مرآة العقول الجزء ٧

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الحديث
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 379

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الحديث
تصنيف: الصفحات: 379
المشاهدات: 16903
تحميل: 8203


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 379 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16903 / تحميل: 8203
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دار الحديث
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

_____________________________________________

حين كلّف به إن لم يكن عالـماً به تعالى استحال أن يكون عالـماً بأمره بالمقدّمات ، وكلـمّا أجابوا به فهو جوابنا ، ولا مخلص لهم إلّا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، أو سمعي فكذلك.

فإن قيل : ربما يحصل العلم لبعض النّاس بتصفية النفس أو إلهامه إلى غير ذلك فيقلده الباقون؟ قلنا : هذا أيضاً يبطل قولكم إن العلم بالله تعالى غير ممكن ، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلاً على امتناع المعرفة بالسمع فيكون حجّة على الأشاعرة لا دليلاً على وجوب التقليد.

واحتجّوا أيضاً بأن النهي عن النظر قد وردّ في قوله تعالى : «ما يُجادلّ فِي آياتِ اللهِ إلّا الَّذِينَ كَفَرُوا »(١) والنظر يفتح باب الجدّاًل فيحرم ، ولأنهعليه‌السلام رأى الصحّابة يتكلّمون في مسألة القدر فنهاهم عن الكلام فيها ، وقال : إنّما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا ، ولقولهعليه‌السلام : عليكم بدين العجائز ، والمراد ترك النظر ، فلو كان واجباً لم يكن منهيّاً عنه.

وأجيب عن الأوّل بأن المراد الجدّاًل بالباطل كما في قوله تعالى : «وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحقّ »(٢) لا الجدّاًل بالحقّ لقوله تعالى : «وَجادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ »(٣) والأمر بذلك يدلّ على أن الجدّاًل مطلقاً ليس منهيا عنه ، وعن الثاني بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدلّ على النهي عن مطلق النظر ، بل عنه في مسألة القدر ، كيف وقد وردّ الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ »(٤) وقد أثنى على فاعله في قوله

__________________

(١ و ٢) سورة غافر : ٤ - ٥.

(٣) سورة النحل : ١٢٥.

(٤) سورة الرّوم : ٨.

١٤١

_____________________________________________

«وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »(١) على أنّ نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمراً غيبيّاً وبحراً عميقاً كما أشار إليه عليّعليه‌السلام بقوله : بحر عميق فلا تلجه ، بل كان مراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفويض في مثل ذلك إلى الله تعالى ، لأن ذلك ليس من الأصول الّتي يجب اعتقادها ، والبحث عنها مفصّلة.

وهيهنا جواب آخر عنهما معاً ، وهو أن النهي في الآية والحديث مع قطع النظر عمّا ذكرناه إنما يدلّ على النهي عن الجدّاًل الذي لا يكون إلّا من متعدد بخلاف النظر فإنه يكون من واحد ، فهو نصبّ الدليل على غير المدعى.

وعن الثالث بالمنع من صحّة نسبته إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن بعضهم ذكر أنّه من مصنوعات سفيان الثوري فإنّه روى أنّ عمر بن عبد الله المعتزليّ قال : إنّ بين الكفر والإيمان منزلة بيّن المنزلتين فقالت عجوز : قال الله تعالى : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ »(٢) فلم يجعل من عباده إلّا الكافر والمؤمن ، فسمع سفيان كلامها فقال : عليكم بدين العجائز.

على أنّه لو سلّم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه وحكمه والانقياد له في أمره ونهيه.

واحتجّ من جوّز التقليد بأنّه لو وجب النظر في المعارف الإلهيّة لوجد من الصحّابة ، إذ هم أولى به من غيرهم لكنه لم يوجد وإلّا لنقل عنهم كما نقل عنهم النظر والمناظرة في المسائل الفقهيّة فحيث لم ينقل لم يقع فلم يجب.

وأجيب بالتزام كونهم أولى به لكنّهم نظروا وإلّا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى وكون الواحد منّا أفضل منهم وهو باطل إجماعاً إذ كانوا عالمين

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩١.

(٢) سورة التغابن : ٢.

١٤٢

_____________________________________________

وليس بالضرورة فهو بالنظر والاستدلال ، وإمّا إنّه لم ينقل النظر والمناظرة فلاتفاقهم على العقائد الحقّة لوضوح الأمر عندهم حيث كانوا ينقلون عقائدهم عمّن لا ينطق عن الهوى ، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث والنظر بخلاف الأخلاف بعدهم فأنّهم لـمّا كثرت شبّه الضالين واختلف أنظار طالبي اليقين لتفاوت أذهانهم في إصابة الحقّ احتاجوا إلى النظر والمناظرة ليدفعوا بذلك شبّه المضلين ، ويقفوا على اليقين إمّا مسائل الفروع لـمّا كانت أموراً ظنيّة اجتهاديّة خفية لكثرة تعارض الأمارات فيها وقع بينهم الخلاف فيها والمناظرة والتخطئة لبعضهم من بعض فلذا نقل.

واحتجّوا أيضاً بأنّ النظر مظنّة الوقوع في الشبهات والتورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك وأقربِّ إلى السلامة فيكون أولى ولأن الأصول أغمض أدلة من الفروع وأخفى ، فإذا جاز التقليد في الأسهل جار في الأصعب بطريق أولى ، ولأنّهما سواء في التكليف بهما فإذا جاز في الفروع فليجز في الأصول.

وأجيب عن الأوّل بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد لزم إمّا التسلسل أو الانتهاء إلى من يعتقد عن نظر لانتفاء الضرورة ، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة وهي احتمال كذب المخبر بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنّه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره.

على أنّه لو اتّفق الانتهاء إلى من اتّفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم أو بالإلهام أو بخلق العلم فيه ضرورة فهو إنما يكون لأفراد نادرة لأنه على خلاف العادة فلا يتيسر لكلّ أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط فيكثر احتمال الكذب بخلاف الناظر فإنه لا يكابر نفسه ، ولأنه أقربِّ إلى الوقوف على الصواب.

وأمّا الجواب عن العلاوة فلأنّه لـمّا كان الطّريق إلى العمل بالفروع إنّما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها ولم يقدح احتمال كذب المخبر وإلّا لانسدّ باب العمل

١٤٣

_____________________________________________

بها ، بخلاف الاعتقاديّات فإنّ الطريق إليها بالنظر ميسّر.

ثمَّ قالرحمه‌الله بعد إطالة الكلام في الجواب عن حجّة الخصام : وإمّا المقام الثاني وهو أن الأعمال ليست جزءاً من الإيمان ولا نفسه ، فالدليل عليه من الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة والإجماع ، إمّا الكتاب فمنه قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » فإنّ العطف يقتضي المغايرة وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه ، فلو كان عمل الصالحات جزءا من الإيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكراراً ، وردّ بأنّ الصّالحات جمع معرف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون الطاعات جزءاً من الإيمان يريد بها فعل الواجبات واجتناب المحرمات وحينئذ فيصحّ العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف ، فلم يدخل كله في المعطوف عليه ، نعم يصلح دليلاً على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلا في حقيقة الإيمان كالخوارج.

ومنه قوله تعالى : «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ »(١) أي حالة إيمانه وهذا يقتضي المغايرة.

ومنه قوله تعالى : «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا »(٢) فإنّه أثبت الإيمان لمن ارتكب بعض المعاصي فلا يكون ترك المنهيّات جزءاً من الإيمان.

ومنه قوله تعالى : «يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(٣) فإن أمرهم بالتقوى الّتي لا تحصل إلّا بفعل الطّاعات والانزجار عن المنهيّات مع وصفهم بالإيمان يدلّ على عدم حصول التقوى لهم ، وإلّا لكان أمراً بتحصيل الحاصل.

ومنه الآيات الدالّة على كون القلب محلاً للإيمان من دون ضميمة شيء

__________________

(١) سورة طه : ١١٢.

(٢) سورة الحجرات : ٩.

(٣) سورة التوبة : ١١٩.

١٤٤

_____________________________________________

آخر كقوله تعالى : «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ »(١) ولو كان الإقرار أو غيره من الأعمال نفس الإيمان أو جزءه لـمّا كان القلب محلّ جميعه ، وقوله تعالى : «وَلـمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ »(٢) وقوله تعالى : «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ »(٣) وكذا آيات الطبع والختم تشعر بأن محل الإيمان القلب كقوله تعالى : «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »(٤) و «خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ »(٥) .

وأمّا السّنة فكقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك وروي أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبرئيل عن الإيمان؟ فقال : أن تؤمن بالله ورسله واليوم الآخر.

وإمّا الإجماع فهو أن الأمّة أجمعت على أن الإيمان شرط لسائر العبادات والشيء لا يكون شرطاً لنفسه فلا يكون الإيمان هو العبادات.

وأمّا أهل الثاني وهم الكراميّة فقد استدلّوا على مذهبهم بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحّابة كانوا يكتفون في الخروج عن الكفر بكلمتي الشهادتين فتكون هي الإيمان إذ لا واسطة بيّن الكفر والإيمان ، لأن الكفر عدم الإيمان ، ولقوله تعالى : «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ »(٦) وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسامة حين قتل من تكلّم بالشّهادتين : هلاً شققت قلبه ، أو هل

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

(٢) سورة الحجرات : ١٤.

(٣ و ٤) سورة النحل : ١٠٦ - ١٠٨.

(٥) سورة الجاثية : ٢٣.

(٦) سورة التغابن : ٢.

١٤٥

_____________________________________________

شققت قلبه؟ على بعض النسخ ، يريد بذلك الإنكار عليه ، حيث لم يكتف بالشهادتين منه.

والجواب عن الأوّل أنّ الخروج عن الكفر بكلمة الشهادة إن أرادوا به الخروج في نفس الأمر بحيث يصير مؤمناً عند الله سبحانه بمجرّد ذلك من دون تصديق فهو ممنوع ، لم لا يجوز أن يكون اكتفاؤهم بذلك للترغيب في الإسلام ، لا الحكم بالإيمان وإن أرادوا به الخروج بحسب الظاهر فهو مسلم لكن لا ينفعهم إذا الكلام فيما يتحقّق به الإيمان عند الله تعالى ، بحيث يصير المتصف به مؤمناً في نفس الأمر لا فيما يتحقّق به الإسلام في ظاهر الشرع حيث لا يمكن الاطلاع على الباطن ، إلّا ترى أنّهم كانوا يحكمون بكفر من ظهر منه النفاق بعد الحكم بإسلامه ، ولو كان مؤمناً في نفس الأمر لـمّا جاز ذلك ، وإمّا نفي الواسطة فهو مستقيم على أخذ الحكم في نفس الأمر ، فإن حال المكلّف في نفس الأمر لا يخلو عن أحدهما ، وإمّا جعل لا إله إلّا الله غاية للقتال ، فلا يدلّ على أكثر من كونه للترغيب في الإسلام أيضاً بسبب حقن الدماء ، على أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربما لا يطّلع على بواطن النّاس ، فكيف يؤمرّ بالقتال على ما لا يطلع عليه.

وأمّا أهل الثالث وهم قدماء المعتزلة القائلون بأنّه جميع الطّاعات فرضاً ونفلا ، فمن أمتن دلائلهم على ذلك قوله تعالى : «وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ »(١) والمشار إليه بذلك هو جميع ما حصر بإلّا وما عطف عليه ، والدّين هو الإسلام لقوله تعالى :

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ »(٢) والإسلام هو الإيمان لقوله تعالى : «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ »(٣) ولا ريب أنّ الإيمان مقبول من مبتغيه للنصّ

__________________

(١) سورة البينة : ٥.

(٢) سورة آل عمران : ١٩.

(٣) سورة آل عمران : ٨٥.

١٤٦

_____________________________________________

والإجماع ، فيكون إسلاماً ، فيكون ديناً فيعتبر فيه الطّاعات كما دلت عليه الآيات.

والجواب المنع من اتّحاد الدينين في الآيتين فلا يتكرّر الوسط ، ولو سلم اتحادهما فلا نسلّم أن الإيمان هو الإسلام ليكون هو الدين ، فتعتبر فيه الطّاعات لم لا يجوز أن يكون الإيمان شرطاً للإسلام أو جزءا منه أو بالعكس ، وشرط الشيء وجزؤه يقبل مع كونه غيره ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الإيمان هو الدين بل شرطه أو جزؤه.

على أنّا لو قطعنا النظر عن جميع ذلك فالآية الكريمة إنما تدلّ على من ابتغى وطلب غير دين الإسلام ديناً له فلن يقبل منه ذلك المطلوب ، ولم تدلّ على أن من صدق بما أوجبه الشارع عليه لكنه ترك فعل بعض الطّاعات غير مستحلّ أنّه طالب لغير دين الإسلام ، إذ ترك الفعل يجتمع مع طلبه لعدم المنافاة بينهما ، فإن الشخص قد يكون طالباً للطاعة مريداً لها لكنّه تركها إهمالاً وتقصيراً ، ولا يخرج بذلك عن ابتغائها.

واستدلّوا أيضاً بقوله تعالى : «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ »(١) أي صلاتكم إلى بيت المقدّس ، واعترض عليه بأنّه لم لا يجوز أن يكون المراد به تصديقكم بتلك الصلاة. سلّمنا ذلك لكن لا دلالة لهم في الآية وذلك لأنّهم زعموا أن الإيمان جميع الطّاعات ، والصّلاة إنّما هي جزء من الطّاعات وجزء الشيء لا يكون ذلك الشيء.

وأمّا أهل الرابع وهم القائلون بكونه عبارة عن جميع الواجبات وترك المحظورات ودون النوافل فقد يستدلّ لهم بقوله تعالى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(٢) والتقوى لا يتحقّق إلّا بفعل المأمور به وترك المنهيّ عنه ، فلا يكون التصديق مقبولا ما لم يحصل التقوى ، وبما روي أن الزاني لا يزني وهو مؤمن ، وبقولهعليه‌السلام : لا إيمان

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٣.

(٢) سورة المائدة : ٢٧.

١٤٧

_____________________________________________

لمن لا أمانة له ، وبقوله تعالى : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ »(١) وقد لا يحكم بما أنزل الله أو يحكم بما لم ينزل الله مصدقاً فلو تحقّق الإيمان بالتصديق لزم اجتماع الكفر والإيمان في محل واحد وهو محال لتقابلهما بالعدم والملكة.

والجواب عن الأوّل أنّه يجوز أن يكون المراد والله أعلم الأعمال الندبية ، على أنا نقول أن ظاهر الآية الكريمة متروك فإنّها تدلّ ظاهراً على أن من أخلص في جميع أفعاله وكان قد سبق منه معصية واحدة لم يثبت عليها ويكون جميع الطّاعات اللاحقة غير مقبولة ، والقول بذلك مع بعده عن حكمة الله تعالى من أفظع الفظائع فلا يكون مراداً ، بل المراد والله أعلم أن من عمل عملاً إنّما يكون مقبولاً إذا كان متقيّاً فيه بأن يكون مخلصاً فيه لله تعالى وحينئذ فلا دلالة لهم في الآية الكريمة.

مع أنا لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بدلالتها على عدم قبول التصديق من دون التقوى فلا يحصل بذلك مدّعاهم الذي هو كون الإيمان عبارة عن جميع الواجبات « إلخ » ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الإيمان عبارة عمّا ذكرتهم مع التصديق بالمعارف الأصولية وعدم قبول الجزء إنّما هو لعدم قبول الكلّ ، وأمّا الحديث الأوّل على تقدير تسليمه فيمكن حمله على المبالغة في الزجر أو تخصيصه بمن استحلّ ودليل التخصيص في أحاديث أخر ، أو على نفي الكمال في الإيمان ، وكذا الحديث الثاني.

وأمّا الاستدلال بالآية فقد تعارض بقوله تعالى : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٢) والفاسق مؤمن على المذهب الحقّ أو بيّن المنزلتين على غيره ويمكن أن يقال : الفسق لا ينافي الكفر إذ الكافر فاسق لغة وإن كان في العرف يباينه لكنّه لم يتحقّق كونه عرف الشارع ، بل المعلوم كونه لأهل الشرع والأصول فلا تعارض حينئذ.

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة المائدة : ٤٧.

١٤٨

_____________________________________________

أقول : والحقّ في الجواب أنَّ المراد والله أعلم : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، أي بما علم قطعاً أن الله سبحانه أنزله فإن العدول عنه إلى غيره مستحلا أو الوقوف عنه كذلك لا ريب في كونه كفرا لأنه إنكار لـمّا علم ثبوته ضرورة فلا يكون التصديق حأصلاً وحينئذ فلا دلالة فيها على أن من ارتكب معصية غير مستحلّ أو مستحلاً مع كون تحريمها لم يعلم من الدين ضرورة يكون كافراً ، وإنّما ارتكبنا هذا الإضمار في الآية لـمّا دلّ عليه النص والإجماع من أن الحاكم لو أخطأ في حكمه لم يكفر مع أنه يصدق عليه أنه لم يحكم بما أنزل الله.

واعلم أنّه قد ظهر من هذا الجواب وجه آخر للجمع بيّن الآيتين ووقع التعارض بيّن ظاهر هما بأن يراد من إحداهما ما ذكرناه في الجواب ومن الأخرى ومن لم يحكم غير مستحلّ مع علمه بالتحريم فهو فاسق ، والحاصل أنه يقال لهم : إن أردتم بالطّاعات والتروك ما علم ثبوته من الدين ضرورة فنحن نقول بموجب ذلك ، لكن لا يلزم منه مدّعا كم لجواز كون الحكم بكفره إمّا لجحده ما علم من الدين ضرورة فيكون قد أخل بما هو شرط الإيمان وهو عدم الجحد على ما قدّمناه ، أو لكون المذكورات جزء الإيمان على ما ذهب إليه بعضهم ، وإن أردتم الأعمّ فلا دلالة لكم فيها أيضاً وهو ظاهر.

وامّا أهل الخامس القائلون بأنّه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فيستدلّ لهم بما استدلّ به أهل التصديق مع ما استدلّ به أهل الأعمال ومن أضاف الإقرار باللسان إلى الجنان ، وقد علمت تزييف ما سوى الأوّل وسيجيء إنشاء الله تعالى تزييف أدلّة من أضاف الإقرار فلم يبق لمذهبهم قرار.

نعم في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ما يشهد لهم وقد ذكر في الكافي وغيره منها جملّة فمنها ما رواه عليّ بن إبراهيم عن العبّاس بن معروف عن عبد الرّحمن بن أبي نجران عن حمّاد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير قال : كتبت مع عبد الملك بن أعين

١٤٩

_____________________________________________

إلى أبي عبد اللهعليهم‌السلام أسئله عن الإيمان ما هو إلى آخر الخبر ، ومنها ما رواه عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن عجلان أبي صالح قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أوقفني على حدود الإيمان ، الخبر. ومنها : أبو عليّ الأشعريّ عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان أو غيره عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن الإيمان ، الخبر.

ثمَّ قالقدس‌سره : واعلم أنّ هذه الأحاديث منها ما سنده غير نقي كالأوّل ، فإن في سنده عبد الرّحيم وهو مجهول مع كونه مكاتبة ، وامّا الثاني فإن سنده وإن كان جيّداً إلّا أنّ دلالته غير صريحة فإن كون المذكورات حدود الإيمان لا يقتضي كونها نفس حقيقته إذ حد الشيء نهايته وما لا يجوز تجاوزه ، فإن تجاوزه خرج عنه ، ونحن نقول بموجب ذلك فإن من تجاوز هذه المذكورات بأن تركها جأحداً لا ريب في خروجه عن الإيمان ، لكن لعلّ ذلك لكونها شروطا للإيمان ، لا لكونّها نفسه ، وامّا الثالث فإن دلالته وإن كانت جيدة إلّا أن في سنده إرسإلّا مع كون العلاء مشتركاً بيّن المقبول والمجهول ، وبالجملّة فهذه الرواية معارضة بما هو أمتن منها دلالة ، وقد تقدّم ذلك فليراجع ، نعم لا ريب في كونها مؤيدة لـمّا قالوه.

وامّا أهل السادس القائلون بأنّه التصديق مع كلمتي الشهادة ففيما مرّ من الأحاديث ما يصلح شاهداً لهم ، وكذا ما ذكره الكراميّة مع ما ذكره أهل التصديق يصلح شاهداً لهم ، وقد عرفت ما في الأولين فلا نعيده ، وامّا السابع فإنه مذهب جماعة من المتأخرين منهم المحقق الطوسي (ره) في تجريده فإنه اعتبر في حقيقة الإيمان مع التصديق الإقرار باللسان ، قال : ولا يكفي الأوّل لقوله تعالى : «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ »(١) أثبت للكفّار الاستيقان النفسي وهو التصديق القلبي ، فلو كان الإيمان هو التصديق القلبي فقط لزم اجتماع الكفر والإيمان وهو باطل لتقابلهما

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

١٥٠

_____________________________________________

تقابل العدم والملكة ، ولا الثاني يعني الإقرار باللسان لقوله تعالى : «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا »(١) الآية ولقوله تعالى : «وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »(٢) فأثبت لهم تعالى في الآيتين التصديق باللسان ، ونفي عنهم الإيمان.

أقول : الاستدلال على عدم الاكتفاء بالثاني مسلم موجّه وكذا عدم الاكتفاء بالأوّل ، إمّا على اعتبار الإقرار ففيه بحث فإن الدليل أخص من المدعى ، إذ المدعي أن الإيمان لا يحقق إلّا بالتصديق مع الإقرار ، وبدون ذلك يتحقّق الكفر ، والآية الكريمة إنما دلت على ثبوت الكفر لمن جحد أي أنكر الآيات مع علمه بحقيقتها وبينهما واسطة ، فإن من حصل له التصديق اليقينيّ في أوّل الأمر ، ولم يكن تلفظ بكلمات الإيمان لا يقال أنه منكر ولا جاحد ، وحينئذ فلا يلزم اجتماع الكفر والإيمان في مثل هذه الصورة مع أنه غير مقر ولا تارك للإقرار جحدا كما هو المفروض ، هذا إن قصد بالآية الدلالة على اعتبار الإقرار أيضاً ، وإلّا لكان اعتبار الإقرار دعوى مجردة ، وقد علت ما عليه ، وامّا دلالة الآية الكريمة على كفره في صورة جحده واستيقانه فنقول بموجبه لكن ليس لعدم إقراره فقط بل لأنه ضم إنكارا إلى استيقان.

وبالجملة فهو من جملّة العلامات على الحكم بالكفر كما جعل الاستخفاف بالشارع أو الشرع ، ووطي المصحف علامة على الحكم بالكفر ، مع أنّه قد يكون مصدّقاً كما سبقت الإشارة إليه ، نعم غاية ما يلزم أن يكون إقرار المصدّق شرطاً لحكمنا بإيمانه ظاهراً ، وامّا قبل ذلك وبعد التصديق فهو مؤمن عند الله تعالى إذا لم يكن تركه للإقرار عن جحد.

على أنّه يلزمهقدس‌سره أنّ من حصل له التصديق بالمعارف الإلهيّة ثمَّ عرض له الموت فجأة قبل الإقرار يموت كافراً ويستحقّ العذاب الدائم مع اعتقاده

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ٨.

١٥١

_____________________________________________

وحدة الصّانع وحقيّة ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أظنّ أنّ مثل هذا المحقق يلتزم ذلك ، والحاصل أنه إن أرادرحمه‌الله أن كون الإنسان مؤمناً عند الله سبحانه كما هو ظاهر كلامه لا يتحقّق إلّا بمجموع الأمرين فالواسطة والالتزام لا زمان عليه ، وإن أراد أن كونه مؤمناً في ظاهر الشرع لا يتحقّق إلّا بالأمرين معاً فالنزاع لفظي فإن من اكتفى فيه بالتصديق يريد به كونه مؤمناً عند الله تعالى فقط ، وامّا عند النّاس فلا بد في العلم بذلك من الإقرار ونحوه.

واعلم أنّه استدلّ بعضهم على هذا المذهب أيضاً بأنا نعلم بالضرورة أن الإيمان في اللغة هو التصديق ، والدلائل عليه كثيرة ، فإمّا أن يكون في الشرع كذلك أو يكون منقولاً عن معناه في اللغة ، والثاني باطل لأن أكثر الألفاظ تكرار في القرآن وكلام الرسولعليه‌السلام لفظ الإيمان ، فلو كان منقولاً عن معناه اللغوي لوجب أن يكون حاله كحال سائر العبادات الظاهرة في وجوب العلم به فلـمّا لم يكن كذلك علمنا أنه باق على وضع اللغة.

إذا ثبت هذه فنقول : ذلك التصديق إمّا أن يكون هو التصديق القلبي أو اللساني أو مجموعهما ، والأوّل باطل لقوله تعالى : «فَلـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ »(١) فأثبت لهم المعرفة مع أنه حكم بكفرهم ولو كان مجردّ المعرفة إيمانا لـمّا صحّ ذلك وأيضاً قوله تعالى : «فَلـمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيّن وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلـمّا وَعُلُوًّا »(٢) ولا يصحّ أن يكون جحدهم لها بقلوبهم حيث أثبت لهم الاستيقان بها ، فلا بد أن يكون بألسنتهم حيث لم يقرّوا بها وإذا كان الجحد باللسان موجبا للكفر كان الإقرار به مع التصديق القلبي موجباً للإيمان فيكون الإقرار من محققات الإيمان ، وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام إذا يقول لفرعون : «لَقَدْ عَلِمْتَ

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٩.

(٢) سورة النمل : ١٤.

١٥٢

_____________________________________________

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إلّا ربِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »(١) فأثبت كونه عالـماً بأن الله تعالى هو الذي أنزل الآيات الّتي جاء بها موسىعليه‌السلام ، فلو كان مجردّ العلم هو الإيمان لكان فرعون مؤمناً وهو باطل بنص القرآن العزيز وإجماع الأنبياءعليهم‌السلام من لدن موسى إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضاً قوله تعالى : «فَأنّهم لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ »(٢) ومعنى ذلك والله أعلم : أنّهم يجحدون ذلك بألسنتهم ولا يكذبونك بقلوبهم أي يعلمون نبوتك ، ولا يستقيم أن يكون المعنى لا يكذبونك بألسنتهم لمنافاة يجحدون بألسنتهم له ، فيلزم أن يكونوا كذبوا بألسنتهم ولم يكذبوا بها وبطلانه ظاهر فيجب تنزيه القرآن العزيز عنه.

ولك أن تقول : لم لا يجوز أن يكون المعنى لا يكذبونك بألسنتهم ولكن يجحدون نبوتك بقلوبهم كما أخبر الله تعالى عن المنافقين في سورتهم حيث قالوا «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ » ، وكذبهم الله تعالى حيث شهد سبحانه وتعالى بكذبهم فقال : «وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ » والمراد في شهادتهم أي فيما تضمنته من أنها عن صميم القلب وخلوص الاعتقاد كما ذكره جماعة من المفسّرين حيث لم توافق عقيدتهم فقد علم من ذلك أنّهم لم يكذّبوه بألسنتهم بل شهدوا له بها ، ولكنّهم جحدوا ذلك بقلوبهم حيث كذبهم الله تعالى في شهادتهم.

والجواب التكذيب لهم وردّ على نفس شهادتهم الّتي هي باللسان لا على نفس عقيدتهم ، وبالجملّة فهذا لا يصلح نظيرا لـمّا نحن فيه ، على أن معنى الجحد كما قرروه هو الإنكار باللسان مع تصديق القلب ، وما ذكر من الاحتمال عكس هذا المعنى.

ثمَّ قال : والثاني باطل أمّا أولاً فبالاتفاق من الإماميّة ، وامّا ثانياً فلقوله تعالى : «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسلّمنا »(٣) ولا شك أنّهم كانوا

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٠٢.

(٢) سورة الأنعام : ٣٣.

(٣) سورة الحجرات : ١٤.

١٥٣

_____________________________________________

صدّقوا بألسنتهم وحيث لم يكن كافياً نفى الله تعالى عنهم الإيمان مع تحققه ، وقوله تعالى : «وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »(١) فأثبت لهم الإقرار والتصديق باللسان ، ونفي إيمأنّهم فثبت بذلك أن الإيمان هو التصديق مع الإقرار.

ثمَّ قال : لا يقال : لو كان الإقرار باللسان جزء الإيمان للزم كفر الساكت؟ لأنا نقول : لو كان الإيمان هو العلم أي التصديق لكان النائم غير مؤمن لكن لـمّا كان النوم لا يخرجه عن كونه مؤمناً بالإجماع مع كونه أولى بأن يخرج النائم عن الإيمان لأنه لا يبقى معه معنى من الإيمان بخلاف الساكت ، فإنه قد بقي معه معنى منه وهو العلم لم يكن السكوت مخرجا بطريق أولى ، نعم لو كان الخروج عن التصديق والإقرار أو عن أحدهما على جهة الإنكار والجحد لخرج بذلك عن الإيمان ، ولذلك قلنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان أو ما في حكمهما ، انتهى محصّل ما ذكره.

أقول : قوله : إنّ النائم ينتفي عنه العلم أي التصديق غير مسلم ، وإنما المنتفي شعوره بذلك العلم وهو غير العلم ، فالتصديق حينئذ باق لكونه من الكيفيات النفسيّة ، فلا يزيله النوم وحينئذ فلا يلزم من عدم الحكم بانتفاء الإيمان عن النائم عدم الحكم بانتفائه عن السّاكت بطريق أولى ، نعم الحكم بعدم انتفائه عن الساكت على مذهب من جعل الإقرار جزءا إمّا للزوم الحرج العظيم بدوام الإقرار في كلّ وقت أو أن يكون المراد من كون الإقرار جزءاً للإيمان الإقرار في الجملّة أي في وقت ما مع البقاء عليه ، فلا ينافيه السكوت المجردّ ، وإنّما ينافيه مع الجحد لعدم بقاء الإقرار حينئذ.

وأقول : الذي ذكره من الدليل على عدم النقل لا يدلّ وحده على كون الإقرار جزءا وهو ظاهر ، بل قصد به الدلالة على بطلان ما عدا مذهب أهل التصديق ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٨.

١٥٤

_____________________________________________

ثمَّ استدلّ على بطلان مذهب التصديق بما ذكره من الآيات الدالة على اعتبار الإقرار في الإيمان الشرعيّ تخصيصاً للغوي كما هو عند أهل التصديق وهذا جيد ، لكن دلالة الآيات على اعتبار الإقرار ممنوعة ، وقد بينا ذلك سابقاً أن تكفيرهم إنما كان لجحدهم الإقرار وهو أخص من عدم الإقرار فتكفيرهم بالجحد لا يستلزم تكفيرهم بمطلق عدم الإقرار ليكون الإقرار معتبراً.

نعم اللّازم من الآيات اعتبار عدم الجحد مع التصديق وهو أعمّ من الإقرار واعتبار الأعمّ لا يستلزم اعتبار الأخصّ وهو ظاهر.

وهذا جواب عن استدلاله بجميع الآيات ، ويزيد في الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى ، في الحكاية عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ »(١) الآية أنّه يجوز أن يكون نسب إلى فرعون العلم على طريق الملاطفة والملأئمّة حيث كان مأموراً بذلك بقوله : «فَقولاً لَهُ قولاً لَيِّناً ، لَعَلَّهُ يتذكّر أَوْ يَخْشى »(٢) وهذا شائع في الاستعمال كما يقال في المحاورات كثيرا ، وأنت خبير بأنّه كذا وكذا ، مع أن المخاطب بذلك قد لا يكون عارفاً بذلك المعنى أصلاً ، بل قد لا يكون هناك مخاطب أصلاً كما يقع في المؤلفات كثيراً.

وعلى هذا فلا تدلّ الآية على ثبوت العلم لفرعون ، ولو سلم ثبوته كان الحكم بكفره للجحد لا لعدم الإقرار مطلقاً كما سبق بيانه.

واعلم أن المحّقق الطوسيقدس‌سره اختار في فصوله الاكتفاء بالتصديق القلبي في تحقّق الإيمان فكأنّهرحمه‌الله لحظّ ما ذكرناه ، وقد استدلّ بعض الشارحين بقوله تعالى : «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ »(٣) وبقوله تعالى : «وَلـمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ »(٤) فيكون حقيقة فيه ، فلو أطلق على غيره لزم الاشتراك أو المجاز

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٠٢. (٢) سورة طه : ٤٤.

(٣) سورة المجأدلّة : ٢٢. (٤) سورة الحجرات : ١٤.

١٥٥

( باب )

( أن الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن سماعة قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان فقال إن الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان فقلت فصفهما لي فقال - الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله به

_____________________________________________

وهما خلاف الأصل ، والإقرار باللسان كاشف عنه والأعمال الصّالحة ثمراته.

أقول : الذي ظهر ممّا حررناه أن الإيمان هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله وحكمته ، وبالنبوة وبكلّ ما علم بالضرورة مجيء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الإقرار بذلك وعلى هذا أكثر المسلمين بل ادعى بعضهم إجماعهم على ذلك ، والتصديق بإمامة الأئمّة الاثني عشرّعليه‌السلام وبإمام الزمان ، وهذا عند الإمامية.

باب أن الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان

الحديث الأول : موثق.

« أهما مختلفان » أي مفهوماً وحقيقة أم متساويان مترادفان « يشارك الإسلام » قيل : المشاركة وعدمها إمّا باعتبار المفهوم فإن مفهوم الإسلام داخل في مفهوم الإيمان دون العكس أو باعتبار الصّدق فإنّ كلّ مؤمن مسلم دون العكس ، أو باعتبار الدخول فإن الداخل في الإيمان داخل في الإسلام بدون العكس أو باعتبار الأحكام فإن أحكام الإسلام ثابتة للإيمان بغير عكس.

« فصفهما لي » أي بيّن لي حقيقتهما « شهادة أن لا إله إلّا الله » بيان لأجزاء الإسلام « به حقنت » بيان لأحكام الإسلام ، ويدلّ على التوارث بيّن جميع فرّق المسلمين كما هو المشهور ، والظاهر أن المراد بالشهادة والتصديق الإقرار الظاهري كما مرّ

١٥٦

حقنت الدّماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة النّاس والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان

_____________________________________________

أنّه إطلاقه الشّايع ويحتمل التصديق القلبي فيكون إشارة إلى معنى آخر للإسلام ، ويحتمل أن يكون أصل معناه الإقرار القلبي وإن ترتّبت الأحكام على الإقرار الظاهري ، بناء على الحكم بالظاهر ما لم يظهر خلافه ، لعدم إمكان الاطلاع عليّ القلب كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهل شققت قلبه؟ ولذا قالعليه‌السلام وعلى ظاهره جماعة النّاس فتأمل ، وعلى هذا فلا فرّق بيّن الإيمان والإسلام إلّا بالولاية والإقرار بالأئمّةعليهم‌السلام ، إذ في الإيمان أيضاً يحكم بالظاهر والأوّل أظهر ، والمراد بالهدي الولاية والاهتداء بالأئمّةعليهم‌السلام وما يثبت في القلوب إشارة إلى العقائد القلبية بالشهادة الظاهرة الإسلامية فكلمة « من » في قوله : من صفة الإسلام ، بيانية ، ويحتمل أن يكون ابتدائية أي ما يسري من أثر الأعمال الظاهرة إلى الباطن ، وقوله : وما ظهر من العمل ، يدلّ على أن الأعمال أجزاء الإيمان وإن أمكن حمله على الشهادتين كما يومئ إليه آخر الخبر.

« أرفع من الإسلام » لأنه يصير سبباً لإحراز المثوبات الأخروية أو لاعتبار الولاية فيه فيكون أكمل وأجمع.

قولهعليه‌السلام : الإيمان يشارك الإسلام ظاهره أنه لا فرّق بيّن العقائد الإيمانية والإسلامية ، والفرّق بينهما أن في الإيمان يعتبر الإقرار الظاهريّ والتصديق الباطني معاً بخلاف الإسلام فإنّه لا يعتبر فيه إلّا الظاهر فقط ، وقد يأوّل بأنّ المراد أنّ الإيمان يشارك الإسلام في جميع الأعمال الظاهرة المعتبرة في الإسلام مثل الصلاة والزكاة وغيرهما ، والإسلام لا يشارك الإيمان في جميع الأمور الباطنة المعتبرة في الإيمان ، لأنه لا يشاركه في التصديق بالولاية وإن اجتمعاً في الشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة ، قيل : ومنه يتبيّن أنّ الإيمان كالنوع والإسلام كالجنس ، وقد

١٥٧

في الباطن وإن اجتمعاً في القول والصفة.

٢ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرّحمن ، عن موسى بن بكر ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان.

٣ - عليَّ ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام إن الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدّماء والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان.

٤ - عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي الصباح الكنانيّ قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام أيهما أفضل الإيمان أو الإسلام فإن من قبلنا يقولون إن الإسلام أفضل من الإيمان فقال الإيمان

_____________________________________________

يطلق الإسلام ويراد به هذا النوع مجازاً من باب إطلاق العام على الخاص ، ولعلّ قوله تعالى : «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها »(١) الآية من هذا الباب ، فقول من زعم أنهما مترادفان وتمسك بهذه الآية مدفوع.

الحديث الثاني : ضعيف كالموثق وقد مرّ القول فيه.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وهو خلاصة من الخبر الأوّل ، وفي النهاية بشيء وقر في القلب ، أي سكن فيه وثبت من الوقار الحلم والرزانة ، وقر يقر وقاراً وفي المصباح : الوقار الحلم والرزانة وهو مصدر وقر بالضمّ مثل جمل جمإلّا ، ويقال أيضاً وقر يقر من باب وعد ، ووقر من باب وعد أيضاً أي جلس بوقار.

الحديث الرابع : صحيح.

« أيّهما أفضل »؟ مبتدأ وخبر ، والإيمان والإسلام تفسير لمرجع الضّمير ، أو هما

__________________

(١) سورة الذاريات : ٣٥ ،.

١٥٨

أرفع من الإسلام قلت فأوجدني ذلك قال ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمّداً ؟ قال : قلت يضربِّ ضرباً شديداً قال أصبت قال فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمّداً قلت يقتل قال أصبت إلّا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان.

٥ - عدَّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعاً ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن حمران بن أعين ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال سمعته يقول الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ وصدقه

_____________________________________________

مبتدأ وأيهما أفضل خبر « أوجدني ذلك » أي اجعلني أجدّه وأفهمه ، وفي القاموس : وجد المطلوب كوعد وورم يجدّه ويجدّه بضم الجيم وجد أوجدّه أدركه وأوجدّه أغناه ، وفلاناً مطلوبه أظفره به ، وبعد ضعف قواه كأجده.

قوله : متعمّداً أي لا ساهيا ولا مضطرا ، ويدلّ على كفر من استخف بالكعبة فإنّها من حرمات الله ووجوب تعظيمها من ضروريات الدين « إلّا ترى أن الكعبة » شبّهعليه‌السلام المعقول بالمحسوس إفهاما للسائل وبيانا للعموم والخصوص ، وشرف الإيمان على الإسلام « وأن الكعبة تشرك المسجد » أي في حكم التعظيم في الجملّة أو في أنّها يصدق عليها أنّها مسجد وكعبة ، أو في أن من دخل الكعبة يحكم بدخوله في المسجد بخلاف العكس.

« والمسجد » أي جميع أجزائه « لا يشرك الكعبة » في قدر التعظيم وعقوبة من استخف بها أو لا يصدق على كلّ جزء من المسجد أنه كعبة ، أو في أن من دخلها دخل الكعبة كما سيأتي ووجه الشبّه على جميع الوجوه ظاهر.

الحديث الخامس : حسن.

قولهعليه‌السلام « وأفضى به إلى الله » الضّمير إمّا راجع إلى القلب أو إلى صاحبه أي أوصله إلى معرفة الله وقربّه وثوابه فالضّمير في أفضى راجع إلى ما ، ويحتمل أن يكون

١٥٩

العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة النّاس من الفرّق كلها وبه حقنت الدّماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصّوم والحجّ فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان ؛ والإسلام لا يشرك الايمان و الايمان يشرك الاسلام و هما في القول و الفعل يجتمعان ، كما صارت الكعبة في المسجد و المسجد ليس في الكعبة و كذلك الايمان

_____________________________________________

راجعاً إلى المؤمن وضمير به راجعاً إلى الموصول أي وصل بسبب ذلك الاعتقاد أو أوصل ذلك الاعتقاد إلى الله كناية عن علمه سبحانه بحصوله في قلبه ، وقيل : أي جعل وجه القلب إلى الله من الفضائل والأحكام أي الفضائل الدنيويّة والأحكام الشرعية ، قال في المصباح : أفضى الرجل بيده إلى الأرض بالألف مسّها بباطن راحته قاله ابن فارس وغيره ، وأفضيت إلى الشيء وصلت إليه والسرّ أعلمته به ، انتهى.

وقيل : أشار به إلى أنّ المراد بما استقرّ في القلب مجموع التصديق بالتوحيد والرسالة والولاية ، لأن هذا المجموع هو المفضي إلى الله ، وقوله : وصدقه العمل ، مشعر بأن العمل خارج عن الإيمان. ودليل عليه ، لأن الإيمان وهو التصديق أمر قلبي يعلم بدليل خارجي مع ما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان بلا عمل ليس بإيمان « والتسليم لأمره » أي الإمامة عبّر هكذا تقية أو الأعمّ فيشملها أيضاً ، ويحتمل أن يكون عدم ذكر الولاية لأن التصديق القلبي الواقعي بالشهادتين مستلزم للإقرار بالولاية فكأن المخالفين ليس إذعأنّهم إلّا إذعانا ظاهريا لإخلالهم بما يستلزمانه من الإقرار بالولاية ، فلذا أطلق عليهم في الأخبار اسم النفاق والشرك فتفطن.

« والإسلام ما ظهر من قول أو فعل » أي قول بالشهادتين أو الأعمّ وفعل بالطّاعات كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، فيدلّ على أن الإسلام يطلق عليّ مجردّ الطّاعات والشهادات من غير اشتراط التصديق « فخرجوا بذلك من الكفر » أي من أن يجري عليهم في الدنيا أحكام الكفّار « وأضيفوا إلى الإيمان » أي نسبوا إلى الإيمان ظاهراً وإن لم يكونوا متصفين به حقيقة « وهما في القول والفعل يجتمعان »

١٦٠