• البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12665 / تحميل: 1836
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

المعروف أنّه قال«لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشْوَرَتِكَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ» (١) .

وعلى هذا الأساس فإنّ عواقب الحرص ونتائجه وخيمة جداً في حياة الإنسان حيث يورثه البعد عن الله تعالى ويهدم مروئته ويكسر شخصيته ويسلب منه الراحة والطمأنينة وبالتالي يُفضي به الحرص إلى الوقوع في وحل الذنوب الكبيرة الاخرى فيبتعد يوماً بعد آخر عن السعادة والكمال المعنوي ويغدو أسيراً وذليلاً في قيود النفس الأمارة وأحابيل الشيطان ، وبكلمة واحدة انه يفقد دينه ودنياه.

١ ـ تعريف الحرص

بالرغم من أنّ معنى ومفهوم (الحرص) واضح للجميع إجمالاً ، ولكن الدقة والتوجه إلى مضمونه العميق يكشف لنا نقاط جديدة في دائرة هذا المفهوم.

يقول الراغب في مفرداته في تعريف الحرص بأنه بمعنى شدّة الرغبة والميل إلى شيء معيّن ، ويرى أنّ هذه الكلمة في الأصل تأتي بمعنى الضغط على اللباس عند غسله بالماء بواسطة ضربه بالخشبة وأمثال ذلك.

وقد ورد عن أمير المؤمنين تعبير جميل جداً في تعريف الحرص عند ما سُئل : ما هو الحرص؟ فقال«هُوَ طَلَبُ الْقَلِيلِ بِاضَاعَةِ الْكَثِيرِ) (٢) ويرى علماء الأخلاق أنّ الحرص من الرذائل الأخلاقية المتعلّقة بقوّة الشهوة وذكروا في تعريفه (أنّ الحرص صفة من الصفات النفسانية تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته ، وهو من شُعب حبّ الدنيا ومن الصفات المهلكة والأخلاق الفاسدة) ويمثلون للحرص بأنه كالصحراء المترامية الأطراف وكالأرض الموحشة الّتي لا حدود لها فكلّما سار فيها الحريص لا يصل إلى غايتها ومنتهاها.

(الحريص) يُقال لشخص مبتلياً بمرض ، مثل مرض الاستسقاء حيث كلّما شرب من الماء

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢ ـ سفينة البحار ، مادّة حرص.

٨١

فإنّ عطشه لا ينطفأ.

إنّ الشخص الحريص لا يقبل أي دليلٍ منطقي على سلوكياته ، فلو قيل له مثلاً إنك بلغت من العمر ثمانين سنة ولم يبق من عمرك إلّا القليل ، فلما ذا هذا الولع والشوق لجمع الأموال والثروات؟ وبالرغم من انه يفتقد الجواب الصحيح لهذا السؤال ولكنه يستمر في سلوكه الطفولي ولا ينتهي منه ، بل على العكس من ذلك حيث نرى أنّ بعض الناس يزداد حرصاً وطمعاً كلّما ازداد سناً وأوغل في مرحلة الشيخوخة ، كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم أنّه قال :«يُشِيبُ بْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ : الْحِرْصُ وَطُولُ الْامَلِ» (١) .

٢ ـ النتائج السلبية للحرص في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية

رأينا في الآيات والروايات الشريفة المذكورة سابقاً مدى النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص في واقع الإنسان ، ولذلك فإنّ مطالعتها تغنينا عن أي شرح وتفسير آخر في هذا المجال ومن ذلك :

١ ـ إنّ الحريص مُبتلى في التعب المستمر والعسر والحرج في حركة الحياة.

٢ ـ إنّ الحريص لا يشبع أبداً ، ولهذا فإنه لو ملك الدنيا بأجمعها فإنه يعيش عيشة الفقراء أيضاً.

٣ ـ إنّ الحريص يعيش عيّش الفقراء ويموت موت الفقراء ولكنه يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

٤ ـ إنّ الحرص يفضي بالإنسان إلى الهلكة لأن الإنسان الحريص وبسبب عشقه للدنيا ولزخارفها فانه لا يرى آفاق الخطر المحيطة بها بل يسارع إليها بكلّ عجلة وهلع.

٥ ـ إنّ الإنسان الحريص يكبل نفسه بقيود الماديات وأحابيلها ويزداد قربه من هذه القيود يوماً بعد آخر حتّى يوصد أمامه سبيل النجاة.

٦ ـ إنّ الحرص يذهب بشرف الإنسان وماء وجهه ويسقط حرمته ومروءته في أنظار الناس ، لأن الحريص ولغرض الحصول على مقصوده لا يلتزم بالاعراف الاجتماعية ولا

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٢.

٨٢

يتقيد بالقيم والمُثل والسلوكيات المعتبرة في المجتمع الانساني بل يعيش كالأسير المقيد بسلسلة من رقبته يقوده الحرص من هنا إلى هناك.

٧ ـ إنّ الحرص يؤدي بالإنسان إلى التلوث بأنواع الذنوب كالكذب ، الخيانة ، الظلم والعدوان وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك ، لأنّه إذا أراد مراعاة الحلال والحرام فإنه سوف لن يصل إلى مقصوده في حياته الدنيوية.

٨ ـ إنّ الحرص يتسبّب في إبعاد الإنسان عن الله تعالى ويورثه الصغار في أنظار عباده ويسلبه الطمأنينة والسكينة والهدوء النفسي فيعيش حياته مع العذاب الروحي والقلق المزمن.

٩ ـ إنّ الحريص يجمع الأموال والثروات الّتي يتحمل مسؤوليتها فقط بينما ينتفع بها الآخرون.

١٠ ـ إنّ الحرص إنّما هو نتيجة من نتائج سوء الظن بالله وفي نفس الوقت يعمق هذه الحالة لدى الإنسان ويؤكد في نفسه سوء الظن هذا.

٣ ـ غنى النفس

والملفت للنظر أنّ الإنسان الحريص يطلب الغنى من خارج ذاته ووجوده في حين أنّ أصل الغنى وحقيقته يجب أن يحصل عليها الإنسان من داخله.

وقد سُئل أحد العلماء عن حقيقة الغنى وعدم الحاجة والفقر فقال : أن تقصر من آمالك وترضى بما قسم لك.

وفي الحديث الشريف الوارد عن رسول الله وكذلك عن أمير المؤمنين أيضاً نقرأ هذا المضمون السامي في دائرة القيم الأخلاقية والمعنوية«خَيْرُ الْغِنىَ غِنَى النَّفْسِ» (١) .

وفي رواية اخرى عن رسول الله أنّه قال :«الْغِنَى فِي الْقَلْبِ ، وَالْفَقْرُ فِي الْقَلْبِ» (٢) .

أجل فإذا كانت روح الإنسان تعيش الجوع المعنوي بسبب الحرص فإنه لو ملك هذا

__________________

١ ـ الأمالي للصدوق ، ص ٣٩٤ ؛ غرر الحكم ، ح ٤٩٤٩.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٦٨.

٨٣

الإنسان الدنيا بحذافيرها فإنه يعيش فقيراً كذلك ، ولو أنّ روحه كانت تعيش الغنى الذاتي ولم يجد في نفسه الحاجة والطمع فإنه لو سُلب منه جميع ما في الدنيا فإنه يعيش الغنى كذلك.

٤ ـ الحرص المذموم والممدوح

إنّ مفردة (الحرص) تأتي في الموارد السلبية فعند ما تُطلق هذه الكلمة يراد منها الحرص على الأموال والثروة والمقام وسائر الشهوات المادية والدنيوية ، وذلك بسبب أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في هذه الموارد المذمومة والقبيحة.

ولكن أحياناً تستخدم هذه الكلمة في موارد إيجابية ونافعة وبذلك تستحق المدح ولا تكون من الأخلاق الرذيلة بل تُعد من الفضائل أيضاً وذلك عند ما تتحكم هذه الصفة في الإنسان في موارد الشوق والرغبة الشديدة في أعمال الخير والصلاح.

ومن جملة ما ذكر القرآن الكريم من فضائل نبي الإسلام هو حرصه على هداية الناس وانقاذهم من الضلال حيث يقول :( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (١) .

ويقول في مكان آخر :( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) (٢) .

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى والمضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم أيضاً(٣) .

وطبعاً وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مصاديق سلبية أيضاً.

أما في الروايات الإسلامية فإنّ كلمة«الحرص» وردت في موارد كثيرة إيجابية وفي ذلك يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته المعروفة في بيان صفات المتقين مخاطباً لهمّام

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ١٢٨.

٢ ـ سورة النحل ، الآية ٣٧.

٣ ـ سورة يوسف ، الآية ١٠٣ ؛ سورة النساء ، الآية ١٢٩.

٨٤

«فَمِنْ عَلَامَةِ احَدِهِمْ انَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ» (١) .

وورد في الروايات الشريفة موارد متعددة أنّ من علامات المؤمن هو حرصه على التفقه في الدين أو حرصه على الجهاد في سبيل الله أو الحرص على التقوى وأمثال ذلك(٢) .

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الباقر يقول«لَا حِرْصَ كَالْمُنَافِسَةِ فِي الدَّرَجَاتِ» (٣) .

وعلى هذا فإنّ للحرص مفهوم واسع ويأتي بمعنى شدّة العلاقة والرغبة بشيء معين بحيث يسعى جاهداً لتحصيله ، فلو وقع هذا الشيء في طريق الخير والسعادة والصلاح لكان ممدوحاً ، ولكن إذا وقع في طريق الدنيا وتحصيل المال والثروة والملذات الرخيصة فإنه يكون مذموماً كذلك ، ولكن الغالب في استعمال هذه الكلمة هو في الموارد السلبية والسلوكيات الذميمة.

٥ ـ علاج الحرص

من المعلوم أنه وفي علاج الأمراض البدنية لزوم الرجوع إلى الأسباب والجذور ، لأن العلاج بدون قطع جذور المرض لا ينفع على المدى الطويل وستبقى النتائج والآثار السلبية في وجوده ، وحتّى لو تمّ العلاج من خلال استخدام المهدئات والعلاجات المؤقتة فإنّ المرض سوف يتجلّى ويظهر بعد مدّة.

وهكذا الحال في الأمراض الأخلاقية ، فلا بدّ أوّلاً من التوغل لمعرفة جذور المرض ثمّ قطعها من الأساس.

وكما تقدّمت الإشارة إليه ، (وورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً) أنّ أحد جذور الحرص هو سوء الظن بالله وعدم التوكل عليه ، وكلّ ذلك يعود إلى اهتزاز اركان التوحيد الأفعالي لدى الإنسان.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ٢٧١ ، ح ٣ وص ٢٩٤ ، ح ١٨.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٥٨٩ ، ح ٣٦٤٦.

٨٥

فالشخص الّذي يعتقد بأن الله قادر ورازق وأنّ مفتاح الخيرات بيده فقط( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) فسوف لا يجد في نفسه حالة الحرص على جمع الأموال والنعم المادية الاخرى.

إنّ الشخص الّذي يعيش الإيمان الكامل بوعد الله تعالى وقوله :( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) (٢) فبدلاً من الحرص على جمع الأموال فإنه سيحرص على انفاقها في سبيل الله.

وعند ما تهتز أركان الإيمان في وجود الإنسان وخاصّة التوحيد الأفعالي فإنّ الصفات الرذيلة سوف تتجذر في نفس الإنسان وأخطرها الحرص ، وحينئذٍ فلا بدّ من تقوية أركان الإيمان لمنع تفشي هذه الصفة ورسوخ هذه الحالة السلبية في باطن الإنسان.

وأحد الأسباب الاخرى للحرص هو الجهل وعدم الاطلاع على حقائق الامور وما يترتب عليها من نتائج وآثار في الواقع العملي.

فإذا علم الإنسان أنّ الحرص يتسبّب في سلب طمأنينته وهدوئه في حركة الحياة وانه سيوقعه في العسر والشقاء والتعب الدائم ، وأنّ الحرص سوف يُهدم مروءته ويحطّم شخصيّته ويسقطه في أنظار الناس ، وأنّ الحرص يتسبب في أن يعيش عيشة الفقراء بالرغم من غناه الظاهري وأنّ ما جمعه من الأموال والثروات سينتفع به الآخرين ولكنه سيُسأل عنها يوم القيامة بالرغم من أنّ الآخرين هم الّذين ينتفعون بها في الدنيا.

أجل فإنّ الحريص إذا فكر في هذه النتائج والعواقب الوخيمة فإنّ ذلك سيؤثر في نفسه وروحه تأثيراً ايجابياً.

ويقول الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء : إعلم أنّ هذا الدواء مركّب من ثلاثة أركان«الصبر» و«العلم» و«العمل» ومجموع ذلك خمسة امور :

الأوّل وهو العمل : الاقتصاد في المعيشة والرفق في الانفاق ، فإنّ هذا القدر يتيسّر بأدنى

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ٢٦.

٢ ـ سورة النحل ، الآية ٩٦.

٨٦

جهد ويمكن معه الإجمال في الطلب ، فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة ونعني به الرّفق في الإنفاق وترك الفرق فيه.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«من اقتصد أغناه الله ، ومن بذّر أفقره الله ، ومن ذكر الله عزوجل أحبّه الله» (١) .

الثاني : أنّه إذا تيسّر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل الاستقبال ، ويعينه على ذلك قصر الأمل والتحقّق بأنّ الرّزق الّذي قدّر له لا بدّ وأن يأتيه وإن لم يشتدّ حرصه ، قال تعالى :( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ) (٢) .

الثالث : أن يعرف ما في القناعة من عزّ الاستغناء وما في الطمع والحرص من الذل فإذا تحقّق له ذلك إزدادت رغبته في القناعة لأنّه في الحرص لا يخلو من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس» (٣) .

الرابع : أن يكثر تأمّله في تاريخ بعض اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى ومن لا دين لهم ولا عقل ، ثمّ ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم ويقارن بينهم ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أرذل الخلق أو على الاقتداء بمن هو أعزُّ أصناف الخلق عند الله حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير.

الخامس : أن يفكر في مخاطر جمع المال والثروة من دون قيد أو شرط ، وكذلك في عواقب هذا العمل في الدنيا والآخرة ، وكذلك عليه أن يفكر في العواقب الحميدة التي تأتي من القناعة.

وعليه أن يفكر دائماً في أمور دنياه وينظر الى ما دونه من الخق ، لا أن ينظر الى من هم أعلى منه في الغنى ، لأن الشيطان يسوّل للانسان دائماً ويدعوه للنظر الى ما فوقه ، ويقول له في

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ص ٢٥٥٧.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٦٨.

٣ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ٣٣٨.

٨٧

وساوسه : ما ذا ينقصك حتى يكون فلاناً أغنى منك؟ لماذا لا تسعى لكي تصل الى ما هم فيه؟ أُنظر الى هؤلاء وقد غرقوا بالخير والنعمة وتمتعوا بلذائذ الدنيا؟! وأنت تفكر فقط في الخوف من الله ، وقد ضيقت على نفسك بالتزامك المستمر بالحلال والحرام ، هل أنت اكثر تدنياً من هؤلاء ام أنت أخوف منهم من الله؟!

قال أبو ذر : «أوصاني خليلي أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي ـ أي في الدنيا ـ».

٦ ـ إجابة عن شبهة

وهنا يمكن أن يتصور البعض أنّ الإسلام ومن خلال هذه الآيات والروايات المذكورة في هذا الباب لا يتلائم مع تطور الحياة المادية والدنيوية للناس أو أنّه ينظر إلى اصول التمدن المادي والتطور العلمي على مستوى الطبيعة بنظرة سلبية ، من خلال دعوته لاتباعه إلى التجرد عن الدنيا وعدم التعلّق بها ، في حين أنّ هذا التصور اشتباه كبير ، فالإسلام يتصدّى لمحاربة الحالات الأخلاقية السلبية في واقع الإنسان الّتي تنطلق من الحرص وحب الدنيا والتضحية بالقيم الأخلاقية والإنسانية من أجل الرفاهية الدنيوية واشباع الملذات الرخيصة ، لا أنّه يقف أمام استخدام الطاقات الفكرية والمواهب الطبيعية في عملية التطور العلمي في خط الكرامة الإنسانية وتوكيد حرية الإنسان من النوازع والأهواء النفسانية وتقوية القيم المعنوية.

وتوضيح ذلك : أنّ المواهب المادية في حد ذاتها هي أدوات ووسائل للوصول إلى المقاصد الاخرى وتحقيق طموحات الإنسان في حركة الحياة وليستفيد منها في الصعود في مدارج الكمال المعنوي والإنساني ، فلو انه استخدمها في غير هذا الغرض وتحرّك معها من موقع الأهواء والشهوات الرخيصة فسوف يبتعد بذلك عن الهدف من الخلقة ويسقط في مهاوي الرذيلة والانحطاط والتسافل الأخلاقي ، وهذه الامور تتقاطع مع التعاليم الإسلامية. ومثلها كمثل الأدوات الصناعية والمنتوجات المادية الّتي يمكن الاستفادة منها بوجهين ، فالطائرة يمكن الاستفادة منها للتنقل السريع وتسهيل وصول الإنسان إلى مقصده والتوسع

٨٨

في العمران وتأمين المعيشة ومساعدة الفقراء والمحتاجين وأمثال ذلك ، كما يمكن الاستفادة منها بطريقة اخرى وذلك بجعلها أداة حربية لقتل البشر وإلقاء القنابل على الأبرياء وتخريب المدن والقرى وإحراق الأخضر واليابس وإتلاف مواهب الطبيعة.

وعليه فلا ينبغي النظر إلى موقف الإسلام السلبي من حالة الحرص والطمع وحبّ الدنيا لدى الإنسان كذريعة لترك النشاطات الاقتصادية والتطور العلمي والصناعي وبالتالي يتحول معها الإنسان إلى شخص خامل وكسول ويتعامل مع الأحداث والمجتمع من موقع الانزواء والعزلة كما نلاحظ ذلك لدى بعض المتصوفة حيث يسلكون هذا المسلك بالتوسل بأمثال هذه المفاهيم الدينية والنصوص الإسلامية.

٨٩
٩٠

٥

حبّ الدنيا

تنويه :

إنّ أحد جذور(الحرص) وما يترتب عليه من عواقب وخيمة سبق أن ذكرناها في الفصل السابق ، هو حبّ الدنيا والتعلق بزخارفها وزبارجها.

فعند ما تتقد نار هذا الحب الدنيوي في أعماق الإنسان فسوف تقوده إلى أنواع الحرص والولع بالنسبة إلى المواهب المادية والدنيوية من قبيل سائر أنواع العشق الّذي يغطي على فكر الإنسان وعقله ويسوقه يوماً بعد آخر إلى السقوط في لجّة التلوث بالخطايا والالتصاق بالعالم السفلي.

ولهذا السبب فإنّ القرآن الكريم ومن أجل قطع جذور الحرص والولع قد تحرّك في آياته الكريمة من موقع ذمّ حبّ الدنيا والافراط في التوغل في ملذاتها والتشبّث بزخارفها والّذي يمثل الجذور الأصلية للحرص والطمع في بُعدهما السلبي ، ونقرأ في المفاهيم القرآنية تعبيرات مختلفة تحط من قدر الدنيا وقيمتها لكي يخفف ذلك من حب أهل الدنيا لها ويتحركوا بعيداً عن أجوائها ويتخلصوا بذلك من الحرص والطمع ولا يضحوا بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية على مذبحها.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضيء لنا

٩١

الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمة :

١ ـ إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلّا لعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال ، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعددة ، ففي قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) (١) .

وفي آية اخرى قوله تعالى( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ) (٢) .

وفي الحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلّا الاشتغال بالتوافه والسفاسف من الامور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.

بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال : إنّ السنوات الثمانية الاولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب ، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو ، والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال ، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر ، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد ، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره ، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.

٢ ـ ومن الآيات الاخرى في هذا المجال نرى مفهوم«متاع الغرور» بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى( ...وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) (٣) .

__________________

١ ـ سورة الأنعام ، الآية ٣٢.

٢ ـ سورة الحديد ، الآية ٢٠.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٨٥.

٩٢

ويقول في مكان آخر( ... فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) (١) .

وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع المهمة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية.

إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شيء منه أخيراً ، وهكذا حال التعلقات المادية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلّا أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة ، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظل يركض وراء السراب حتّى يهلك ، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وارهاقاً حتّى يهلك.

ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعند ما يحصلوا على شيء منها فانهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم إلّا وهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الاشواك والمنغصات وبدلاً من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والاضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.

٣ ـ وهناك طائفة اخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرر لنا هذه الحقيقة ، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة ، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة ، فتقول الآية الشريفة :( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) (٢) .

__________________

١ ـ سورة لقمان ، الآية ٣٣.

٢ ـ سورة الروم ، الآية ٧.

٩٣

فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلاً من أن يجعلونها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية ، يتخذون الدنيا بعنوان انها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم ، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الاخرى.

ويقول القرآن الكريم في آية اخرى :

( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) (١) ثمّ تضيف الآية( فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) (٢) أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الافق ومحدودية الفكر فانهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الاخرى الأبدية الّتي قرّرها الله تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.

٤ ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي(عرض) على وزن(غرض) بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغير والتبدل في جميع جوانبه وحالاته ، ومن ذلك قوله تعالى( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) (٣) .

وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبي الأكرم( ... تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) (٤) .

وفي آيات اخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية الخالدة والحياة الاخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله واشباع الملذات

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ٣٨.

٢ ـ سورة النساء ، الآية ٩٤.

٣ ـ سورة النساء ، الآية ٩٤.

٤ ـ سورة الأنفال ، الآية ٦٧.

٩٤

الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فان النعمة الحقيقية هي ما عند الله تعالى وما بقي فكلها(عرض) يقبل الزوال والاندثار.

وهذا التعبير هو في الحقيقة انذار لجميع طلاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيعونها في الامور الرخيصة والزائلة.

٥ ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادية بأنّها «زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(١) .

ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات اخرى أيضاً في قوله( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ») (٢) .

وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) (٣) .

وهذه التعبيرات توضح بصورة جيدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلّا زينة للحياة المادية ، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الامور الحياتية والمصيرية بتعبير(زينة) أو (زينة الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى والتافهة.

ومن الجدير بالذكر انه حتّى أنّ مفهوم(الزينة) نجده في آيات اخرى مبنياً للمجهول حيث ورد تعبير(زُيّن) وهذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية ووهمية.

مثلاً نقرأ في سورة البقرة الآية ٢١٢ قوله تعالى :( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ) .

ونقرأ في سورة آل عمران الآية ١٤ قوله تعالى :( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) .

__________________

١ ـ سورة الكهف ، الآية ٢٨ و ٤٦.

٢ ـ سورة هود ، الآية ١٥.

٣ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٢٨.

٩٥

هذه التعبيرات وتعبيرات اخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم (الزينة) في مثل هذه الموارد ما هي إلّا زينة وهمية وخيالية حيث يتوهم الناس من طلاب الدنيا انها زينة حقيقية وواقعية.

وهنا يتبادر سؤال مهم ، وهو انه لماذا جعل الله تعالى مثل هذه الامور زينة في أنظار الناس؟

ومن المعلوم أنّ الدنيا إنما جُعلت لتربية الإنسان واختباره وامتحانه لأن الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة والخادعة والّتي تكون مقرونة بالحرام والإثم غالباً من أجل الله تعالى والسير في خط التقوى والإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يعمق في نفسه روح التقوى والقيم الأخلاقية ويصعد به في مدارج الكمال المعنوي وإلّا فإنّ صرف النظر عن هذه الامور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً ومكرمة للإنسان.

وبعبارة أدق فإنّ التمايلات والرغبات الباطنية والأهواء النفسانية تزين للإنسان الامور المادية بزينة جميلة لكي تدعوه إلى ارتكاب الاثم وممارسة الحرام ، وعليه فإنّ هذه الزينة تنبع من ذات الإنسان ومن باطنه ، وعند ما نرى في الآيات الكريمة نسبة التزين إلى الله تعالى فذلك بسبب أنّ الله تعالى هو الّذي خلق هذه التمايلات والرغبات والأهواء الطاغية ، وعند ما نقرأ في بعض الآيات نسبتها إلى الشيطان الرجيم في قوله تعالى :( ...وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) (١) فذلك بسبب أنّ عملية التزيين هذه بالرغم من انها من جهة منسوبة إلى الله تعالى بسبب القانون العام في عالم الخِلقة ، إلّا أن إتّباع هذه الأهواء والشهوات من جهة هو عمل الشيطان الرجيم الّذي يسوّل للإنسان هذه الامور الخاطئة ليوقعه في الاثم والذنب.

وعلى أيّة حال فإنّ المستفاد من مجموع الآيات المذكورة أعلاه أنّ«حبّ الدنيا» إذا استقر في قلب الإنسان وبصورة مفرطة فإنه سيؤدي به إلى الابتعاد عن الله تعالى والغفلة عن الآخرة.

__________________

١ ـ سورة النمل ، الآية ٢٤.

٩٦

حبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية :

وقد ورد ذمّ الدنيا وحبها في الروايات الإسلامية كثيراً ولا سيّما ما ورد في كلمات النبي الأكرم وخطب نهج البلاغة بصورة واسعة ومفصّلة ومن ذلك :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما سُئل عن سبب تسمية الدنيا بالدنيا فقال«لِانَّ الدُّنْيَا دَنِيَّةٌ خُلِقَتْ مِنْ دُونِ الْآخِرَةِ» (١) .

٢ ـ وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال :«اكْبَرُ الْكَبَائِرِ حُبُّ الدُّنْيَا» (٢) .

٣ ـ ونفس هذا المعنى ورد في كلمات أمير المؤمنين حيث قال :«حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ الْفِتَنِ وَاصْلُ الْمِحَنِ» (٣) .

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر أيضاً عن الإمام علىعليه‌السلام قوله :«انَّ الدُّنْيَا لَمُفْسِدَةُ الدِّينِ وَمُسْلِبَةُ الْيَقِينِ» (٤) .

٥ ـ وورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«انَّ اوَّلَ مَا عُصِىَ اللهُ بِهِ سِتٌّ : حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ وَحُبُّ الطَّعَامِ وَحُبُّ النَّوْمِ وَحُبُّ الرَّاحَةِ» (٥) .

واغلب هذه الامور الستة أو جميعها نجدها متوفرة في قصة طغيان الشيطان الرجيم ومعصيته وترك الأولى لآدم ومعصية قابيل ، ولذا ذُكرت بأنّها أول الخطايا والمعاصي.

٦ ـ ونقرأ في حديث آخر أنّه سئل الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام :«ايُّ الْاعْمَالِ افْضَلُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» قال :«مَا مِنْ عَمَلٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ افْضَلُ مِنْ بُغْضِ الدُّنْيَا وَانَّ لِذَلِكَ لَشُعَباً كَثِيرَةً وَلِلْمَعَاصِي شُعَباً». ثمّ يذكر الإمامعليه‌السلام اصول المعاصي الثلاث وهي«الكبر» لدى إبليس ، و«الحرص» الّذي سبب في اخراج آدم وحواء من الجنة ، و«الحسد» الّذي دفع قابيل لأن يقتل أخاه ، ثمّ أضاف :«فتشعب من ذلك حبّ النساء وحبّ

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٥٤ ، ص ٣٥٦.

٢ ـ كنز العمّال ، ج ٣ ، ص ١٨٤ ، ح ٦٠٧٤.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٤٨٧٠.

٤ ـ غرر الحكم ، ح ٣٥١٨.

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٦٠.

٩٧

الدنيا وحبّ الرئاسة وحبّ الراحة وحبّ الكلام وحبّ العلو والثروة ، فصرن سبع خصال ، فاجتمعن كلهنّ في «حبّ الدنيا» فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

ثمّ إنّ الإمام ومن أجل التمييز بين الدنيا الممدوحة والمذمومة ذكر في نهاية الحديث«وَالدُّنْيَا دُنْيَا بَلَاغٍ وَدُنْيَا مَلْعُونَة» (١) .

٧ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب قوله«ارْفُضِ الدُّنْيَا فَانَّ حُبَّ الدُّنْيَا يُعمِي وَيُصِمُّ وَيُبْكِمُ وَيُذِلُّ الرِّقَابَ» (٢) .

ومن الطبيعي انه عند ما يتجذر العشق لشيء من الأشياء في وجود الإنسان فانه يجعله غافلاً عن أوضح الأشياء ، فتراه يتمتع بعين ولكنه لا يرى الوقائع ، وله اذن ولكنه لا يسمع ، وله لسان ولكنه لا يتحرّك إلّا بما يهيم في قلبه من العشق لذلك الشيء ، فتراه ومن أجل الوصول إلى محبوبه أي الدنيا فانه مستعد لأنّ يخضع إلى كلّ ذلة ومهانة.

٨ ـ وأيضاً نقرأ في الحديث الشريف بالنسبة إلى بيان الموارد السلبية لحبّ الدنيا قول أمير المؤمنينعليه‌السلام في الحكمة من هذا الحكم الإلهي«حُبُّ الدُّنْيَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ ، وَيُصِمُّ الْقَلْبَ عَنْ سُمَاعِ الْحِكْمَةِ وَيُوجِبُ الِيمَ الْعِقَابِ» (٣) .

٩ ـ ونقرأ في حديث آخر في بيان الآثار الضارة والمفاسد الكثيرة لحبّ الدنيا ما ورد عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«انَّ الدُّنْيَا مُشْغِلَةٌ لِلْقُلُوبِ وَالْابْدَانِ» (٤) .

١٠ ـ ونختم هذه البحث بحديث شريف آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو :«انَّهُ مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ الّا الْتَاطَ بِثَلَاثٍ : شُغْلٍ لَا يُنْفَدُ عَنَاؤُهُ ، وَفَقْرٌ لَا يُدْرَكُ غِنَاهُ ، وَأمَلٍ لَا يَنَالُ مُنْتَهَاهُ» (٥) .

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، باب حبّ الدنيا ، ح ١١.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٣٦.

٣ ـ غرر الحكم باللغة الفارسية ، ج ٣ ، ص ٣٩٧ ، رقم ٤٨٧٨.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٨١.

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١٨٨.

٩٨

الدنيا المطلوبة والدنيا المذمومة :

قلنا كراراً أن المقصود من حبّ الدنيا في هذا البحث هو ما يساوي العشق للدنيا لا الاستفادة المعقولة من المواهب المادية والطبيعية للتوصل بها إلى الكمال المعنوي فإنّ ذلك ليس من حبّ الدنيا قطعاً بل من حبّ الآخرة ، وبعبارة اخرى أنّ الكثير من البرامج المعنوية للسير في خطّ التكامل الإنساني لا تتسنّى بدون الامكانات المادية ، وفي الواقع أنّ هذه الامكانات المادية من قبيل مقدمة الواجب الّتي إذا أتى بها الإنسان بنيّة مقدمة الواجب ، فمضافاً إلى أنّها لا تكون عيباً فإنّها تكون مشمولة بالثواب الإلهي أيضاً.

ولهذا السبب نجد في الآيات القرآنية الكثيرة تعبيرات ايجابية عن مواهب الدنيا ، ومن ذلك :

ما ورد في آية الوصية من التعبير عن مال الدنيا به«خير» أي الخير المطلق حيث تقول الآية :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) .

٢ ـ ويقول في مكان آخر«بركات السماء والأرض» عن مواهب الطبيعة الّتي فتحها الله تعالى للمؤمنين وذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (٢) .

٣ ـ ونقرأ في مكان آخر التعبير عن المال والثروة بأنّها«فضل الله» كما ورد في سورة الجمعة :( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (٣) .

٤ ـ وفي آية اخرى ورد أنّ كثرة الأموال والثروات بأنّها ثواب من الله تعالى للتائبين كما ورد في قصة نوح :( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (٤) .

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٠.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية ٩٦.

٣ ـ سورة الجمعة ، الآية ١٠.

٤ ـ سورة نوح ، الآية ١١ و ١٢.

٩٩

وفي مكان آخر يقرر أنّ الأموال هي وسيلة للحياة ومحور للنشاطات الدنيوية للأقوام البشرية وتؤكد الآيات على عدم وضعها بيد السفهاء وتقول :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) (١) .

٥ ـ وفي مورد آخر يتحدّث القرآن الكريم عن وعد الله تعالى للمجاهدين في سبيله بالغنائم الكثيرة ويعدها من أنواع الثواب الإلهي لهم ويقول :( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) (٢) .

٦ ـ وفي موضع آخر من الآيات القرآنية الكريمة يتحدّث القرآن عن النعم المادية الدنيوية ويعبّر عنها ب(الطيبات) كما نقرأ في سورة الأعراف الآية ٣٢ قوله تعالى :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .

وفي مورد آخر يقول :( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

هذه التعبيرات العميقة وأمثالها من تعبيرات القرآن الكريم يُستفاد منها جيداً أنّ المواهب المادية والدنيوية في ظلّ ظروف خاصّة وأجواء متناسبة ليست فقط غير مطلوبة بل هي طيبة وطاهرة وباعثة على طيب البشر وطهارتهم.

٧ ـ ونقرأ في آيات اخرى عبارات تقرر أنّ الامكانات المادية مضافاً إلى انها من فضل الله على الإنسان يمكنها أن تكون سبباً للصعود بالإنسان إلى مرتبة الصالحين كما ورد في الآية ٧٥ من سورة التوبة :( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

هذه الآية الشريفة وبالنظر إلى شأن نزولها كما ورد في التفاسير انها نزلت في أحد الأنصار يُدعى«ثعلبة بن حاطب» الّذي طلب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو له بكثرة المال لينفق

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ٥.

٢ ـ سورة الفتح ، الآية ٢٠.

٣ ـ سورة الأنفال ، الآية ٢٦.

١٠٠