• البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12666 / تحميل: 1836
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

فِيهِ مُسْتَجَابٌ» (١) . أي أنك الآن تعيش حالة التذكر والتنبه وقد زالت منك حجب الغفلة ولهذا فإنّ دعائك مستجاب.

ه) طول الأمل

وأحد العوامل الاخرى للغفلة هو طول الأمل والتمنيات الدنيوية الموهومة ، حيث تستولي على قلب الإنسان وفكره وتجعله غافلاً عمّا يراد به ، ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخطبة المعروفة بالديباجواعلموا عباد الله ان الامل يذهب العقل ويكذب الوعد ويحث على الغفلة ويورث الحسرة (٢) .

٢ ـ العواقب المشؤومة للغفلة

إن الغفلة عن ذكر الله والمعاد وما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة من محن وابتلاءات بسبب الذنوب والآثام كلّ هذه الامور تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في منزلقات الخسران والفناء وتسبب له اضراراً غير قابلة للجبران والتدارك ، كما ورد هذا المعنى في كلمات المعصومين وأئمّة الدينعليهم‌السلام ومن ذلك :

ألف) الغفلة تورث قساوة القلب

إن قساوة القلب ليست سوى نتيجة للغفلة والابتعاد عن المعارف الإلهية ، لأن العامل المهم في لطافة الروح وانعطاف القلب أمام الحقّ هو ذكر الله تعالى ، فعند ما ينقطع مطر الرحمة الإلهية عن أرض القلب بانقطاع الذكر فسيتحول القلب إلى صحراء قاحلة مليئة بالاشواك والحجارة كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :«ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ» (٣) .

ب) الغفلة وموت القلب

الغفلة تفضي في النهاية إلى موت القلب أيضاً ، أي أنّ الإنسان بعد أن يعيش حالة

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٦٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٩٣.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١٦٤.

٣٢١

القساوة وعدم الانعطاف في قلبه وروحه فسوف يقترب من موته المعنوي بحيث لا تعد المواعظ والنصائح تأثر في مثل هذا الإنسان ، وفي هذه الصورة سوف يوصد باب العودة والانابة إلى الله أمامه ولا يبقى هناك أمل في نجاته ، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام «مَنْ غَلَبَتْ علَيْهِ الْغَفْلَةُ مَاتَ قَلْبُهُ» (١) .

وفي حديث آخر عن هذا الإمامعليه‌السلام أنّه قال :«بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْغِرَّة» (٢) .

ج) الغفلة وفساد الأعمال

كما وأنّ «الغفلة» تسبب في بطلان أعمال الإنسان وفسادها ، ولهذا نجد أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الغفلة عن الله والآخرة قلما يتحركون في سلوكياتهم في دائرة الخيرات والمبرات ، ولو أنّهم تحركوا في هذا السبيل فإنّ الغفلة لا تسوغ لهم أن يتمتعوا بحالة الأخلاص في طريق الانفتاح على الله ، فلا يصدر منهم ذلك العمل بنية خالصة.

ومن ذلك يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام «ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ وَالِاغْتِرَارَ بِالْمُهْلَةِ فَانَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الاعْمَالَ» (٣) .

ويحتمل في تفسير هذا الحديث أنّ المراد منه فساد الأعمال السالفة للإنسان بسبب الغفلة اللاحقة ، لأنّ الغفلة تتسبب في ارتكاب الذنب والوقوع في وادي الخطيئة ، والخطيئة بدورها تستوجب حبط الأعمال وافسادها.

د) الغفلة والقرب الإلهي

مضافاً إلى ذلك فإنّ الغفلة تستوجب سلب الإنسان اللياقة لنيل مرتبة القرب من الله تعالى ولقائه ، لأن الوصول إلى هذه المرتبة ونيل هذا المقام السامي لا يتسنّى للإنسان إلّا في ظلّ المعرفة والتذكر والتفكر وأن يعيش الإنسان حالة الوعي والاتصال مع المبدأ.

__________________

١ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ٢٩٣.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٣ ، ص ٢٦٨.

٣ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٢ ، ص ٣١٢.

٣٢٢

وقد ورد في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي إشارة إلى هذا الموضوع في مناجات أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول :«الهِي انْ أَنامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكَ فَقَدْ نَبَّهْتَنِي الْمَعْرَفَةُ بِكَرمِ آلائِكَ» (١) .

«مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتْهُ» (٢) .

هذه العبارة هي مقطع للمناجات المعروفة بالمناجات الشعبانية حيث يقول العلّامة المجلسي عنها انها المناجات الّتي كان أمير المؤمنين والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام يدعون الله بها في شهر شعبان.

ه) الغفلة سبب الوقوع في الهلكة

«الغفلة» كذلك تسبب للإنسان الهلاك في الدنيا والآخرة ، لأن الإنسان الغافل سوف لا يدرك جيداً منافعه «سواء المادية أو المعنوية» وبالتالي فسوف يضيع الفرص الثمينة الّتي تتعرض له ، وسوف يؤدي به هذا الحال إلى اتلاف طاقاته وقابلياته الحيوية ، ومن هذا المنطلق نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام عليعليه‌السلام «مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتهُ» (٣) .

٣ ـ علائم الغفلة

الكثير من الناس يمكن أن يترددون في كونهم من الغافلين ولا يعلمون بهذه الحقيقه وهي هل أنّهم يتسمون بسمة الغفلة أم لا؟ إذاً فمن الضروري أن يفحص السالك إلى الله ويتدبر حالته في كلّ مرحلة من حياته لئلّا يقع في زمرة الغافلين ، ولذلك لا بدّ من الالتفات والانتباه إلى علائم«الغفلة» حتّى لا يتورط في الوقوع في مخالبها وأسرها.

ولحسن الحظ فإنّ النصوص الشريفة والأحاديث الإسلامية قد أوردت علائم كثيرة

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٩١ ، ص ٩٦ ـ ٩٩.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ٢٧٢.

٣ ـ المصدر السابق.

٣٢٣

للغافلين نكتفي بالإشارة إلى بعضها :

١ ـ ورد في الحديث الشريف والمفصل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه لشمعون بن لاوي أحد أقطاب النصارى في ذلك الزمان عند ما سأل شمعون النبي الأكرم عن علائم الغافلين فقال :«امَّا عَلَامَةُ الغَافِلِ فَارْبَعَةٌ الْعَمى وَالسَّهْو وَاللهْو وَالنِّسْيَانْ» (١) .

ونفس هذا المضمون نجد في حكم ونصائح لقمان الحكيم لولده حيث يقول : يا بني لكلّ شيء علامة يعرف بها ويشهد عليها وللغافل ثلاث علامات : السهو واللهو والنسيان(٢) .

والفرق بين السهو والنسيان هو أنّ النسيان بمعنى عدم تذكر الحوادث والامور السابقة ، ولكن السهو يعني عدم التوجه والانتباه للُامور الّتي ينبغي التوجه والانتباه لها.

٢ ـ وإحدى علائم الغفلة هي أنّ الإنسان يتحرك في معاشرته ومجالسته مع الفاسدين والمفسدين ويبتعد عن مجالس العبادة ، وفي ذلك يقول الإمام الحسنعليه‌السلام «الْغَفْلَةُ تَرَكُكَ الْمَسْجَد وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ» (٣) .

٣ ـ ومن العلامات المهمة الاخرى للغفلة هي عدم الاكتراث بالنذر ، مثلاً عند ما يمر الشخص على مقبرة فإنه لا يخطر في ذهنه انه سوف يكون من أهالي هذه المقبرة غداً ، أو عند ما يشترك في تشييع جنازة أحد أقربائه أو أصدقائه فإنه لا يفكر في أنّه سوف يتعرض يوماً لمثل هذا الموقف ويكون هو المشيع ويسير الآخرون وراء جنازته.

وقد ورد في نهج البلاغة أنّ الإمام عليعليه‌السلام كان يسير خلف جنازة لأحد المؤمنين فسمع أحدهم يضحك بصوت عال فتألم الإمام من ذلك وقال :«كَأَنَّ المَوْتَ فيهَا عَلَى غَيرِنَا كُتِبَ وَكَأَنَّ الْحَقَّ فيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَكَأَنَّ الّذي نَرَى مِنَ الْاموَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ الَيْنَا رَاجِعُونَ».

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٢٢.

٢ ـ الخصال للصدوق ، ص ١٣٨ ، طبع انتشارات العلمية الإسلامية مع ترجمة السيّد أحمد فهري.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١١٥.

٣٢٤

ثمّ أضاف :«نُبَوِّئُهُمْ اجْدَاثَهُمْ وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُم» (١) .

٤ ـ ومن العلامات الاخرى للغفلة أنّ الإنسان ينفق وقته وعمره الثمين في امور موهومة لا تنفعه لحياته الاخروية ، أو يتلف السنوات المديدة من عمره وشبابه في مواقف وأعمال لا تعود عليه بالنفع الدنيوي ولا الاخروي ، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :«كَفى بِالْرَّجُلِ غَفْلَةً انْ يُضِيعَ عُمْرَهُ فِي مَا لا يُنْجيهِ» (٢) .

وفي رواية اخرى عنه أنّه قال :«كَفى بِالْمَرْءِ غَفْلَةً أَن يَصْرِفَ هِمَّتَهُ فِي مَا لا يَعْنِيهِ» (٣)

٤ ـ الطرق الكفيلة بمكافحة الغفلة

تعتبر«الغفلة» من الأمراض الأخلاقية الخطرة ، ولا بدّ في علاجها من استخدام الأصول الكلية والمبادئ العامّة المستخدمة في هذه المباحث الأخلاقية.

ففي المرحلة الاولى علينا التفكر في عواقب ونتائج الغفلة وخاصّة ما تقدّم ذكره من الروايات الشريفة والمباحث الأخلاقية السابقة في هذا الموضوع ، فإنّ التدبر في العواقب الوخيمة هذه له أثرٌ كبير في التنبه في أن يعيش الإنسان حالة التنبه والوعي ويعود إلى سلوك طريق المعرفة واليقظة ، مثلاً عند ما يريد التخلص من الأدمان على المواد المخدرة أو يريد الوقاية من الوقوع في أسرها ، فعليه أن يتفكر في الأشخاص الّذين ابتلوا بهذه البلية السوداء ، وما كانت نتيجة حالهم وعاقبة أمرهم ، وما حلَّ بهم وبأسرهم وابنائهم من الدمار والارباك والاهتزاز في العلاقة العائلية ، وحينئذٍ سوف يتسنّى له التوقف والانتباه وسلوك طريق العودة بل وتقديم النصح للآخرين وتحذيرهم من الوقوع في هذا الوادي المهلك ، وكذلك لا بدّ من الرجوع إلى جذور هذه الحالة والعمل على علاجها وقطع جذورها و... فما دامت أسباب المرض باقية في روح الإنسان فإنّ العلاج سوف يكون ابتراً.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١٢٢.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ٥٨٥.

٣ ـ المصدر السابق.

٣٢٥

وقد تقدّم في المباحث السابقة تفصيل الكلام عن جذور الغفلة وأسبابها ، فلا حاجة إلى التكرار ، ولكن نواصل إلى المطالب السابقة نذكر فيما يلي بعض النقاط النافعة لإزالة الآثار السيئة للغفلة في واقع الإنسان.

١ ـ كسب العبرة من التاريخ

يجب دراسة التاريخ بدقة وتأمل وكسب العبرة من حوادثه ومجرياته ، فأيوان كسرى في المدائن واطلال قصور الملوك واهرام مصر تحدثنا بلسانها غير الناطق وتخبرنا عمّا جرى على الأقوام السالفة لنأخذ العبرة منهم ، والخلاصة لا بدّ من استطلاع تاريخ البشرية ومشاهدة آثارهم الباقية واستيحاء العبرة من كلّ ذلك.

القبور المندثرة للابطال وقادة الحروب بالأمس ترزح أبدانهم المترفة أسيرة التراب ، رؤية المسنين والعجائز الّذين كانوا بالأمس القريب شباباً ممتلئين حيوية ونظارة وهم الآن يعيشون العجز وعدم القدرة على ممارسة نشاطاتهم اليومية ، كلّ هؤلاء كانوا بالأمس القريب أشخاصاً أقوياء وممتلئين بالفتوة والحيوية ، ولكن حوادث الأيّام والسنين قد أخذت منهم مآخذها وأكلت منهم قوتهم وسلبتهم نشاطهم ، ونحن الآن على آثارهم وسوف نبتلي بحالتهم.

ومن الواضح إننا كلّما تفكرنا في هذا المواضع أكثر وتأملنا في تحول الأيّام وتبدل الحكومات وانتقال الثروات وتبدلّ المناصب الدنيوية فإننا سوف لا نعيش حالة الغفلة.

الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول :«انَّ مَنْ عَرَفَ الْايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنْ الاسْتِعْدادِ» (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال«اغْفَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إلَى حالٍ» (٢) .

٢ ـ استمرار ودوام الذكر

والعامل المؤثر الآخر لطرد آثار الغفلة هو استمرار ودوام الذكر ، لأن ذكر الله تعالى يحيي

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٢٨٥ ، ح ١٥١٨٩.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١١٢.

٣٢٦

القلب ويجلي الروح ويفتح نور البصيرة حيث يرى الإنسان حقائق عالم الوجود ويرى الحقّ حقّاً والباطل باطلاً ، وحينئذٍ يتمكن من تشخيص الصديق والعدو لسعادته وكماله المعنوي في حركة الحياة.

ولذلك قال أمير المؤمنينعليه‌السلام «بِدَوَامِ ذِكْرِ اللهِ تَنْجابُ الْغَفْلَةُ» (١) .

٣ ـ الصلاة مع حضور القلب

إن أداء الصلاة في الوقت المقرر مع حضور القلب والتوجه إلى مضامينها السامية ومفاهيمها العالية والتعامل مع الله تعالى في الصلاة من موقع الفقر والمناجاة كلّ ذلك من شأنه أن يطهر القلب من أدران «الغفلة» ويجلي مرآة الروح الإنسانية في حركة الانفتاح على الله والكمالات الإلهية.

إن طبيعة الحياة الدنيوية موجبة للغفلة عادةً ، ولذلك قد ينشغل الإنسان أحياناً إلى درجة انه ينسى ويغفل عن كلّ شيء حتّى عن نفسه ، والصلاة تعتبر فرصة مناسبة جداً للعودة إلى الذات والتدبر في واقع النفس وكيفية انقاذها من مخالب «الغفلة» ، ولذلك يقول الإمام الباقرعليه‌السلام :«ايُّمَا مُؤْمِنٍ حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ الْمَفْرُوضَةِ فَصَلّاهَا لِوَقَتِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغَافِلين» (٢) .

٤ ـ التفكر والتدبر

الطريق الآخر للوقاية من الغفلة وعلاجها هو التفكر والتدبر في الامور ، فكلّما تحرك الإنسان في أعماله وأفعاله من موقع التدبر في نتائجها الإيجابية والسلبية وتفكر فيما يترتب عليها من نتائج معنوية في دائرة النفس والروح فإنّ ذلك من شأنه أن يبعد أمواج «الغفلة» الظلمانية عن الإنسان.

وقد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف في خطابه لأبي ذرّ قال«يَا أَباذَر! هَمِّ بِالْحَسَنةِ

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٤٢٦٩.

٢ ـ فروع الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٧٠.

٣٢٧

وَانْ لَمْ تَعْمَلْهَا لِكَي لا تُكْتَبَ مِنَ الْغَافِلِينَ» (١) .

التفكير بالموت ونهاية الحياة من جملة الأفكار الّتي تورث الإنسان اليقظة وتبعده عن الغفلة وخاصّةً عند ما يمر الشخص على مقبرة من المقابر ويتصور انه في الغد القريب سيكون أحد سكنة هذه المقبرة وينقطع عن الحياة الدنيا ، فهذا التفكير من شأنه أن يزيل استار الغفلة الّتي تتراكم على القلب بسبب الأهواء والشهوات والنوازع الدنيوية الاخرى.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في أحد وصاياه لابنه الإمام الحسينعليه‌السلام «ايْ بُنَيَّ الْفِكْرَةُ تُورِثُ نُوراً وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةً» (٢) .

٥ ـ تغير المحيط

إن الكثير من الاجواء الاجتماعية والطبيعية تورث الإنسان الغفلة وخاصةً الاشتراك في مجالس الغافلين والبطالين ، وجلسات اللهو واللعب ، والسكن في القصور الفخمة والمزخرفة وأمثال ذلك ، فكلها تقود الإنسان باتجاه الغفلة عن حقائق الامور ، وحتّى الكثير من المدن في عالمنا المعاصر قد تبدلت إلى مركز من مراكز الفساد والغفلة.

وأحد الطرق للخلاص من قيود الغفلة هذه هو ترك المشاركة في مثل هذه الجلسات والاماكن ، والهجرة من المدن الملوثة بالفساد ، وفي غير هذه الصورة فإنّ التخلص من سلطان الغفلة عسيرٌ جداً.

فلذلك نرى أنّ الإمام السجاد يقول لأبي حمزة الثمالي عند بيان أحد عوامل سلب التوفيق :«او لَعَلَّكَ رَأَيْتَني آلِفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْني وبَيْنَهُم خَلَّيْتَني».

ونختم هذا البحث بحديثٍ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال«احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَالْجَفاءِ وَقِلَّةَ الاعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ الله» (٣) .

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ح ١٥١٨٨.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٣٧.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٢٦٠٠ ـ ميزان الحكمة ، ح ١٥١٤٧.

٣٢٨

٥ ـ اليقظة والانتباه

«اليقظة» هي اليقظة المقابلة للغفلة وتأتي بمعنى الانتباه من النوم البدني أو النفسي ، وقد ذهب بعض العرفاء إلى أنّ اليقظة هي أوّل منازل السير والسلوك لأرباب المعرفة.

واليقظة في مصطلح العرفاء الإسلاميين هي الانتباه من نوم«الغفلة» والتوجه للأعمال والأفعال من موقع الضبط والوعي ولجبران الأخطاء السالفة وتصحيح المسيرة في حركة السلوك المعنوي للإنسان.

الإمام الخميني يرى في كتاب«الجهاد الأكبر أو جهاد النفس» ضمن اعتقاده بان اليقظة هي الخطوة الاولى في تهذيب النفس يقول في ذيل بحثه عن اليقظة «إلى متى تريد أن تبقى في نوم«الغفلة» وأنت غارق في لجة الفساد والشر ، اتقِ الله وأحذر عواقب الامور وانتبه من نوم الغفلة ، فأنت لحدّ الآن لم تخطو الخطوة الاولى في سلوكِكَ إلى الله تعالى فالقدم الأوّل في دائرة السلوك هو«اليقظة» ، ولكنك ما زلت في حالة النوم ، فافتح عينيك وقلبك واترك نومك ، فلو أنّ قلبك لم يكن ملوثاً بآفاق الذنوب السوداء لم تقنع وتستمر على هذا النوم وكأن شيئاً لم يكن ، فلا تشعر ما ذا يجري حولك بل تستمر في سلوكك وأعمالك وأقوالك الباطلة ، فلو أنك تفكرت قليلاً في أمر آخرتك وعاقبتك المخيفة يوم القيامة لتحركت من موقع الاهتمام بالتكاليف وأداء المسؤوليات الثقيلة الملقاة على عاتقك».

امّا الآيات والروايات الشريفة الّتي تقرر هذا المضمون والمحتوى فكثيرة ، وأساساً فإنّ جميع آيات الإنذار والبشارة هو من أجل الوصول إلى هذه الغاية والهدف ، أو إزالة آثار الغفلة عن قلب الإنسان وإيقاظه إلى ما ينتظره في الغد ولكي لا يبقى في نوم الغفلة والجهل.

إن من جملة التعبيرات القرآنية في دائرة الانذار والتحذير هي( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١) ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢) و ( أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ) وا ولم يتدبروا القرآن وأمثال ذلك.

فكلّها بمثابة الاعلام عن الخطر المحدق بالإنسان وايقاظه من النوم العميق الّذي يعيشه

__________________

١ ـ ذكرت هذه العبارة ١٣ مرّة في القرآن الكريم.

٢ ـ ذكرت أيضاً هذه العبارة في ٧ مواضع.

٣٢٩

في أجواء الطبيعة المادية ، ولذلك كان لا بدّ له من منبه وجرس انذار ليستعد للمسير في خط الإيمان والصلاح والتقوى ، وكذلك الآيات الّتي تؤكد على ذكر الله تعالى لأن الاعراض عن ذكر الحقّ من شأنه أن يفسد حياة الإنسان ، ويعيش بالتالي«معيشة ضنكا» في هذا العالم ويحشر يوم القيامة أعمى ، ولذلك نجد أنّ المفاهيم القرآنية تتحرك باتجاه تحذير المسلمين

من اسباب اللهو أو الغفلة وتسوقهم باتجاه ذكر الله تعالى ، وكلّ ذلك من شأنه انعاش حالة«اليقظة» والوعي بالمصير في واقع الإنسان وفكره.

وقد أشارت الروايات الإسلامية بشكل واسع إلى مسألة«اليقظة» منها :

١ ـ ما ورد عن أمير المؤمنين في خطبته لدى الإشارة إلى الهدف من بعثة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالايها الناس ان الله ارسل اليكم رسولا ليزيح به علتكم ويوقظ به غفلتكم (١) .

وليس هذا الهدف مختصٌ بنبي الإسلام فحسب بل يشمل جميع الأنبياء فإنّهم بعثوا لهذا الغرض أيضاً ، وايقاظ الناس من غفلتهم ، أو على الأقل أنّ هذا الهدف هو أحد الأهداف الأساسية من دعوتهم.

٢ ـ ويقول الإمام الحسنعليه‌السلام في خطبته لأهل الكوفة :

ايها الناس تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة ، فو الذي خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة ، لئن قام الي منكم عصبة بقلوب صافية ونيات مخلصة ، لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية اقتراق لا جاهدن السيف قدما قدما ولا ضيقن من السيوف جوانبها ومن الرماح اطرافها ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله (٢) .

وهنا نرى أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام في هذا الكلام يدعو أهل الكوفة إلى جهاد معاوية وجيش الشام في حين أنّهم قد تمكنت منهم«الغفلة» فلم يستجيبوا له.

٣ ـ ونقرأ في كتاب«فلاح السائل» الدعاء الّذي أقرّه الإمام الصادقعليه‌السلام أيضاً بغرض

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٩٦.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٤٤ ، ص ٦٧.

٣٣٠

جبران الأخطاء والغفلة في الصلاة حيث قال«فَصَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ مَكَانَ نُقْصَانِها تَماماً وَعَجَلَتي تَثَبُّتاً وَتَمَكُّناً ، وَسَهْوِي تَيَقُّظاً ، وَغَفْلَتي تَذَكُّراً ، وكَسَلي نَشاطاً» (١) .

٤ ـ وورد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة قوله مخاطباً للإنسان اللاأبالي«أما مِنْ دائك بُلُولٌ امْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقْظَةٌ» (٢) .

٥ ـ ويقول أمير المؤمنين في حديثٍ آخر أيضاً«ا لَا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ قَبْلَ نَفَادِ مُدَّتِهِ» (٣) .

وفي جميع هذه الروايات نجد أنّ«الغفلة» شبهت بنوعٍ من النوم تارةً ، واخرى بنوعٍ من السكر ، وشُبه قصد التذكر بنوعٍ من الانتباه واليقظة ، ويقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذا المجال :«سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالْغُرورِ ابْعَدُ افاقَةَ مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ» (٤) .

٦ ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام أمير المؤمنين في تشبيهه اليقظة بالمصباح المنير حيث قال«فَاسْتَصْبِحُوا بِنُورِ يَقْظَةٍ فِي الابْصَارِ وَالاسْماعِ وَالافْئِدَةِ» (٥) .

التغافل الإيجابي :

كما تقدّم أنّ الغفلة في نور الحياة سببٌ للشقاء والانحطاط المادي والمعنوي فإنّ«التغافل» بالنسبة إلى هذه الامور يؤدي إلى نفس هذه النتيجة ، أي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن الواقع الدنيوي متزلزل وأنّ هذا العالم غير ثابت على أمرٍ واحد ، وعليه أن يعبرهُ إلى حيث الحياة الخالدة ، وأنّ الموت هو قانون طبيعي حتمي على الأشياء ولا اعتبار بالقوى الطبيعية والثروات المادية ، ولكن مع كلّ ذلك فإنّ الإنسان الّذي يعيش الغفلةو«التغافل» يمر على هذه الحقائق من الكرام ولا يعنيه من أمرها شيء.

هذا هو التغافل السلبي الّذي قد يترتب عليه آثار ونتائج مضرة أكثر من الغفلة نفسها ،

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٨٣ ، ص ١٤.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٢٧٥٢.

٤ ـ غرر الحكم ، ح ٥٦٥١.

٥ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٢.

٣٣١

لأن«الغافلين» قد يقعون في دوامة الحوادث والمشاكل عن جهلٍ وعدم علمٍ بواقع الحال ، اما«المتغافل» فهو يخطو باتجاه هذه المشاكل عن وعي وعلم مسبق ، وبذلك تكون مسؤوليته الإلهية أكثر وظلم الناس له أشد.

اما«التغافل الايجابي» فهو أن يعيش الإنسان بحالة يخفي معها الأشياء الّتي ينبغي اخفاؤها ، أي أن يقوم الشخص باظهار عدم اطلاعه وعدم علمه بالأشياء الّتي يعلم بها ولكنَّ اظهارها له عواقب سيئة ، ويتصرف معها تصرف المتغافل ويمر عليها مرّ الكرام من موقع سعة الصدر وقوّة الشخصية ، لغرض حفظ ماء وجه الآخرين واحترامهم وحيثيتهم الاجتماعية.

ومن جملة موارد التغافل الايجابي هو اخفاء عيوب الآخرين ، فإنّ لكلّ شخص عيوباً وأخطاءً لا يحب أن يطلع عليها الآخرون ، ولذلك يسعى لكتمانها ، ولكن أحياناً يعلم بها بعض الأشخاص الأذكياء ، ففي مثل هذه الموارد يكون التغافل مطلوباً ، وفي الحقيقة هو نوعٌ من ستر العيوب الخفية الّتي لا ينبغي اظهارها إلّا في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بشكل لطيف ومستور أيضاً.

وهناك بعض الموارد يكون الكشف عن العيب فيها مؤدياً إلى تسقيط شخصية الأفراد وكذلك يؤدي إلى حث الآخرين على المعصية ، فالفضيحة قد تؤدي إلى زيادة الايغال في ارتكاب الذنوب ، وبعبارة اخرى : إذا زال حجاب الحياء عن المذنبين فإنّهم سوف يقدمون على ارتكاب الذنوب المختلفة ، ولهذا ففي مثل هذه الموارد يكون«التغافل» مانعاً عن تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية.

وببيان عام يمكن القول أنّ أحد الاصول المهمة بالحياة الهادئة والوادعة هي أن يعيش الإنسان«التغافل» عن بعض الامور لا سيّما بالنسبة إلى المدراء وأصحاب المناصب الحساسة في المجتمع حيث يجب عليهم الاستفادة من هذه المسألة بشكلٍ جيد لحلّ الكثير من المشاكل الّتي تعترضهم في عملهم الاجتماعي ، وهذا يعني انه كلّما احتاج الأمر إلى تحذير وتنبيه فعليهم أن يقوموا بهذا الأمر ، وكلّما احتاجت المسألة إلى«تغافل» لحلّها أو

٣٣٢

جعلها تراوح في مكانها ولا تنتشر وتتفشى وتتعاظم فإنه عليهم سلوك هذا الطريق ، ومن المعلوم ان المدير الّذي لا يرى للتغافل شيئاً حاسماً في سلوكه الإداري ولا يعير له اهتماماً فإنه سيوقع نفسه في مشاكل وصعوبات غير موجهة وبدون مبرر.

ولهذا السبب فإنّ الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام أكدوا على هذه المسألة في أفعالهم وأقوالهم ، فمثلاً نجد أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يتعامل مع بعض الامور من موقع التغافل بحيث أدّى ذلك إلى اعتراض بعض المسلمين الجهلة ، فمثلاً اعترضوا على النبي بأنه سريع التأثر بما يسمعه من كلمات من هنا وهناك ، فلو قيل له إنّ فلان يقول عنك كذا وكذا لأسرع في تصديقه وقبوله وأرسل خلف ذلك الشخص معاتباً إياه ، ولو أنّ ذلك الشخص أقسم له انه لم يقل هذا الكلام في حقّه لاسرع كذلك إلى تصديقه أيضاً.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية ٦١ من سورة التوبة ويقول( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) .

ومن البديهي أنّ نبي الإسلام مع كلّ ذلك الذكاء والحركة والدراية الّتي اعترف بها الأعداء والأصدقاء لم يكن بالشخص الساذج إلى هذه الدرجة ، بل كان يرى أنّ وظيفته في بعض الموارد هي«التغافل» وهذا التغافل يُعد مصدر رحمة لجميع المؤمنين.

التغافل في كلمات المعصومينعليهم‌السلام :

١ ـ ورد في الحديث المعروف عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام وكذلك الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام عن«التغافل» قولهم«صَلاحُ حالِ التَّعايُشِ وَالتَّعَاشُرِ مِلُ مِكْيَالٍ ثُلْثاهُ فِطَنَةٌ وَثُلْثُهُ تَغَافُلٌ» (١) .

هذه الرواية في الواقع ضمن تأكيدها على التغافل الايجابي تحذر الإنسان من التغافل السلبي ، ففي البداية تؤكد على الفطنة والانتباه واليقظة في الامور وترك الغفلة وأنّ ذلك يعد

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ٢٦٤. البقية غير مترجم.

٣٣٣

ثلثي مكيال المعاشرة ، ومفهومه هو أنّ الإنسان لا ينبغي أن يعيش الغفلة وعدم الاطلاع بالنسبة إلى مسائل الحياة والمعيشة بل يجب الانتباه واليقظة والتعامل مع الامور بدقّة متناهية ليحرز بذلك خيره وصلاحه ، ولكن من جهة اخرى يجب عليه أن يعيش«التغافل» بالنسبة إلى الامور الّتي ينبغي عليه التغافل عنها وجعلها في زاوية النسيان والاهمال من قبيل التفكير في المسائل الجزئية للحياة والّتي ليست بذات قيمة ، لأنّ التفكر في مثل هذه الامور والسفاسف بإمكانه أن يمنع الإنسان من التفكير في المسائل الأهم منها ، وكذلك اخفاء عيوب الآخرين المستورة في الموارد الّتي تستوجب المصلحة ذلك فإنّ التغافل في مثل هذه الموارد يعتبر أمراً محموداً.

٢ ـ وقد ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله«مِنْ اشْرَفِ اعمالِ الْكَريمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ» (١) .

٣ ـ وفي حديثٍ آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ وَلَا يَغُضَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الاموُرِ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ» (٢) .

وبديهي أنّ الحياة الدنيا لا تخلو من بعض الامور الّتي قد تحدث للإنسان من غير توقع أو لا تسير الحياة كما هو المطلوب وكما يريد لها الإنسان ، فلو أنّ الشخص قد تحرّك في تعامله مع الحياة من موقع الفحص والدقّة في جزئيات الامور وعاش الفضول في حياة الآخرين وأخذ يحاسبهم ويعاتبهم على كلّ صغيرة وكبيرة فإنّ حياته ومعيشته سوف تتنغص ويتفرق الآخرون من حوله.

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً حيث يقول«وَعَظِّموُا اقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِّيِ مِنَ الامُورِ وَلَا تَكوُنوا بَحَّاثِينَ عَمَّا غَابَ عَنْكُمْ ، فَيَكْثُرُ عَائِبُكُمْ وَتَكَرَّموُا بِالتّعَامِي عَنِ الاسْتِقْصَاءِ» (٣) .

ومن هذا الحديث وكذلك بعض الأحاديث الاخرى يستفاد جيداً أنّ هذا المفهوم«التغافل» لا يرد إلّا في الموارد الجزئية والصغيرة من سفاسف الحياة والواقع الاجتماعي.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم ٢٢٢.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٩١٤٩.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٦٤.

٣٣٤

وعلى هذا الأساس فإنّ«التغافل» لا يتقاطع مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والانتقاد البنّاء في حركة الحياة الاجتماعية لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلقان بالواجبات والمحرمات الّتي هي خارجة عن دائرة«التغافل» ، واما الانتقاد البنّاء فيتعلق بالامور المصيرية في حياة الفرد والمجتمع والّتي يترتب عليها نتائج مهمة ، في حين أنّ التغافل لا يتعلق بالامور الجسيمة وذات الأهمية أو الامور الّتي تكون المصلحة في سترها والتغاضي عنها.

٣٣٥
٣٣٦

١٧

البخل والشحّ

تنويه :

إن النعم والمواهب الإلهية على الإنسان تكون في كثيرٍ من الموارد أكثر من حاجة الإنسان نفسه بحيث يمكنه أن يسهم الآخرين بها ويشاركهم في الاستفادة منها بدون أي ضرر يُلحق به ، ولكنَّ بعض الناس وبسبب البخل والشح يمتنعون من ذلك ولا يجدون في أنفسهم رغبة في العطاء والجود بما لديهم من نِعم كثيرة ، وأحياناً يتحركون من موقع التفرج والتفاخر بهذه النعم والثروات الدنيوية إلى درجة أنّهم يثيرون حفيظة المحرومين ويجرحون قلوبهم بذلك وكأن هؤلاء يجدون لذّة خاصّة في إثارة المحرومين هؤلاء.

وأحياناً تقترن هذه الصفة مع حالة«الانانية» و«التكبر» و«الحرص» وأمثال ذلك من الصفات السلبية القبيحة.

إذا نظرنا إلى عالم الوجود من موقع التدبر والتأمل فسوف نشاهد آيات البذل والكرم والجود والانفاق في كلّ مكان ، الشمس تحترق دائماً وتبدل بعض وجودها إلى نور وحرارة وتُرسله إلى جميع المنظومة الشمسية حيث تعيش المخلوقات والأحياء بهذا النور الساطع وتستدفي بهذه الحرارة الكافية.

الأرض بدورها تُخرج ما في باطنها من أنواع الكنوز والمعادن الثمينة والمواد

٣٣٧

الغذائية والمياه الجوفية ، كلّ ذلك تضعه تحت اختيار الإنسان مجاناً وتعينه بذلك على مصاعب الحياة ، وهكذا الحال في سائر موجودات هذا العالم الفسيح فإنّ كلّ واحدة منها يعطي للإنسان ما لديه مظهراً بذلك كرمه وجوده.

ومضافاً إلى هذا العالم الكبير نرى في العالم الصغير ، أي الإنسان أيضاً نفس هذه المسألة ، فالقلب ، والجهاز التنفسي ، والمعدة ، العين ، الاذن ، اليد والرجل كلّها لا تعمل من أجل ذاتها فقط بل تخدم في حركتها وحياتها جميع أجزاء البدن ، فلا معنى للبخل في وجودها ، بل كلّما هناك هو الكرم والجود يترشح من جميع أجزاء البدن وجميع خلاياه.

في هذا العالم الّذي تحكم فيه معالم الكرم والسخاء فهل هناك من مكان للإنسان البخيل؟ ألا يتقاطع وجود هذا الإنسان البخيل مع عالم الوجود وبالتالي فإنه محكوم بالموت والاندثار والزوال؟

على هذا الأساس نرى ذمّ«البخل» ومدح«السخاء والكرم» بشكل واسع في الآيات والروايات الإسلامية حيث نرى أنّ«الجود والسخاء» بعنوان أنّهما من الصفات والأسماء الإلهية البارزة في عالم الوجود وتمثل سمة من سمات الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام أيضاً.

بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها ما يضفي على مفهوم«البخل» و«السخاء» ضوءاً وجلاءاً أكثر :

١ ـ( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .

٢ ـ( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ* وَلا يَسْتَثْنُونَ* فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) (٢) .

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٧٦ ـ ٧٧.

٢ ـ سورة القلم ، الآية ١٧ ـ ٢٠.

٣٣٨

٣ ـ( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) (١) .

٤ ـ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (٢) .

٥ ـ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) (٣) .

٦ ـ( وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) (٤) .

٧ ـ( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) (٥) .

٨ ـ( .. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٦) .

٩ ـ( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) (٧) .

١٠ ـ( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً ) (٨) .

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ٧٥ ـ ٧٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٨٠.

٣ ـ سورة النساء ، الآية ٣٧.

٤ ـ سورة الليل ، الآية ٨ ـ ١٠.

٥ ـ سورة محمّد ، الآية ٣٨.

٦ ـ سورة التغابن ، الآية ١٦ وسورة الحشر ، الآية ٩.

٧ ـ سورة الفرقان ، الآية ٦٧.

٨ ـ سورة الإسراء ، الآية ١٠٠.

٣٣٩

تفسير واستنتاج :

مصير البخلاء

«الآيات الاولى» من الآيات محل البحث تستعرض حادثة مهمة من الحوادث الّتي جرت على بني إسرائيل ، فكانت عبرة لمن اعتبر ذلك أنّ أحد أثرياء بني إسرائيل وبسبب البخل والتكبّر والغرور ، ابتلي بمصيرٍ عجيب وموحش.

لقد كان«قارون» من أقرباء النبي موسىعليه‌السلام ومن الوجوه والشخصيات الثرية المعروفة لبني إسرائيل ، وحسب الظاهر كان من أوّل المؤمنين بموسىعليه‌السلام أيضاً وكان مطلعاً وعارفاً بالتوراة ، ولكنه كان كمثل الكثير من الأثرياء انانياً ومحبّاً للدنيا وبعيداً عن الله ، وكان يحبّ بشكل عجيب اظهار ما لديه من الثروة أمام فقراء بني إسرائيل ، وكان في كلّ مرّة يظهر عليهم بزينته وثروته الهائلة يخفق قلوب أصحاب الدنيا وأهل الطمع من بني إسرائيل حتّى وصل بهم الأمر إلى أن يكون أملهم الوحيد أن يكونوا مثل قارون من حيث الثراء وكثرة المال.

يقول القرآن المجيد في هذه الآيات «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ»(١) .

لقد كان ظلمه وبغيه على قومه بسبب«البخل» الشديد حيث لم يكن راغباً في بذل شيءٍ منها ، وفي نفس الوقت كان يخرج على الناس والفقراء بزينته وثراءه الفاحش ويجد بذلك لذّة في نفسه ، والأمر الآخر أيضاً الّذي زاد من بغيه هو مخالفته الشديدة للنبي موسىعليه‌السلام وتعامله مع الفراعنة وخاصّةً عند ما طلب منه موسىعليه‌السلام اداء الزكاة.

وأساساً أنّ الأثرياء وأصحاب الدنيا لديهم علاقة شديدة في تقوية نفوذهم وقدرتهم في المجتمع ، وهذه العلاقة تارةً تكون بدافع من حبّ التكاثر ، واخرى بسبب الخوف من القدرات السياسية والاجتماعية الاخرى لكي لا يلحق بثروتهم الضرر من قبل هذه القدرات وقوى السيطرة والسلطة ، ولهذا السبب كانوا يقفون من الأنبياء ودعوتهم السماوية الّتي كانت تستوعب الناس وتظلهم تحت خيمة الحكومة الإلهية ، كانوا يقفون منها موقف العناد والرفض.

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٧٦.

٣٤٠