التوابون

التوابون0%

التوابون مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 185

  • البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24538 / تحميل: 9336
الحجم الحجم الحجم
التوابون

التوابون

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قيام مؤسسة الخلافة وتطورها السياسي

ليس من السهل أن نبحث في مسألة نشوء الخلافة وتطور أسسها والتحول في مفاهيمها السياسية والعقائدية. فذلك يحتاج أولاً التعرض الى المنطلقات السياسية مع أصول الادارة والسلطة عند العرب قبل قيام الاسلام، ثم تطور هذه الاصول والمنطلقات بعد انتصار الاسلام وتأسيس دولته.

ولا بد للباحث، عند الشروع بمثل هذا العمل، أن يجد نفسه ملزماً في التعرف الى أحوال مكة ومجتمعها بشكل أساسي، ثم أحوال بقية شبه الجزيرة حاضرها وباديها. لم تعرف مكة قبل قيام الاسلام الحكومة بأي شكل من اشكالها وحدود سلطاتها، بل أديرت شؤونها من قبل كبار التجار وممثلي كبار الاسرة القرشية. وكان للمدينة عدد من الشعب الوظائفية وزعت كل واحدة منها على أسرة من الأسر، دون أن يكون هنالك اية هيئة حاكمة تتمتع بصفة من صفات الشرعية. كذلك لم تعرف المدينة

٢١

أي نوع من أنواع القوة المسلحة، او يوجد فيها جماعات كهنة لهم نفوذ وسلطات، بل كان زعماؤها يجتمعون أحياناً للتداول في القضايا والمشاكل، وكان مكان اجتماعهم يدعى (دار الندوة). غير أن القرارات التي كانت تتخذ في هذه الاخيرة، لم يكن لها صفة الالزام، وانما كان الاخذ بها اختيارياً وفردياً... وكان اجماع زعماء المدينة على أمر من الامور متعذراً في كثير من الاحيان، وكثيراً ما كانت تنقسم المدينة في مواقفها من القضايا وتعقد التحالفات المتضادة داخلها، وفي النهاية يكون النصر غالباً للحلف الأقوى. وفي كتب الاخبار والسيرة أحاديث طويلة حول بعض القضايا التي واجهها مجتمع مكة وحول أحلاف هذا المجتمع، ويستفاد من بعض الاخبار انه وجد لدى المكيين مفهوم واحد للشرعية الواجب الالتزام بأوامرها مهما كانت، وهذا المفهوم ارتبط بالكعبة التي كانت موضع اجلالهم وقداستهم. فعندما كان يجمع غالبية الزعماء المكيون على أمر من الأمور كانوا يدونون ما أجمعوا عليه في صحيفة ويقومون بتعليقها في جوف الكعبة، وهنا يأخذ الامر صفة الشرعية. ولدينا مثال واضح حول هذا : ما عمله المكيون حين أعلنوا صحيفة مقاطعة بني هاشم التي اضطرت هؤلاء الالتزام بها، فتركوا مكة وأقاموا محصورين في شعب ابي طالب، وعاشوا في ظل المقاطعة حتى مزقت الصحيفة(١) .

_____________________

(١) سهيل زكار : التاريخ عند العرب، ٩٥ - ١١٥.

٢٢

هذا وقد استمرت عادة تعليق صحف المعاهدات والوصايا وغيرها في الكعبة. ومن أوضح الامثلة على ذلك ما فعله هارون الرشيد حين قام بتولية اولاده العهد من بعده.

ان أمر الالتزام بشرعية الاوامر المعلقة في جوف الكعبة مرتبط بقدسيتها، حيث اعتبرها القرشيون بيت الله. وهكذا فالامر المعلق في جوفها تصبح له صفات الهية، وهو أمر في غاية الاهمية، وقد تطور بعد ذلك تطوراً كبيراً.

وبعد قيام الاسلام، ومع بداية التبشير به لم يحدث تغيير جوهري فيما كان سائداً في مكة، ذلك أن النبي لم يمارس أية سلطات على الذين آمنوا برسالته، ولكنه مع ذلك فقد غدا مسموع الكلمة، محترماً ومتبع الرأي بين أتباعه.

وقد تبدل هذا الحال كلياً بانقضاء الفترة المكية وهجرة المسلمين الى المدينة، حين عمل النبي الذي أصبح بالاضافة الى صفة النبوة يتحلى بصفة زعيم أمة وحاكمها المطلق النابعة أحكامه من ارادة الله، عمل هذا النبي على انشاء أمة جديدة ذات تقاليد وقواعد جديدة. ولاول مرة في حياة مجتمع شمالي شبه الجزيرة العربية، لا بل في مجتمع الجزيرة كله، قامت تجربة جديدة للحكم، مركزية السلطة،

٢٣

حاكمها يملك الحق في التشريع وفي نفس الوقت يقع عليه واجب تنفيذ الاحكام. ولم يكن تطبيق هذا والقبول به من قبل العرب من الامور السهلة، لكن النبي نجح الى أبعد الحدود في ارساء قواعد لحكم الامة الجديدة التي أقامها وان كان لم يأت بنظرية للحكم ذات أسس ومنطلقات ثابتة.

هذا وقد تناول بعض الناس هذه القضية حيث يرون بأن النبي قد أتى بنظرية خاصة في الحكم والسياسة، هي نظرية الشورى، معتمدين على ما جاء في القرآن الكريم( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) أو «وشاورهم بالامر». ومع الاقرار بما ترمي اليه هذه الآيات، فان القرآن لم يبيّن قواعد الشورى هذه وحدودها وطرق تطبيقها، كما لم يبين الى أي حد كان على النبي الاخذ برأي أصحابه وأتباعه. وعندما يعود المرء الى كتب السيرة يجد أن مفهوم هذه القضية لم يكن واضحاً عند أحد من الصحابة، كما لم تتوضح معالمه في الممارسات زمن النبي.

لقد ملك النبي وحده جميع فروع السلطة من تشريع وقضاء وادارة وجباية وأعمال حربية، وذلك بالاضافة الى صفته الاساسية وهي النبوة. وهكذا امتزجت مفاهيم السلطات الزمنية بمفاهيم السلطات الدينية في الاسلام، وصار كل أمر في الدولة العربية الناشئة مزدوج الصفات

٢٤

زمنياً ودينياً. وكان النبي أحياناً ينتدب بعض أصحابه فيكلفهم ببعض الوظائف حين يبتعد عن المدينة، أو يرسلهم لتنفيذ بعض المهام مثل جباية الصدقات أو تفقية الناس بالاسلام وامامتهم بالصلوات او تنفيذ مهمات عسكرية. وكان الذي ينوُب عن النبي في امامة الصلوات يدعى خليفة النبي، وكان قائد الحملة العسكرية يسمى أمير. ولما كانت القوات التي يقودها هذا الاخير قواتاً مؤمنة تقوم بتنفيذ مهمة ضد جماعات غير مؤمنة، فقد كان بعض القادة العسكريين يُميزون عن قادة الاعداء بلفظة «أمير المؤمنين !»(١) .

وكان الخليفة على الصلوات يؤدي الصلاة كما يؤديها النبي دونما زيادة او نقصان، ذلك أن الخليفة هو النائب عن الأصيل الملتزم كلياً بما عهد اليه من أوامر وتعاليم. وكانت صلاحيات أمير الجيش أوسع من صلاحيات الخليفة، ذلك أن قيادة العساكر تستوجب الطاعة المبرمة، وتعطي القائد فرص التصرف وابداع الحلول واصدار ما يراه ضرورياً من أوامر وتعليمات. ففي حين حُرم الخليفة من السلطات التشريعية مُنح ذلك للامير وتمتع به.

ومع اتساع رقعة الدولة الجديدة، وتعاظم

_____________________

(١) التراتيب الادارية : ١/٢ - ٨.

٢٥

المسؤوليات فيها، تقدم النبي بالسن وأخذت آثار المرض وما عاناه تظهر عليه، وهنا - كما يُستخلص من الاخبار - أخذ بعض المسلمين يفكرون في مستقبل العقيدة وفي شؤون الحكم في الدولة ومع مرض النبي الاخير أصبحت هذه المسألة هاجساً جثم على صدور المسلمين، وأثيرت هذه القضية قبل موت النبي، ويبدو انه حاول وضع الحل لهذه المسألة ولكن مرضه وأموراً أخرى حالت بينه وبين ذلك(١) .

وبعدما توفي النبي تمّ استلام أبي بكر لمقاليد الحكم في الدولة الجديدة في ظروف سبق شرحها، وأصبح منصب الخلافة منذ ذلك الحين رسمياً وأساسياً في الحياة السياسية للامة الاسلامية، بينما لم تكن له في البداية أية هوية واضحة المعالم والاسس.

وحاول ابو بكر تحديد معالم منصبه الجديد منطلقاً من مفهوم «الخلافة» اللغوي، أي أن الخليفة نائب ملتزم بأوامر المنيب وأفعاله. وقد ظهر ذلك في قوله «انما أنا متبع ولست بمبتدع»، وظل أبو بكر يعرف طيلة حكمه بخليفة رسول الله، ذلك انه لم يحتج الى تبديل لقبه، لان

_____________________

(١) انظر صحيح البخاري : ٥/١٣٧ - ١٤١.

٢٦

مدة حكمه كانت قصيرة، لم يحدث فيها مشاكل جديدة تحتاج الى تشريع. وهكذا ظل ابو بكر يعتبر نفسه نائباً عن النبي منفذاً لكل ما جاء به، ويرى نفسه انه لا يملك اية صلاحيات تشريعية، كما انه لا يملك اجبار المسلمين على ركوب خطة لم يحدد معالمها النبي والقرآن الكريم.

ومات ابو بكر والحالة من حيث الجوهر كما هي، سوى ان رقعة الدولة قد اتسعت فشملت أراضي خارج شبه الجزيرة، كما انه تجمع في الاقاليم المفتوحة قوات عربية مسلحة لا ريب انها أخذت تتطلع نحو اسماع صوتها ورأيها في السلطة. وقبيل وفاته قام ابو بكر بتعيين عمر بن الخطاب لتولي شؤون الحكم من بعده. وقبل الناس بهذا التعيين، الامر الذي يدل على حدوث تغييرات في مفاهيم الناس السياسية.

واستلم عمر السلطة والدولة الناشئة تجتاز مرحلة حاسمة وتواجه مشاكل خطيرة تحتاج الى حلول، ومثل هذه الحلول تطلبت ممارسة الخليفة صلاحيات تشريعية، ذلك أن الكثير من المشاكل كان جديداً ليس له نظير بين مشاكل العصر النبوي، ومن الامثلة على ذلك قضيتا السواد ونصارى تغلب، حيث قضت الاحكام الاسلامية بتقسيم الغنائم التي يحصل عليها المسلمون وفقاً لقواعد

٢٧

حددها القرآن، كما قضى الاسلام بأن يدفع أهل الذمة من نصارى وسواهم من غير المسلمين الجزية دونما استثناء.

فبعد الاستيلاء على سواد العراق وفتح الجزيرة اقتضت الاحكام تقسيم أرض السواد، ودفع قبيلة تغلب العربية للجزية اسوة ببقية سكان الجزيرة النصارى، لكن هؤلاء رفضوا دفع الجزية. ولقد أدرك عمر ما يمكن أن يلحقه تقسيم السواد من مضار، فما كان منه الا ان ترك قسمته، ولجأ الى مضاعفة الصدقة على نصارى تغلب، بدفع ضريبة من نفس النوع الذي يدفعه المسلم انما الكمية مضاعفة(١) .

ان في اقدام عمر على مثل هذا العمل، يعني انه قد منح نفسه صلاحيات تشريعية الامر الذي لم يفعله ابو بكر، فهو بذلك لم يعد خليفة بمعنى النائب بل تصرف كتصرف أمير الجيش. وهكذا تخلى عمر عن لقب خليفة ليكتسب لقب «أمير المؤمنين»(٢) ، وفي هذا التعبير مؤشرات تدل على تبدل جوهري في المفاهيم السياسية للدولة الاسلامية، خاصة وأن العرب المسلمين اختلطوا بشعوب كانت خاضعة لفارس وبيزنطه قبل خضوعها للعرب فتركت بعض التأثير.

_____________________

(١) أبو يوسف : الخراج، ٢٨ - ٤٧.

(٢) الطبري : ٥/٢٢.

٢٨

ومع امتداد الايام واتساع رقعة الدولة وبروز مشاكل جديدة أصبح الناس أكثر قبولاً لاعطاء الخليفة صلاحيات أوسع في التشريع، ويبدو أن عمر كان متنبهاً لذلك، فأخذ يبحث عن قاعدة يُرتكز اليها في المستقبل، غير أن اغتياله المفاجئ جاء ليمنعه من اتمام هذا الامر. وبينما هو على فراش الموت يعاني من آلام جراحه، لم يشغله ذلك عن هاجس الحكم ومستقبل زمام السلطة في الدولة الاسلامية الناشئة. نظر عمر حوله، فرأى ستة من اصحاب النبي كل واحد منهم يمثل فرعاً بارزاً من أسرة الزعامة القرشية. وكان أبرز هؤلاء الستة، علي بن ابي طالب ممثل بني هاشم، اسرة النبي، آل البيت في الاسلام، وأبرز أسر الزعامة قبل الاسلام منجهة، ومن جهة ثانية عثمان بن عفان ممثل أسرة بني أمية، أسرة المال والزعامة الاولى قبل الاسلام، والتي تسلم العديد من أفرادها أخطر مناصب الولايات بعد فتح مكة وأيام الفتوح زمن أبي بكر وعمر نفسه. ويبدو أن هذا الاخير رأى في تعيين علي مقدمة لقيام حكم الاسرة المقدسة، ورأى في تعيين عثمان تمهيداً لتمكين بني أمية من التسلط الكلي على الدولة وتسييرها بعقلية الارستقراطية التجارية المؤثرة.

لهذا آثر عمر عدم تحمل مثل هذه المسؤولية فتكون آخر أعماله وأخطرها، فكان أن ترك هذا الامر للستة الباقين من أصحاب النبي، ليقوموا باختيار أحدهم خليفة.

٢٩

وتوفي عمر، واجتمع هؤلاء فوضحت منذ البداية معالم الصراع، حيث أعلن أربعة من المرشحين عزفهم عن ترشيح أنفسهم مع احتفاظهم بحق التصويت. وبذلك انحصرت المعركة بين علي وعثمان، وأوكلت الامور الى عبد الرحمن بن عوف لاختيار واحد منهما. وقام هذا الاخير باستطلاع آراء الناس، فكان أن واجه تيارين : أحدهما ملّ قسوة نظام عمر ورقابته المركزية الشديدة وعدم تساهله، ورأى في استلام علي للحكم استمراراً، لا بل تطويراً لنظام الخليفة السابق، وتطبيقاً أشد لقوانين الاسلام. ذلك ان علياً كان ابن الاسلام وربيب البيت النبوي وعارفاً بأمور الدين وعلومه أكثر من سواه، فقد شرب من ينابيعه الاولى منذ البداية وحتى نهاية حياة النبي بلا انقطاع أو توقف، كما رأى اتباع هذا التيار ان في استلام علي للسلطة انتصاراً دائماً للتيار الهاشمي الذي انتصر بنجاح النبي وطعن يوم السقيفة. ولقد كان اتباع هذا التيار أقل قوة من التيار الآخر، غير انه كان أكثر مرونة وأوسع دهاء وأقل مثالية وأبرع في اعداد الانقلابات وخلق المواقف المحرجة(١) .

_____________________

(١) جاء في تاريخ الطبري ان عبد الرحمن بن عوف بعث في صبيحة اليوم الثالث لوفاة عمر «الى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، والى اُمراء الاجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال : ايها الناس، ان الناس قد احبوا ان يلحق اهل الامصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم، فقال سعيد بن زيد : انا نراك لها أهلاً، فقال : أشيروا علي بغير هذا. فقال عمار : ان أردت الا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد بن الاسود : صدق عمار، ان بايعت علياً =

٣٠

لقد رفض علي القبول بشروط عبد الرحمن بن عوف

_____________________

= قلنا سمعنا واطعنا. قال ابن ابي سرح : ان أردت الا تختلف قريش فبايع عثمان : فقال عبيد الله بن ابي ربيعة : صدق أن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين. فتكلم بنو هاشم وبنو امية فقال عمار : أيها الناس أن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ! فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما انت وتأمير قريش لانفسها. فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبد الرحمن افرغ قبل ان يفتتن الناس، فقال عبد الرحمن : اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على انفسكم سبيلاً. ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال : نعم، فبايعه، فقال علي : حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر اليك والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فاني قد نظرت وشاورت الناس فاذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله، فقال المقداد : يا عبد الرحمن أما واللّه لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم، أني لاعجب من قريش انهم تركوا رجلاً ما أقول أن أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل. فقال عبد الرحمن : يا مقداد اتق الله فأني خائف عليك الفتنة، فقال علي : أن الناس ينظرون الى قريش وقريش تنظر الى بيتها فتقول : أن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم» - الطبري : ٥/٣٧ - ٣٨.

٣١

وأصر على أن يعمل بمبلغ علمه وطاقته، ذلك انه أتسم بالعلم والمعرفة الواسعة بالاسلام، والى هذه الناحية الاساسية أشار المقداد بن الاسود، واتسام علي بالعلم والمعرفة صار فيما بعد، أي بعد نشوء الحزب الشيعي وتطوره حجر أساس في العقيدة الشيعية.

وبعدما صار عثمان أميراً للمؤمنين تمهد السبيل امام بني أمية للسيطرة على مقاليد السلطة للأمة الجديدة والتحكم بها، على ان ذلك لم يحدث دون ردات فعل، ودونما ثمن باهظ كان على عثمان أن يدفعه بدمه. وجاءت خلافة علي،

٣٢

فكانت أشبه بفترة انتقال انتهت معها فترة الخلافة لتحل محلها على الصعيد الرسمي والعملي، حكم الاسرة الاموية الملكي، وعلى صعيد المعارضة الامامة.

ولن أحاول هنا التأريخ لما واجهه عثمان أيام حكمه او الاسهاب عن خلافة علي والمشاكل التي اعترضتها، فلذلك مكان آخر ومناسبة خاصة، وانما سأكتفي بالاشارة الى ان استلام علي للحكم واتخاذه من الكوفة عاصمة له، جعل حزبه الذي تكوّن مع الايام يمارس السلطة وينظم نفسه بعض الشيء. هذا وقد نظر هذا الحزب مع الذين آمنوا بأحقية علي بالخلافة الى هذا الاخير بعد استلامه الحكم، نفس نظرتهم السابقة : رجل له من المؤهلات ثم القرابة ما يجعله أجدر الناس وأحقهم بالقيادة، أي أن القرابة كانت مزية من المزايا، انما لم تكن بحال من الاحوال المنطلق والقاعدة الاساسية.

وبعد اغتيال علي، ووصول معاوية الى أن يكون «أمير المؤمنين» كما كان أبوه «سيد أهل الجاهلية» حرمت شيعة علي (حزبه) من الحكم، وغدا أفرادها رجال المعارضة الملاحقون من قبل السلطة. وقامت جماعة الشيعة بمبايعة الحسن بن علي خليفة بعده، لكن الحسن تنازل لمعاوية ثم ما لبث أن أغتيل، فتوجه الشيعة بأبصارهم نحو أخيه الحسين. وفي خلال هذا الوقت ثبت في أذهان الناس

٣٣

أن الخلافة حق لعلي وأولاده، فبعد فاجعة كربلاء لم ير بعض الشيعة غضاضة بالاعتراف بمحمد بن الحنفية كصاحب حق في الخلافة، وكان هذا شعار المختار وأتباعه. وبعد اخفاق ثورة هذا الاخير أجمع غالبية الشيعة على حصر الحق الخلافي في أولاد علي من زوجته فاطمة بنت النبي، ذلك أن تطوراً كبيراً قد ألم بالفكر الشيعي من كافة الجوانب، وغدت القرابة هي العمود الفقري لحق الحكم والقيادة، وهذا الحق ثابت بالنص والتعيين، ومحاط بخصائص ومزايا. فالنبي كان خاتم الانبياء وهو عند وفاته لم يورّث النبوة وانما ورّث قيادة الامة لعلي، وهذا ورّثها لأولاده من بعده. ومع وفاة النبي انقطع الوحي لكن النبي كان قد تدارك ذلك بأن أعطى علياً علماً خاصاً، وعلي - الذي وصف دائماً بالعلم - ورّث هذا العلم لابنه وهكذا.

وعلى هذا نجد انه بعد استيلاء معاوية على السلطة حدث تطور كبير في الخلافة وامرة المؤمنين، فقد أصبح رأس السلطة ملكاً أو أشبه بالملك، مع احتفاظه بلقب «أمير المؤمنين» دون سواه من أصحاب السلطة، وصار زعيم المعارضة اماماً. كذلك تطورت فكرة الامامة تطوراً كبيراً، فقد حدث انشقاق بين صفوف الحزب الشيعي، بحيث طورت كل جماعة فكرة الامامة تطويراً خاصاً وحددتها بما شاءت وبما اقتضت الاحوال.

٣٤

علي والخلافة

٣٥

بعد مصرع عثمان، الذي أخفق في تحمل مسؤوليات الحكم بعد خليفة قوي هو عمر بن الخطاب، شغر مركز الحكم مرة أخرى، وعادت الازمة من جديد تفجر صراعات وتثير تناقضات لا حد لها، وهي أزمة فاقت كثيراً في خطورتها وأبعادها الازمة الاولى التي انتهت في السقيفة. ذلك ان مقتل الخليفة في أعقاب ثورة دموية قام بها الجند العرب في الامصار، لم يكن حدثاً عادياً يمكن أن يمر دون أن يخلّف رواسب ستصبح متأصلة في جسم الدولة الناشئة، فتهدد وحدتها بين الحين والآخر، فهو حدث ترك تأثيره العميق على مجرى التاريخ الاسلامي كله، وجعل للسيف الكلمة الفاصلة في امور الحكم(١) . ولعل ما ينسب الى عثمان بعد اشتداد وطأة المحاصرين على داره يعبّر عن هذه الحقيقة حين قال : «فو الله لئن قتلوني لا

_____________________

(١) فلهوزن : تاريخ الدولة العربية، ٥٠.

٣٦

يتحابون بعدي أبداً ولا يصلون بعدي جميعاً، ولا يقاتلون بعدي عدواً»(١) .

واذا كان هدف الثوار الذين قادوا انقلابهم على عثمان تحرير الخلافة من طغيان العائلية والاحتكار لمغانم الحكم، فانهم قضوا بحركتهم دون قصد على آخر ما تبقى من نظام الشورى الذي تحول الى ملكية مطلقة في عهد معاوية(٢) .

ظلت عاصمة الخلافة تعيش في غليان لعدة أيام، بانتظار من يخلف عثمان في الخلافة.. ولم تكن المسألة بسيطة في ظروف حرجة كهذه لان مسؤوليات ضخمة ومهمات خطيرة كانت تنتظر الحاكم الجديد وكان لا بد ان يبت بها سريعاً قبل أن يحترق بنار الحكم. وعلى ذلك لم يكن مستغرباً أن يبتعد بعض كبار السياسيين عن المدينة بعدما أدركوا خطورة الوضع، تاركين معالجة الازمة لعلي المرشح الاوفر حظاً حينئذ للخلافة والذي كان قد بدأ يمارس بعض اعمالها قبل مقتل عثمان(٣) . وتردد عليّ نفسه في قبول هذا المنصب حين توجه اليه الثوار وعرضوه

_____________________

(١) ابن كثير : ٧/١٨٠.

(٢) بيضون - زكار : تاريخ العرب السياسي، ٧٦.

(٣) ابن كثير : ٧/١٧٧.

٣٧

عليه بعدما رأوا ميل الغالبية العظمى اليه. ولكن تردده زال أمام اصرار الثوار على بيعته وربما لشعوره بأن التهرب من الحكم في مثل هذه الظروف خيانة للامة، وللعقيدة، فقد كانت فترة حاسمة في تاريخ الاسلام، فترة في أشد الحاجة الى رجل قوي كعلي، ارتبط تاريخياً بالاسلام منذ ظهوره. وثمة شيء آخر هو ان علياً كان السياسي الذي يحظى بتأييد الغالبية في المدينة والزعيم الذي يمكن ان يتفق عليه بقية الزعماء.

اجتازت الازمة بعض خطورتها بتولية علي مهام الخلافة، ولكن الامور في عهد الخليفة الجديد سارت في اتجاه أكثر تعقيداً وأخذت الاحداث تتلاحق بصورة عجيبة. فقد كان هناك أكثر من عائق يعترض هذا الخليفة ويمنعه من القيام بمهماته لا سيما في مجال التغييرات التي كان لا بد من اجرائها لازالة رواسب الحكم السابق. فقد كان عليه أن يوجد حلاً لجميع المشاكل التي أثيرت في عهد عثمان وأدت الى مقتله.. وهذا معناه الاصطدام بعدد من كبار الصحابة ورجالات الاسلام الذين اصابوا حداً بعيداً من الثراء زمن الخليفة السابق، ومن الطبيعي أن تتعارض مصالحهم مع الخليفة الجديد المعروف عنه المثالية وشدة التصلب في الرأي.

٣٨

والحقيقة ان مهمة الخليفة الجديد كانت على جانب كبير من الخطورة، ذلك أنه لم يكن يحظى بتأييد كل القوى السياسية في الدولة يضاف الى ذلك ان بعض الذين بايعوه أخذوا يرفضّون عنه ويتطلعون كل بدوره الى الافادة من الظروف والوصول الى مكاسب معينة. ومن المدهش حقاً أن نرى اثنين من الصحابة الكبار هما الزبير وطلحة اللذين ما انفكا يكيدان ضد الخليفة السابق، أول من ينقلب على علي، ويصل الامر بهما الى اتهامه بالوقوف وراء مقتل عثمان.

بدأ علي أولى مهماته الكبيرة، بعزل ولاة الاقاليم وكانوا موضع السخط والتذمر ووضع مكانهم مجموعة جديدة تتمتع بثقة وتنسجم مع سياسته(١) . وقد نفّذ الجميع أوامره الخليفة باستثناء والي الشام معاوية الذي اتخذ من قضية الخليفة المقتول عثمان ذريعة لعدم الاعتراف بعلي، فافتتح بذلك صفحة جديدة دامية في تاريخ الحرب الاهلية التي شهدها حينئذ العالم الاسلامي.

وكان علي بدوره يدرك جيداً أبعاد المشكلة ويعرف ان القضاء على خصمه القوي المتمرس في المنطقة الشامية

_____________________

(١) اليعقوبي : ٢/١٥٥.

٣٩

ليس بالامر السهل. ولكن الشام لم تكن كل هموم الخليفة الجديد، فقد كان هناك أكثر من منتحل لقضية عثمان، تصدى لعلي وراح يزرع في دربه المتاعب. ففي الحجاز ناوءه الزبير وطلحة وكانا أصلاً من أصحاب الطموح للخلافة، وقد أيدا علياً أول الامر ثم ثاراً عليه بعد تعيين ولاة الاقاليم الجدد دون أن يكون لاي منهما نصيب(١) . وانضمت عائشة التي كانت تحقد على علي منذ أيام النبي الى فريق الساخطين بزعامة طلحة والزبير(٢) وكانت غير بعيدة عن مجرى الاحداث التي أودت بالخليفة السابق، ثم انسحبت الى مكة، بعد شعورها بأن علياً سيكون الخليفة، تعمل على تجميع القوى ضده، وتستغل في نفس الوقت لعبة التشكيك بموقف الخليفة الجديد من قتلة عثمان. واجتمع الساخطون الثلاثة في مكة، ثم غادروها الى العراق بعد أن أدركوا صعوبة مناجزة الخليفة في الحجاز ونجحوا في اقناع البصرة بالانضمام الى حركتهم. ولكن هذه الحركة لم تكلف الخليفة كبير عناء، فسرعان ما خرجت قواته من المدينة (٣٦ هجري / ٦٥٦م) وتمكنت من إخضاع الثائرين دونما صعوبة في معركة الجمل التي سميت

_____________________

(١) ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١/٤٩.

(٢) Perier Vie Dal - Hadjajadj ibn yousof, P١٠

٤٠