونَ.

فقال له الفِتيةُ : لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ أمانَكَ! أتُؤمِننا وابنُ رسول الله لا أمانَ لَهُ(١) ؟!

وفي رواية ابن عِنَبة ، قال الرواةُ : لَمّا كانَ نومُ الطَفّ ؛ قال شَمِرُ بن ذي الجوشن الكلابيّ لِلعبّاس وإخوته : أينَ بَنُو أُختي؟ فلم يُجِيبُوهُ.

فقال الحُسينُ لإخوته : أَجِيبُوهُ وإنْ كان فاسِقاً ، فإنّه بعضُ أَخْوالِكم؟

فقالوا له : ما تُرِيدُ؟ قال : أُخرجُوا إليَّ ، فإنّكم آمِنُونَ ، ولا تقتلوا أنْفُسَكم معَ أَخِيكم.

فَسَبُّوهُ ، وقالُوا له : قَبُحْتَ وقَبُحَ ما جِئتَ بِهِ ، أنَتْرَكُ سيّدَنا وأخانا ونَخْرُجَ إلى أمانِكَ؟!(٢) .

__________________

(١) الإرشاد (٢ / ٨٩) ونحوه في تاريخ الطبري (٥ / ٤١٦).

(٢) عمدة الطالب (ص ٣٥٧).

١٩٣

وفي رواية ابن أعثم الكوفيّ : وأقبل شَمِرُ بن ذي الجوشن حتّى وقف على معسكر الحُسين عليه السلام فنادى بأعلى صوته أين بنو أُختنا : عَبْد الله ، وجعفر ، والعَبّاس ؛ بنو عليّ ابن أبي طالب؟ فقال الحسين لإخوته : أجيبوه وإن كان فاسقاً ، فإنّه من أخوالكم! فنادوه : ما شأنُك؟ وما تُريد؟

فقال : يا بني أُختي ، أنتم ىمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين ، والزموا طاعةَ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ يزيدَ بن مُعاوية.

فقال له العَبّاس بن عليّ رضي الله عنه : تبّاً لَكَ يا شَمِر ، لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ ما جِئتَ بهِ من أمانِكَ هذا ، يا عدوَّ الله! أتأمُرُنا أنْ ندخُلَ في طاعة العُتاة ، ونَتْرُكَ نُصرةَ أخِينا الحُسين؟!.

قال : فرجَعَ الشمر إلى معسكرهِ مُغْتاظاً(١) .

ونجدُ هنا أنّ المتكلّمَ في جواب شَمِرٍ هو العَبّاسُ عليه السلام وقد جاء في رواية الشَجَريّ الزيديّ أنّ المُخاطب كان هو العَبّاسُ أيضاً ، فقد روي بالسند إلى ابن الكلبي ، قال : صاحَ شَمِرُ بن ذي الجوشن ، يومَ واقَعوا الحُسين عليه السلام : أيا عبّاسُ ـ يعني العَبّاس بن عليّ عليهما السلام ـ أُخرجْ إليَّ أُكلّمْك!

فاستأذن الحُسينَ ، فأذِنَ لَهُ ؛ فقال له : ما لَكَ؟

قال : هذا أمانٌ لَكَ ، ولإخْوَتِكَ من أُمّك ، أَخَذْتُهُ لَكَ من الأمير ـ يعني ابن زياد ـ لِمكانِكم مِنّي ، لأنّي أحدُ أخوالِكم ، فاخْرُجُوا آمِنينَ.

فقال له العَبّاس : لَعَنَكَ اللهُ ، ولَعَنَ أمانَكَ ، واللهِ ، إنّك تطلُبُ لَنا الأمانَ أنْ

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم (٥ / ٨ ـ ١٦٩) وانظر الكامل لابن الأثير (٤ / ٥٦).

١٩٤

كُنّا بني أُختك ، ولا يأمَنُ ابنُ رسول الله صلى الله عليه وآله!؟!(١) .

ويظهر من مجموع الروايات أنّ المحاولة قد تكرّرت :

تارةً : من عَبْد الله الكلابيّ.

وقد كان جواب العَبّاس وإخوته ، هادِئاً ومُعبِّراً عن أدب ، وإيمان بأمانِ اللهِ! وتذكير لمن غَفَلَ عن الله ورفض اللُجُوء إلى أمان الظالمين.

وتارةً أُخرى : من شَمِر الضِبابيّ الكِلابيّ.

وكأنّه لم يقنع بالمحاولة الأُولى ، أو أرادَ أنْ تكونَ له هذهِ المأثرةُ ، فتقدّمَ بنفسهِ على تنفيذها.

ثمّ إنّ روايات محاولة شَمِرٍ ، تحتوي على أُمور مهمّة تسترعي التنبّه :

١ ـ أنّ الفِتيةَ كانوا على علمٍ به ومعرفة ، حيثُ لم يُجيبوهُ أوّلاً.

٢ ـ أنّ الإمام عليه السلام ـ وفي تلك الظروف القاسية ـ أكّدَ على رِعاية صِلة الرَحِمِ ، مهما كانت بعيدةً ، فإنّ شَمِراً لم يرتبطْ بأُمّ البَنِيْنَ إلاّ في جدّها الأعلى ، فإنّها من بني عامر بن كلابٍ ، وشَمِرٌ من بني معاوية بن كِلابٍ ، فمع ذلك راعى الحسين عليه السلام هذه الرحم ، وأطلق عليه كلمة «الخال» الّتي تعوّد العربُ على إطلاقها في هذه الحال ، لأنّه من أقرباء الأُمّ.

وهذه دلالةٌ أُخرى على عظمة أهل البيت عليهم السلام وكونهم محافظين على الشريعة الإسلاميّة وآدابها ، لا تصرفهم عنها أحرجُ المواقف وأشدّ الأزمات!

__________________

(١) الأمالي الخميسية (١ / ٤ ـ ١٧٥).

١٩٥

وهل موقفٌ أعظم تأزّماً ممّا كان فيه الحسين يوم ذاك!؟

٣ ـ استنكار العَبّاس وإخوته ما ذكره شمر من (طاعة الطغاة) تلك الّتي اعتمدها الحشويّة شعاراً وديناً ، وقضوا بذلك على مكارم الإسلام ، وانتهكوا به محارم المسلمين ، بتسليطهم للفجرة والفسقة ، بل الكفرة ، على الحكم في البلاد الإسلاميّة(١) .

٤ ـ استنكارهم على شمر رعايته لرحمه منهم ، وعدم رعايته لرحم رسول الله ، بطلب الأمان لهم ، والحُسين عليه السلام ابن رسول الله لا أمانَ له.

بذلك أتمّوا الحُجّة على الّذين يُراعون جزئيّات أحكام الدين ويُحاولون امتثال فروع الفرائض والنوافل ، ويأتُون الكبائر من الجرائم العظائم من المظالم ، كما واجهوا به أهل البيت عليهم السلام عامّة ، وهم اليوم يُواجهون الحُسين عليه السلام خاصّة.

٥ ـ وتقبيحهم لما جاء به من الأمان ، ورفضهم طلبه منهم ترك الإمام بشدّةٍ وقُوّةٍ ، لما يحتوي عليه من الجهل بمقام الإمام أوّلاً ، وما فيه من غباءٍ ورذالةٍ وعَمَىً عن أنّ هؤلاء الأشراف أعمقُ إيماناً ، وأصدقُ مقاماً ، وأوفى ذِماماً من أن يتركوا سيّدهم وإمامهم ويلجؤُوا إلى الفسقة والقتلة!

٦ ـ وأهمّ ما في هذه الروايات : أنّ المخاطبَ فيها هو خصوص

__________________

(١) اقرأ عن هذا الموضوع مقالنا (الحشوية الأميريون) المنشور في مجلّة (علوم الحديث) الصادرة من كلّية علوم الحديث ـ بطهران.

١٩٦

العَبّاس عليه السلام وأنّ المُتكلّم المُجيب فيها هو العَبّاسُ نفسه. ممّا يدلّ على أنّه المحور المَعْنِيُّ ، بين أصحاب الحُسين عليه السلام وأهل بيته.

أهداف الأمان :

ثمّ لا ريب أنّ عملية «الأمان» هذه كانت تدبيراً من قبل أعداء الحسين عليه السلام وهدفهم تقطيع أوصال الركب الحسينيّ ، وتشتيت جمع أصحاب الإمام ، وتفتيت قوّته العسكريّة ، والفَتّ في عَضُد أنصاره ، فإنّ انفصال العَبّاس وإخوته عن أخيهم الحسين عليه السلام ـ بأيّ عُنوان كانَ وكيفما حصل ـ كان فيه تحقّق تلك الأهداف اللئيمة.

ولئنْ قال الحسين عليه السلام : «الآن ، انكسر ظهري » عند مقتل العَبّاس أخيه ، في آخر لَحظات الحَرب ، وبعدَ انفرادِهِ ، فإنّ هذه المحاولة ـ لو تحقّقت ـ كانت تقضي على كيانه كلّه من أوّل لَحظةٍ!

لكن الموقف المُشرّف للإخوة الأوفياء ـ وفي مقدّمتهم العَبّاسُ النافِذُ البصيرة بأحابيل الأعداء وأساليب مكرهم ـ أفشلَ تلك المُحاولة الدنيئة ، فدفنت في أهدافها الخفيّة ، بردّهم الحاسم على المحاولة من جذورها.

وأفضحُ ما في العمليّة من الخُبث : أنّها ظهرتْ بمظهر «صِلَة الرَحِم» من قبل عدوٍّ لئيمٍ ، كان من أشدّ الخوارج على الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وهو شَمِر ؛ فكان العَبّاسُ أذكى من أن تنطليَ عليه أمثالُ تلك المكائد الّتي أصدق ما يُطلَقُ عليها أنّها (كلمةُ حقٍّ يُرادُ بِها الباطِلُ) حيثُ العناوين الحَسَنةُ والطيّبةُ تنطوي على الأغراض الفاسدة والخبيثة وتُستخدمُ من

١٩٧

أجل تنفيذها!.

وإلاّ ؛ فكلّ مؤمنٍ يعلمُ أنّ صلة الدين والإيمان ، أحقُّ بالرعاية من صلة الرحم غير المؤمنة ، لو دارَ الأمرُ بينهما.

وأنّ صلة النُبُوّة والإمامة ، أقوى من صلة النَسَبِ بِدونهما ، وأنّ صلة رحم رسول الله وعليّ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ وأهل البيت الطاهرين من ذَوِي قُرباهُ ، هي اللازمة المراعاة ، لأنّها أجرُ الرسالة المُقدّسة بِنَصّ القُرآن حيثُ قال الله :( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) الآية(٢٣) من سورة الشورى(٣٣) .

فهل يُصدّقُ من يُراعي صلةَ الأرحام النسبيّة بين الناس ، ويقوم بأداء حقّها؟ أن يكون ممّن يُحارِبُ ارحام الرسول وأهل بيته ، ويُريدُ قتلَ ابن بنت رسول الله!

وموقف العَبّاس ـ وبتبعه إخوتُهُ الكرامُ ـ احتوى على الجانب الدينيّ بوقوفهم غلى جانب إمامهم ووليّ أمرهم ، كما كشف عن الالتزام بالوفاء الّذي هو خُلُقٌ إنسانيٌّ محمودٌ ، ومن الصفات الخيّرة الممدوحة حيث أعرضوا عن هذه الفُرصة المُتاحة لنجاة أجسامهم من القتل المحتوم ، لكن على حساب أرواحهم الطيّبة ، وأهدافهم النبيلة ، وحفاظاً على مجدهم الخالد التليد ، وكرامتهم المتوارَثة والمُتواتِرة بينَ الناس منذُ الجاهليّة وحتّى يوم الناس هذا وإلى الأَبَد.

فلذلك اختاروا خُلودَ الذكر في سجِلّ المؤمنين الأوفياء ، لا فقط

١٩٨

لعقائدهم وإمامهم فحسب ، بل لشرفهم ومجدهم المؤثّل.

ومن أجل هذا ؛ فإنّ كثيراً من النصوص الواردة في (زيارات أبي الفَضْلِ العبّاس عليه السلام) تُركّزُ على عُنصر «الوفاء» الّذي جسّده في ذلك اليوم الخالد.

وثالثاً : المُواساة والإيثار :

كان الإيثارُ والمُواساةُ من أظهر ما ظهر من العَبّاس عليه السلام في يوم عاشوراء : حتّى ثبت في الحديث الشريف ، قول الإمام السجّاد عليه السلام ـ وهو شاهدُ عيانٍ وشاهدُ صدقٍ ـ : «رحمَ اللهُ العَبّاسَ فقد (آثَرَ) وأَبْلى ، وفَدَى أخاه بنفسه حتّى قُطِعَتْ يداه »(١) .

وكذلك في حديث الإمام الصادق عليه السلام : «كان عمّي العَبّاسُ نافِذَ البصيرةِ ، صلبَ الإيمان ، جاهَدَ مَعَ أبي عَبْد الله الحُسين عليه السلام وأبْلى بَلاءً حَسَناً ومَضى شَهِيداً »(٢) .

وقال ابن الطِقْطَقى : كان العَبّاسُ عليه السلام شُجاعاً ، فارساً ، نَجيباً ، كَريماً ، باسِلاً ، وفَيّاً لأخيه ، واساهُ بنفسه ، عليه وعلى أخيه صلوات الله(٣) .

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ص ٧ ـ ٥٤٨) وهو آخر حديث في المجلس (٧٠) تسلسل (٧٣١) ورواه في كتابه الخصال (ص ٦٨ رقم ١٠١) بالسند ، من قوله : «رحم الله العَبّاس ...» إلى آخره وقال والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العَبّاس بن علي عليهما السلام في كتاب (مقتل الحسين بن علي عليهما السلام).

(٢) مرّ الحديث عن سرّ السلسلة للبخاري (ص ٨٩).

(٣) الأصيلي (ص ٣٢٨).

١٩٩

وقد مثّل العَبّاسُ في كربلاء أروعَ أمثله الإيثار والمواساة ، وصدّق ذلك بفعله في عاشوراء. قال الدينوريّ : بقيَ العَبّاسُ بن عليّ قائماً أمامَ الحُسين ، يُقاتِلُ دُونَه ، ويَمِيلُ مَعَهُ حيثُ مالَ(١) .

وموقفٌ شهيرٌ تُضربُ به الأمثال ، ويَسْتَدِرُّ الدمعَ مع الإكبار ، ما ذكره الأُردوباديّ بقوله : وبلغَ من إيثاره ومواساته أنّه مَلَكَ الشريعةَ ، ولم يَذُقْ طعمَ الماء ، تذكاراً لِعَطَشِ أخيه ، ومُواساةً له(٢) .

وما برحَ يُؤْثِرُ ، حتّى أَقْدَمَ ، وفي كفيّه نَفْسُه ، باذِلاً مُرْخِصاً ثَمَنَها ، وهو غايَةُ الكَرَم ونهاية الجُود ، إذْ هي أَعَزُّ الأشياء وأَنْفَسُ ما يُستأثَر(٣) .

أقولُ : بل قدّم روحه الشريفة ، ويديِه ، بل ورجليه أيضاً ، إيغالاً في الإيثار ، حيث لا يملك سواها ، وذلك الغاية في الإيثار ، كما قال الشاعر أبو الشيص الخزاعيّ :

أَمْسى يَقِيْكَ بِنَفْسٍ قَدْ حَباكَ بِها

والجُودُ بِالنَفْسِ أَقْصى غايةِ الجُودِ

بل الأجْدَرُ أنْ أقولَ فيه :

يُدافِعُ عن أهلِ الهُدى وحريمِهِمْ

وأهدافِهِمْ بِالنَفْسِ والرِجْلِ واليَدِ

ورابعاً : الصبر والتحمُّل والمثابرة :

إنّ أهمّ ما كان يؤلم العَبّاس عليه السلام ما كان يراه من الظلم والجفاء من الأُمّة

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٥٧).

(٢) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٩٠ ـ ٩١) وعلّق عليه بقوله : الرواية الّتي تذكر (نفض العَبّاس الماء من يده) رواها العلّامة المجلسي في البحار ، وجلاء العيون ، وفي مقتل عوالم العلوم وغير ذلك.

(٣) فصول من حياة أبي الفَضْلِ (ص ٩٢).

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

نُقِلُوا إلى «الشاغور» ومنها إلى «باب الساعات» ومنها نَقَلوا الإمام السجّاد عليه السلام إلى المسجد الجامع ، وأعادُوهم إلى هذا المسجد(١) .

أقولُ : هذا ما وقفنا عليه حول رأس سيّدنا أبي الفَضْلِ العَبّاس الأكبر عليه السلام ممّا ورد في المصادر المعتمدة.

ثمّ إنّ من الوارد احتمال أن تكون الرؤوس المقدّسة ـ وفيها رأس سيّدنا أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام ـ قد نُقِلَتْ إلى كربلاء ، ودفِنَتْ مع الأجساد الطاهرة ، لأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد نُقِلَ إلى مرقده المقدّس ، وضمّ إلى جسده الشريف ، على أقوى الأقوال وأوفقها للأدلّة(٢) .

كما أنّ من البعيد أنْ يَتْرُكَ الإمامُ السجّاد عليه السلام تلك الرؤوس الشريفة في بلاد الأعداء ؛ بعدَ أنْ أُطْلِقَ له الرجوعُ إلى العراق ، كما هو الثابت في التاريخ! لكنْ لمْ نقفْ على ما يدلّ بوضوحٍ على نقل سائر الرؤوس.

رأس العَبّاس الأصغر :

ثمّ إنّ حديثاً أثبتَتْهُ المصادر القديمة ، وهو ما رَوَوْهُ عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة المُجاشعيّ ، وفيه : أُتي بالرؤوس ، إذا بفارسٍ قد علّق في لَبَب فَرسه رأسَ غلامٍ أَمْرَدَ كأنّهُ القَمَرُ في ليلة تَمِّهِ.

فقلتُ له : رأسُ مَن هذا؟ فقال : رأسُ العَبّاس بن عليّ.

__________________

(١) الأزهار الأرجيّة للشيخ فرج آل عمران وانظر : مزارات أهل البيت عليهم السلام للجلالي (ص ٢٢٦ ـ ٢٢٨).

(٢) وقد أثبتنا ذلك في بحث مستقل.

٢٢١

قلتُ ومَن أنتَ؟ قال : حرملةُ بن كاهل الأسديّ(١) .

وقد ذكرنا في موردٍ سابقٍ عند ذكر أولاد الإمام أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام : أنّ المُناسب لهذا الوصف أن يكون صاحب هذا الرأس هو العبّاس الأصغر ابن أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام الشهيد في الطفّ أيضاً.

مقام مدفن الكفّين الشريفتين :

لا ريب ـ كما عرفنا ـ في حدوث قطع الكفّين الشريفتين في كربلاء ، ولكن كون المعلمين ـ الموجودين فعلاً في كربلاء ـ هما موضع دفنهما فيهما ، أمرٌ لم يتحقّق عند أهل المعرفة بتاريخ البلد.

ومن المحتمل أن يكون الكفّان ملحقتين بالجسد الشريف ، كما هو الحكم الشرعيّ في إلحاق أجزاء الموتى بأجسادهم.

لكن وجود هذين النَصَبين في الموضعين هما من معالم الملحمة العبّاسيّة ، ومُذكّران بهذه الظُلامة الفريدة الّتي أعلنها الأئمّة عليهم السلام باعتبارها ميزةً من خصائص العَبّاس عليه السلام فلابُدّ من إشادتها ولورتها لتبقى في ذاكرة هذا البلد المقدّس ، كما هي خالدةْ في ذاكرة التاريخ.

قال المظفّر : وهذا شيءٌ توارثه الخلفُ عن السلف ، وتراثُ مجدٍ خلّفه الماضي للباقي ، بحيث أقاموا مَعلمَين مُعْلِمَيْنِ بموضع الكفّين الشريفتين يعرف كلّ منهما بكفّ العَبّاس اليُمنى ، ثمّ كفّ العَبّاس اليُسرى ، يقعان في شرقيّ الصحن العبّاسيّ الشريف.

__________________

(١) رواه الصدوق في عقاب الأعمال (ص ٢١٨) وقد نقلناه سابقاً عنه وعن غيره.

٢٢٢

كما أنّ الشهرة على التسالُم بين أهل البلد ، منذُ قديم الأمَد ، كما يقول الشيخ المظفّر أنّ هذه الآثار ليستْ من الحديثة ، ولا من الأشياء الّتي لم تبتنِ على أُسٍّ قديمٍ ، بل هي سائرةٌ مع بقيّة آثارهم وتعاهدتها يدُ العمران إن طرقها طول الزمان بالتضعضع أو أشرف بها على الانهيار ، فإذنْ هي صحيحةُ الإسناد العمليّ لا القوليّ ، إذْ كل جيلٍ يتبعُ الجيلَ السابقَ في احترامها وتعاهدها بالعمارة ؛ حتّى تتّصل بأوّل الأجيال الّتي أُشيدتْ بها مشاهدهم وقبابهم ، وهذا ما يُسمّيه الناسُ بِالسيرة العمليّة ، ويحتجّ بها الفقهاءُ على إثبات الأحكام الشرعيّة.

وانتهى الشيخ المظفّر إلى التصريح بالقول : فأنا من هذه الناحية على ثقة ويقين(١) .

فلا يُعبأ بما يُثيره أهل الريب من نفي ذلك.

وموضع اليُمنى : في مطلع (باب الرضا عليه السلام) المعروف بباب العلقميّ وهو يقع في الجهة الشرقيّة نحو شمالها ، في بداية الشارع المسمّى بالعلقمي ، في زقاقٍ على الأيسر ، وعلى يسار الداخل إليه(٢) .

وموضع اليُسرى : مواجهٌ لمطلع باب (أمير المؤمنين عليه السلام) في بداية مدخل سوق باب الخان(٣) .

__________________

(١) بطل العلقمي.

(٢) اقرأ عنه وصفاً كاملاً في : المراقد والمقامات في كربلاء ، للحاج عَبْد الأمير القريشي ص ١٧٠ ـ وانظر بطل العلقمي (٣).

(٣) اقرأ عنه تفصيلاً في : المراقد والمقامات للقريشي (ص ٢ ـ ٧٤) وانظر بطل العلقمي ج ٣.

٢٢٣

أمّا مدفن الرِجْلينِ الشريفتين :

فلمْ يعرفْ عنه شيءٌ ، ولم يُذكرْ في موردٍ ولا مصدرٍ!.

وتلكَ مظلمةٌ أخْرى ممّا اختصّ بها العبّاسُ عليه السلام بين شهداء كربلاء.

ونَقَلَ الرواةُ عن السيّد الفقيه المهديّ بحر العلوم : أنّه زارَ المَرقَدَ الشريفَ للعبّاس ؛ فلاحظَ قِصَرَ محلّ الدفن ، فتعجّبَ هُو والحاضرون! لأنّ ذلك لا يُناسِبُ المعروفَ من كون العبّاس عليه السلام «رجُلاً طوالاً ، يركَبُ الفَرَسَ المُطَهَّمَ(١) ورِجْلاهُ تَخُطّانِ الأرْضَ»(٢) .

فذكر السيّد بحرُ العلوم مظلمةَ قَطعِ رِجْلَيهِ(٣) .

وهذه الرواية ، كما تؤكّد المظلمةَ ، قد تُشيرُ إلى عدمِ دفنِ الرِجلينِ معَ الجسدِ الشريف.

__________________

(١) المطهّم : السمين الفاحش الشمن ، وـ المنتفخ الوجه ، وـ التامّ من كلّ شيء ، المعجم الوسيط (طهم) ص ٥٦٩ ، والمراد هنا : الفرس الضخم المرتفع.

(٢) كما قال أبو الفرج الأصفهانيّ في مقاتل الطالبيين (ص ٩٠).

(٣) شرح الأخبار ، (٣ / ١٩١ ـ ١٩٣).

٢٢٤

العبّاس ورثاءه وندبته عليه السلام

أوّلُ مَنْ رثاهُ هُو الحسينُ عليه السلام :

ولمّا قُتِلَ العَبّاس عليه السلام قال الحسين عليه السلام : «الآن انكَسَرَ ظَهْري ، وقَلَّتْ حِيْلَتي »(١) .

ورثاء الأئمّة عليهم السلام :

ففي حديث مواراة الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام للأجساد الشريفة : مشى الإمام السجّاد عليه السلام إلى عمّه العَبّاس عليه السلام فوقع عليه يلثم نحره المقدّس ، قائلاً :

على الدنيا بعدك العَفا ، يا قمر بني هاشم ، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ، ورحمة الله وبركاته(٢) .

وفي الزيارة الصادرة من الناحية المقدّسة : «السلامُ على أبي الفَضْلِ العَبّاس ابن أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه ك زيد بن رقاد الجهني ، وحُكيم بن الطفيل الطائي»(٣) .

_________________

(١) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي (٢ / ٣٠) والبحار (٤٥ / ٤٢).

(٢) كامل الزيارات (ص ٣٢٥) مقتل الحسين للمقرّم (٤١٢ ـ ٤١٨).

(٣) الإقبال لابن طاوس (ص ٥٧٣) ومصباح الزائر (ص ٢٧٨).

٢٢٥

رِثاءُ أُمّ البنين عليها السلام للعبّاس وأبنائها الطّاهرين :

في الحديث : «وكانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى ، تخرجُ غلى البقيع ، فتندُبُ بَنِيها أشجى نُدبة وأحرقها ، فيجتمعُ النّاسُ إليها يسمعون مِنها ، فكان مروانُ يجيء في من يجيء لِذلك ، فلا يزالُ يسمعُ نُدبَتها ويَبكي!».

ذكر ذلك عليّ بن محمّد بن حمزة ، عن النَوفَلِيّ ، عن حمّاد بن عيسى الجُهَنيّ ، عن معاوية بن عمّار ، عن جعفر بن محمّد(١) .

وقالوا : كانت أُمُّ جعفر الكلابيّةُ تندُبُ الحُسينَ وتبكيه ، وقد كُفَّ بصرُها ، فكان مروانُ ـ وهو والي المدينة ـ يجيءُ مُتَنَكِّراً بِاللّيل حتّى يقف ، فيسمعُ بُكاءَها وندبها(٢) .

قال السماويّ : وأنا أسترقّ جدّاً من رثاء أُمّه فاطمة ؛ أُمّ البنين ، الّذي أنشده أبو الحسن الأخفش في (شرح الكامل) وقد كانتْ تخرجُ إلى البقيع كلّ يومٍ ترثيه ، وتحملُ وَلَدَهُ عُبَيْد الله ، فيجتمعُ لِسماعِ رِثائِها أهلُ المدينة وفيهم مروانُ بنُ الحَكَم ، فيبكون لِشجيّ النُدبة ، ومنه قولُها (رضي الله عنها) :

يا مَنْ رأى العبّاسَ كَرْ

رَ على جَماهيرِ النَقَدْ

ووراهُ مِنْ أبناءِ حَيـ

ـدَرَ كُلُّ ليثٍ ذِي لَبَدْ

أُنبئتُ أنّ ابْني أُصِيْـ

ـبَ بِرأسهِ مقطوعَ يَدْ

وَيْلِي لى شِبْلِي أما

لَ بِرأسِهِ ضَرْبُ العَمَدْ

__________________

(١) أبو الفرج ، مقاتل الطّالبيّين (ص ٩٠) وعنه : المجلسي ، البحار (٤٥ / ٤٠) والبحراني ، العوالم (١٧ / ٢٨٣) والمظفّر بطل العلقمي ، (٣ / ٤٣١).

(٢) الشّجري ، الأمالي الخميسيّة (١ / ١٧٥).

٢٢٦

لَوْ كانَ سيفُكَ في يَدَيْـ

ـكَ لَمَا دَنَا مِنْهُ أَحَدْ

وقولها :

لا تَدْعُوَنّي وَيْكِ أُمَّ البَنِينْ

تُذَكِّرِينِيْ بِلُيُوثِ العَرِيْنْ

كانَتْ بنونٌ لِيَ أُدعى بِهِمْ

واليومَ أصبحتُ ولا من بنينْ

أربعةٌ مثلُ نُسُورِ الرّبى

قد وَاصَلُوا الموتَ بِقَطعِ الوَتِينْ

تنازع الخرصانُ أشلاءَهُمْ

فكلّهمْ أَمسى صَرِيعاً طَعِيْنْ

يا ليتَ شِعْري أَكَما أَخبرُوا

بِأنّ عبّاساً قطيعُ اليَمِينْ(١)

وقال السيّد الأمينُ عن أمّ البنين : كانتْ شاعرةً فصيحةً ، وكانتْ تخرجُ كلّ يومٍ إلى البقيع ومعها عُبَيْد الله ولد ولدها العبّاس ، فتندُبُ أولادها الأربعة ، خصوصاً العبّاس ، أشجى نُدبة وأحرقها ، فيجتمع النّاس ، يسمعوون بكاءها وندبتها ، فكان مروانُ بن الحكم ، على شدّة عدواته لبني هاشمٍ ، يجيءُ في من يجيء ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.

فمن قولها في رثاء ولدها العبّاس ما أنشده أو الحسن الأخفشُ في (شرح كامل المبرّد).

وأورد الأبيات الداليّة ، ثمّ قال : وزاد البيت حُسناً أنّ «العبّاس» من أسماء «الأسد».

ثمّ أورد الأبيات النونيّة(٢) .

__________________

(١) السّماوي إبصار العين (ص ٣١ ـ ٣٢) وانظر عنه : المظفّر ، بطل العلقمي (٣ / ٤٣١ ـ ٤٣٢).

(٢) الأمين ، أعيان الشّيعة (٨ / ٣٨٩) و(٤ / ١٣٠).

٢٢٧

مراثٍ أخرى :

ويقول (١) الفضل (٢) بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عُبَيْد الله بن العبّاس بن عليّ عليه السلام في رثاء جدّه العبّاس عليه السلام :

أحقّ الناسِ أنْ يُبكى عليهِ

فتىً(٣) أبكى الحسينَ بِكربلاءِ

أخوهُ وابنُ والدِهِ عليٍّ

أبُو الفضلِ المُضرّجُ بِالدّماءِ

ومَنْ واساهُ لا يَثنيه شيءٌ

وجاءَ لَهُ على عَطَشٍ بِماءِ(٤)

ويقول الكُميتُ بنُ زيد :

وأبُو الفضلِ إنّ ذِكْرَهُمُ الحُلْـ

ـوَ شِفاءُ النُفُوسِ من أسقامِ(٥)

قُتِلَ الأدْعِياءُ إذْ قَتَلُوْهُ

أَكْرَمَ الشارِبِيْنَ صَوْبَ الغَمامِ(٦)

__________________

(١) ذكر ذلك في تاريخ بغداد (١٢ / ١٣٦) وأدب ألطّفّ (١ / ٣ / ٢٢٣) ومقاتل الطالبيين (ص ٨٩) فهم مؤيّدون نسبتها إلى الشاعر المذكور. أمّا في كتاب (روض الجنان) للمؤرّخ الهنديّ «أشرف عليّ» ص ٣٢٥ : نسب هذه الأبيات إلى فضل بن الحسن بن عُبَيْد الله بن العبّاس ابن عليّ ين أبي طالب ، وكذلك في كتاب (عيون الأخبار وفنون الآثار ص ١٠١ وفيه : الفضل ابن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله ...) والحقّ مع الموافقين للمؤلّف.

(٢) وهو شاعر معاصر للمتوكّل (مات سنة ٢٤٧ هـ) وقد ذكر في أعيان الشيعة (٤٢ / ٢٨٢) أنّ أُمّه جعفريّة ، وأبوه محمّد بن الفضل كان من الشعراء المعاصرين للمأمون العباسيّ. عن معجم الشعراء للمرزباني (ص ١٨٤).

(٣) كذا ذكر أرباب المقاتل وراجع (معجم الشّعراء للمرزباني ، ص ١٨٤).

(٤) القاضي النعمان ، شرح الأخبار (٣ / ١٩٣). وأورده أبو الفرج ، مقاتل الطّالبييّن (ص ٩٠) بقوله «يقول الشاعر» من دون نسبة ، ولا حظ الغدير (٣ / ٥) للأميني ، وفقد نقله عن العمريّ صاحب (المجديّ) وعيون الأخبار في فنون الآثار : (ص ١٠١).

(٥) كذا في ديوان الكميت ، ونقل : «شِفاءُ النفوسِ والأسقامِ». فليلاحظ.

(٦) ديوان الكميت (ص ٥٠٦) ، أبو الفرج ، مقاتل الطالبييّن (ص ٩٠).

٢٢٨

عاقبة القتلة وعقوبتهم الدنيوية :

وكان حكيمُ بن طُفيل الطائيّ السنْبِسيّ سَلَبَ العبّاسَ بن عليّ ثيابَهُ ورمى الحسينَ بسهمٍ ، فكان يقول : تعلّقَ سهمي بِسِربالِهِ وما ضَرَّهُ.

فبعثَ المختارُ إليه عَبْد الله بن كامل ، فأخذه ، فاستغاث أهلُه بِعَديّ بن حاتم ، فكلّم فيه ابن كامل ؛ فقال : أمرُهُ إلى الأمير المُختار ؛ وبادَرَ بهِ إلى المُختار قبل شفاعة ابن حاتم له إلى المُختار ؛ فأمر به المُختارُ فعُرّيَ ورُميَ بِالسهام حتّى مات.

وكان زيدُ بن رقاد الجَنْبيّ يقول : رميتُ فتىً من آل الحسين ويدُهُ على جبهته فأثْبَتُّها في جبهته.

وكان ذاك الفتى عَبْد الله بن مُسلم بن عقيل بن أبي طالب ، وكانَ رَماهُ بِسهمٍ فَلَقَ قلبَهُ ، فكان يقول : نزَعْتُ سهمي من قلبه وهو ميّتٌ ، ولم أزلْ أُنَضْنِضُ سهمي الّذي رميتُ بهِ جبهتَه فِيها حتّى انتزعتُهُ وبقيَ النَضْل!.

فبعثَ إليه المُختارُ ابنَ كامل في جماعةٍ ، فأحاطَ بِدارِهِ ؛ فخَرَجَ مُصلِتاً سيفَهُ فقاتلَ ، فقال ابن كامل : لا تضربُوهُ ولا تطعنُوهُ ، ولكن ارْمُوهُ بِالنّبل والحجارة ، ففعلوا ذلك حتّى سقطَ(١) .

قال : وبعث المختارُ أيضاً عَبْد الله الشّاكريّ إلى رجلٍ من جَنْب يُقال له : زيدُ بن رقاد ، كان يقول : لقد رَمَيْتُ فتىً منهم بِسَهمٍ ، وإنّه لواضِعٌ كفّه

__________________

(١) البلاذري ، جمل من أنساب الأشراف ٣ / ٤٠٦ وانظر ٦ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨. والخوارزمي مقتل الحسين (٢ / ٢٢٠) وانظر : الطبري ، التاريخ ٦ / ٦٤ ، وعنه : بطل العلقمي (٣ / ٢١٩ ـ ٢٢٠).

٢٢٩

على جبهته يتّقي النَبْلَ ، فأثبَتُّ كَفّهُ في جبهته ، فما استطاعَ أنْ يزيلَ كفّه عن جَبهته.

قال أبو مخنف : فحدّثني أبو عَبْد الأعلى الزُّبيديّ أنّ ذلك الفتى عَبْد الله بن مسلم بن عَقيل ، وأنّه قال حيث أثبتَ كفّه على جبهته : «الّلهمّ إنّهم استقلّونا واستذلّونا ، اللّهمّ فاقتلهم كما قَتَلونا ، وأذِلّهم كما استَذَلُّونا».

ثمّ إنّه رمى الغلامَ بسهَم آخَرَ فقتَلَه ، فكان يقول : جِئتُه ميِّتاً فنزعتُ سهمي الّذي قتلتُهُ بهِ من جَوْفِهِ ، فلم أَزَلْ أُنضْنِضُ السهمَ حتّى نزَعْتهُ من جبهته ، وبقيَ النَصْلُ في جبهته مُثبَتاً ما قدرتُ على نزعهِ!

قال : فلمّا آتى ابنُ كامل دارَه ؛ أحاط بها ، واقتحمَ الرجالُ عليه ، فخرجَ مُصلِتاً بسيفه ـ وكان شُجاعاً ـ فقال ابنُ كامل : «لا تضربوهُ بِسيفٍ ، ولا تَطعَنوهُ برمحٍ ، ولكن ارموهُ بِالنبل ، وارضخُوهُ بِالحجارة» ففعلوا ذلك به ، فَسَقَطَ(١) .

وأمّا حرملة قاتل العبّاس الأصغر :

أخبرنا محمّد بن محمّد ، قال : أخبرني المظفّر بن محمّد البلخيّ ، قال : حدّثنا أبو عليّ ، محمّد بن همّام الإسكافيّ ، قال : حدّثنا عَبْد الله بن جعفر الحميريّ ، قال : حدّثني داود بن عمر النهديّ ، عن الحسن بن محبوب ، عن عَبْد الله بن يونس ، عن المِنهال بن عَمرو ، قال : دخلتُ على عليّ بن

__________________

(١) الطبري ، التّاريخ : (٦ / ٦٤) عنه : المظفّر ، بطل العلقمي (٣ / ٢٢٠) وانظر : الحدائق الورديّة للمحلي : (١ / ١٢٠).

٢٣٠

الحسين عليهما السلام منصرفي من مكّة ، فقال لي : يا منهال ، ما صنع حرملة بن كاهل الأسديّ؟

فقلتُ : تركتُهُ حيّاً بِالكوفة. قال : فرفع يديه جميعاً ، فقال :

«اللّهمّ أذقهُ حَرّ الحديد. اللّهمّ أذقهُ حَرّ النّار ».

قال المنهال : فقدمتُ الكوفة ، وقد ظهر المُختارُ بن أبي عبيد ، وكان لي صديقاً ، قال : فمكثتُ في منزلي أيّاماً حتّى انقطع النّاس عنّي ، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجاً من داره ، فقال : يا منهال ، لم تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تُهنِّئنا بِها ، ولم تشركنا فيها؟.

فأعلمتُه أنّي كنتُ بمكّة ، وأنّي قد جئتُك الآن ؛ وسايرتُهُ ونحنُ نتحدّثُ حتّى أتى الكُناسةَ فوقفَ وُقُوفاً كأنّهُ ينتظرُ شيئاً ، وقد كان أُخبرَ بمكان حرملة بن كاهل ؛ فوجّهَ في طلبه ، فلم نلبثْ أنْ جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير ، البِشارة ، قد أُخِذَ حرملةُ بن كاهل ؛ فما لَبِثنا أنْ جِيءَ به ، فلمّا نظر إليه المُختار ، قال لِحَرملة : الحمدُ لله الّذي مكّنني منك. ثمّ قال : الجزّار! الجزّار!. فأُتيَ بِجزّارٍ ، فقال له : اقطعْ يديه. فقطعتا ؛ ثمّ قال له : اقطعْ رجليه. فقطعتا ؛ ثمّ قال : النّارَ النّارَ ، فُأتي بنارٍ وقصبٍ ، فأُلقي عليه واشتعلتْ فيه النّارُ.

فقلتُ : سُبحانَ الله!

فقال لي : يا منهال ، إنّ التَسبيحَ لَحَسَنٌ ، ففيم سبّحتَ؟

فقلتُ : أيّها الأمير ، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على

٢٣١

عليّ بن الحسين عليهما السلام فقال لي : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ؟

فقلتُ : تركتُهُ حيّاً بالكوفة.

فرفع يديه جميعاً فقال : «اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ النّار».

فقال لي المختارُ : أسَمِعتَ عليَّ بنَ الحسين عليهما السلام يقولُ هذا؟

فقلتُ : واللهِ لقد سمعتُهُ.

قال : فنزلَ عن دابّته وصلّى ركعتين ؛ فأطال السّجودَ ؛ ثمّ قامَ فركبَ وقد احترقَ حرملة ، وركبتُ معه ، وسرنا فحاذَيْتُ داري ، فقلتُ : أيّها الأمير ، إنْ رأيتَ أنْ تُشرّفَني وتُكرّمَني وتنزلَ عندي وتحرمَ بِطعامي.

فقال : يا منهالُ ، تُعْلِمُني أنّ عليّ بن الحسين دعا بأربع دعواتٍ فأجابه اللهُ على يديّ ؛ ثمّ تأمرني أنْ آكلَ! هذا يومُ صومٍ شُكراً لله عزّ وجلّ على ما فعلتُهُ بِتَوفيقه(١) .

وهكذا جُوزِيَ قتلة الأطهار ، على يد المختار ، في الدنيا( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ) .

__________________

(١) الطّوسي : الأمالي (٢٣٨ ـ ٢٣٩) عنه : المجلسيّ : البحار ، (٤٥ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣) وانظر : المناقب لابن شهر آشوب : (٤ / ١٤٥) وكشف الغمّة للإربلي : (٣ / ٢ ـ ٧٣) وأمالي الشجري (١ / ١٨٨) وبطل العلقميّ للمظفّر : (٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٣).

٢٣٢

الخاتمة

العَبّاسُ مُعجزةُ الحُسين عليهما السلام

٢٣٣
٢٣٤

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الأصبغ بن نُباتة ، قال خرج علينا أَميْر المُؤْمِنِيْنَ علي بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسن عليه السلام وهو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم ويدي في يده ، هكذا ، وهو يقول : «خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا ، وهو إمام كلّ مسلم ومولى كلّ مؤمن ، بعد وفاتي».

ألا ، وإنّي أقول : خير الخلق بعدي وسيّدهم ابني هذا ، وهو إمام كلّ مؤمن ومولى كلّ مؤمن ، بعد وفاتي. ألا وإنّه سيُظلم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني : أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه ، المقتول في أرض كربلاء.

أما إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة(١) .

أقولُ : وإذا كانوا كلّهم من سادة الشهداء ، فلا ريب أنّ الحسين عليه السلام وهو إمامهم فله السيادة عليهم أيضاً ، فهو سيّد السادة ، وإذن فما هو مقام العَبّاس عليه السلام بين هؤلاء؟ وهو أمير جيشه وحامل لوائه وعميد عسكره ، وهو من هو كما عرفنا عنه من المزايا الكبيرة في سماته المنيرة ، وسيرته المثيرة؟

__________________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة (١ / ٢٥٩) الحديث ٥ من الباب ٢٤.

٢٣٥

أقول : إنّ العَبّاس هو معجزة الحسين عليه السلام :

كثيرون ـ حتّى من المعتقدين بإمامة الحسين عليه السلام فضلاً عن محبّيه من غير أُولئك ـ يُعلنون عن أنّ قضية كربلاء لم تُبنَ على الإعجاز الغيبيّ ، وإلاّ لكان لِيَدِ الإعجاز أنْ تُبيد الأعداء ، وأنْ تُحرق كياناتهم بإصبعٍ من الغيب! وأنْ يكون للحسين ولكربلاء شأنٌ آخر.

لكنّ الأمر في مفهوم (المعجزة) وتقديرها وتصوّر أهدافها يختلف من شخصٍ إلى آخر.

فإنْ كانَ المنظورُ منها «إتمامُ الحُجّة» فإنّ قضايا كربلاء قد احتوتْ على الحُجج التامّة ، لا على الأعداء المُعتدين فقطْ ، بل على الأُمّة الإسلاميّة المغلوبة على أمرها ـ مدى التاريخ ـ فضلاً عن الطغاة الظالمين في العالم أجمع!

وإنْ كانَ الإعجازُ من منظار الانتصار ، فإنّ الانتصار الحقيقيّ ليس بمجرّد الاستمرار في الحياة والبقاء في الدُنيا ، بل هو انتصار الحقّ ، بتحقّق الأهداف المطلوبة من المواقف والوقائع ، واستمرارها في كيان الإنسانيّة ، وأداء أثرها ، وهو ما قد حَصَلَ من كربلاء.

ولكن المعجزة الّتي تحقّقت في كربلاء هي من نوعٍ آخر فإنّ أعلى وأهمّ مظاهر الإعجاز في كربلاء هو (العَبّاس عليه السلام) نفسه ، حيث احتوى بمفردهِ على كلّ تلك المكارم والمآثر في سماته وسيرته ؛ فبلغ من المقام والرفعة (درجةً يغبطُهُ بِها الشُهداء يوم القيامة).

ومع أنّ العبّاس لم يكن إماماً ، وقد ورد النصّ بذلك عن أبي عبد الله

٢٣٦

الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ :( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) سورة النساء الآية ٥٩ ؛ قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين عليهم السلام ؛ فلمّا مضى عليٌّ ، لم يكن يستطيع عليٌّ ، ولم يكن ليفعل : أن يُدخِلَ محمّدَ بن عليّ ، ولا العبّاسَ بن عليّ ، ولا واحداً(١) من ولده(٢) .

كما لم يكن العبّاس معصوماً ، بل ليس من شأننا الحديث عن ثبوت العصمةَ له ، بعد أنّ انحصر المعصومون من أهل البيت بالأئمّة الإثني عشر عليهم السلام لكنّ العباس ـ بلا شكٍّ ـ كانَ أكبرَ معجزةٍ لأخيه الإمام المعصوم ، وذلك لأنّ قتل الحسين عليه السلام هو من دلائل النبوّة ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أخبر عنه ، وهو من إخباره بالغيب بأُمور تحقّقت في المستقبل ، كما أورده أرباب الكتب الجامعة لدلائل النبوّة ، كالبيهقي ، وأبي نعيم الأصفهاني ، والسيوطي ، وغيرهم ، كما أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أخبر عن مقتله ، وهذا ـ أيضاً ـ من دلائل الإمامة.

فهذه كلّها معجزاتٌ ؛ لتحقُّقِها ، واقترانِ أخبارها باليقين ، فليستْ إلاّ من الوحي المُبين من ربّ العالمين على نبيّه الأمين.

وبذلك ، فإنّ وجود العبّاس عليه السلام في واقعة الطفّ في كربلاء ـ وهو من أعلامها وأعيانها ، وعليه تدورُ أكثر قضاياها المهمّة.

بل ؛ وجوده وجودٌ عضويّ في إنجازها ، كلّ ذلك يدخله في المعجزة ،

__________________

(١) في بعض النّسخ [أحداً].

(٢) تفسير العيّاشي (١ / ٤٠٩) وتفسير فرات (ص ١١٠ ح ٢٧) والكافي (١ / ٢٨٦ ـ ٢٨٨).

٢٣٧

ویتحقّق به الإعجاز.

مع أنّ خروج العبّاس عليه السلام مع الحسين عليه السلام وقيامه بتلك المهمّات وفي جميع أدوارها الحسّاسة ؛ لهو من خوارق العادة ، فليكن بذاته معجزةً للحسين عليه السلام حيث كان مثلُ العبّاس طوعَ إرادته ، ومُقتدياً به ، يميل معه حيث مال ، بل يسيرُ أَمَامَهُ في تلك الظروف الرهيبة ، حتّى الشهادة بين يديه.

فسلامُ الله يومَ وُلِدَ ، ويومَ قُتِلَ شهيداً ، ويومَ يُبْعَثُ في الجنان.

٢٣٨

وأمّا الحديث عن كرامات العَبّاس عليه السلام :

فما هي الكرامةُ؟

ولماذا يُصِرّ البعضُ على إثباتها لغير الأنبياء؟ مع أنّها كالمعجزة؟ أليس ذلك من الغلوّ الّذي هو كفرٌ وباطلٌ؟

وما هي الطُرُقُ اللازمة لإثبات مثل هذه الدعاوى الّتي أصبح يشهد عليها الكثيرون ؛ بحيث فاقت التواتُر ، في شأن العباس عليه السلام؟

تعريف الكرامة :

عُرّفت الكرامة بأنّها : ظهورُ أمرٍ خارقٍ للعادة من شخص ، غيرِ مقارِنٍ لدعوىً ، فأمّا إذا اقترنَ بدعوى النُبُوّة ، أو الإمامَة ، فهي المعجزة ، فهما ـ الكرامة والمعجزة ـ يتشاركان في كونهما خارقين للعادة ، ولا يمكن للبشر العاديّين أن يقوموا بهما.

وهما يفترقان ، في :

أنّ المعجزة : تختصّ بمن له مقامٌ إلهيّ يحتاجُ في تعيينه إلى نصبٍ ونصٍّ وفرضٍ من الله على العباد ، كالنبيّ المرسَلِ بِالوحي المُباشر ، المتّصل بالسماء ، والمتكلّم عنه ، وكالوصيّ والإمام المنصوب من قبل الله بواسطة الرسول والنبيّ ، وتعيينه ، والنصّ عليه ، والإعلان عن شخصه.

أمّا الكرامة : فهي تتحقّق على يد أولياء الله المخلصين ، الّذين انقادوا الله

٢٣٩

بالطاعة ، وخافُوه حقّ الخوف ؛ فَطَوَّعَ لهم كلَّ ما سواهُ ، وأخافَ منهم كلّ شيءٍ. وبما أنّ ظهور الخارق على يد الإنسان لا يخالف العقل ؛ لفرض أنّه ممكنٌ عقلاً ، والدليلُ على إمكانه وقوعُه ، وإنّما هو يخالف العادةَ ، فهو أمرٌ ممكن عقلاً. وبما أنّا ـ نحنُ المُسلمين ـ أُمّةٌ متعبّدون بالشرع ، فلابدّ أن نرى مواقف الشرع من مثل ذلك ، فنجد :

أوّلاً : أنّ الآيات القرآنيّةَ الكريمةَ ، المحكَمةَ والواضحةَ الدلالة ، تُصرّح بأنّ اللهَ تبارك وتعالى إنّما خلقَ الكونَ والحياةَ لابن آدم ، وسخّر له كلّ شيء من الممكنات ، لينتفع به ، وذلك من قوله تعالى : (هوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما في الأرضِ جَميعاً) فالكونُ ومجرياته وأُموره كلُّها مخلوقةٌ للعباد ، ولتكون تحت اختيارهم ، وفي قدرتهم ، وفي مُتناولهم ، فهي لَهُم ، ولِمَنفعتهم ، ومن أجلهم ، فهيَ ـ لا محالةَ ـ طوعُ إرادتهم.

وثانياً : أنّ النقلَ المشهورَ ثابتٌ بأنّ العبد الصالح إذا أطاع الله دخل كلّ شيء تحتَ قدرته ، ففي الحديث القُدسيّ : «عَبْدي أطِعْني ؛ تَكُنْ مثلي : أقولُ لِشيءٍ : «كُنْ» فيكونُ ، وتقولَ : «كُنْ» فيكُونُ».

والجمع بين الحقائق المذكورة هذه يقتضي : أنّ العَبْد المؤمنَ الصالحَ ؛ له قابليّة التصرّف في ما حوله من أُمور وشؤون ، فكيفَ إذا كان «وليّاً لله»!؟

وهذه القابليّة لا تحصل اعتباطاً بالصدفة ؛ وإنّما هي بحاجةٍ إلى واقعيّةٍ وإخلاصٍ وتفانٍ مُطلقٍ في سبيل الله ، والتقوى الصادقة في القول والعقيدة والعمل.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603