• البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10972 / تحميل: 2399
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-8139-05-9
العربية

فذاته المُقدّسة ، منزّهةٌ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ ، وهو الرّؤوف الرّحيم ، الجَواد الكَريم ، وهكذا يتحرّك نحو التّحلي بالفضائل الأخلاقية الاخرى ، لأنّ هدفه هو وِصال الَمحبوب والمَعبود.

والعَكس صحيحٌ ، فإنّ الحركة من الفَضائل إلى الرّذائل هي من شأن عَبدَةِ الطّاغوت والأَوثان ، التي لا تنفع في شيءٍ أبداً.

«الآية الثّامنة» : خاطبت المؤمنين من موقع النّصيحة ، بإلتزام طريق التّقوى وصحبة المؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

في الحقيقة أنّ الجملة الثّانية ، في الآية الشّريفة :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، هي إكمال لِلجملة الاولى :( اتَّقُوا اللهَ ) .

نعم ، فإنّه يتوجب على السّالك لِطريق التّقوى والزّهد والطهّارة ، أن يكون مع الصّادقين وتحت ظلّهم ، وقد وَرد في الرّوايات من الطّرفين : السنّة والشّيعة ، وفي الكُتب المُعتبرة ، أنّ المِصداق الأكمل لهذه الآية ، هو الإمام عليعليه‌السلام ، أو أهلَ بيتهعليهم‌السلام .

وهذه الرّوايات ، موجودةٌ في كتبٍ ، مثل :«الدّر المَنثور لِلسَيوطي» و «المَناقب لِلخَوارِزمي» و «دُرَر السّمطين لِلزرندي» و «شَواهد التّنزيل للحَسَكاني» ، وغيرها من الكُتب الاخرى(١) .

وكِذلك أوردها :«الحافظ سُليمان القُندوزي» في«يَنابيع المَودّة» ، و «العلّامة الحمويني» في«فَرائد السّمطين» ، و «الشّيخ ابو الحَسن الكازروني» في«شَرف النّبي» (٢) .

وقد وَرد في بعض الأحاديث ، وبعد نزول الآية الآنفة الذّكر ، أنّ سلمان الفارسيرحمه‌الله ، سأل الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال له : هل أنّ هذه الآية عامّةٌ أو خاصّةٌ؟ ، فأجاب النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أَمّا المَأمُورُونَ فَعامَّةُ المُؤمِنِينَ وَأَمَّا الصَّادِقُونَ فَخَاصَّةُ أَخِي عَلِيٌّ وَأَوصِيائُهُ مِنْ بَعْدِهِ إِلى يَومِ القِيامَةِ» (٣) .

__________________

١ ـ لِلتفصيل يرجى الرجوع إلى كتب : «نفحات القرآن» ، ج ٩.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ ينابيع المودة ، ص ١١٥.

٣٢١

ومن الطّبيعي فإنّ إتّباع الإمام عليعليه‌السلام وأوصياءه ، جاريةٌ ومستمرةٌ إلى يومِ القيامة ، للإهتداء بِهَديِهِم ، والإقتداء بفعالهم وأخلاقهم في حركة الحياة.

النّتيجة :

يُستفاد ممّا ذكر آنفاً ، من الآيات التي إستعرضت مسألة«التّولّي والتّبرّي» ، أنّ مسألة الوُصول إلى مرتبة القُرب من الذّات المقدّسة ، وتولّي أولياءه من عباده الصّالحين ، والتّبرّي من الظّالمين والغاوين ، وفي كلمةٍ واحدةٍ :«الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ» ، تعدّ من أهمِّ المسائل والمفاهيم ، في دائرة التّعليمات القُرآنية ، ولها دورها الكبير وأثرها العميق ، في مُجمل المسائل الأخلاقيّة ، في حركة الإنسان المعنويّة.

وهذا الأساس القرآني والمفهوم الإسلامي ، له دورُه المُباشر في جميع المَسائل الحياتيّة ، إن على المستوى الفَردي أو الاجتماعي ، الدنيوي أو الاخروي ، لا سِيّما في المسائل الأخلاقيّة والسّلوك الأخلاقي لِلأفراد ، في تعاملهم وتَفاعلهم مع الآخرين ، في حركة الحَياة والُمجتمع.

فهذه المفردة العقائديّة ، في دائرة المفاهيم الإسلاميّة ، بإمكانها أن تبني نفوس المؤمنين على إتّباع الصّالحين والطّاهرين ، وإتخاذهم اسوة حسنة ، خُصوصاً الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ، في كلّ خطوةٍ يخطوها الإنسان المُؤمن في خطّ الإيمان ، وبذلك تكون من العوامل المهمّة ، للوصول إلى الهدف الحقيقي من وراء خلقة الإنسان ، ألا وَهِيَ تهذيب النّفوس وتربية الفَضائل الأخلاقية في واقع النّفس البشريّة.

التولّي والتبرّي في الرّوايات الإسلاميّة :

وَردت أحاديثٌ مستفيضةٌ في هذا الصّدد ، سواء عن طريق أهلِ السُّنة أو الشّيعة ، وطَرحت موضوع التبرّي والتولّي بقوّةٍ ، وأكّدت عليه بصورةٍ شديدةٍ ، قلّما نَجِدُ لها نظيراً ، بالنّسبة إلى المواضيع الاخرى.

٣٢٢

ولا شَكَّ أنّ هذه الأهميّة ، نابعةٌ من المعطيات الإيجابيّة الكِثيرة ، لِمسألة التّولي لأِولياء الله ، والبراءة من أَعداءِه تعالى ، حيث توثّق عُرى الإيمان وأواصِر المحبّة والصّداقة ، مع أولياء الله تعالى ، وتُعمّق حالةَ الإبتعاد والنّفور من الظّالمين الفاسقين ، وتنعكس هذه النّتائج على إيمان الشّخص وأَخلاقه وتَقواه ، من موقع القوّة والصّفاء والإمتداد في واقع الإنسان ومحتواه الداخلي ، وتحثّ هذه الأحاديث النّاس ، على إختيار القُدوة الصّالحة في عمليّة السّير والسّلوك ، في طريق الله سبحانه وتعالى.

ونُشير هنا إلى مجموعةٍ من الأحاديث الشّريفة ، في هذا المجال ، جمعت من كُتبٍ مُختلفةٍ :

١ ـ قال عليٌّعليه‌السلام في خطبته القاصعة ، وفي وصفه للرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كانَ فَطِيماً أَعَظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طِرِيقَ الَمكارِمِ وَمَحاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ ، لَيلَهُ وَنَهارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ إِتِّباعَ الفَصِيلِ أَثَرَ امِّهِ يَرْفَعُ لي في كُلِّ يِومٍ مِنْ أَخلاقِهِ عَلَماً وَيَأَمُرُني بِالإِقتِداءِ بِهِ» (١) .

ويبيّن هذا الحديث ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسهُ كان له من يرشده ويهديه ، ولديه القدوة الحسنة على شكل ملكٍ من ملائكة الله العِظام.

وكذلك الإمام عليعليه‌السلام ، جعل من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قدوةً له ، فكان يتبعه في كلّ اموره وحركاته وسكناته ، فيتعلم منه كلّ يوم أمراً جديداً ، عِلماً مفيداً ، وأخلاقاً نبيلةً.

فلّما كان كُلٌّ من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليعليه‌السلام ، يحتاجان إلى القُدوة الحسنة ، في بداية المسير إلى الله ، فكيف بحال الباقين؟

٢ ـ الحديث المعروف : «بْنِيَ الإسلام ...» ، الذي وَرد من طُرق متعدّدةٍ عن المَعصومين ، ومنها ما ورد عن زُرارة عن الباقرعليه‌السلام ، أنّه قال :

«بُني الإِسلامُ عِلى خَمْسَةِ : عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ والحَجِّ وَالصِّومِ وَالولايَةِ» ، قَالَ زُرارَةُ ، فَقُلتُ : وَأَيُّ شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ ، فَقالَ : الوَلايَةُ أَفْضَلُ لَانّها مِفتاحُهُنَّ وَالوالي هُوَ الدَّلِيلُ عَليهِنَّ» (٢) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢.

٢ ـ أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨.

٣٢٣

ومن هذا الحديث يُستفاد ، أنّ الإقتِداء بالقُدوة الصّالحة ، يعين الإنسان على إحياء سائر البرامج ، الدينية والمسائل العباديّة الفردية والإجتماعيّة ، وهي إشادةٌ واضحةٌ بدور الولاية ، في مسألة تهذيب النّفوس وتحصيل مكارم الأخلاق.

٣ ـ عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه :

«أيُّ عُرَى الإِيمانِ أَوثَقُ؟ ، فَقَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَ بَعْضُهُم الصَّلاةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُم الزَّكاةُ ، وَقَالَ بَعْضُهُم الصِّيامُ ، وَقَالَ بَعْضُهُم الحجُّ والعُمْرَةُ ، وَقَالَ بَعْضُهُم الجِهادُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لَكُلِّ ما قُلْتُم فَضْلٌ وَلَيسَ بِهِ ، وَلَكِنْ أَوثَقُ عُرَى الإِيمانِ الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ وَتَوَلِّي أَولِياءِ اللهِ وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعداءِ اللهِ» (١) .

وقد حرّك الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أذهان أصحابه بهذا السّؤال. وهكذا كانت سيرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند ما كان يريد أن يطرح موضوعاً مهمّاً ، فبعض منهم أبدى جهله ، وبعض منهم قال الصّيام و... ولكن في نفس الوقت ، الذي أكّد رسول الله على أهميّة تلك الامور في الإسلام ، قال :«الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ».

والتّعبير بكلمة : «عُرى» جَمع «عُروة» ، هي بمثابة حلقة الوصل لِلقرب من الله تعالى ، وإشارةٌ إلى أنّ السّلوك إلى الله ، لا يتمّ إلّا من خلال التمسّك بهذه العروة ، والصّعود بواسطتها إلى مراتب سامية من الكمال المعنوي ، وليس ذلك إلّا لأنّ الحبّ في الله والإقتداء بأولياء الله ، عاملٌ مهمٌّ في تسهيل الحركة في جميع إتّجاهات الخير والصّلاح.

وبإحياء هذا الأصل ، سوف تنتعش بقيّة الاصول الدّينيّة ، ولكن مع إهماله وترك العمل به ، فإنّ سائر الاصول ستَضعف وتَموت.

٤ ـ وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام ، أنّه قال لجابر الجُعفيرحمه‌الله :

«إِذا أَرَدتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيراً فَانظُرْ إِلى قَلْبِكَ فَإنْ كانَ يُحِبُّ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَيُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ ، فَفِيكَ خَيرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ ، وَإِنْ كانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ ،

__________________

١ ـ أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٥ ، ح ٦.

٣٢٤

فَليسَ فَيكَ خَيرٌ ، وَاللهُ يُبْغِضُكَ وَالمَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» (١) .

وَجُملة :«والمَرء معَ من أحبّ» ، هي إشارةٌ جميلةً ولطيفةً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه العِلاقة ستمتد وتستمر إلى يوم القيامة ، وهي دليلٌ واضحٌ على أهميّة مسألة «الوِلاية» ، في المباحث الأخلاقيّة.

٥ ـ في حديثٍ آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، قال : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«وُدُّ المُؤمِنِ لِلمُومِنِ فِي اللهِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الإِيمانِ ، أَلا وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ وَأَبْغَضَ فِي اللهِ وَأَعطى فِي اللهِ وَمنَعَ فِي اللهِ فَهُوَ مِنْ أَصفِياءِ اللهِ» (٢) .

٦ ـ في حديثٍ آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام ، أنّه قال :

«إِذا جَمَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ ، قامَ مُنادٍ فَنادى يُسْمِعُ النّاسَ ، فَيَقُولُ : أَينَ المُتَحابُّونَ في اللهِ ، قالَ : فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنْ النّاسِ ، فَيُقالُ لَهُم إِذْهَبُوا إِلَى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِسابٍ ، قَالَ : فَتَلَقَّاهُم المَلائِكَةُ فَيَقُولُونَ إِلى أَينَ؟ فَيَقُولُونَ إِلى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِسابٍ! ، قَالَ : فَيَقُولُونَ فَأَيُّ ضَرْبٍ أَنْتُم مِنْ النّاسِ؟ ، فَيَقُولُونَ نَحْنُ المُتَحابُونَ فِي اللهِ ، قَالَ : فَيَقُولُونَ وَأَيُّ شَيء كانَتْ أَعمالُكُم؟ ، قَالُوا كُنّا نُحِبُّ في اللهِ وَنُبْغِضُ فِي اللهِ ، قَالَ فَيَقُولُونَ ، ( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) » (٣) .

وتعبير«نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » يبيّن أنّ المحبّة لأولياء الله والبغض لأعداء الله هو أكبر مصدر للخير في واقع الإنسان والحياة والمانع عن الشر والانحراف في مسيرة التكامل الأخلاقي.

٧ ـ وَرد في حديثٍ عن الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنَّ حَولَ العَرشِ مَنابِرٌ مِنْ نُورٍ ، عَلَيها قَومٌ لِباسُهُم وَوُجُوهُهُم نُورٌ ، ليسُوا بِأَنْبِياءٍ يَغْبِطَهُمُ الأَنْبِياءُ وَالشُّهَداءُ ، قالُوا يا رَسُولَ اللهِ حَلِّ لَنا ، قَالَ : هُم المُتَحابُّونَ في اللهِ وَالمُتَجالِسُونَ فِي اللهِ وَالمُتَزاوِرُونَ في اللهِ» (٤) .

__________________

١ ـ اصول الكافى ، ج ٢ ، ص ١٢٦.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٢٤٠ ، ح ١٤.

٣ ـ بحارالأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٢٤٥ ، ح ١٩ ، اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٦.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٣٥٢ ، ح ٣٢.

٣٢٥

٨ ـ وإكمالاً للحديث أعلاه ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لَو أَنَّ عَبدَينِ تَحابا فِي اللهِ أَحَدُهُما بِالمِشْرِقِ وَالآخرُ بِالمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللهُ بَينَهُما يَومَ القِيامَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَفْضَلُ الأَعْمالِ الحِبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ» (١) .

ويبيّن هذا الحديث ، أنّ أوثق العُرى والأواصر في دائرة العلاقات الإجتماعيّة ، هي آصرة الدّين التي تُحقّق التّوافق والوئام بين الأفراد ، وتدفعهم لِلمحبّة لله وفي الله ، وهذه الحالة تؤثّر في النّفوس ، من موقع التّزكية والتّهذيب.

٩ ـ نقرأ في الحديث القُدسي ، قال الله تعالى لموسىعليه‌السلام :

«هَلْ عَمِلْتَ لي عَمَالاً؟! ، قالَ صَلَّيتُ لَكَ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ لَكَ ، قَالَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى ، وَأَمّا الصّلاةَ فَلَكَ بُرهانٌ ، والصَّومَ جُنَّةٌ والصَّدَقَةُ ظِلُّ ، والذِّكْرُ نُورٌ ، فَأَيُّ عَمَلٍ عَمِلْتَ لِي؟! ، قَالَ مُوسى : دُلَّني عَلى العَمَلِ الِّذي هُوَ لَكَ ، قَالَ يا مُوسى هَلْ وَالَيتَ لي وَلِيّاً وَهَلْ عادَيتَ لِي عَدُوّاً قطُّ ، فَعَلِمَ مُوسى إِنَّ أَفْضَلَ الأَعمالِ ، الحُبِّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ» (٢) .

١٠ ـ ونختم هذا البحث ، بحديثٍ آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام ، (رغم وجود الكثير من الأحاديث الشّريفة في هذا الموضوع ، أنّه قال :

«مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطىْ للهِ وَمَنَعَ للهِ فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَ إِيمانُهُ» (٣) .

ونَستوحي من الأحاديث العشرة الآنفة الذّكر ، أنّ الإسلام قد أعطى الأهميّة القُصوى ، لمسألة الحُبّ في الله والبغض في الله ، وإعتبرها أفضل الأعمال ، وعلامة كمال الدّين ، وأسمى من : الصّلاة والزّكاة والصّيام والحج والإنفاق في سبيل الله تعالى ، ومن يَتَحلّى بهذه الصّفة ، يكون مع الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة ، بحيث يغبطه فيها الأنبياء والشّهداء والصّديقين.

__________________

١ ـ بحارالأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٣٥٢ ، ح ٣٢.

٢ ـ بحارالأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٣٥٢ ، ح ٣٢.

٣ ـ المصدر السّابق ، ص ٨ ، ح ١٠. ٢٣

٣٢٦

فهذه التّعبيرات وغيرها ، تبيّن لنا دور وفعّاليّة مسألة التبرّي والتّولّي ، في جميع البرامج الدّينية والإلهيّة ، ودليل هذا الأمر واضحٌ جدّاً ، لأنّ الإنسان المؤمن ، عند ما يُحِبّ القُدوة الإلهيّةُ والإنسان الكامل ، لتقواه وإيمانه وفضائله الأخلاقية ، فإنّ ذلك من شأنه ، أن ينعكس على روحه وسُلوكه صفاتِ وسلوك هذه القدوة ، ويدفعه لِلتأسّي بها في أعماله وحركاته وسَكناته!

وهذا هو بالفعل ، ما يَصبو وَيدعو إليه علماء الأخلاق ، بإعتباره أصلاً أساسياً في تهذيب وتربية النّفوس ، وأنّ الإقتداء بالقُدوة الصّالحة ، من شأنه أن يكون شرطاً أساسياً ، لأن يسلك بالإنسان طريق الهداية والصّلاح ، في خطّ الإيمان والإنفتاح على الله تعالى.

ومن الأدلّة المهمّة ، التي أوردها القرآن الكريم ، وأكّد عليها رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو التّذكير بأَنبياء الله تعالى وأفعالهم وتأريخهم وحياتهم ، والغَرض من ذلك كُلّه ، الإقتداء بهم وإتّباع سيرتهم.

جديرٌ بالذّكر ، أنّ كلّ إنسانٍ يحبُّ البطولات والأبطال ، ويحبُّ أن يَقتدي بأحد الأبطال ، ليجعله اسوةً وقدوةً في حياته في جميع أبعاده المختلفة.

عمليّة إنتخاب مثل هؤلاء الأبطال ، يؤثر على حياة الإنسان ، من موقع صياغة الشّخصية وكيفيّة السّلوك ، وعلى فرض حدوثِ تغيّرٍ في نظرة الإنسان نحو القُدوة ، فَستتغير حياتُه بالكامل ، تَبعاً لها.

والكثير من الأفراد أو الشعوب ، لمّا لم يُسعفهم الحظّ في إتخاذ القُدوة الصّالحة ، تَوسّلوا بأبطالٍ مزيّفين ، كَي يُعوّضوا النّقص الحاصل لديهم في هذا المجال ، وأدخلوهم في ثقافتهم وتأريخهم ، وألّفوا في سيرتهم الأساطير والحكايات ، والبطولات الخياليّة.

والبيئة والدّعاية السّليمة أو المغرضة ، لَها دورها في إختيار اولئك الأبطال ، فيُمكن أن يكونوا من رجال الدّين ، والسّياسة ، أو وجوهٌ رياضيّةٌ أو تمثيليّةٌ.

وهذا الميل البَشري لِلأبطال ، والقُدوات الإنسانية ، يمكن أن يوجّه بالصّورة الصّحيحة ، ويفعّل دوره في تربية الفضائل الأخلاقيّة والسّلوكيات الحسنة ، في الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.

٣٢٧

وبناءً على ذلك ، فإنّ الآيات والرّوايات أكّدت على هذه الضّرورة ، وهي مسألة التولّي والتّبرّي ، وإتّخاذ أولياء الله قدوةً واسوةً حسنةً ، وبدونها ستبقى برامج التّربية والتّهذيب ، ناقصةُ الُمحتوى والمُضمون.

قصّة موسى والخَضرعليهما‌السلام :

إتّخاذُ المعلّم والدّليل ، في طريق السّير والسّلوك إلى الله تعالى ، من الأهميّة بمكانٍ ، بحيث أُمِرَ بَعض الأنبياء ، في بُرهةٍ من الزّمن ، للحُضورَ عند الاستاذ أو المُرشد.

ومن ذلك قصّة موسىعليهما‌السلام والخضر ، المليئة بالمفاهيم والمضامين العميقة ، والتي وَردت في سَورة الكهف ، من القرآن المجيد.

فقد امِرَ موسىعليه‌السلام ، لأجل إسترفاد بعض العلوم ، التي تحمل الجانب العملي والأخلاقي أكثر من الجانب النّظري ، أُمِرَ بالذّهاب إلى عالم زمانه ، لِيَستقي منه العِلم ، وقد عرّفه القرآن الكريم ، بأنّه :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) .

فشدّ موسىعليه‌السلام ، الرّحال فعلاً مع أحد أصحابه ، متّجهاً نحو المكان الذي يتواجد فيه الخِضرعليه‌السلام ، ومع غَضّ النّظر عَمّا صادفاه في الطّريق إليه ، وَصل مُوسىعليه‌السلام إلى المكان الموعود ، فقال له الخِضرعليه‌السلام ، :( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) ، ولكنّ موسىعليه‌السلام وعده بالصّبر.

توالت الأحداث الثّلاثة ، واحدة بعد الاخرى ، المعروفة والواردة في القرآن الكريم : أولها خَرق السّفينة الّتي كانوا عليها ، فإعترض موسىعليه‌السلام ، وذكّره بخَطر الغَرق لِلسفينة بِمن فيها ، فقال له الخِضر :( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) فندم وإختارعليه‌السلام السّكوت ، حتى يوضّح له ملابسات الأمر.

ولَم يَمض قليلاً ، حتى صادفوا صَبيّاً فقتله ، الخِضرعليه‌السلام مباشرةً من دونِ توضيحٍ ودليلٍ ، فهذا الأمرُ المُريع أثارَ موسىعليه‌السلام مرّةً اخرى ، ونسِيَ ما تَعهّد به ، وإعترض على استاذه بأشدّ من الّتي قَبلها ، فقال :( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) .

ولِلمرّة الثّانية ، ذكّر الخِضر موسىعليه‌السلام بالعهد الذي قطعه على نفسه ، وقال له : إذا تكرّر

٣٢٨

منك هذا العمل لِلمرّة الثّالثة ، فسوف تَنقطع العلاقة بيني وبينك ، وننفصل في هذا السّفر ، فعلم موسىعليه‌السلام ، أنّ في قَتل الغلام سِرّاً مُهمّاً ، فآثر السّكوت ، ليتّضح له السرّ فيما بعد.

وتَلَتها الحادثة الثّالثة ، وقد وردوا في قَريةٍ ، فلم يُضيفوهما ولم يعبؤوا بِهما ، فَوجد الخِضرعليه‌السلام جداراً يُريد أن يَنقضّ ، فَأقامَهعليه‌السلام ، وطلب العَون من موسىعليه‌السلام في هذا الأمر ، فَرمَّم الجِدار ، فضاق موسى ذَرعاً بالأمر ، فَصاح :( لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) .

فأين يكون موضع التّعامل مع هؤلاء من موقع الرّحمة ، مع كلّ تلك القساوة التي واجهوها من أهل تلك القرية؟.

وهنا أعلن الخِضرعليه‌السلام إنفصاله عن موسىعليه‌السلام ، لأنّه نقض العَهد ثلاثَ مرّاتٍ ، ولكنّه وقبل الفِراق ، أعلمه بالأسرار لتلك الحوادث الثّلاثة ، فقال له : إنّ السّفينة كانت لِمساكين ، وكان عندهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ سَليمةٍ غَصباً ، فَأعَبْتُها كَيْ لا يأخذها منهم ، والشّاب المقتول ، كان يستحق الإعدام ، لأنّه كافرٌ ومرّتدٌ ، وكان الخوف على أبويه من موقع التّأثير عليهما ، ولئّلا يحملهما على الكفر.

والجِدار كان ليتيمين في المدينة ، وكان تَحته كنزٌ لَهُما ، وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ربّك أن يستخرجا كنزهما فيما بَعد ، ليعيشا بذلك المال ، ثم أكدّ عليه أن كلّ ذلك كان بأمر الله تعالى ، وليس تصرّفاً من وَحي أفكاري(١) .

رجع بعدها موسىعليه‌السلام ، محّملاً بمعارفٍ وعلومٍ في غاية الأهميّة.

ونحن بدورنا نستلهم من تلك القصّة ، عدّة دروسٍ ، منها :

١ ـ العثور على معلّمٍ مطّلع حكيمٍ للتعلّم عنده ، والإستنارة من نور علمه ، أمرٌ من الأهميّة بمكان ، بحيث امِرَ رسول من رُسل اولى العزم بذلك ، وقد قطع المسافات الطويلة كي يَدرس عنده ، ويقتبس من فَيض علمه.

٢ ـ عَدم تعجّل الامور ، وإنتظار الفرصة المُناسبة ، أو كما يُقال : «إنّ الامور مرَهونةٌ بِأَوقاتها».

__________________

١ ـ مضمون الآيات : (٦ ـ ٨٠) ، من سورة الكهف ، (مع التلخيص).

٣٢٩

٣ ـ الحوادث الجارية حولنا ، ربّما تحمل ظاهِراً وباطناً ، وعلينا عدم النّظر إلى الظّاهر فقط ، لِئلّا نخطأ في الحكم على الامور ، من موقع العجلة وعدم التّأنّي ، وعلينا الأخذ بنظر الإعتبار بَواطِنها.

٤ ـ عدم الإنضباط والإلتزام بالعهود ، ربّما يَحرم الإنسان من بعض البركات المَعنويّة إلى الأبد.

٥ ـ الدّفاع عن الأيتام والمستضعفين ، والوقوف في وجه الظّالمين والكفار ، يُعتبر واجباً على المؤمنين ، الذين يتحرّكون في خطّ الرّسالة والمسؤوليّة ، وقد تُدفع في سبيل ذلك الأثمان الباهظة.

٦ ـ أينما وصل الإنسان في مراحل العِلم والرّقي ، عليه أن لا يتغترّ بعلمه ، ولا يتصور أنّه وصل إلى حدّ الكمال ، لأنّه قد يتسبب هذا التّصور ، في تجميد حركة الإنسان الصّاعدة ، والقناعة بما عِنده من العلم.

٧ ـ إنّ للهِ تعالى جُنوداً وألطافاً خفيّةً تنصرُ المظلوم ، بِطرقه المختلفة ، وكلّ إنسانٍ مؤمنٍ ، عليه أن يتوقّعها في كلّ لحظةٍ.

وهناك نقاطٌ مفيدةٌ اخرى أيضاً.

وهذه القصّة سواء كانت تحمل أهدافاً حقيقةً لتعليم موسىعليه‌السلام ، أم أنّها تحمل نِداءاتٍ للناس ؛ لكي يتعلموا ويقتدوا بالأعاظم من البشر ، لا تختلف عما نحن بصدده.

والخُلاصة : أنّ القدوة والدّليل والاسوة ، هو أمرٌ لا بدّ منه للاستزادة من العلوم ، وتهذيب النّفوس في خطّ التّكامل المعنوي وبناء الذّات.

٣٣٠

١٤

الوجه الآخر للولاية ، ودوره في تهذيب النّفوس

لا ينحصر دور الإعتقاد بالولاية ، في المسائل الأخلاقية وتهذيب النّفوس والسّير إلى الله تعالى ، على إتّخاذ القُدوات الصّالحة والإقتداء بكلامهم وفِعالهم ، بل وبحسب إعتقاد بعض الأعاظِم والعُلماء ، يوجد هناك نوعٌ آخر من الولاية ، هو فرعٌ من الولاية التّكوينية ، يستطيع معها القادُة الإلهِيّيون ، وبواسطة نفوذهم الرّوحي المباشر ، في عالم الوجود والتّكوين ، من معرفة النّفوس المستعدّة للتربية والإصلاح ، والتّصرف المعنوي المَباشر ، في المستوى الرّوحي لِلإنسان في خطّ التّربية.

وتوضيح ذلك : إنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، هَمْ القلب النّابض للُامّة الإسلاميّة ، وكلّ عضوٍ من الأعضاء ، يكون له إرتباطٌ وثيقٌ بالقلب ، سيتسنى لذلك العَضو أن يسترفِد من المنبع مَنافع أكثر ، أو أنّهم بمنزلة الشّمس المشرقةِ ، فكُلّما إنقشعت سُحب الأنانية عن القلب ، فإنّ تلك الأشعّة ستتولى تربية عناصر الخير في النّفس ، فَتورقُ وتثمرُ ، وتنعكس آثارها على شخصيّة الإنسان ، في إطار السّلوك والفِكر.

وهنا تأخذ الولاية شَكلاً آخر ، وتنحى مَنْحاً يختلف عن السّابق ، وسيكون الكلام فيها عن المَعطيات الخفيّة الغامضة ، في دائرة التّأثير التّربوي ، غير التي نعرفها سابقاً ، في دائرة التّصرفات الظّاهريّة.

٣٣١

يقول القرآن الكريم :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) .

فهذه الشّمس المنيرة ، وهذا السّراجُ المنير ، يتولّى وظيفتين ، فمن جِهة أنّه يُضيء لِلإنسان الطريق إلى الله تعالى ، ليعرف الطّريق الصّحيح والجادة المؤدّية إلى الحقّ والصّلاح ، ويبتعد عن حافّة الهاوية.

ومن جهةٍ اخرى ، فإنّ هذا النّور الإلهي ، يؤثّر لا شعوريّاً في واقع الإنسان ، ويتولى إصلاح النّفس في خطّ التّربية الأخلاقيّة ، ويساعدها في عمليّة التّكامل والرّقي.

وكَنموذجٍ على ذلك ، ما نقرأه في الحديث المرفوع عن «هِشام بن الحَكم» ، ومناظرته مع «عَمرو بن عُبيد» ، العالم بِعلم الكلام السّني ، عند ما ذَهب هشام إلى البصرة ، وأجبره ببيانٍ لطيفٍ ومنطقي ، على الإعتراف بِلزوم وجود الإمام في كلّ عصرٍ وزمانٍ.

قال هشام : بلغني ما فيه عَمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، فعظُم ذلك عليّ ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة ، فأتَيت مَسجد البَصرة ، فإذا أنا بحلقةٍ كبيرةٍ فيها عَمرو بن عبيد ، وعليه شَملةٌ سوداءٌ ، متّزراً بها ، من صوفٍ وشملةٌ مرتدياً بها ، والنّاس يسألونه ، فإستفْرَجت النّاس فأَفرَجوا لي ، ثمّ قَعدت في آخر القَوم ، على رَكبتي ، ثم قلت : أيّها العالم ، إِنّي رجلٌ غريبٌ تأذن ، لي في مسألةٍ!.

فقال لي : نَعم.

فقلت له : أَلك عَينٌ؟

فقال : يا بُنيّ أيّ شيءٍ هذا السّؤال ، وشيء تراه كيف تَسأل عنه.

فقلت : هكذا مَسألتي.

فقال : يا بُنيّ سَلُ وإن كانت مَسألتك حَمقاء.

قلت : أجبني فيها.

قال لي : سَلْ.

قلتُ : ألكَ عينٌ؟

٣٣٢

قال : نَعم.

قلت : فما تَصنع بها؟.

قال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قلت : ألكَ أنفٌ؟

قال : نَعم.

قلتُ : فما تصنع به؟

قال : أشمٌّ به الرّائحة.

قلتُ : ألكَ فمٌ؟

قال : نَعم.

قلتُ : فما تصنع به؟.

قال : أذوقُ بِهِ الطّعام.

قلت : ألك اذنٌ.

قال : نَعم.

قلتُ : فما تصنع بها؟.

قال : أسمع بها الصّوت.

قلت : أَلك قلب؟.

قال : نعم.

قلتُ : فما تصنع به؟

قال : اميّز به كلّما ورد على هذه الجَوارح والحَواس.

قلتُ : أوَلَيس في هذه الجَوارح غِناً عن القلب؟.

فقال : لا.

قلتُ : وكيف ذلك ، وهي صحيحةٌ سليمةٌ؟.

قال : يا بُني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ ، شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردّته إلى القَلب

٣٣٣

فيسْتَيقِن اليَقين ويُبطل الشّك.

فقلت له : فإنّما أقام الله القلب ؛ لِشّك الجَوارح؟.

قال : نعم.

قلتُ : لا بدّ من القلب ، وإلّا لم تَستَيقن الجوارح؟.

قال : نعم.

فقلتُ له : يا أبا مَروان ، فالله تَباركَ وتعالى ، لم يترك جوارحك حتّى جَعل لها إماماً ، يُصحِّح لها الصّحيح ، ويتيقّن له ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخَلق كلّهم في حِيرتهم وشَكّهم وإختلافهم ، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شَكّهم وحِيرتهم ، ويُقيم لَك إماماً لِجوارحك ، تردّ إليه حيرتك وشَكّك؟

قال : فَسكت ولم يقل شَيئاً ، ثم إلتفتَ إليّ ، فقال لي : أنتَ هُشام بن الحكم؟ ، فقلتُ : لا. قال من جُلسائه؟ ، قلت : لا ، قال : فَمن أَنتَ ، فقلت : من أهلِ الكوفة. قال : فأنت إذاً هوَ ، ثمّ ضمّني إليه ، وأَقعدني في مَجلسه ، وزالَ عن مجلسه ، وما نطَق حتّى قُمت.

قال : فَضحِك أبو عبد اللهعليه‌السلام ، وقال : يا هُشام من عَلّمك هذا؟.

قلتُ : شيءٌ أخذته منك ، وألّفته.

فقال الإمام : «هذا والله مكتوبٌ في صُحف إبراهيم وَموسى».(١)

نعم ، فإنّ الإمام بمنزلةِ القَلب ، لِعالَم الإنسانيّة ، وهذا الحديث يمكن أن يكون إشارةً ، لِلولاية والهداية التّشريعيّة أو التّكوينية ، أو الإثنين معاً.

وكذلك ما ورد ، في حديث أبي بَصير وجاره التوّاب ، هو شاهدٌ آخر على هذا المَطلب :

قال أبو بَصير : كان لي جارٌ يتبعِ السّلطان ، فأصابَ مالاً فإتّخذ قِياناً ، وكان يجمع الجَموع ويشربُ المُسكِر ويُؤذيني ، فشكوته إلى نفسه غيرَ مَرّة ، فلم يَنتَهِ ، فلّما ألحَحَتَ عليه ، قال : يا هذا أنا رجلٌ مُبتلى ، وأنت رجلٌ معافى ، فلو عرّفتني لِصاحبك رَجوتُ أن يَستنقذني اللهُ بك ، فوقع ذلك في قلبي ، فلما صِرت إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ذكرتُ له حاله.

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٢٩ ، ح ٣ ، باب الإضطرار إلى الحجّة ، (مع التّلخيص).

٣٣٤

فقال لي : «إذا رجعت إلى الكُوفة ، فإنّه سيأتيك ، فقل له : يقول لك جعفر بن محمد : دعْ ما أنت عليه ، وأَضمِنْ لك على الله الجنّة».

قال أبو بَصير : فلمّا رجعت إلى الكوفة ، أتاني فيمن أتى ، فاحْتبستُه حتّى خَلا منزلي. فقلت :

يا هذا ، إنّي ذكرتُك لأِبي عبد اللهعليه‌السلام ، فقال : «أَقرِأه السّلام وقل له : يترك ما هو عليه ، وأَضمن له على الله الجنّةَ».

فَبَكى ، ثمّ قال : الله ، قال لك جعفرعليه‌السلام هذا؟

قال : فحلفت له ، أن قال لي ما قلت لك.

فقال لي : حَسبُك وَمَضى ، فلما كان بعد أيّامٍ بعث إليّ ودعاني ، فإذا هو خَلف باب داره عُريان.

فقال : يا أَبا بصير ، ما بقي في منزلي شيءٌ ، إلّا وخرجت عنه ، وأنا كما ترى.

فَمشيت إلى إخواني ، فجمعت له ما كسوته به ، ثمّ لم يأت عليه إلّا أيّاماً يسيرةً ، حتّى بعث إليّ : أنّي عليل فآئْتني ، فجعلت أختلف إليه ، واعالجه حتّى نزل به الموت.

فكنت عِنده جالساً وهو يجود بِنفسه ، ثم غُشي عليه غشيةً ثم أفاق ، فقال : يا أبا بَصير ، قد وفّى صاحبك لنا ، ثم مات ، فَحَججت فأتيت أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فإستأذنت عليه ، فلمّا دخلت قال مبتدئاً من داخل البيت ، وإحدى رجليّ في الصّحن والاخرى في دهليز داره : «يا أبا بَصير قد وفّينا لصاحبك».(١)

بالطّبع يمكن أن يقال : إنّ هذا الحديث حمل في طيّاته ، جانب التّوبة العاديّة المعروفة بين الناس ، ولكنّنا نقول : إن ذلك الرّجل المذنب والمليء بالمعاصي ، من رأسه إلى أخُمص قدمه ، لم يكنِ ليُغيّر طريقة حياته ، واتّخاذه جانب الصّلاح والفلاح ، وعلى حدّ إعترافه هو ، بأنّه لو لا الإمامعليه‌السلام وعنايته ، لم يكن له أن يتحول من دائرة الظلّمة والمعصية ، إلى دائرة النّور والهداية.

ويوجد إحتمالٌ قويٌّ ، وهو أنّ هذا الإنقلاب والتّحول ، في روح وسلوك هذا الرجل المذنب المستعد لِلتوبة ، كان بسبب التّدخل الرّوحي للإمامعليه‌السلام ، وتصرفه في محتواه النّفسي ، و

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٤٧ ، ١٤٥ ١٤٦ ، ج ١٩٩.

٣٣٥

ذلك لوجود نقطةٍ مضيئةٍ وبصيصٍ من الأمل في أعماق قلبه ، وهو تمسّكه بالولاية ، حيث أدّى إلى أن يتحرّك الإمامعليه‌السلام إلى نجدته وإنقاذه ، في آخر لحظات حياته وأيّام عمره.

والّنموذج الآخر لهذا التّأثير المعنوي ، والولاية التكوينيّة في تهذيب النّفوس المستعدّة ، هو ما نقله العلّامة المجلسيرحمه‌الله في بحار الأنوار ، عن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، والجارية التي أرسلها هارون إليه.

فقد وَرد أنّ هارون الرّشيد ، أنفذَ إلى موسى بن جعفرعليه‌السلام جاريةً خصيفةٌ ، لها جمالٌ ووضاءةٌ لتخدمه في السّجن ، فقال له :( بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) (١) ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ، قال : إستطار هارون غَضباً ، وقال : إرجع إليه وقل له : ليس بِرضاك حبَسناك ، ولا بِرضاك أخذناك ، وإترك الجارية عنده وإنصرف.

قال : فَمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه ، وأنفذَ الخادم إليه ليتفحص عن حالها ، فرآها ساجدةً لربّها لا ترفعُ رأسها ، تقول : قُدّوسٌ سُبحانك سُبحانك.

فقال هاورن : سَحرها والله موسى بن جعفر بسحره ، عليّ بها ، فأتى بها وهي تَرتَعد ، شاخصةً نحو السّماء بصرها ، فقال : ما شأنك؟.

قالت : شأني الشّأن البديع ، إنّي كنت عنده واقفةً ، وهو قائمٌ يصلّي ليله ونهاره ، فلمّا إنصرف عن صلاته بوجهه ، وهو يسبّح الله ويقدّسه ، قلت : يا سيّدي هلْ لك حاجة اعطيكها؟

قال : وما حاجتي إليك؟

قلت : إنّي ادخلت عليك لِحوائجك.

قال : ما بالُ هؤلاء؟.

قالت : فآلتفتُ فإذا روضةٌ مزهرةٌ ، لا أبلغ آخرها من أوّله بنظري ، ولا أوّلها من آخرها ، فيها مجالسُ مفروشة بالوِشيّ والدّيباج ، وعليها وصفاً وَوَصائِف ، لم أر مثل وجوههم حُسناً ، ولا مِثل لباسهم لِباساً ، عليهم الحَرير الأخضر ، والأكليلُ والدّر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمَناديل ، ومن كلّ الطّعام ، فخَررت ساجدةً حتّى أقامني هذا الخادم ؛ فرأيت نفسي حيثُ كنت.

__________________

١ ـ سورة النّمل ، الآية ٣٦.

٣٣٦

فقال هارون : يا خبيثة ، لعلّكِ سجدت فَنمت فرأيت هذا في مَنامك؟.

قالت : لا والله يا سيّدي ، إلّا قبل سُجودي ، رأيت فسجدت من أجلِ ذلك.

فقال هاورن : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا مِنها أحد ، فأقبلت في الصّلاة ، فإذا قيل لها في ذلك ، قالت : هكذا رأيتَ العَبد الصّالحعليه‌السلام ، فسئلت عن قولها ، قالت : إنّي لما عَييت من الأمر نادتني الجواري ، يا فلانة أبعدي عن العبد الصّالح ، حتّى ندخل عليه ، فنحن له دونك ، فما زالت كذلك حتّى ماتت ، وذلك قبل موتِ موسىعليه‌السلام بأيّامٍ يسيرةٍ(١) .

وفي هذه القصّة ، نشاهد نموذجاً آخر من تأثير الإمامعليه‌السلام ، في روح تلك الجارية المستعدّة للتّربية والإصلاح الرّوحي ، والهداية في طريق الحقّ والعودة إلى الله تعالى.

والخلاصة : أنّ تاريخ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الهداةعليهم‌السلام ، حافل بمثل هذه الحوادث ، حيث يتّفق لبعض الأشخاص ، أن يلتقوا مع النّبي أو الإمام ، فينقلب مَساره في حركة الحياة والواقع ويتغيّر كلياً ، ويتحوّل إلى النّقطة المقابلة ، في حين أنّ هذا التغيّر ، ما كان ليحصل بواسطة الأسباب العادية ، بحسب الظّاهر ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الإنسان الكامل ، هو الذي تولى هذه العمليّة التغييريّة ، في هؤلاء الأشخاص من خلال التّصرف والتّدخل في النّفوس ، وهو ما نسمّيه بالولاية التكوينيّة.

ومن المؤكّد أنّ هذه العناية ، واللّطف والتّوجه ، لم يكن إعتباطاً ، بل هو لوجود نقاط قوّة في شخصيّة الفرد المُعتنى به ، لتشمله العناية الإلهيّة ، بواسطة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطّاهرينعليهم‌السلام .

كلام العلّامة الشّهيد المطهّري :

نترك الكلام والقَلم هنا ، للعلّامة الشّهيد المطهّريقدس‌سره ، حيث يقول في كتابه :«ولاءها و

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٤٨ ، ص ٢٣٩ ، نقلاً عن المناقب ، ج ٣ ، ص ٤١٤ ، (مع شيءٍ من التّخليص).

٣٣٧

ولايتها» : (تستعمل هاتين الكلمتين عادة في أربع موارد : ولاء المحبة : (أي المحبّة لأهل البيت)عليهم‌السلام ، وولاء الإمامة ، بمعنى التّأسي بالأئمّةعليهم‌السلام ، وجعلهم القدوة لأعمالنا وسلوكيّاتنا ، وولاء الزّعامة ، بمعنى حقّ القيادة الاجتماعيّة والسّياسية للأئمّةعليهم‌السلام ، وولاء التّصرف ، أو الولاء الرّوحي وهو أسمى هذه المراحل).

وبعدها يوضّح الأوّل والثّاني والثّالث ، ثمّ يعرج على المعنى الرّابع ، الذي هو مورد بحثنا ويقول : (إنّ التّصرف الرّوحي والمعنوي ، هو نوعٌ من القُدرة والتّسلط الخارق للتكوين ، بمعنى أنّ الإنسان ومن خلال عبوديّته الحقّة لله تعالى ، يحصل على مقام القُرب الإلهي المعنوي والرّوحي ، ونتيجة لهذا القُرب ، يصبح إنساناً كاملاً ، يتحرك في طريق هداية الناس نحو المعنويات ، ويتسلط على الضّمائر ، وتكون له قدرة الشّهود على الأعمال ، وبالتّالي يصير حُجّة الله في زمانه!

فمن وجهَة نظر الشّيعة ، أنّ كلّ زمان لا يخلو من إنسانٍ كاملٍ ، يتمتع بقدرة التّصرف الغيبي في العالم والإنسان ، وناظرٌ وشاهدٌ على الأرواح والقلوب ، وهذا الإنسان هو حجّةُ الله على الأرض.

والمقصود من التّصرف ، أو الولاية التكوينيّة ، ليس كما يعتقد بعض الجهّال ، من أن يتولى الإنسان الكامل ، مسألة القَيوميّة والتدبير في العالم ، بحيث يكون الخالق والرّازق والمفوض ، من جانب الله تعالى.

وهذا الإعتقاد ، رغم أنّه لا يعتبر شركاً ، بل هو كما ورد في القرآن ، بالنّسبة إلى الملائكة :«المُدَبِّراتُ أَمرَاً ( فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» ) ، فهو بإذن الله تعالى ، والقرآن يُخبرنا أنّ لا : نَنسب مسائل الخلقة والرّزق والموت والحَياة ، إلى غير الله تعالى.

ولكن المقصود ، هو أنّ الإنسان الكامل ، ولقربه من الله تعالى ، يصل إلى مرحلةٍ تكون له الولاية في التّصرف في : (بعض امور) العالم.

ثم يضيف قائلاً : ويكفي هنا أن نشير إشارةً إجماليةً إلى هذا المطلب ، وتوضيح اسسه بالإعتماد وعلى المفاهيم والمعاني القرآنية ، لِئلّا يعتقد البعض ، أنّ هذا جزافاً من الكلام.

٣٣٨

فلا شك أنّ مسألة الولاية ، بمعناها الرّابع ، هي من المسائل العرفانيّة ، ومجرد كونها عرفانيّة ، لا يعني نكرانها بالكامل.

ثمّ يشرح بإسهاب ، معطيات القرب من الله تعالى ، ويستنتج منها ، ما يلي :

فعلى هذا الأساس ، من المحال على الإنسان ، وبعد قربه وطاعتِه للهِ تعالى ، ألّا يصل إلى مقام الملائكة ، بل وأرقى ، أو على الأقل يساوي الملائكة في مقامهم ، الملائكة التي تدبّر وتتصرف في عالم الوجود ، بإذن الله تعالى»(١) .

ويمكن أن نخرج من هذا الحديث بنتيجة ، وهي أنّ العلاقة المعنويّة ، والإرتباط بالإنسان الكامل ، يمكن أن يساعد الإنسان في عمليّة التّصرف ، والنّفوذ في حياة الاناس المستعدّين والمتقبلين للإصلاح ، وسوقهم تدريجياً في خطّ التّهذيب الأخلاقي ، وإبعادهم من جو الرّذائل إلى جو الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحيّة.

الاستغلال السّيء :

تتعرض المفاهيم البنّاءة والصّحيحة ، للُامم والشّعوب في كلّ زمانٍ ومكانٍ للإستغلال والتّحريف دائماً ، وهذا الإستغلال في الحقيقة لا يؤثر على صحة وقداسة أصل المسألة.

ولم تكن مسألة القدوة الأخلاقيّة في خطّ التربية والتّهذيب ، ولزوم الإستفادة من الاستاذ العامّ والخاصّ ، لأجل السّلوك إلى الله وتهذيب الأخلاق ، مستثناة من هذا الأمر ، فجماعةُ من الصّوفيّة طَرحوا أنفسهم ، بعنوان : «مُرشد» أو «شيخ الطّريقة» و «القُطب» ، ودعوا الناس لإتّباعهم والتّسليم المُطلق إليهم ، بل وتعدّوا الحُدود ، وقالوا إذا ما شاهدتم سلوكاً يصدر من الشّيخ ، مخالفاً للشريعة ، فلا عليك ولا ينبغي عليك الإعتراض ، لأنّ ذلك يخالف روح التّسليم المُطلق للمرشد.

ويُستفاد ومن كلمات «الغزالي» ، المؤيد للصّوفية ، في فصولِ متعددّةٍ من كتابه «إحياء العلوم» ، هذا المعنى أيضاً ، حيث يُشمّ منها رائحة الصوفيّة ، والحقيقة أنّ فِرقاً من الصّوفية ،

__________________

١ ـ كتاب ولاءها وولايتها ، ص ٥٦ ، وما بعدها.

٣٣٩

تعتبره من كبار أعلامها ، فقد قال في الفصل (٥١) من الجزء الخامس ، الباب الخامس :

(نَظَرُ الصّوفية إنّ أدب المريدين في مقابل شيوخهم هو ، أن يجلس المريد مقابل الشّيخ مسلوب الإختيار ، فلا يتصرف في نفسه وماله إلّا بأمره وأفضلُ أدب المُريد أمام الشّيخ : هو السّكوت والخمود والجمود ، إلى أن يملي عليه شيخه ، ما يراه له صلاحاً في أعماله وأفعاله وكلّما رآى من شيخه خِلافاً ، وعسُر عليه فَهمه ، تذكّر حكاية مُوسى والخِضرعليهما‌السلام ، فإنّ الخضر قد عمل أعمالاً أنكرها مُوسى ، ولكن عند ما كشف له الخِضر أسرارها إنتبه مُوسى ، وعليه فكلّما فعل الشّيخ ، كان له عُذراً بلسان العِلم والحِكمة)(١) .

ويقول العارف العّطار ، في أحوال يوسف بن حسين الرّازي ، عند ما أمره ذو النّون المَصري : (مرشده) ، الخُروج من بلدِه والعودة إلى دياره ، طلب يوسف منه برنامجاً يعمل به ، فقال له ذُو النّون : عليك بِنسيان ما قرأته ، وامح كلّ ما كتبته ، ليُزال الحِجاب!.

ونقل عن أبي سعيد ، قوله للمُريدين :

«رَأسُ هذا الأمرِ ، كَبْسُ الَمحابِرِ وَخرَقُ الدَّفاتِر وَنِسيانِ العِلمِ» (٢) .

ونقل عن أحوال وحالات «أبو سعيد الكندي» ، أنّه كان قد نزل في الخانقاه ، وإجتمع عنده جمعٌ من الدّراويش ، وكان يطلب العلم سرّاً ، وفي يوم من الأيّام سقطت من جيبه محبرةٌ ، فإنكشف سرّه : «وهو أنّه من هواة تحصيل العلم» ، فقال له أحد الصّوفيين : (استر عليك عَورتك)(٣) .

ولا شك فإنّ الجو الحاكم هناك ، كان نتيجةً لتعاليم مرشدهم في هذا الأمر ، ولكنّ الحقيقة أنّ الاسلام قد أكّد على خلاف هذا المسلك ، ففي الحديث الوارد عن الصّادقعليه‌السلام ، عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :«وُزِّنَ مِدادُ العُلَماءِ بِدِماءِ الشُّهدَاءِ ، فَرُجّحَ مِدادُ العُلَماءُ عَلى دِماءِ الشُّهَدَاءِ» (٤) .

فانظر إلى الفرق بين المسلكين!!.

__________________

١ ـ احياء العلوم ، ج ٥ ، ص ١٩٨ ـ ٢١٠ ، (مع التلخيص).

٢ ـ أسرار التّوحيد ، ص ٣٢ و ٣٣ ، طبعة طهران.

٣ ـ نقد العلم والعلماء ، ص ٣١٧.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٦ ، ح ٣٥.

٣٤٠