ليالي بيشاور

ليالي بيشاور0%

ليالي بيشاور مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 1205

ليالي بيشاور

مؤلف: السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 1205
المشاهدات: 172583
تحميل: 1992

توضيحات:

ليالي بيشاور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 1205 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 172583 / تحميل: 1992
الحجم الحجم الحجم
ليالي بيشاور

ليالي بيشاور

مؤلف:
العربية

وفي الخبر المرويّ عن أهل البيتعليهم‌السلام [أنّ الإمام عليعليه‌السلام في الليلة التي ضرب فيا بسيف ابن ملجم لعنه الله ، كان ضيفا عند ابنته زينب الكبرىعليها‌السلام فقدّمت له الفطور في طبق فيه قرصان من خبز الشعير ، وقصعة فيها اللبن حامض ، وقليل من الملح ، فلما نظر الإمام إلى فطوره عاتب ابنته قائلا : بنيّة! متى رأيت أباك يجلس على مائدة فيها إدامان؟ ارفعي اللّبن فإنّ في الملح كفاية ، ثم أكل قرصا واحدا مع الملح وحمد الله تعالى. ثم قال : في حلال الدنيا حساب وفي حرامها عذاب وعقاب(١) .

زهده في ملبسه

لقد وصف المحدّثون والمؤرخون ملبوس الإمام عليّعليه‌السلام فقالوا : كان كرباسا خشنا غليظا ورخيصا ، بعض قدّره بثلاث دراهم ، وبعض

__________________

(١) جاء في كتاب أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة ، كما في نهج البلاغة : «.. وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق ، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك عارا أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو اكون أسوة لهم في جشوبة العيش.». الخ.

«المترجم»

٩٨١

بخمسة دراهم ، وكان لباسه مرقّعا تارة بجلد وتارة بالليف ، ونقل سبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس ، عن الزمخشري أنّه روى في كتابه ربيع الأبرار ، عن أبي النّوار أنّه قال [والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قيل لي ألا تستبدلها فقلت للقائل : ويحك أعزب! فعند الصباح يحمد القوم السرى.]

ونقل أكثر أصحاب السيرة والتاريخ من أعلامكم ، منهم محمد ابن طلحة في كتابه مطالب السئول / الفصل السابع / قال [ومنها ـ أي من قضايا زهدهعليه‌السلام ـ أنّه خرج إلى الناس وعليه إزار مرقوع ، فعوتب في لبسه. فقال : يخشع القلب بلبسه ، ويقتدي به المؤمن إذا رآه عليّ(١) ] قال [وقد اشترى يوما ثوبين غليظين فخيّر بشر ـ وهو خادمه ـ فيهما فأخذ واحدا ولبس هو واحد.]

نعم هكذا عاش سلام الله عليه ، يأكل الخبز الشعير اليابس ويؤكل الفقراء واليتامى البرّ بالعسل والتمر بالزيت ، وكان يلبس الخشن ، ويلبس الأرامل واليتامى والمعوزين ملابس فاخرة ، أثمن مما كان يلبس هوعليه‌السلام . وكان يقول «يجب على أئمة الحق أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم في الأكل والملبس».

ضرار بن ضمرة يصف علياعليه‌السلام

نقل المحدّثون من أعلامكم كابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، والحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء ج ١ / ٨٤ ، والعلامة الشبراوي في الإتحاف بحبّ الأشراف : ٨ ، ومحمد بن طلحة في

__________________

(١) رواه أيضا العلاّمة سبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس. «المترجم»

٩٨٢

مطالب السّئول / الفصل السابع ، والعلاّمة نور الدين بن صبّاغ المالكي في الفصول المهمّة ١٢٨ ، والقندوزي في الينابيع : باب ٥١ ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس آخر الباب ، وغير هؤلاء من علمائكم والخبر مشهور عن ضرار بن ضمرة الضبائي قال في مجلس معاوية [اشهد بالله لقد رأيت علي بن أبي طالب في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السّليم ، ويبكي بكاء الحزين ويقول : يا دنيا غرّي غيري ، أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات ، طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير وخطرك كبير وعيشك حقير ، آه من قلّة الزاد وبعد السّفر ووحشة الطريق.] فبكى معاوية وقال : رحم الله أبا الحسن لقد كان والله كذلك(١) .

__________________

(١) أرى أن انقل للقارىء الكريم خبر ضرار بن ضمرة بكامله لما فيه من فوائد جمّة ، أنقله من كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، قال في آخر الباب الخامس ، بإسناده إلى جدّه أبي الفرج بن الجوزي وهو بإسناده المتّصل عن محمد بن السّائب الكلبي عن أبي صالح قال [دخل ضرار بن ضمرة على معاوية فقال له : يا ضرار! صف لي عليا! فقال : أو تعفني؟ قال : لا أعفيك قالها مرارا.

فقال ضرار : أما إذ لا بدّ ، فكان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة كثير الفكرة ، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع قربه منّا ودنوّه إلينا لا نكلّمه هيبة له ، ولا نبتديه لعظمه ، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ،

٩٨٣

بالله عليكم أنصفوا! من من الزعماء والرؤساء والملوك والأمراء ، هكذا عامل الدنيا وزهرتها وتغاضى عن زينتها وزخرفها؟!

الزهد عطيّة الله تعالى لعليّعليه‌السلام

روى كثير من علمائكم المحدّثين ، منهم العلاّمة محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب / باب ٤٦ / بإسناده الى عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله (ص) يقول لعليّ بن أبي طالب «إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحبّ إلى الله منها ، الزهد في الدنيا ، وجعلك لا تنال من الدنيا شيئا ولا تنال الدنيا منك شيئا ، ووهب لك حبّ المساكين فرضوا بك إماما ورضيت بهم أتباعا ، فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب عليك ، فأمّا الذين أحبّوك وصدّقوا فيك ، جيرانك في دارك ورفقاؤك في قصرك ، وأمّا الذين أبغضوك وكذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم موقف الكذّابين يوم القيامة(١) ». «ثم قال : هذا حديث حسن».

__________________

ولا يبأس الضعيف من عدله ، فاشهد بالله

ولمّا انتهى من كلامه ، بكى معاوية وقال : رحم الله أبا حسن فقد كان والله كذلك ، ثم قال : فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال : حزن من ذبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.]

«المترجم»

(١) قال محمد بن طلحة العدوي النصيبي في كتابه مطالب السئول / الفصل السابع :[وأما زهده فقد شهد له بذلك رسول الله (ص) ، وأخبر أنّ الله تعالى حلاّه من

٩٨٤

عليعليه‌السلام امام المتقين

امّا في التقوى فهو سيد المتقين والممتاز باعلا درجات اليقين والانسان كلما ازداد يقينا ازداد تقوى ، وهو الذي اشتهر عنه الخبر كما نقله كثير من أعلام محدّثيكم وكبار علماءكم منهم محمد بن طلحة العدوي النصيبي في كتابه مطالب السئول / الفصل السابع قال [وقد

__________________

الزهد بحليته ، وحباه بزينة بزّته ، وكساه بزّة زينته فقال (ص) ما رواه الحافظ أبو نعيم (رض) بسنده في حليته «يا علي! إنّ الله تعالى قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها هي زينة الأبرار عند الله ، الزهد في الدنيا ، فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ الدنيا منك شيئا».

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٩ / ١٦٦ ، ضمن الأحاديث الواردة في فضائل علي عليه‌السلام قال [الخبر الأول : يا عليّ ، إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها ، هي زينة الأبرار عند الله تعالى ، الزهد في الدنيا ، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ الدنيا منك شيئا ، ووهب لك حب المساكين ، فجعلك ترضى بهم أتباعا ، ويرضون بك إماما.] قال : رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف بحلية المتقين ، قال : وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند : [فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك.]

ورواه جلّ أعلام العامّة الذين كتبوا في المناقب والفضائل منهم ابن المغازلي في المناقب : ح رقم ١٤٨ ، والمحب الطبري في الذخائر : ١٠٠ وفي الرياض : ج ٢ / ٢٢٨ ، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد : ج ٩ / ١٢١ و ١٣٢ وقال رواه الطبراني ، والمتقي في كنز العمال : ج ٥ ص ٣٥ وفي أسد الغابة : ج ٤ / ٢٣ وغيرهم أيضا.

«المترجم»

٩٨٥

كان عليعليه‌السلام منطويا على يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه وقد صرّح بذلك تصريحا مبينا فقالعليه‌السلام «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». فكانت عبادته الى الغاية القصوى تبعا ليقينه وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه.

ولقد لقّبه الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإمام المتقين ، كما روى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٩ / ١٧٠ ، الخبر الحادي عشر من الأحاديث التي ذكرها في فضائل الامام عليعليه‌السلام . ورواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء والعلاّمة الهمداني في كتابه مودّة القربى والعلاّمة محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كفاية الطالب / باب ٥٤ عن أنس بن مالك قال : قال لي رسول الله (ص) «يا أنس أسكب لي وضوء ، فتوضّأ ثم قام وصلّى ركعتين ثم قال (ص) : يا أنس أوّل من يدخل عليك من هذا الباب هو أمير المؤمنين وإمام المتقين وسيد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين وخاتم الوصيين». قد وردت الرواية بألفاظ مختلفة وانا انقلها كما يخطر ببالي.

قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته ، إذ جاء علي فقال (ص) «من هذا يا أنس؟ قلت : علي بن أبي طالب. فقام النبي (ص) مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه ، قال عليّ : يا رسول الله لقد رأيتك صنعت بي شيئا ما صنعت بي قبل. قال : وما يمنعني وأنت تؤدّي عني وتسمعهم صوتي وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي».

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قالعليه‌السلام «مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين». رواه عن الحافظ أبي نعيم في الحلية.

٩٨٦

وقال محمد بن طلحة في كتابه مطالب السئول / آخر الفصل الرابع / أمّا حصول صفة التقوى له فقد أثبتها رسول الله (ص) بأبلغ الطرق وأعلاها فأنه قال له يوما : «مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين». ثم قال : إذا وصفه بكونه إمام أهل التقوى كان مقدّما عليهم بزيادة تقواه.

وروى الحاكم في المستدرك : ج ٣ / ١٣٨ ، والشيخان مسلم والبخاري في صحيحيهما عن النبي (ص) قال «أوحي إليّ في علي أنّه سيّد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين(١) ».

وروى العلاّمة الكنجي في كفاية الطالب / باب ٤٥ بسنده عن عبد الله بن أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله (ص) «لمّا أسري بي إلى السماء انتهى بي إلى قصر من لؤلؤ فراشه من ذهب يتلألأ ، فأوحى إليّ وأمرني في عليّ بثلاث خصال : بأنّه سيد المسلمين ، وإمام المتّقين وقائد الغر المحجّلين(٢) ».

وروى أحمد في المسند أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما خاطب عليا

__________________

(١) ورد في كثير من الكتب عن كبار علمائهم ، منهم : الخطيب البغدادي في تاريخه : ج ٤ / ٤١ بطرق شتى عن أبي الأزهر ثم قال : ورواه محمد بن حمدون النيسابوري ، وأخرجه الذهبي أيضا في ميزان الاعتدال : ج ٢ / ٦١٣ و ١٢٨ في «ط» ، وابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب : ج ١ / ١٢ ، والجزري في أسد الغابة : ج ١ / ٦٩ وج ٣ / ١١٦ ، والموفّق الخوارزمي في المناقب / ٢٢٩ ، والهيثمي في المجمع : ج ٩ / ١٢١ وقال : رواه الطبراني في الكبير ، وأخرجه أيضا المحبّ الطبري في ذخائر العقبى / ٧٠ ، والمتقي في منتخب الكنز : ج ٥ / ٣٤ وقال :أخرجه ابن النجار. ورواهما جمع آخر.

«المترجم»

(٢) ورد في كثير من الكتب عن كبار علمائهم ، منهم : الخطيب البغدادي في تاريخه : ج ٤ / ٤١ بطرق شتى عن أبي الأزهر ثم قال : ورواه محمد بن حمدون النيسابوري ، وأخرجه الذهبي أيضا في ميزان الاعتدال : ج ٢ / ٦١٣ و ١٢٨ في «ط» ، وابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب : ج ١ / ١٢ ، والجزري في أسد الغابة : ج ١ / ٦٩ وج ٣ / ١١٦ ، والموفّق الخوارزمي في المناقب / ٢٢٩ ، والهيثمي في المجمع : ج ٩ / ١٢١ وقال : رواه الطبراني في الكبير ، وأخرجه أيضا المحبّ الطبري في ذخائر العقبى / ٧٠ ، والمتقي في منتخب الكنز : ج ٥ / ٣٤ وقال :أخرجه ابن النجار. ورواهما جمع آخر.

«المترجم»

٩٨٧

فقال : «يا عليّ! النظر إلى وجهك عبادة ، إنّك إمام المتّقين وسيّد المؤمنين ، من أحبّك فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله».

من الواضح أنّه إذا وصف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدا واعطاه اللّقب فانّ مدحه للشخص يفرق عن سائر الناس ، فربما وصف الناس ملكا وسلطانا بما لا يليق به فيغالون في الوصف والمدح ، كمدح كثير من المؤرخين لكثير من الوزراء والأمراء والسلاطين. ولكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّه من التملّق والمغالاة في مدح الأشخاص ، ولا يقول إلاّ حقا ، ولا يصف إلاّ واقعا ، بل في مثل هذه القضايا فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (١) .

ولا سيما في هذا الأمر ، إذ يؤكّد فيقول «ليلة أسري بي إلى السماء أوحي إليّ وأمرني في عليّ بثلاث خصال : بأنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين». فهذه خصائص عظيمة ومقامات كريمة خصّ الله تعالى بها وليّه عليّ بن أبي طالب على لسان خاتم أنبيائه وسيّد رسله ، وبعد وصف ربّ العالمين وبيانه المبين لأمير المؤمنين سلام الله عليه لا يسع المسلمين إلا الخضوع أمامه والخشوع له والتسليم لأمره.

الشيخ عبد السلام : كلّما قلته من مناقب وفضائل سيدنا عليّ كرم الله وجهه فهو قليل من كثير ونحن نعرف أكثر مما قلتم حتى أنّ معاوية (رض) قال فيه [عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب.]

قلت : فكما أنّهعليه‌السلام قد امتاز بنسبه ونورانية خلقته من حيث

__________________

(١) سورة النجم ، الآية ٣ و ٤.

٩٨٨

الورع والتقوى ، فهو مقدّم على الجميع من هذه الجهة أيضا.

وقد قال الله الحكيم في كتابه الكريم :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١) .

فإذا كان أهل التقوى أكرم العباد عند الله تبارك وتعالى ، فما بالكم بإمام المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟

وهنا قد خطر شيء في بالى وهو السؤال التالي : هل يحتمل في إمام المتقين أن يتّبع الهوى ويعصي ربّه لأجل الدنيا؟

الشيخ عبد السلام : لا يحتمل ذلك في سيدنا عليّ كرم الله وجهه ، كيف وهو الذي طلّق الدنيا ثلاثا ، كما ذكرتم فيما نقلتم من ضرار بن ضمرة! فمقام سيدنا عليّ كرم الله وجهه أجلّ من أن ينسب إليه ذلك.

قلت : فعلى ذلك كانت أعمال الإمام عليّعليه‌السلام من حركاته وسكناته وقيامه وقعوده وتكلّمه وسكوته وموافقته ومخالفته وحربه وسلمه ، كلّها لله تعالى وإحقاقا للحق.

الشيخ عبد السلام : نعم هكذا كان سيدنا عليّ كرّم الله وجهه.

فاقضوا أيها المنصفون!!

قلت : إذا كان كذلك ، يجب أن تفكروا في عدم مبايعة الإمام عليّعليه‌السلام لأبي بكر في أوّل الأمر ، بل اعترض على خلافته اعتراضا شديدا.

والمفروض أنّ المتقي ولا سيما إمام المتّقين ، لا يترك الحق ولا يعارضه ، وحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نقلته لكم في بعض الليالي

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ١٣.

٩٨٩

الماضية إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «علي مع الحق والحقّ مع عليّ حيثما دار».

فإذا كانت خلافة أبي بكر حقا! فلما ذا وكيف لا يبايعه الامام عليعليه‌السلام ؟

بل عارضه بشدّة ، حتى انتهى الأمر إلى اقتحام دار فاطمة وعليّ ، وآل الهجوم إلى قتل الجنين ـ محسن ـ ووفاة السيدة فاطمةعليها‌السلام و...

[وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في الليلة الماضية ، مع ذكر المصادر من كتبكم] وإذا كانت خلافة أبي بكر باطلا وخلافا ، فلما ذا أنتم تتمسكون بالباطل إلى يومنا هذا؟

الشيخ عبد السلام : إنّي أتعجب من كلام الشيعة حيث يقولون : سيدنا علي كرم الله وجهه لم يبايع أبا بكر (رض) ، فقد ذكر المؤرّخون كلهم حتى مؤرخيكم : بأن سيدنا علي (كرم الله وجهه) بايع أبا بكر بعد وفاة فاطمة الزهراء ، ولم يخالف الإجماع.

قلت : العجب في كلامك هذا ، وكأنّك نسيت حديثنا وحوارنا في الليالي الماضية ، حيث أثبتنا أنهعليه‌السلام أجبر وأكره على البيعة ، فعدم رغبته وعدم مطاوعته في بيعة أبي بكر دليل على بطلان خلافته ، ثم أنت تعترف بأنهعليه‌السلام ما بايع إلاّ بعد وفاة الزهراء سيّدة النساءعليها‌السلام ، وصرّح أعلامكم كالبخاري ومسلم وغيرهما أنّ وفاتها كانت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بستة أشهر ، فهل في هذه المدة كان عليّعليه‌السلام تاركا للحق وسالكا غير سبيل المتقين؟!

الشيخ عبد السلام : لقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أعرف من غيره بتكليفه ولا يجوز لنا أن نتدخّل في خلافات الصحابة ونجدّد قضايا مرّت عليها الدهور والقرون!!

٩٩٠

قلت : إنّ هذا الكلام انهزام من الواقع والحق وليس بجواب مرضيّ في الحوار ، لأن تلك الخلافات تمسّنا أيضا. إذ يجب على كلّ مسلم بل كل إنسان أن يبحث عن الحقائق ، ويلتزم بالحق ، ويعتنقه ، ويصدّق الواقع المعلوم ، ويبتعد عن الكذب والموهوم.

الشيخ عبد السلام : إذا أردت بهذا الاستدلال والبرهان أن تبيّن أنّ أبا بكر (رض) كان باطلا وخلافته كانت غير مشروعة ومناقضة لدين الله! فلما ذا سكت وسكن الإمام علي كرم الله وجهه! بل كان عليه أن ينهض ويثور على الخليفة وأنصاره ، ويسترجع حقّه ويبطل الباطل ، وهو ذلك الشجاع الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.

سكوت بعض الأنبياء واعتزالهم عن أممهم

قلت : نحن نعتقد بأنّ الأنبياء والأوصياء يعملون في المجتمع ويتعاملون مع أممهم على أساس الأوامر التي يتلقونها من الله عزّ وجلّ ، لذلك لا نعترض عليهم ولا ننتقد أعمالهم بأنهم لما ذا سكتوا أو لما ذا لم يقاتلوا أو لما ذا تكلموا؟!

واذا راجعنا تاريخ الأنبياء ، نجد كثيرا منهم كانوا مغلوبين مقهورين أو مهجورين ومنعزلين ، فهذا القرآن الحكيم يحدثنا عن نوح وهو من أولي العزم وشيخ الأنبياء :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

ويحدثنا عن اعتزال ابراهيم الخليل لقومه قائلا :

__________________

(١) سورة القمر ، الآية ١٠.

٩٩١

( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي ) (١) .

الشيخ عبد السلام : أظن أنّهعليه‌السلام اعتزل عنهم قلبا لا جسما.

[فهو وإن كان مخالفا لهم قلبا ، ولكنه كان يعيش بينهم ويشاركهم].

قلت : ولكن لو راجعت التفاسير لوجدت أنّ أكثر المفسرين قالوا : بأنّهعليه‌السلام فارقهم بجسمه أيضا وابتعد عنهم ، فالفخر الرازي في تفسيره الكبير : ج ٥ / ٨٠٩ قال [الاعتزال للشيء هو التباعد عنه ، والمراد إنّي أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم.]

وذكر أرباب السير والتاريخ أنّ إبراهيم هاجر من بابل ، وسكن الجبال مدّة سبعة أعوام ، ثم رجع إليهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وأن يتركوا عبادة الأصنام ، ثم جرى ما جرى حتى ألقوه في النار ، فجعلها الله سبحانه عليه بردا وسلاما.

ويحدّثنا القرآن الحكيم عن فرار موسى بن عمران وخروجه من بلده خائفا ، فيقول :( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

ويحدثنا الله تعالى في كتابه عن مخالفة قوم موسى لأخيه وخليفته هارون ، وأنّهم عبدوا العجل الذي صنعه السامريّ ، فلما عاد إليهم موسى ورأى انقلابهم وكفرهم وسكوت هارون على أفعالهم المخالفة للدين وللشريعة الإلهية ، عاتبه على ذلك ، كما نفهم من قول الله سبحانه :( وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٤٨.

(٢) سورة القصص ، الآية ٢١.

٩٩٢

اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ ) (١) .

تشابه أمر عليّعليه‌السلام بهارون

فكما أنّ هارون كان خليفة أخيه موسى بن عمران في قومه ، ولكنهم لم يأخذوا بقوله وخالفوه وتوجّهوا إلى العجل الذي صنعه السامريّ لهم فعبدوه ، ولما منعهم هارون من ذلك ، وقال لهم [هذا شرك وكفر بالله ، عزّ وجلّ] هاجموه وكادوا يقتلونه ، ولمّا لم يجد أعوانا وأنصارا سكن وسكت وتركهم في غيّهم وطغيانهم يعمهون.

كذلك أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليعليه‌السلام ـ الذي شبّهه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهارون في حديث المنزلة وقد ذكرناه في الليالي السالفة مع المصادر الموثوقة والمعتبرة عندكم ـ لمّا رأى القوم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انقلبوا على أعقابهم وتركوا الحق وخالفوا أمر ربهم فوعظهم وأرشدهم ، ولكنهم هاجموه وكادوا يقتلونه ، فسكت وسكن وتحمّل وصبر.

وذكر كبار علمائكم : أنّ عمر وأصحابه لمّا جاءوا بعليّعليه‌السلام إلى المسجد ، وطلبوا منه البيعة ، وهدّدوه بالقتل إن لم يبايع ، نظر إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأشار إليه مخاطبا : يا( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ١٥٠.

(٢) ذكر ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم المتوفى سنة ٢٧٠ من أكبر علماء السنة وأشهر أعلامهم ، قال في كتابه الامامة والسياسة تحت عنوان : كيف كانت بيعة

٩٩٣

__________________

علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال [وإنّ أبا بكر (رض) تفقّد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليّ فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنّها على من فيها. فقيل له : يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة ، فقال : وإن.

فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّا فإنّه زعم أنّه قال : حلفت أن لا أخرج ، ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن. فوقفت فاطمة (رض) على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله (ص) جنازة بين أيدينا قطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة! فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليّا. قال : فذهب إلى عليّ فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال علي : لسريع ما كذّبتم على رسول الله (ص). فرجع فأبلغ الرسالة.

قال : فبكى أبو بكر طويلا. فقال عمر ثانية : أن لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة.

فقال أبو بكر (رض) لقنفذ : عد إليه فقل له : أمير المؤمنين يدعوك لتبايع. فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به. فرفع عليّ صوته فقال : سبحان الله لقد ادّعى ما ليس له.

فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة. فبكى أبو بكر طويلا. ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقّوا الباب ، فلمّا سمعت أصواتهم ، نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله! ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة؟!

فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليا. فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع. فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟

قالوا : إذا والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك. قال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله. قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا. وأبو بكر ساكت

٩٩٤

ثم إنّ سيرة خاتم النبيينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير دليل لنا ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم رسالته في مكة عشر سنين ثم أعلنها ثلاث سنين لا يطالب أهلها إلاّ بكلمة التوحيد ، هاتفا : قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ، وسكت عن سائر عاداتهم الجاهليّة ، ومع ذلك هجموا عليه إلى الدار وأرادوا قتله ، ففرّ منهم مهاجرا إلى يثرب ، لأنّه لم يكن له أنصار في مكة يتمكنون من حمايته والذّبّ عنه. وقد قيل :

الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين.

والأعجب من هذا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عند ما أصبح مقتدرا وحاكما ما تمكّن من تغيير ما كان يرى تغييره لازما.

الشيخ عبد السلام : هذا كلام غريب وأمر عجيب! كيف عجز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تغيير ما كان يلزم تغييره؟!

قلت : هذا الأمر العجيب الغريب عندكم قد نقله بعض كبار أعلامكم منهم أحمد بن حنبل في المسند ، والعلاّمة الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت : قال لي رسول الله (ص) «يا عائشة! لو لا أنّ قومك حديثوا عهد بشرك ؛ لهدمت الكعبة ،

__________________

لا يتكلم. فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك!! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.

فلحق عليّ بقبر رسول الله (ص) يصيح ويبكي وينادي : يا ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) .]

أقول : والحديث ذو شجون ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

«المترجم»

٩٩٥

فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين : بابا شرقيّا وبابا غربيّا ، وزدت فيها ستّة أذرع من الحجر ، فإنّ قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة(١) ».

فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقدم على مثل ذلك الأمر المهم رعاية لبعض المصالح ، فكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وهو تلميذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتعلم منه ، فهوعليه‌السلام رعاية لبعض الجهات الدينية العامّة والمصالح الإسلاميّة الهامّة سكت وسكن وصبر وتحمّل كل ما أوردوه عليه من الظلم والجفاء ، بسبب البغضاء والشحناء التي كانت مكتومة في صدورهم ومكنونة في قلوبهم ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم ذلك فيخبر عليا في حياته ويبكي على غربته ومظلوميته ، كما روى الخوارزمي في مناقبه والعلاّمة الفقيه ابن المغازلي أيضا في مناقبه : [أنّ النبي (ص) يوما نظر إلى عليّعليه‌السلام فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله صلّى الله عليك؟ قال (ص) : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا. قالعليه‌السلام : فما أصنع يا رسول الله؟ قال : تصبر ، فيعطيك ربّك أجر الصابرين(٢) ].

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٢ / كتاب الحج باب «٦٩» نقض الكعبة وبنائها : رواه بطرق شتى وكلها بالإسناد إلى عائشة بألفاظ مختلفة.

«المترجم»

(٢) المذكور في متن الكتاب إنما هو الترجمة العربيّة لما ذكره السيد المؤلف بالفارسية ، وأما نصّ الحديث كما في ينابيع المودّة للعلاّمة القندوزي الباب الخامس والأربعون ، قال [أخرج الموفق بن أحمد الخوارزمي ، والحمويني بالإسناد عن أبي عثمان النهدي عن عليّ كرّم الله وجهه قال «كنت أمشي مع رسول الله (ص) فأتينا على حديقة ، فاعتنقني وأجهش باكيا ، فقلت : ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال

٩٩٦

لما ذا قعد عليّعليه‌السلام ولم يطالب بحقه؟

إنّ علياعليه‌السلام كان متفانيا في الله سبحانه ، فلا يريد شيئا لنفسه ولا يطلب المصالح الشخصيّة ، بل أثبت في حياته وسلوكه أنّهعليه‌السلام كان وراء المصالح العامّة ، وكان يبتغي مرضاة الله تعالى بالحفاظ على الدين ، وإبقاء شريعة سيد المرسلين. ولا يخفى أن الإسلام في ذلك الوقت كان بعد جديدا ولم ينفذ في قلوب أكثر معتنقيه ، فكانوا مسلمين بألسنتهم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، لذا كان الإمام عليعليه‌السلام يخشى من حرب تقع بين المسلمين إذا جرّد السيف لمطالبة حقه بالخلافة التي كانت له لا لغيره ، أو مطالبة فدك لفاطمة الزهراءعليها‌السلام أو مطالبة إرثها من أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي منعها أبو بكر بحجّة الحديث الذي افتراه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»!

فسكت عليّعليه‌السلام وسكن لكي لا تقع حرب داخلية ، لأنّه كان يرى في المطالبة بحقه في تلك الظروف الزمنية زوال الدين

__________________

(ص) : أبكي لضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك إلاّ بعدي ، فقلت : في سلامة من ديني؟ فقال : في سلامة من دينك»].

أقول : ورواه العلاّمة الكنجي الشافعي في كتاب كفاية الطالب الباب السادس والستون بالإسناد إلى ابن عساكر وهو بإسناده إلى أنس بن مالك ـ والرواية أكثر تفصيلا ممّا في المناقب والينابيع ـ ثم قال العلاّمة الكنجي بعد نقل الرواية : هذا حديث حسن رزقناه عاليا بحمد الله ومنّه. وهذا سياق الحافظ مؤرّخ الشام ، في مناقب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام .

«المترجم»

٩٩٧

وإفناء الإسلام لو وقعت حرب بين المسلمين. وقد كان أكثرهم ينتظرون الفرصة حتى يرتدّوا إلى الكفر.

لذلك جاء في روايات أهل البيت والعترة الطاهرةعليهم‌السلام : «أنّ فاطمة الزهراء سلام الله عليها لما رجعت من المسجد بعد ما خطبت خطبتها العظيمة وألقت الحجج على خصومها ، خاطبت أبا الحسنعليه‌السلام وهو جالس في البيت فقالت : يا ابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، وخانك ريش الأعزل! هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابنيّ ، لقد أجهر في خصامي وألفيته الألدّ في كلامي الخ.

فأجابها عليعليه‌السلام : نهنهي عن نفسك يا ابنة الصفوة وبقية النبوّة ، فما ونيت عن ديني ولا أخطأت مقدوري. فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون. وما أعدّ لك أفضل مما قطع عنك.

قالوا : فبينما عليعليه‌السلام يكلّمها ويهدّأها وإذا بصوت المؤذّن ارتفع ، فقال لها عليّعليه‌السلام : يا بنت رسول الله! إذا تحبين أن يبقى هذا الصوت مرتفعا ويخلد ذكر أبيك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحتسبي الله واصبري.

فقالت : حسبي الله. وامسكت».

[فضحّى عليعليه‌السلام بحقه وحق زوجته فاطمة وسكت عن المغتصبين ، حفظا للدين وشريعة سيد المرسلين من الضياع والانهيار.]

أسباب قعود عليعليه‌السلام

نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ١ / ٣٠٧ ، ط إحياء الكتب العربية عن المدائني عن عبد الله بن جنادة ، ونقله غير ابن أبي

٩٩٨

الحديد أيضا ، أنّهعليه‌السلام خطب في أول إمارته وخلافته بالمدينة المنوّرة : [فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي وصلّى عليه ثم قال «أما بعد ، فإنّه لما قبض الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قلنا : نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة ؛ يطمع فينا الضعيف ، ويتعزّز علينا الذليل ؛ فبكت الأعين منّا لذلك ، وخشنت الصدور وجزعت النفوس ، وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه». الخ.]

ونقل ابن أبي الحديد أيضا بعد هذه الخطبة في صفحة ٣٠٨ تحت عنوان : خطبته عند مسيره للبصرة ، قال : وروى الكلبي أنّه لمّا أراد عليّعليه‌السلام المسير إلى البصرة ، قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله (ص) «إنّ الله لمّا قبض نبيّه ، استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقّ نحن أحق به من الناس كافّة. فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلف.». الخ.

ولعليعليه‌السلام في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتررحمه‌الله تعالى ، جاء فيه : «أما بعد ؛ فإنّ الله سبحانه بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين ، فلمّا مضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج

٩٩٩

هذا الأمر من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّه منحّوه عنّي من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان ، كما يزول السراب وكما يتقشّع السّحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه».

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٦ / ٩٤ ، ـ ط إحياء الكتب العربي تحت عنوان : خطبة الإمام عليّعليه‌السلام بعد مقتل محمد بن أبي بكر ، قال : وروى إبراهيم ـ صاحب كتاب الغارات ـ عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال : خطب عليعليه‌السلام بعد فتح مصر ، وقتل محمد بن أبي بكر. فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر الذي نقلته لكم قبل هذا ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب ، وخرج بالنتيجة قائلا :

«فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها ثم قالوا : هلمّ فبايع وإلاّ جاهدناك ؛ فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا ، فقال قائلهم : يا ابن أبي طالب ، إنّك على هذا الأمر لحريص ؛ فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد أيّنا أحرص؟ أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به ، أم أنتم اذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه! فبهتوا ، والله لا يهدي القوم الظالمين».

١٠٠٠