الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام37%

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 155

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25174 / تحميل: 3952
الحجم الحجم الحجم
الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان حفيده الإمام زين العابدين عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة يأكلون الفيىء(١) ، فاجعلهاأُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة أذا همّ أحدهم بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات ، فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة إذا همّ أحدهم بسيّئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كتبت سيّئة واحدة فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ إنّي أجد في الألواح أُمّة يؤتون العلم الأوّل والآخر ، ويقتلون مع المسيح الدّجال فاجعلها أُمّتي.

قال : تلك أُمّة أحمد.

قال : يا ربّ فاجعلني من أُمّة أحمد ، فأُعطي عند ذلك خصلتين.

فقال : «يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ »(٢) .

قال : قد رضيت يا ربّ(٣) .

والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّاً وللّه الحمد.

* * *

__________________

١ ـ الفيىء : الخراج والغنيمة ، المصباح المنير : ص ٤٨٦.

٢ ـ الأعراف : ١٤٤.

٣ ـ حلية الأولياء : ج ٥ ، ص ٣٨٥ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٤١

بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لا تَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ

عَظُمَ ، وَلاَ يَفُوتُهَا شَيْءٌ وَإِنْ لَطُفَ

«بقدرته» متعلّق بقوله : «منّ علينا» والقدرة فيها ، قوّة جسمانيّة منبثّة(١) في الأعضاء محرّكة لها نحو الأفعال الإختياريّة.

«والعجز» ما يقابل القدرة بهذا المعنى وهو عدمها عمّا من شأنه أن يقدر ، كما في حقّ الواحد منّا ، إذ لا يقال للجدار مثلاً إنّه عاجز وقدرته تعال تعود إلى إعتبار كون ذاته مصدر الإثارة(٢) ، هذا قول الجمهور.

«والشيىء» بحسب مفهومه اللغوي يقع على كلّ ما يصحّ أن يُعلم ويخبر عنه كائناً ما كان ، على أنّه في الأصل مصدر شاء ، أُطلق على المفعول ، وأكتفى في ذلك بإعتبار تعلّق المشيئة به من حيث العلم أو الإخبار به فقط ، فيتناول الواجب والممكن والممتنع ، وقد يخصّ بالممكن موجوداً كان أو معدوماً كما هنا لقضيّة إختصاص تعلّق القدرة ، به إذ المراد بها التمكّن من الإيجاد والإعدام الخاصّين به.

وذهب القاضي في جمع من الأشاعرة : إلى أنّ الشيىء يختصّ بالموجود ، وأنّ المعدوم لا شيء ولا ذات ولا ماهيّة ، وهو أيضاً مذهب الحكماء على ما نقل عنهم.

قالوا : «الشيىء» اسم لما هو حيقيقة الشيئيّة ، ولا يقع على المعدوم والمحال ، ولا علم بالمحال أصلاً إذ لا شيئيّة له ، ولا هو ممّا يتمثّل في ذهن أو يتصوّر في وهم ، وإنّما المعلوم المتصوّر المتمثّل في الذهن عنوان المفهوم من لفظه ، وهو ممكن ما من الممكنات ليس في إزائه حقيقة من الحقائق ، و

__________________

١ ـ منبثة : أي منتشرة.

٢ ـ الإثارة : القدرة.

٤٢

شيء من الأشياء أبداً ، وإلى الأوّل ذهب المعتزلة وجماعة من الأشاعرة.

قال الزمخشري والنيسابوري : الشيىء : أعمّ العام ، كما أنّ الله أخص الخاصّ يجري على الجوهر والعرض ، والقديم والحادث ، بل على المعدوم والمحال(١) .

وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ، ما لا تتعلّق القدرة به كالمستحيل والواجب وجوده لذاته(٢) .

وقال القطب العلّامة(٣) : كلّ من قال : بأنّ الوجود ، عين الماهيّة مثل الأشعري وأتباعه ، قال : بأنّ المعدوم ليس بشيىء لإنتفاء الماهيّة عند العدم ، ومن قال : بأنّ الوجود غيرها ، فهم قد اختلفوا في ذلك ، والنزاع انّما هو في المعدوم الممكن ، لا في المعدوم الممتنع فانّه ليس بشيىء عند الفريقين(٤) ، إنتهى.

وهذا لا يرد على ما صرّح به الزمخشري والنيسابوري لأنّ كلامهما بحسب مفهومه لغة ، وما ذكره من النزاع إنّما هو في الشيئيّة بمعنى التحقّق منفكّاً عن صفة الوجود ، لا في إطلاق لفظ الشيىء على مفهومه فإنّه بحث

__________________

١ ـ الكشاف : ج ١ ، ص ٨٧ ـ٨٨.

٢ ـ تفسير النيسابوري : ج ١ ، ص ٦٢.

٣ ـ هو قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي الشافعي الملقب بالعلّامة تلميذ الخواجه نصير الدين الطوسي. قيل : كان وحيد عصره في المعقول وكان في غاية الذكاء ، وله تلاميذ كثيرة وتصانيف شهيرة منها : شروحه على القسم الثالث من المفتاح ، وعلى المختصر الحاجي ، وعلى كليات ابن سيناء ، توفي بتبريز ٧١٠ هجرّية. الكنى والالقاب : ج ٣ ، ص ٥٩.

٤ ـ لا يوجد لدينا كتابه.

٤٣

لغوي مرجعه إلى النقل والسّماع لا يصلح محلاً لإختلاف العقلاء الناظرين في المباحث العلميّة ، ولهذا قال صاحب الكشف : النزاع في هذا لا ينبغي أن يقع بين المحقّقين لأنّه أمر لفظي ، والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة(١) ، إنتهى.

تبصرة

قال العلماء : معنى كون قدرته تعالى لا تعجز عن شيء ، وكونه على كلّ شيء قديراً : إنّ قدرته لا تعجز عمّا يمكن تعلّق القدرة به وأنّه على كلّ شيء يصحّ تعلّقها به قدير من كلّ ماهيّة إمكانيّة ، أو شيئيّة تصوّريّة.

وأمّا الممتنعات فلا ماهيّة لها ولا شيئيّة حتّى يصحّ كونها مقدورة له تعالى وليس في نفي مقدوريّتها نقص على عموم القدرة ، بل القدرة عامّة والفيض شامل والممتنع لا ذات له ، وإنّما يخترع العقل في وهمه مفهوماً يجعله عنواناً لأمر باطل الذّات ، كشريك الباري ، واللا شيء ، واجتماع النقيضين ، أو يركّب بين معان ممكنة آحادها تركيباً ممتنعاً ، فإنّ كلّاً من المتناقضين كالحركة والسكون أمر ممكن خارجاً وعقلاً ، وكذا معنى التركيب والإجتماع ، أمر ممكن عيناً وذهناً.

وأمّا اجتماع المتنافيين ، فلا ذات له في الخارج ولا في العقل ، لكنّ العقل يتصوّر مفهوم إجتماع النقيضين على وجه التلفيق ويجعله عنواناً ، ليحكم على أفرادهما المقدرة بامتناع الوجود. ومن هنا أُطلق على المستحيل أنّه شيء وإلّا فهو لا ماهيّة له ولا معنى ، فلا تعلّق للقدرة به.

وأمّا الحديث المشهور الذي رواه ثقة الإسلام في الكافي : عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن إسحاق الخفّاف ، أو عن أبيه ، عن محمّد بن إسحاق ،

__________________

١ ـ لم نعثر عليه.

٤٤

قال : إنّ عبد الله الدّيصاني سأل هشام بن الحكم ، فقال له : ألك ربّ؟ فقال : بلى ، قال : أقادر هو؟ قال ، نعم قادر قاهر ، قال : أيقدر أن يدخل الدّنيا كلّها في بيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام : النظرة ، فقال له : أنظرتك حولاً ، ثمّ خرج عنه ، فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له ، فقال : يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على الله وعليك ، فقال أبو عبد الله عليه السلام عمّا ذا سألك؟ فقال : قال لي : كيت وكيت ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : يا هشام كم حواسّك ، قال : خمس ، قال أيّها أصغر؟ قال : الناظر ، قال : وكم قدر الناظر؟ قال : مثل العدسة أو أقلّ منها ، فقال له : يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراريّاً وجبالاً وأنهاراً ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : إنّ الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها ، قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة ، فأكب هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه ، وقال : حسبي يا ابن رسول الله(١) . والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

ومثله ما رواه رئيس المحدّثين في كتاب التوحيد بسنده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : جاء رجل إلى الرضا عليه السلام فقال : هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال : نعم وفي أصغر من البيضة قد جعلها الله في عينك وهي أقلّ من البيضة لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ولو شاء لأعماك عنها(٢) .

__________________

١ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٧٩ ، ح ٤.

٢ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١١.

٤٥

فقال بعضهم : إنّ السؤال في ذلك وهو إدخال الكبير مع كبره في الصغير مع صغره ، وإن كان من قبيل المتنافيين ، فكان حقيقة الجواب عنه أن يقال : إنّ هذا أمر محال ، والمحال غير مقدور عليه ، إذ لا ذات له ولا شيئيّة ، إلاّ أنّه عليه السلام عدل عنه إلى ما ذكره لقصور الأفهام العامّية عن إدراك ذلك الوجه ، فالذي أفاده عليه السلام وجه إقناعيّ مبناه على المقدّمة المشهورة لدى الجمهور : انّ الرّؤية بدخول المرئيّات في العضو البصري فاكتفى في الجواب بهذا القدر لقبول الخصم له وتسليمه إيّاه.

قال : والذي يدلّ على صحّة ما حملنا عليه غرض هذا الحديث ما رواه في كتاب التوحيد عن أبي عبد الله : قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟

فقال : إنّ الله تعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون(١) .

وهذا الحديث صريح في أنّ الذي سأله ذلك الرجل ، ممتنع بالذات محال ، والمحال لا شيئيّة له ، فليس بمقدور والله على كلّ شيء قدير ، ولو لم يكن معنى الروايتين الأولتين ما أوّلناهما به ، لكان بين الأخبار تناقض ، وجلّت أحاديثهم عليهم السلام عن أن يناقض بعضها بعضاً ، لعصمة الجميع عن الخطأ.

ومثل الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ما رواه في كتاب التوحيد أيضاً بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام إنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغّر الأرض ولا يكبّر البيضة؟

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ٩.

٤٦

فقال له : ويلك إنّ الله لا يوصف بالعجز ، ومَن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظّم البيضة(١) .

فدلّت هذه الرواية : على أنّ إدخال العظيم أو تعظيم الصغير بنحو التكاثف والتخلخل وما يجري مجراهما وأنّ تلطيف الأرض إلى حدّ تدخل في البيضة ، أو تعظيم البيضة إلى حدّ تدخل فيها الأرض غاية القدرة.

وقال بعض المعاصرين : إنّ هذه الأحاديث كلّها متّفقة ، ولا تنافي ولا تناقض فيها ، وأنّ الجواب في كلّ منها بحسب ما يقتضيه المقام وحال السائل ، وكلامهم عليه السلام أصله واحد وقد أمروا أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم.

وبيان ذلك : إنّ الحديثين الأوّلين يدلّان على ما دلّ عليه الحديثان الآخران على وجه لطيف ومعنى شريف. وتوضيحه : إنّ الظاهر من حال الديصاني في الحديث الأوّل : إنّه كان مناظراً مجادلاً كما يظهر من سياق كلامه مع مثل هشام بن الحكم ، وجواب الإمام عليه السلام له على هذا النحو يدلّ على أنّه كان يعلم أنّ ما سأل عنه محال ، والقدرة لا تتعلّق بالمحال ، لنقصه عن الإستعداد لتعلّق القدرة به ، فعدوله عليه السلام إلى ما يدلّ على كمال القدرة مع وجوده ، وعدم لزوم المحال فيه ، مع كونه نظيراً لما أراده السّائل فيه ، تمام الفصاحة والبلاغة ، والإلزام لمن عرف عليه السلام من حاله أنّه يفهم ذلك ، وحال هشام في فهمه كحال الديصاني ، وإلاّ فمثل هشام مع العلم بحاله لا يخفى عليه أنّ السائل أراد غير ما أجابه عليه السلام به ولم يراجعه في ذلك لأجل دفع ما يورده السائل من أنّه أراد غير ما تضمّنه الجواب.

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١٠.

٤٧

وحاصل الكلام : إنّه عليه السلام نبّهه أنّ الله سبحانه قادر على أن يدخل الدنيا في البيضة مثل دخول ما تراه بناظرك في الناظر وهو بهذا القدر وذلك بحيث لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ، كما أنّ ما يراه الناظر يدخل تحت قدرته بحيث لا يكبر الناظر ولا يصغر ما ينظره.

وعلى هذا النحو ما في الحديث الآخر من قول الرضا عليه السلام «نعم وفي أصغر من البيضة قد جعلها الله في عينك وهي أصغر من البيضة»(١) .

ففيه تنبيه للسائل على كمال قدرته تعالى ممّا هو ممكن ، وغير محال ، وأنّ ما سأل عنه لا ينبغي أن يسأل عنه لما ذكر من كونه محالاً ، فظهر كون الأحاديث كلّها متّفقة لا تنافي فيها ، وإلّا فكيف يتصوّر أن يخفى على الإمام عليه السلام ما أراده السائل حتّى يجيبه بغير ما دلّ عليه سؤاله؟ ومع ذلك لا يفرّق هشام والسائل بين السؤال والجواب ، وينقل مثل هذا أجلاّء العلماء من غير تعرّض لدفع ما ذكر؟ وما ذلك إلّا لفهمهم وجه ذلك ، والله أعلم.

قوله عليه السلام : «وإن عظم» (إن) هذه هي التي يسميّها أكثر المتأخرين وصليّة ومتّصلة ، وذلك حيث وقع الشرط بها مدلولاً على جوابه بما قبله من الكلام ، وكان ضدّ الشرط أولى بجزائه من الشرط كقولك : أكرمه وإن شتمني ، فالشتم بعيد من الإكرام ، وضدّه وهو المدح أولى بالإكرام ، ومثله قوله : «وإن عظم» فإنّ كون الشيىء عظيماً بعيد في الظاهر عن القدرة عليه ، وضدّه وهو كونه لطيفاً أولى بالقدرة عليه ، ومثل إن في ذلك (لو) المستعملة في معناها نحو : «اطلبوا العلم ولو بالصين»(٢) .

__________________

١ ـ التوحيد : ص ١٣٠ ، ح ١١.

٢ ـ روضة الواعظين : ص ١١ ، في فضل العلم.

٤٨

و «الواو» قيل : للعطف على محذوف ، وهو ضدّ الشرط المذكور ، أي لا تعجز عن شيء إن لم يعظم وإن عظم.

وقيل : للحال ، والعامل فيها ، ما تقدّم من الكلام والمعنى : لا تعجز عن شيء والحال أنّه عظيم.

وقيل : ـ الجملة ـ إعتراضية ، والواو للإعتراض وهي قد تأتي بعد تمام الكلام.

وفيه إنّه لا يفيد إدخال الواو حينئذٍ كون الجزاء أولى من الشرط ، فإنّ واو الإعتراض هي الإستئنافية كما جزم به بعضهم.

«وعظم الشيىء» ـ بالضمّ ـ خلاف صغر ، عظماً ـ كعنب ـ وعظامة فهو عظيم.

قوله عليه السلام : «ولا يفوتها شيء وإن لطف» فاته الشيىء فوتاً وفواتاً : ذهب عنه ، ولطف ـ كعظم ـ ، لطفاً ـ بالضمّ ـ ، ولطافة : صغر حجمه ودقّ فهو لطيف ، أي لا يذهب عن قدرته شيء لصغره ودقّته كما لا يعجزها شيء لعظمه وكبره ، بل هو على كلّ شيء قدير عظيماً كان أو لطيفاً ، لعموم قدرته جلّ شأنه وعزّ سلطانه.

إكمال

قال بعضهم : الأولى في إثبات عموم قدرته تعالى ونحوه من المطالب التي لا يتوقّف إرسال الرسول عليها بالأدلّة السمعيّة فيستدلّ على شمول القدرة بقوله تعالى : «وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(١) .

واعترض المحقّق الدواني بأنّ كون شمول القدرة ممّا لا يتوقف عليه إرسال الرسول ، مسلّم إذا لو فرض قدرته على الإرسال فقط لكفى في

__________________

١ ـ الحشر : ٦.

٤٩

صدور الإرسال عنه ، لكن إثبات إرسال الرسول ممّا يتوقّف على شمول القدرة ، إذ طريق إثباته : إنّ المعجزة فعل الله تعالى خارق للعادة وقد صدر عنه حال دعوى النبوّة ، وإذا خالف الفاعل المختار عادته حين إستدعاء النبيّ تصديقه بأمر يخالف عادته دلّ ذلك على تصديقه قطعاً ، وهذا يتوقّف على كونه فعلاً له ، وكونه فعلاً له مثبت بشمول القدرة إذ لا دليل لنا على أنّ خصوص المعجزة فعل الله تعالى ومقدوره وإن زعمه المعتزلة ، واحتمال وجوده لا يجدي نفعاً فلا يتمّ هذا القول.

وأورد أنّه لا يكفي في ثبوت المعجزة كون الأمر الخارق للعادة فعل الله تعالى بل يتوقّف على العلم بأنّ الله تعالى لا يصدّق الكاذب ، وهم لا يقولون بالحسن والقبح العقليّين ، فيتوقّف على إخبار الرسول بذلك فيدور أيضاً.

ومن الأدلّة العقليّة على عموم القدرة إنّ علّة المقدوريّة عامّة في جميع الممكنات فالقدرة عامّة في جميعها ، أمّا أنّ علّة المقدوريّة عامّة في جميعها فلأنّ علّتها الإمكان ، وهو وصف مشترك في جيمع الممكنات ، فيكون جميعها مقدوراً له تعالى.

قال جدّنا العلّامة نظام الدين أحمد قدس سره : لو تم هذا الدليل لدلّ على أنّ قدرة العباد أيضاً عامّة ، فإنّ الإمكان علّة للمقدوريّة على الممكن للعبد أيضاً ، وإذا كانت علّة المقدوريّة عامّة في جميع الممكنات كانت قدرته أيضاً عامّة ولا قائل به أصلاً.

والمشهور في الإستدلال على ذلك : إنّ المقتضي للقدرة هو الذات ، والمصحّح للمقدوريّة هو الإمكان ، فإنّ الوجوب والإمتناع يحيلان المقدوريّة ونسبه الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت

٥٠

قدرته على بعضها ثبتت على كلّها. لكن هذا إنّما يتمّ إذا لم تكن الممكنات حال العدم ممتازة بعضها عن بعض ولا يكون لها مادّة كما هو مذهب الأشاعرة ، بل المحقّقين من المتكلّمين. أمّا على القول بأنّ لهاإمتيازاً حال العدم بأن يكون لها ثبوت دون الوجود فتكون ممتازة بعضها عن بعض حال العدم كما هو مذهب المعتزلة القائلين بالوجود الذهني ، وأنّ الموجودات الذهنّية لها ثبوت دون الوجود ، فيجوز أن يكون خصوصيّة بعض الممكنات في حال العدم مانعة عن تعلّق قدرته تعالى به ، فلا تكون نسبة الذات إلى الجميع على السواء ، وكذا على القول بأنّ لها مادّة كما هو مذهب الحكماء إذ يجوز أن تكون تلك المادّة معدّة لبعض الممكنات دون بعض ، فما أعدته المادة كان مقدوراً له تعالى دون غيره ، فلا تتساوى نسبة الذات إليها أيضاً على هذا القول.

أمّا إذا لم تكن الممكنات حالة العدم ممتازة بعضها عن بعض ولم تكن لها مادّة كانت نسبة الذات إلى جميعها على السواء فيثبت عموم القدرة عليها.

قال جدّنا العلّامة المذكور قدس سره : ويرد عليه أنّه على تقدير عدم ثبوت الممكنات حال العدم ، وعدم المادّة أيضاً ، يجوز أن يقال : لمّا كانت تلك الممكنات معلومة للواجب تعالى في الأزل ، كانت ممتازة بعضها عن بعض بحسب علمه ، فيمكن أن يقال : لم لا يكون خصوصيّة بعضها في علمه تعالى مانعة عن تعلّق قدرته به ، فلا تكون نسبة الذات إلى جميعها على السواء لابدّ لنفي ذلك من دليل. إنتهى(١) فتأمّل.

والحقّ : إنّ المعوّل في ذلك على الدليل السمعي وإجماع الأنبياء عليهم السلام

__________________

١ ـ إنتهى كلام نظام الدين أحمد.

٥١

الذين علموا ذلك بالوحي والعلم الشهودي ، كما قال تعالى مخاطباً لخاتم أنبيائه عليه وعليهم السّلام : «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(١) .

ولزوم الدور ، إنّما يرد على كون معرفة صدق النبي بالمعجزة موقوفاً على العلم بعموم القدرة ، لكن العلم الضروري العادي يحصل بمجّرد ظهور المعجزة على صدقه كما جزم به جدّنا الأعظم غياث الحكماء في رسالته : «دليل الهدى» ، ووافقه عليه بعض المحقّقين ، فيحصل العلم بالقدرة والعلم وعمومهما من أخبارهم عليهم السلام فاعرف ذلك وابن عليه أمثال هذه المطالب فإنّه السبيل الذي لا يضل بسلوكه الطالب ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

* * *

__________________

١ ـ البقرة : ١٠٦.

٥٢

فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَميعِ مَنْ ذَرَأَ ،

وَجَعَلَنَا شُهَدَآءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ ،

وَكَثَّرَنٰا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ.

«ختم الكتاب» من باب ـ ضرب ـ ، وختم عليه ختماً : وضع عليه الخاتم وهو الطابع(١) .

و «الباء» للسببيّة. قال ابن مالك في شرح التسهيل : وهي الداخلة على صالح الإستغناء به عن فاعل معدّاها مجازاً نحو : «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ »(٢) فلو قصد اسناد الإخراج إلى الهاء لحسن ، ولكنّه مجاز ، قال : ومنه : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكّين ، فإنّه يقال : كتب القلم وقطّعت السكّين. والنحويّون يعبّرون عن هذه الباء بالإستعانة ، وآثرت على ذلك التعبير بالسببيّة ، من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى ، فإنّ إستعمال السببيّة فيها يجوز وإستعمال الإستعانة لا يجوز(٣) .

و «ذرأ الله الخلق» ذرأ بالهمز من باب ـ نفع ـ : خلقهم.

قال ابن الأثير : وكأنّ الذرء مختصّ بخلق الذريّة(٤) إنتهى.

«والذريّة» ـ مثلّثة ـ نسل الثقلين. والمعنى إنّه تعالى جعلنا آخر جميع من خلق ، من الأنبياء واُممهم كما قال تعالى : «وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»(٥) فختمهم بنا ، فلا أُمّة بعدنا يرسل إليها رسول كما أنّ

__________________

١ ـ الطابع : بفتح الباء وكسرها : ما يطبع به ، المصباح المنير : ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

٢ ـ البقرة : ٢٢.

٣ ـ لا يوجد هذا الكتاب لدينا.

٤ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٢ ، ص ١٥٦.

٥ ـ فاطر : ٢٤.

٥٣

نبيّنا صلى الله عليه واله ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلا أحد ينبىء بعده ، ولا يقدح فيه نزول عيسى عليه السلام بعده ، لأنّه ممّن نبّىء قبله وحين ينزل إنّما ينزل عاملاً على شريعة محمّد صلى الله عليه واله مصلّياً إلى قبلته كأنّه بعض أُمّته.

قوله عليه السلام : «وجعلنا شهداء على من جحد» الشهداء : جمع شهيد ، فعيل بمعنى فاعل من شهد على الشيىء : اطّلع عليه وعاينه ، فهو شهيد وشاهد.

وجحده حقّه يجحده جحداً وجحوداً ، من باب ـ منع ـ : أنكره ، ولا يكون إلاّ على علم من الجاحد به ، وفي هذه الفقرة إشارة إلى قوله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا »(١) .

و «الوسط» في الأصل اسم لما تستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة ، ثم استعير للخصال المحمودة البشريّة ، لكن لا لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوسط محوّطة كما قيل ، فإنّ تلك العلّامة بمعزلٍ من الإعتبار في هذا المقام ، إذ لا ملابسة بينها وبين أهليّة الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور ، بل كون تلك الخصال ، أوساطاً للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط ، كالعفّة التي طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التي طرفاها : التهوّر والجبن ، وكالحكمة التي طرفاها : الجربزة والبلادة ، ثمّ اطلق على المتّصف بها مبالغة كأنّه نفسها ، وسوّى فيه بين المفرد والجمع والمذكّر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كساير الأسماء التي يوصف بها ، أي جعلناكم متّصفين بالخصال الحميدة ، خياراً ، عدولاً ، مزكّين بالعلم والعمل لتكونوا شهداء على

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٥٤

الناس بأنّ الله تعالى قد أوضح السبل فأرسل الرسل فبلّغوا ونصحوا إذ كنتم واقفين على الحقايق المودعة في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوال الأُمم أجمعين حاوياً لشرايط الشهادة عليهم.

روي أنّ الأُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم السلام فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبيّنة عليه على أنّهم قد بلّغوا ، وهو أعلم للحجّة على الجاحدين وزيادة لخزيهم ، فيؤتى باُمّة محمّد صلى الله عليه واله فيشهدون. فيقول الأُمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى عند ذلك بمحمّد صلى الله عليه واله ويُسئل عن أُمّته فيزكّيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى : «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا »(١) ومن الحكمة في ذلك ، تمييز أُمّة محمّد صلى الله عليه واله في الفضل عن ساير الأُمم حيث يبادرون إلى تصديق الله وتصديق الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك تقبل شهادتهم على الأُمم ولا تقبل شهادة الأُمم عليهم(٢) .

وإنّما لم يقل : ويكون الرسول لكم شيهداً ، مع أنّ شهادته لهم لا عليهم؟ لما في الشهيد من معنى الرقيب ، مثل : «وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(٣) مع رعاية المطابقة للأوّل وتقديم الظرف ، للدلالة على اختصاص شهادته عليه السلام بهم.

وقيل : إنّ هذه الشهادة في الدنيا وذلك أنّ الشاهد في عرف الشرع :

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ أنوار التنزيل : ج ١ ، ص ٨٧ ، مع اختلاف يسير في بعض العبارة وتفسير النيسابوري في هامش ، تفسير الطبري ج ٢ ، ص ١٢.

٣ ـ البروج : ٩.

٥٥

من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة فكلّ من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه ، فإنّ الشهادة : خبر قاطع ، وشهادة الأُمّة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأنّ عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل «جَعَلْنٰكُمْ» بلفظ الماضي فلا أقلّ من حصولها في الحال ، ثمّ رتّب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا.

فإن قيل : لعلّ التحمّل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة.

قلنا : المراد في الآية الأداء لأنّ العدالة إنّما تعتبر في الأداء لا في التحمّل ، ومن هنا يعلم أنّ إجماعهم حجّة لا بمعنى أنّ كلّ واحد منهم محقّ في نفسه بل هيئتهم الإجتماعيّة تقتضي كونهم محقّين ، وهذا من خواصّ هذه الأُمّة.

ثمّ لا يبعد أن يحصل لهم مع ذلك الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم مجرى التحمّل لأنّهم إذا بيّنوا الحقّ عرفوا عنده من القابل ومن الرادّ ثمّ يشهدون بذلك يوم القيامة كما أنّ الشاهد على العقود يعرف ما الذي تمّ ، ثمّ يشهد بذلك عند الحاكم أو يكون المعنى : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصحّ إلّا بشهادة العدول الأخيار.

قال النيسابوري : قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنّ وصف الأُمّة بالعدالة يقتضي إتّصاف كلّ واحد منهم بها ، وليس كذلك ، فلابدّ من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمّة المعصومين ، سلّمناه لكن الخطاب في جعلناكم للموجودين عند نزول الآية ، لأنّ خطاب من لا يوجد محال ، فالآية تدلّ على أنّ إجماع أولئك حقّ لكنّا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا يثبت صحّة الإجماع وقتئذٍ.

واُوجيب : بأنّ حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ،

٥٦

فلِمَ لا يجوز أن لا يكون الشخص مقبول القول عند الإنفراد ، ويكون مقبول القول عند الإجتماع! والخطاب لجميع الأُمّة من حين نزول الآية إلى قيام السّاعة كما في سائر التكاليف مثل : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ »(١) «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ »(٢) فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعيّة ، لكنّا لو اعتبرنا أوّل الأُمّة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذ لم يبق بعد إنقضائها من تكون الآية حجّة عليه فعلمنا ، إنّ المراد بها أهل كلّ عصر.

ثم إنّ الله تعالى منّ على هذه الأُمّة أن جعلهم خياراً وعدولاً عند الإجتماع ، فلو أمكن إجتماعهم على الخطأ لم يكن بينهم وبين سائر الأُمم فرق في ذلك فلا منّة ،(٣) إنتهى.

قلت : أمّا عدم إجتماعهم على الخطأ فمسلّم ، لكن لا من حيث عصمتهم حال إجتماعهم عن الخطأ كما يزعمه المخالفون القائلون بجواز الخلوّ عن المعصوم ، بل من حيث دخول المعصوم فيهم ، لأنّ تحقّق الإجماع كاشف عن دخوله ، والمسألة مستوفاة في كتب الأصول.

هذا والحقّ : انّ المراد بالشهادة ، الشهادة في الآخرة وبالشهداء الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، لما روي عن الصادق عليه السلام : إنّه قال : ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟ كلاّ لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الأُمّة

__________________

١ ـ البقرة : ١٨٣.

٢ ـ البقرة : ١٧٨.

٣ ـ تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري : ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٥.

٥٧

التي وجبت لها دعوة إبراهيم «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ »(١) وهم الأئمّة الوسطى وهم خير أُمّة اُخرجت للنّاس(٢) .

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل : بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي ، عن عليّ عليه السلام : إنّ الله تعالى إيّانا عنى بقوله : «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ »(٣) فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء على خلقه وحجّته في أرضه ، ونحن الذين قال الله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا »(٤) (٥) .

وروى ثقة الإسلام في الكافي بسنده ، عن بريد بن معاوية قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام قوله : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ »(٦) قال : نحن الأُمّة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجّته في أرضه(٧) .

وبسنده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نحن الشهداء على الناس بما عندهم من الحلال والحرام ، وبما ضيّعوا منه(٨) .

__________________

١ ـ آل عمران : ١١٠.

٢ ـ تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٦٣ ، ح ١١٤ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٣ ـ البقرة : ١٤٣.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

٥ ـ شواهد التنزيل للحسكاني : ج ١ ، ص ٩٢ ، ح ١٢٩.

٦ ـ البقرة : ١٤٣.

٧ ـ الكافي : ج ١ ، ص ١٩١ ، ح ٤ ، وفيه : عن بريد العجلي. وبصائر الدرجات : ص ١٠٢ ، ح ٣.

٨ ـ بصائر الدرجات : ص ١٠٢ ، ح ١ ، وتفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٣٣.

٥٨

وعلى هذا فالضمير في جعلنا ، من قوله «وجعلنا شهداء على من جَحَد» للأُمّة بإعتبار بعضهم الذين هم الأئمّة عليهم السلام.

قال بعض العلماء : فإن قلت : ما حقيقة هذه الشهادة وما فائدتها مع أنّ الله تعالى عالم الغيب والشهادة؟

قلت : أمّا حقيقتها : فيعود إلى إطّلاعهم صلوات الله عليهم على أفعال الأُمّة. وبيان ذلك : إنّ للنّفوس القدسيّة الإطّلاع على الاُمور الغيبيّة والإنتقاش بها مع كونها في جلابيب من أبدانها ، فكيف به قبل ملابستها لها وبعد مفارقتها لهذا العالم والجسم المظلم ، فإنّها إذن تكون مطّلعة على أفعال جميع الأُمم ومشاهدة لها من خير وشر.

وأمّا فائدتها : فقد علمت أنّ أكثر أحكام الناس وهميّة ، والوهم منكر للإلٰه على الوجه الذي هو الإلٰه ، فبالحري أن ينكر كونه عالماً بجزئيّات أفعال عباده ودقائق خطرات أوهامهم ، والظاهر أنّ ذلك الإنكار يستتبع عدم المبالاة بفعل القبيح والإنهماك في الاُمور الباطلة التي نهى الله تعالى عنها ، فإذا ذكر لهم أنّ عليهم شهداء ورقباء وكتّاباً لما يفعلون مع صدق كلّ ذلك بأحسن تأويل ، كان ذلك ممّا يعين العقل على كسر النفس الأمّارة بالسوء ، وقهر الأوهام الكاذبة ، ويردع النفس عن متابعة الهوى ، وإذا كان معنى الشهادة يعود إلى إطلاع الشاهد على ما في ذمّة المشهود عليه وعلمه بحقيقته وفائدتها حفظ ما في ذمّة المشهود عليه ، وتخوّفه إن جحد ، أولم يوصله إلى مستحقّه أن يشهد عليه الشاهد فيفضحه وينزع منه على أقبح وجه ، وكان المعنى والفائدة قائمين في شهادة الأئمّة عليهم السلام إذ بها تحفظ أوامر الله وتكاليفه التي هي حقوقه الواجبة ، ويحصل الخوف للمقصرين فيها بذكر شهادتهم عليهم بالتقصير

٥٩

فيفتضحوا في محفل القيامة ويستوفي منهم جزاء ما كلّفوا به فقصّروا فيه بالعقاب الأليم لا جرم ظهر معنى كونهم شهداءالله على خلقه.

قوله عليه السلام : «وكثّرنا بمنّه على من قلّ» كثرت الشيىء تكثيراً وأكثرته إكثاراً : جعلته كثيراً ، أي جَعَلَنا كثيرين وافرين العدد ، دون سائر الأُمم الذين هم قليلون بالنسبة إلينا ، وعدّى كثّر بـ (على) لتضمينه معنى التفضيل ، كأنّه قال : كثّرنا بمنّه مفضّلاً لنا على من قلّ.

وتكثيرنا ، إمّا بإعتبار كون شرعه عليه السلام مؤبداً إلى يوم القيامة ، فتكون أُمّته مستمرّة لا إنقطاع لها إلى إنقضاء الدنيا ، بخلاف سائر الأُمم ، أو باعتبار شمول رسالته إلى العرب والعجم والإنس والجنّ ، أو باعتبار البركة في النسل كما قال صلى الله عليه واله : «تناكحوا تناسلوا فإنّي مكاثر بكم الأُمم يوم القيامة»(١) ، أو باعتبار بقاء معجزه الذي هو القرآن إلى آخر الدهر.

وبالجملة ، فقد عدّ العلماء من خصائصه عليه السلام ، كونه أكثر الأنبياء تابعاً.

وروي عنه صلى الله عليه واله أنّه قال : «ما من الأنبياء نبيّ إلاّ اُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الذي اُوتيت وحياً أوحاه الله إلّي فأرجو أنّي أكثرهم تابعاً يوم القيامة»(٢) . وهذا الخبر يؤيّد الإعتبار الأخير. وفسّر قوله تعالى : «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ »(٣) بالكثير من أولاده وأتباعه عليه السلام.

ويحتمل : أن يراد بالكثرة : الثروة ، وبالقّلة : الفقر ، يقال : رجل مُكثر ،

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ج ١٥ ، ص ٩٦ ، ح ١٤ ، مع اختلاف يسير في العبارة ، وهكذا جاء في دعائم الإسلام : ج ٢ ، ص ١٩١ ، ح ٦٨٩.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٣٤١ ، و٤٥١ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

٣ ـ الكوثر : ١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بشئ من امرك، فخذ هاهنا، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسينعليه‌السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين اني اذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال له الحسينعليه‌السلام : ( أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوفه ابن عمه وقال:أين تذهب؟ فانّك مقتول ؛ فقال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرّجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وباعد(١) مجرما

فإن عشت لم اندم وان متّ لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسينعليه‌السلام في ناحية أخرى، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(٢) .

ثمّ مضى الحسينعليه‌السلام حتّى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال: ( لمن هذا؟ ) فقيل: لعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، فقال:( ادعوه اليّ ) فلما أتاه الرّسول قال له: هذا الحسين بن عليّ يدعوك، فقال عبيد الله: انّا لله وانّا اليه راجعون، والله ماخرجت من الكوفة الّا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرّسول فأخبره فقام الحسين عليه

__________________

(١) في هامش (ش) و (م): وخالف.

(٢) عذيب الهجانات: موضع في العراق قرب القادسية (معجم البلدان ٤: ٩٢ ).

٨١

السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَنا(١) أحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ: أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُعليه‌السلام من عندِه حتّى دخلَ رحله.

ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ: سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ، وهو يقولُ: «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِعليهما‌السلام على فرسٍ فقالَ: ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ؟ فقاَل: «يا بُنَيَّ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ: القومُ يسيرونَ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له: يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ؟ قالَ: «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال: فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه ».

فلما أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الرّكوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه، فارتفعوا فلم

__________________

(١) الواعية: الصارخة. « الصحاح - وعى - ٦: ٢٥٢٦ ».

٨٢

يزالوا يتياسرونَ كذاك حتّى انتهَوا إِلى نينَوى - المكانِ الّذي نزلَ به الحسينُعليه‌السلام - فإِذا راكبٌ على نجيبِ له عليه السِّلاحُ متنكِّبٌ قوساً مقبلٌ منَ الكوفةِ، فوَقَفُوا جميعاً ينتظَرونَه(١) فلمّا انتهى إِليهم سلّمَ على الحرِّ وأصحابِه ولم يسلِّمْ على الحسينِ وأصحابِه، ودفعَ إِلى الحرِّ كتاباً من عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ فإِذا فيه:

أمّا بعدُ فَجَعْجِعْ(٢) بالحسينِ حينَ يَبلُغُكَ كتابي ويقدمُ عليكَ رسولي، ولا تُنْزِلْه(٣) إِلاّ بالعراءِ في غيرِ حصنٍ وعلى غيرِماءٍ، فقد أمرتُ رسولي أن يَلزَمَك ولا يفُارِقَكَ حتّى يأْتيني بإِنفاذِكَ أمري، والسّلامُ.

فلمّا قرأ الكتابَ قالَ لهم الحرُ: هذا كتابُ الأَميرِ عُبيدِاللهِّ يأْمرُني أَن أُجَعْجِعَ بكم في المكانِ الّذي يأْتي كتابُه، وهذا رسولُه وقد أمرَه أَلاّ يفارقَني حتّى أُنَفّذَ أَمْرَه.

فنظرَ يزيد بنُ المهاجرِ الكنانيّ(٤) - وكانَ معَ الحسينِعليه‌السلام - إلى رسولِ ابن زيادٍ فعرفَه فقالَ له يزيدُ: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ، ماذا جئتَ فيه؟ قالَ: أَطعتُ إِمامي ووفيتُ ببيعتي، فقالَ له ابنُ المهاجرِ: بل عصيتَ ربَّكَ وأطعتَ إِمامَكَ في هلاكِ نفسِكَ وكسبتَ العارَ والنّارَ، وبئسَ الإمامُ إِمامكَ، قالَ اللّهُ عزَّ من قائلٍ

__________________

(١) في هامش «ش»: ينظرونه.

(٢) في الصحاح - جعجع - ٣: ١١٩٦: كتب عبيدالله بن زياد الى عُمربن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الاعرابي: يعني ضيّق عليه.

(٣) في « ش » و « م»: تتركه، وما في المتن من هامشهما.

(٤) في هامش « ش » و «م»: الكندي.

٨٣

 ( وَجَعَلنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُوْنَ إِلىَ النًارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصرُوْنَ ) (١) فإِمامُكَ منهم.

وأخذَهم الحرُّ بالنُّزولِ في ذلكَ المكانِ على غيرماءٍ ولا قريةٍ، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « دَعْنا - ويحك - ننزل في هذه القريةِ أوهذه - يعني نينَوَى والغاضِريّةَ - أو هذه - يعني شِفْنَةَ(٢) - » قالَ: لا واللّهِ ما أستطيعُ ذلكَ، هذا رجل قد بُعِثَ اليّ عيناً عليّ، فقالَ له زُهَيرُ بنُ القَيْنِ: إِنِّي واللّهِ ما أراه يكونُ بعدَ هذا الّذي تَرَوْنَ إِلا أَشدَّ ممّا تَرَوْنَ، يا ابنَ رسولِ اللّهِ، إِنّ قتالَ هؤلاءِ السّاعةَ أهونُ علينا من قتالِ من يأْتينا بعدَهم، فلعَمْري لَيَاْتيَنا بعدَهم ما لا قِبلَ لنا به، فقالَ الحسينعليه‌السلام : «ما كنتُ لأَبدأهم بالقتالِ » ثمّ نزل ؛ وذلكَ يومَ الخميسِ وهو اليوم(٣) الثّاني منَ المحرّمِ سنةَ إِحدى وستَينَ.

فلمّا كانَ منَ الغدِ قدمَ عليهم عُمَرُبنُ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ منَ الكوفةِ في أربعةِ آلافِ فارسٍ، فنزلَ بنينوى وبعثَ إِلى الحسينِعليه‌السلام ( عُروةَ بنَ قَيْسٍ )(٤) الأحمسيّ فقالَ له: ائتِهِ فسَلْه ما الّذي جاءَ بكَ؟ وماذا تريدُ؟

وكانَ عُروةُ ممّن كتبَ إلى الحسينِعليه‌السلام فاستحيا منه أن ياْتيَه، فعرضَ ذلكَ على الرؤَساءِ الّذينَ كاتبوه، فكلّهم

__________________

(١) القصص ٢٨: ٤١.

(٢) في هامش « ش » و «م»: شفَيّنة، شُفيّة. وكأنها شفاثا. في هامش «م» نسخة اُخرى:

(٣) في« م» و « ش»: يوم، وما في المتن من «ح » وهامش « ش».

(٤) انظر ص ٣٨ هامش (١) من هذا الكتاب.

٨٤

أبى ذلكَ وكرِهَه، فقامَ إِليه كَثيرُبنُ عبدِاللهِّ الشَّعْبِيّ وكانَ فارساً شُجاعاً لا يَرُدُّ وجهَه لشيءٌ فقالَ: أنا أذهبُ إِليه، وواللّهِ لئن شئتَ لأفْتكنَّ به ؛ فقالَ له عُمَرُ: ما أُريدُ أن تَفتكَ به، ولكنِ ائتِه فسَلْه ما الّذي جاءَ بك؟

فاقبلَ كثيرٌ إِليه، فلمّا رآه أبو ثمامةَ الصّائديُّ قالَ للحسينِعليه‌السلام : أصلَحَكَ اللهّ يا أَبا عبدِاللهِّ، قد جاءَكَ شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤهم على دم، وأفتكُهم(١) . وقامَ إِليه فقالَ له: ضَعْ سيفَكَ، قالَ: لا ولا كرامة، إِنّما أنا رسولٌ، فإِن سمعتم منِّي بلّغتُكم ما أرْسِلْتُ به إِليكم، وان أبَيتم انصرفتُ عنكم، قالَ: فإِنِّي آخذُ بقائِمِ سيفِكَ، ثمّ تكلّم بحاجتِكَ، قالَ: لا واللهِّ لا تمسَّه، فقالَ له: أخبرْني بما جئتَ به وأَنا أُبلِّغهُ عنكَ، ولا أدعُكَ تدنو منه فإِنّكَ فاجرٌ ؛ فاستَبّا وانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأخبرَه الخبرَ.

فدعا عمرُقُرّةَ بنَ قيسٍ الحنظليّ فقالَ له: ويحَكَ يا قُرّةُ، القَ حسيناً فسَلْه ما جاءَ به وماذا يريد؟ فأتاه قُرّةُ فلمّا رآه الحسينُ مقبلاً قالَ: «أتعرفونَ هذا؟» فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرِ: نعم، هذا رجلٌ من حنظلةِ تميم، وهو ابنُ أُختِنا، وقد كنتُ أعرَفه بحسنِ الرٌأي، وما كنتُ أراه يشهَدُ هذا المشهدَ. فجاءَ حتّى سلَّمَ على الحسينِعليه‌السلام وأبلغَه رسالةَ عمرِ بنِ سعدٍ إِليه، فقالَ له الحسينُ: «كَتبَ إِليَّ أهلُ مِصْرِكم هذا أن اقدم، فأمّا إِذ كرهتموني فأنا أنصرفُ عنكم » ثمّ قالَ حبيبُ بنُ مُظاهِر: ويحَكَ يا قُرّةً أينَ ترجعُ؟! إلى القوم الظّالمينَ؟! انْصُرْ هذا الرّجلَ الّذي بآبائه أيّدَكَ اللّهُ بالكرامةِ، فقالَ له قُرّةُ: أَرجعُ إِلى صاحبي

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأجرأُه على دم وأفتكه.

٨٥

بجواب رسالتِه، وأرى رأيي. قالَ: فانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأَخبرَه الخبرَ؛ فَقالَ عمرُ: أرجو أن يعافيَني اللهُ من حربه وقتالِه ؛ وكتبَ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ:

بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمَ، أمّا بعدُ: فإِنِّي حينَ نزلتُ بالحسينِ بعثتُ إِليه رسلي، فسألتُه عمّا اقْدَمَه، وماذا يطلبُ؟ فقالَ: كتبَ إِليَّ أَهْلُ هذه البلادِ، واتتْني رُسُلُهم يسألونَني القدومَ ففعلتُ، فأمّا إِذ كرهوني وبدا لهم غيرُما أتَتْني به رُسُلُهم، فأَنا منصرفٌ عنهم.

قالَ حسّانُ بنُ قائدٍ العَبْسيّ: وكنتُ عندَ عُبيدِاللهِّ حينَ أَتاه هذا الكتابُ، فلمّا قرأه قالَ:

ألآنَ إِذْ عَلِقَتْ مَخَالبنَا بِهِ

يَرْجُو النَّجَاةَ وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصِ

 وكتبَ إِلى عمربن سعدٍ:

أمّا بعدُ: فقد بلغَني كتابُكَ وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرِضْ على الحسينِ أَن يُبايعَ ليزيدَ هو وجميعُ أصحابه، فإِذا فعلَ هو ذلكَ رأينا رأيَنا، والسّلامُ.

فلمّا وردَ الجوابُ على عمر بن سعدٍ قالَ: قد خشيتُ ألاّ يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ.

ووردَ كتابُ ابنِ زيادٍ في الأثرِ إلى عمر بن سعدٍ: أن حُلْ بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ فلا يَذوقوا منه قطرةً، كما صُنعَ بالتّقيِّ الزّكيِّ عُثمان بن عفَّان. فبعثَ عمرُبنُ سعدٍ في الوقتِ عَمْرَو بنَ الحجّاجِ في خمسمائةِ فارس، فنزلوا على الشّريعةِ وحالوا بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ أن يَستَقُوا منه قطرةً، وذلكَ قبلَ قتل الحسين بثلاثةِ

٨٦

أيّامٍ، ونادى عبدُاللّه بن الحُصين(١) الأزديّ - وكانَ عِدادُه في بَجيلةً - بأعلى صوته: يا حسينُ، ألا تنظرُإِلى الماءِ كأنّه كَبدُ السّماءِ، واللّهِ لا تَذُوقونَ منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً؛ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «اللّهمَّ اقْتًلْهُ عَطَشاً ولا تَغْفِرْله أبداً».

قالَ حميدُ بنُ مسلمٍ: واللّهِ لَعُدْتُه بعدَ ذلكَ في مرضِه، فواللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لقد رأيتُه يَشرَبُ الماءَ حتّى يَبغَرَ(٢) ثمّ يقيئه، ويصيحُ: العطشَ العطش، ثمّ يعودُ فيشرَبُ الماءَ حتّى يَبْغَرَثم يقيئه ويتلَظّى عَطَشاً، فما زالَ ذلكَ دأبه حتّى (لَفَظَ نفسَه )(٣) .

ولمّا رأى الحسينُ نزولَ العساكرِ مع عمرِ بن سعدٍ بنينوى ومدَدَهم لقتالِه أنفذَ إِلى عمر بن سعدٍ: «انِّي أُريدُ أن ألقاكَ(٤) » فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً، ثمّ رجعَ عمرُ بنُ سعدٍ إِلى مكانِه وكتبَ إِلى عُبيَدِاللهِّ بن زيادٍ:

أمّا بعدُ: فإِنّ اللّهَ قد أطْفأ النّائرةَ وجَمَعَ الكلمةَ وأَصَلحَ أَمرَ الأمّةِ، هذا حسينٌ قد أَعطاني أن يرجِعَ إِلى المكانِ الّذي أتى منه أو أن يسيرَ إِلى ثَغرٍ منَ الثُّغورِ فَيكونَ رجلاًَ منَ المسلمينَ، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أَن يأَتيَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ فيضعَ يدَه في يدِه، فيرى فيما بينَه وبينَه رأيَه، وفي هذا[لكم](٥) رضىً وللأمّةِ صلاحٌ.

__________________

(١) في «م» وهامش « ش »: حِصْن.

(٢) بغر: كثر شربه للماء، انظر «العين - بغر - ٤: ٤١٥».

(٣) في هامش « ش »: مات.

(٤) في هامش « ش » بعده اضافة: واجتمع معك.

(٥) ما بين المعقوفين اثبتناه من تأريخ الطبري ٥: ٤١٤، والكامل لابن الأثير ٤: ٥٥

٨٧

فلمّا قرأ عُبيدُاللّهِ الكتابَ قالَ: هذا كتابُ ناصحٍ مشفق على قومِه. فقامَ إِليه شِمْرُ بنُ ذي الجَوْشنِ فقالَ: أتَقبلُ هذا منه وقد نزلَ بأرًضِكَ والى جنبكَ؟ واللّهِ لئن رحلَ من بلادِكَ ولم يَضَعْ يدَه في يدِكَ، لَيكونَنَّ أولى بالقَوّةِ ولتكونَنَّ أولى بالضَّعفِ والعجز، فلا تُعْطِه هذه المنزلةَ فإِنّها منَ الوَهْنِ، ولكن لِينَزِلْ على حُكمِكَ هو وأصحابُه، فان عاقبْتَ فأنت (أَولى بالعقوبةِ )(١) وإن عفَوْتَ كانَ ذلكَ لك.

قالَ له ابنُ زيادٍ: نِعْمَ ما رأيتَ، الرأيُ رأيُك، اخْرجُ، بهذا الكتاب إِلى عُمَر بن سعدٍ فلْيَعْرِضْ على الحسينِ وأصحابه النًّزولَ على حُكْمِي، فإِن فَعَلوا فليَبْعَثْ بهم إِليّ سِلماً، وأن هم أًبَوْا فليقاتلْهم، فإِن فَعَلَ فاسمعْ له وأطِعْ، واِن أبى أن يقاتِلَهم فأنتً أَميرُ الجيشِ، واضرِبْ عُنقَه وابعثْ إِليَّ برأسِه.

وكتبَ إِلى عمر بن سعدٍ:انِّي لم أبعثْكَ إِلى الحسينِ لتكفَّ عنه ولا لتُطاوِلَه ولا لتمنّيَه السّلامةَ والبقاءَ ولا لتَعتَذِرَ له ولا لتكونَ له عندي شافعاً، انظرْ فإِن نزلَ حسينٌ وأصحابُه على حكمي واستسلموا فابعثْ بهم إِليَّ سِلْماً، وِان أبوْا فازحَفْ إِليهم حتّى تقتُلَهم وتُمثِّلَ بهم، فإِنّهم لذلكَ مستحقُّونَ، وِان قُتِلَ الحسينُ فأوْطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه، فإِنّه عاتٍ ظلومٌ، وليس أَرى أنّ هذا يَضُرُّ بعدَ الموتِ شيئاً، ولكنْ عليّ قولٌ قد قلتُه: لوقتلتُه لفعلتُ هذا به، فإِن أنتَ مضيتَ لأَمرِنا فيه جزَيْناكَ جزاءَ السّامعِ المطيعِ، وإن أبيتَ فاعتزلْ عَمَلَنا وجُنْدَنا، وخلِّ

__________________

والنسخ خالية منه.

(١) في هامش «ش»: وليّ العقوبة.

٨٨

بينَ شمرِ بنِ ذي الجوشنِ وبينَ العسكرِ فإِنّا قد أمرناه بأمرنا، والسّلام.

فأقبلَ شمرٌ بكتاب عًبيدِاللّهِ إِلى عمربن سعدٍ، فلمّا قدمَ عليه وقرأَه قالَ له عمرُ: ما لَكَ ويْلَكَ؟! لا قَرَّبَ اللّهُ دارَكَ، قَبَّح اللهُ ما قَدِمْتَ به عليّ، واللّهِ إِنِّي لاظنُّكَ أنّكَ نهيتَه(١) أن يَقْبَلَ ما كتبتُ به إِليه، وأفسدتَ علينا أمْرنَا، قد كنّا رَجَوْنا أن يصلحَ، لا يستسلمُ واللّهِ حسينٌ، إِنَّ نفسَ أبيه لبَيْنَ جنبَيْه. فقالَ له شمرٌ: أخبِرني ما أَنتَ صانعٌ، أتمضِي لأَمرِ أميرِكَ وتقاتلُ عدوٌه؟ ِوألاّ فخلِّ بيني وبينَ الجندِ والعسكر؛ قالَ: لا، لا واللّهِ ولاكَرامةَ لكَ، ولكنْ أنا أتولىّ ذلكَ، فدونَكَ فكُنْ أنتَ على الرَّجّالةِ. ونهضَ عمرُبنُ سعدٍ إِلى الحسينِ عشيّةَ الخميسِ لتسعٍ مضَيْنَ منَ المحرّمِ.

وجاءَ شِمرٌ حتّى وقفَ على أصحاب الحسينِعليه‌السلام فقالَ: أينَ بَنُو أُختِنا؟ فخرجَ إِليه العبّاسُ وجَعْفَرٌ(٢) وعثمانُ بنوعليِّ بنِ أبي طالب عليه وعليهم السّلامُ فقالوا: ماتريدً؟ فقلَ: أنتم يابني أُختي امِنونَ ؛ فقالتْ له الفِتْيةُ: لَعَنَكَ اللهّ ولَعَنَ أمانَكَ، أتؤمِنُنَا(٣) وابنُ رسولِ اللّهِ لا أمانَ له؟!

ثمّ نادى عمرُ بنُ سعدٍ: يا خيلَ اللّهِ اركبي وأبشري، فركِبَ النّاس ثمّ زحفَ نحوَهمِ بعد العصرِ، وحسينٌعليه‌السلام جالسٌ أمامَ بيتِه مُحتب بسيفِه، إِذ خفقَ برأسِه على ركبتَيْه، وسمعَتْ أُختُه

__________________

(١) في هامش «ش»، و « م»: ثنيته.

(٢) في هامش «ش»: وعبدالله، وفوقه مكتوب: لم يكن في نسخة الشيخ.

(٣) في «م» وهامش «ش»: تؤمنَنا.

٨٩

الصّيحةَ(١) فدنَتْ من أَخيها فقالت: يا أخي أما تسمعُ الأصواتَ قدِ اقتربتْ؟ فرفعَ الحسينُعليه‌السلام رأسَه فقالَ: «إِنِّي رأيتُ رسولَ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعةَ في المنام(٢) فقالَ لي: إِنّكَ تَرُوحً إِلينا» فلطمتْ أُختُه وجهَها ونادتْ بالويلِ، فقَالَ لها: «ليسَ لكِ الويلُ يا أُخيَّةُ، اسكتي رحمَكِ اللّهُ » وقالَ له العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمةُ اللّهِ عليه: يا أخي أتاكَ القومُ، فنهضَ ثمّ قالَ: «يا عبّاسُ، اركَبْ - بنفسي أنتَ يا أخي - حتّى تَلْقاهم وتقولَ لهم: ما لكم وما بَدا لكم؟ وتسألَهم عمّا جاءَ بهم ».

فأتاهم العبّاسُ في نحوٍ من عشرينَ فارساً، منهم(٣) زُهَيرُ بن القَيْنِ وحبيبُ بنُ مظاهِرٍ، فقالَ لهم العبّاسُ: ما بدا لكم وما تريدونَ؟ قالوا: جاءَ أًمرُ الأميرِأَن نَعْرضَ عليكم أن تنزلوا على حكمِه أَو نناجِزَكم ؛ قالَ: فلا تعجلوا حتّىَ أَرجعَ إِلى أبي عبدِاللهِّ فأعرِضَ عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: الْقَه فأعْلِمْه، ثمّ الْقَنا بما يقولُ لكَ. فانصرفَ العباسُ راجعاً يركضُ إِلى الحسينِعليه‌السلام يخبرُه الخبرَ، ووقفَ أَصحابُه يخاطِبونَ القومَ ويَعِظُونَهم ويكفّونَهم عن قتاَلِ الحسينِ.

فجاءَ العبّاسُ إِلى الحسينِعليه‌السلام فأخبرَه بما قالَ القومُ، فقالَ: «ارجعْ إِليهم فإِنِ استطعتَ أَن تُؤَخِّرَهم إِلى الغُدْوَةِ(٤) وتَدْفَعَهم

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: الضجّة.

(٢) في «م» وهامثر «ش»: منامي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: فيهم.

(٤) في «م» وهامش « ش »: غدوة.

٩٠

عنّا العشيّةَ، لعلّنا نصلِّي لربِّنا الليلةَ وندعوه ونستغفرُه، فهو يَعلمُ أَنَي قد أُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِه والدُّعاءَ والاستغفارَ».

فمضى العبّاسُ إِلى القوم ورجعَ من عندِهم ومعَه رسولٌ من قبَل عمر بن سعدٍ يقول: إِنّا قد أجَّلناكم إِلى غدٍ، فإِنِ استسلمتم سرَّحْناكم إلى أميرِنا عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، وإِن أَبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرفَ.

فجمعَ الحسينعليه‌السلام أَصحابَه عندَ قربِ المساءِ. قالَ عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدينَعليه‌السلام : «فدنوتُ منه لأَسْمَعَ ما يقولُ لهم، وأَنا إِذ ذاك مريضٌ، فسمعتُ أَبي يقولُ لأصحابِه: أُثني على اللهِّ أَحسنَ الثّناءِ، وأَحمده على السّرّاءِ والضّرّاءِ، اللّهمَّ إِنِّي أحْمَدُكَ على أن أكرمْتَنا بالنُّبُوّةِ وعَلّمتنَا القرآنَ وفَقَّهْتَنَا في الدِّينِ، وجعلت لنا أسماعاً وأَبصاراً وأَفئدةً، فاجعلْنا منَ الشّاكرينَ.

أَمّا بعدُ: فإِنِّي لا أَعلمُ أَصحاباً أَوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أَهلَ بيتٍ أَبرَّ ولا أوصلَ من أَهلِ بيتي فجزاكم اللّهُ عنَي خيراً، أَلا وإِنَي لأَظنَّ أَنّه اخرُ(١) يومٍ لنا من هؤلاءِ، أَلا وإِنّي قد أَذنت لكم فانطلِقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منِّي ذِمامٌ، هذا الليلُ قد غشِيَكم فاتّخِذوه جَملاً.

فقالَ له إِخوتُه وابناؤه وبنوأخيه وابنا عبدِاللهِّ بنِ جعفرٍ: لِمَ نفعلُ ذلكَ؟! لنبقى بعدَكَ؟! لا أَرانا اللهُّ ذلكَ أبداً. بدأهم بهذا القولِ العبّاس بنُ عليٍّ رضوانُ اللهِّ عليه واتّبعتْه الجماعةُ عليه فتكلّموا بمثله ونحوِه.

__________________

(١) في «ش» و «م»: لأَظن يوماً. وما اثبتناه من «ح ».

٩١

فقالَ الحسينُعليه‌السلام : يا بني عقيلٍ، حَسْبُكم منَ القتلِ بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد اذِنْتُ لكم. قالوا: سبحانَ اللهِ، فما يقولُ النّاسُ؟! يقولونَ إِنّا تركْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتنا - خيرِ الأعمامِ - ولم نرْمِ معَهم بسهِمٍ، ولم نطعنْ معَهم برُمحٍ، ولم نضْرِبْ معَهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا، لا واللّهِ ما نفعلُ ذلكَ، ولكنْ ( تَفْدِيكَ أنفسُنا وأموالنُا وأهلونا )(١) ، ونقاتل معَكَ حتّى نَرِدَ موردَكَ، فقَبحَ الله العيشَ بعدَكَ.

وقامَ إِليه مسلمُ بنُ عَوْسَجةَ فقالَ: أنُخلِّي(٢) عنكَ ولمّا نُعذِرْإِلى اللهِ سبحانَه في أداءِ حقِّكَ؟! أما واللهِّ حتّى أطعنَ في صُدورِهم برمحي، وأضربَهم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أُقاتلُهم به لقَذَفْتهم بالحجارةِ، واللهِّ لا نُخلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنْ قد حَفِظْنا غيبةَ رسولِ اللّهِ(٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكَ، واللّهِ لوعلمتُ أنِّي أُقْتَلُ ثمّ أحيا ثم أُحرقُ ثم أحيا ثم أُذَرَّى، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرة ما فارقتُكَ حتّى ألقى حِمامي دونَكَ، فكيفَ لا أفعلُ ذلكَ ِوانّما هي قَتْلةٌ واحدةُ ثمّ هي الكَرامةُ الّتي لا انْقِضاءَ لها أبداً.

وقامَ زُهَيرُ بنُ القَيْن البجليّ - رحمةُ اللهِّ عليهِ - فقالَ: واللهِ لوَددْتُ أنِّي قُتِلْتُ ثمّ نُشِرْتُ ثمّ قُتِلْت حتّى أًقتلَ هكذا ألفَ مرّةٍ، وأَنّ الله تعالى يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِكَ، وعن أنفُسِ هؤلاء الفِتْيانِ من أهل بيتِكَ.

__________________

(١) كذا في «م» وهامش «ش»، وفي «ش»:(نُفدّيك أنفسنا وأموالنا وأهلينا).

(٢) في «م» وهامش «ش»: أنحن نخلي.

(٣) في هامش «ش»: رسوله.

٩٢

وتكلّمَ جماعةُ أصحابه(١) بكلام يُشبهُ بَعضُه بعضاً في وجهٍ واحدٍ، فجزّاهم الحسينُعليه‌السلام خيراً وَانصرفَ إلى مضِربه(٢) ».

قالَ عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام : «اِنيّ لَجالسٌ في تلكَ العشيّةِ الّتي قُتِلَ أبي في صبيحتِها، وعندي عمّتي زينبُ تمرّضني، إِذِ اعتزلَ أبي في خباءٍ له وعندَه جُويْنٌ مولى أبي ذرٍّ الغفار وهويُعالجُ سيفَه ويُصلِحُه وأبي يقولُ:

يَادَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ

كَمْ لكَ بالإشراقِ وَالأصِيْلِ

مِنْ صَاحِبٍ أوْ طَالِبِ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالْبَدِيْل

وانَّمَا الأمْرُ إِلى الجَلِيْلِ

وَكلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيْلِيْ

 فأعادَها مرّتينِ أو ثلاثاً حتّى فهِمْتُها وعَرفْتُ ما أرادَ، فخنقَتْني العَبْرةُ فردَدْتُها ولزمتُ السُّكوتَ، وعلمتُ أنّ البلاءَ قد نزلَ، وأمّا عمّتي فإنهّا سَمِعَتْ ماسَمِعْتُ وهيَ امرأةٌ ومن شاْنِ النساءِ الرّقّةُ والجَزعُ، فلم تَملِكْ نفسَها أنْ وَثَبَتْ تجرُّثوبَها(٣) وأنّها لَحاسرة، حتّى انتهتْ إِليه فقالتْ: وا ثكْلاه! ليتَ الموتَ أعدمَني الحياةَ، اليومَ ماتْتْ أُمِّي فاطمةُ وأبي عليّ وأخي الحسنُ، يا خليفةَ الماضِي وثِمالَ الباقي. فنظرَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فقالَ لها: يا أُخيَّةُ لا يذْهِبَنَ حلمَكِ الشّيطانُ، وتَرَقْرَقَتْ عيناه بالدُموعِ وقالَ: لو تُرِكَ القَطَا لَنامَ(٤) ؛ فقالتْ: يا ويلتاه!

__________________

(١) في هامش «ش»: من أصحابه.

(٢) المضرب: الفسطاط أو الخيمة «القاموس المحيط - ضرب ١: ٩٥».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ذيولها.

(٤) يضرب مثلاًَ للرجل يُستثار فيُظْلَم. انُظر جمهرة الامثال للعسكري ٢: ١٩٤ / ١٥١٨.

٩٣

أفتُغتصبُ نفسُكَ اغتصاباً؟! فذاكَ أقْرَحُ لِقَلبي وأشدَّ على نفسي. ثمّ لطمتْ وجهَها وهَوَتْ إلى جيبِها فشقّتْه وخرتْ مغشيّاً عليها.

فقامَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فصبّ على وجهها الماءَ وقالَ لها: يا أُختاه! اتّقي اللهَّ وتعَزَيْ بعزاءِ اللّهِ، واعْلمي أنّ أهَلَ الأرضِ يموتونَ وأهلَ السّماءِ لا يَبْقَوْنَ، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهَ اللهِّ الّذي خلقَ ألخلقَ بقدرتهِ، ويبعثُ الخلقَ ويعودونَ، وهو فردٌ وحدَه، أبي خيرٌ منِّي، وأُمِّي خيرٌ منِّي، وأخي خيرٌ منِّي، ولي ولكلِّ مسلمٍ برسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوةٌ. فعزّاها بهذا ونحوِه وقالَ لها: يا أُخيّةُ إِنِّي أقسمتُ فأبِرِّي قَسَمي، لا تَشُقِّي عليَّ جيبأً، ولا تَخْمشي(١) عليَّ وجهاً، ولا تَدْعِي عليٌ بالويلِ والثّبورِ إِذا أنا هلكتُ. ثمّ جاءَ بها حتّى أجلسَها عنديّ.

ثمّ خرجَ إِلى أصحابه فأمرَهم أَن يُقَرِّبَ بعضُهم بيوتَهم من بعضٍ، وأن يُدخِلوا الأطنابَ بعضها في بعضٍ، وأن يكونوا بينَ البيوتِ، فيستقبلونَ القومَ من وجهٍ واحدٍ والبيوتُ من ورائهم وعن أيْمانِهم وعن شمائِلهم قد حَفّتْ بهم إلاّ الوجهَ الّذي يأْتيهم منه عدوُّهم.

ورجعَعليه‌السلام إِلى مكانِه فقامَ الليلَ كلَّه يُصلّي ويستغفرُ ويدعو ويتضرّعُ، وقامَ أصحابُه كذلكَ يُصَلًّونَ ويدعونَ ويستغفرونَ »(٢) .

__________________

(١) خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضواً منه. «القاموس - خمش - ٢: ٢٧٣».

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ١، ٢.

٩٤

قالَ الضحّاكُ بنُ عبدِاللهِّ: ومرَّ بنا خيلٌ لابنِ سعدٍ يحرسُنا، وِانَّ حسيناً لَيقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا أنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْمَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين * مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْن عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّب ) (١) فسمعَها من تلكَ الخيلِ رجلٌ يُقالُ له عبداللهّ بن سُميرٍ(٢) ، وكانَ مَضحاكاً وكانَ شجاعاً بطلاًَ فارساً فاتكاً شريفاً فقالَ: نحن وربِّ الكعبةِ الطّيِّبونَ، مُيِّزْنا منكم. فقالَ له بَرِيرُ بنُ خُضيرٍ: يا فاسقُ أَنتَ يجعلُكَ اللهُّ منَ الطّيِّبينَ؟! فقالَ له: من أنتَ ويلَكَ؟ قال: أنا بَرِيرُ بنُ خُضَيْرِ، فتسابّا(٣) .

وأصبحَ الحسيُن بنُ عليّعليهما‌السلام فعبّأَ أصحابَه بعدَ صلاةِ الغداةِ، وكانَ معَه اثنان وثلاثونَ فارساً واربعونَ راجلاًَ، فجعلَ زُهيرَ بنَ القينِ في مَيْمَنةِ أصحابِه، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في مَيْسَرةِ أصحابه، وأعطى رايتَه العبّاسَ أخاه، وجعلوا البيوتَ في ظهورِهم، وأمرَ بحَطًبِ وقَصَبٍ كانَ من وراءِ البيوتِ أَن يُتركَ في خَنْدَقٍ كانَ قد حُفِرَ هناكَ وَأن يُحرَقَ بالنّارِ، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبحَ عمرُ بنُ سعدٍ في ذلكَ اليوم وهو يومُ الجمعةِ وقيلَ يومُ السّبتِ، فعبّأ أصحابَه وخرجَ فيمن معَه منً النّاسِ نحوَ الحسينِعليه‌السلام وكانَ على مَيْمَنَتهِ عَمرُو بنُ الحجّاجِ، وعلى مَيْسَرتَه شِمرُ بنُ ذي الجوشنِ، وعلى الخيلِ عُروةُ بنُ قَيْسٍ، وعلى الرّجّالةِ شَبَثُ بنُ رِبعيّ،

__________________

(١) ال عمران ٣: ١٧٨ - ١٧٩.

(٢) في «م» وهامش «ش»: سميرة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢١، مفصلاً نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٣.

٩٥

واعطى الرّايةَ دُرَيداً(١) مولاه.

فروِيَ عن عَليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدينَعليه‌السلام أنّه قالَ: «لمّا صبّحتِ الخيلُ الحسينَ رَفَعَ يديه وقالَ: اللّهَمّ أنتَ ثِقَتي في كلِّ كَرْبِ، ورجائي في كلِّ شدّةٍ(٢) وأنتَ لي في كلِّ أمر نزلَ بي ثقةٌ وعُدَّة، كمَ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فيه الفؤادُ، وتَقِلُّ فيه الحيلةُ، ويخذُلُ فيه الصّديقُ، ويَشمَتُ فيه العدوُّ، أنزلتُه بكَ وشكوتُه إِليكَ رغبةً منِّي إِليكَ عمَّن سواكَ، ففرَّجْتَه وكشفْتَه، وأنتَ وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومُنتهَى كلِّ رغبةٍ»(٣) .

قالَ: وأقبلَ القومُ يَجولونَ حولَ بيوتِ الحسينِعليه‌السلام فيَروْنَ الخندقَ في ظهورِهم والنّار تَضْطَرِمُ في الحَطَب والقَصب الّذي كانَ أُلقِيَ فيه، فنادى شمرُ بنُ ذي الجوشنِ عليه الَلعنةُ بأعلَى صوته: يا حسينُ أتعجّلتَ النّارَ قبلَ يوم القيامةِ؟ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ » فقالوا له: نعم، فقالَ له: «يا ابنَ راعيةِ المِعْزَى، أنتَ أولى بها صلِيّاً».

ورَامَ مسلمُ بنُ عَوسَجَةَ أنِ يرميَه بسهمٍ فمنعَه الحسينُ من ذلكَ، فقالَ له: دعْني حتّى أرميَه فإنّ الفاسقَ من عظماءِ الجبّارينَ، وقد أمكنَ اللّهُ منه. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «لا تَرْمِه، فإِنِّي أكرهُ أن أبدأهم ».

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»نسختان: ١ / دُوَيداً، ٢ / ذوَيداً. وكذا في المصادر.

(٢) في هامش «ش»: شديدة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٤.

٩٦

ثمّ دعا الحسينُ براحلتهِ فركبَها ونادى بأَعلى صوته: «يا أهلَ ألعراقِ » - وجُلّهم يسمعونَ - فقالَ: «أَيًّها النّاسُ اسمعَوا قَوْلي ولا تَعجَلوا حتّى أَعِظَكم بما يَحقُّ لكم عليّ وحتّى أعْذِرَ إِليكم، فإِن أعطيتموني النّصفَ كنتم بذلكَ أسعدَ، وان لم تُعْطُوني النّصفَ من أنفسِكم فأجمعوا رأيَكم ثمّ لا يَكنْ أمرُكم عليكم غُمّةً ثمّ اقضوا إِليَّ ولا تنظِرونَ، إِنَّ وَلِيّي اللّهُ الّذي نزّلَ الكتابَ وهو يتولّى الصّالحينَ ». ثم حَمدَ اللّهَ وأثنى عليه وذَكَرَ اللهَّ بما هو أهلُه، وصَلّى على النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكةِ اللّهِ وأَنبيائه، فلم يُسْمَعْ متكلِّمٌ قطُّ قبلَه ولا بعدَه أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قالَ:

«أمّا بعدُ: فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجِعوا إِلى أنفسِكم وعاتِبوها، فانظروا هل يَصلُح لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي، أوَلم يَبْلُغْكم(١) ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي: هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟! فان صدَّقتموني بما أقولُ وهو الحقُّ، واللّهِ ما تعمّدْتُ كذِباً منذُ عَلِمْتُ أنّ اللهَّ يمقُتُ عليه أهلَهُ، وإِن كذّبتموني فإِنّ فيكم (مَنْ لو )(٢) سأَلتموه عن ذلكَ أخْبَركم، سَلوُا جابرَ بنَ عبدِاللّهِ الأَنصاريّ وأبا سعيدٍ الخُدْريّ وسَهْلَ بن سعدٍ الساعديّ وزيدَ بنَ أرقَمَ وأنسَ بنَ مالكٍ، يُخْبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالةَ من رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله لي

__________________

(١) في هامش «ش» اوما بلغكم.

(٢) في «م» وهامش «ش»: مَن إن.

٩٧

ولأخي، أمَا في هذا ( حاجز لكم )(١) عن سَفْكِ دمي؟! ».

فقالَ له شمرُ بنُ ذي الجوشن: هو يَعْبدُ اللّهَ على حَرْفٍ إِن كانَ يدري (ما تقولُ )(٢) فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: واللّهِ إِنِّي لأراكَ تَعْبُدُ اللّهَ على سبعينَ حرفاً، وأنا أشهدُ أنّكَ صادقٌ ما تدري ما يقول، قد طبَعَ اللّهُ على قلبِكَ.

ثمّ قالَ لهم الحسينُعليه‌السلام : «فإِن كنتم في شكٍّ من هدْا، أفتشكّونَ أَنِّي ابن بنتِ نبيِّكمْ! فواللّهِ ما بينَ المشرقِ والمغرب ابن بنتِ نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيرِكم، ويحكم أتَطلبوني بقتيلِ منكم قَتلتُه، أومالٍ لكم استهلكتُه، أو بقِصاصِ جراحةٍ؟!» فأخَذوا لا يُكلِّمونَه، فنادى: «يا شَبَثَ بنَ ربْعيّ، يا حَجّارَ بنَ أَبجرَ، يا قيسَ بنَ الأشْعَثِ، يا يزيدَ بن الحارثِ، ألم تكتبوا إِليّ أنْ قد أيْنَعَتِ الثِّمارُ واخضَرَّ الجَنابُ، وانمّا تَقدمُ على جُندٍ لكَ مُجَنَّدٍ؟!» فقالَ له قيسُ بنُ الأَشعثِ: ما ندري ما تقولُ، ولكنِ انْزِلْ على حُكمِ بني عمِّكَ، فإِنّهم لن يُرُوْكَ إلا ما تُحِبُّ. فقالَ له الحسينُ «لا واللهِّ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذّليل، ولا أَفِرُّ فِرارَ العبيدِ(٣) ». ثمّ نادى: «يا عبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذُ بربِّي وربِّكم من كلِّ مُتكبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بيومِ الحسابِ ».

ثمّ إنّه أناخَ راحلتَه وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمْعانَ فعقلَها، وأَقبلوا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: حاجز يحجزكم.

(٢) هكذا في النسخ الخطية، لكن الصحيح: ما يقول، وهوموافق لنقل الطبري والكامل.

(٣) في «م»: العبد، وفي «ش»: مشوشة، وهي تحتمل الوجهين، وفي نسخة العلامة المجلسي: العبيد.

٩٨

يزحفونَ نحوَه، فلمّا رأى الحرُّ بنُ يزيدَ أَنّ القومَ قد صمَّمُوا على قتالِ الحسينِعليه‌السلام قالَ لعمر بن سعدٍ: أيْ عُمَر(١) ، أمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرّجلَ؟ قالَ: إِيْ واللّهِ قتالاً أيْسَرُه أَن تَسقطَ الرُّؤوسُ وتَطيحَ الأَيدي، قالَ: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قالَ عمر: أما لو كانَ الأمرُ إِليَّ لَفعلتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى.

فأقبلَ الحرُّحتّى وقفَ منَ النّاسِ موقفاً، ومعَه رجلٌ من قومِه يُقالُ له: قُرّةُ بنُ قَيْسٍ، فقالَ: يا قُرّةُ هل سقيتَ فرسَكَ اليومَ؟ قالَ: لا، قالَ: فما تُريدُ أن تَسقِيَه؟ قالَ قُرّةُ: فظننتُ واللّهِ أنّه يُريد أَن يَتنحّى فلا يشهدَ القتالَ، ويكرهُ(٢) أن أَراه حينَ يَصنعُ ذلكَ، فقلتُ له: لم أسقِه وأَنا منطلق فأسقيه، فاعتزلَ ذلكَ المكان الّذي كانَ فيه، فواللّهِ لوأَنّه أطْلَعَني على الّذي يُريدُ لخرجتُ معَه إِلى الحسينِ بنِ عليٍّعليه‌السلام ؛ فأخذَ يَدنو منَ الحسينِ قليلاً قليلاً، فقالَ له المهاجرُ بنُ أوسٍ: ما تُريدُ يا ابنَ يزيدَ، أتريدُ أن تَحملَ؟ فلم يُجبْه وأخَذَهُ مثلُ الأفْكَلِ - وهي الرِّعدةُ - فقالَ له المهاجرُ: إِنّ أمْرَكَ لَمُريبٌ، واللهِّ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطُّ مثلَ هذا، ولو قيلَ لي: مَنْ أشجعُ أَهلِ الكوفِة ما عَدَوْتُكَ، فما هذا الّذي أرى منكَ؟! فقالَ له الحرُّ: إِنِّي واللّه أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنّارِ، فواللّهِ لا أختارُ على الجنّةِ شيئاً ولو قُطًّعْتُ وحُرِّقْت.

ثمّ ضربَ فرسَه فلحِقَ بالحسينِعليه‌السلام فقالَ له: جُعِلْتُ فِداكَ - يا ابنَ رسولِ اللهِّ - أَنا صاحبُكَ الّذي حبستُكَ عنِ

__________________

(١) في هامش «ش»: يا عمر.

(٢) في «م» وهامش «ش»: فَكَرِه.

٩٩

الرُّجوع، وسايرْتُكَ في الطَريقِ، وجَعْجَعْتُ بكَ في هذا المكانِ، وما ظننتُ انَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ماعَرَضْتَه عليهم، ولايَبلُغونَ منكَ هذه المنزلَة، واللهِّ لو علمتُ أنّهم يَنتهونَ بكَ إِلى ما أرى ما رَكِبْتُ منكَ الّذي رَكِبْتُ، وِانِّي تائبٌ إِلى اللهِ تعالى ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلكَ توبةً؟ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «نَعَمْ، يتوبُ اللّهُ عليكَ فانزِلْ » قالَ: فأنا لكَ فارساً خيرٌ منِّي راجلاً، أقُاتِلهُم على فرسي ساعةً، والى النُّزول ما يَصيرُ اخرُ أمري. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فاصنعْ - يَرحمَكَ اللهُّ - ما بدا لكَ ».

فاستقدمَ أمامَ الحسينِعليه‌السلام ثمّ أنشأ رجلٌ من أصحاب الحسينِعليه‌السلام يقولُ:

لَنِعْمََ الْحُرُّ حُرّ بَنِيْ رِيَاح

وَحُرّ عِنْد َمُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ

وَنِعْمَ الْحُرُّ إِذْ نَادَى حُسَينٌ

وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

 ثمّ قالَ(١) : يا أهلَ الكوفةِ، لأمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ، أدَعَوْتُم هذا العبدَ الصّالحَ حتّى إِذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتُم أنّكم قاتلو أنفسِكم دونَه ثمّ عَدَوْتُم عليه لِتقتلوه، أمسكتم بنفسِه وأخذتم بكظمِه(٢) ، وأحَطْتم به من كلِّ جانبِ لتِمنعوه التّوجُّهَ في بلادِ اللّهِ العريضةِ، فصارَ كالأسير في أَيديكم لاَ يَملكُ لِنفسِه نفعاً ولا يَدفعُ عنها ضَرّاً(٣) ، وحَلأتمُوه(٤) ونساءه وصِبْيتَه وأهله عن ماءِ الفراتِ

__________________

(١) اي الحر عليه الرحمة.

(٢) يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفسه «الصحاح - كظم - ٥: ٢٠٢٣».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ضرراً.

(٤) حلأه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب «الصحاح - حلأ - ١:٤٥».

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155