مرآة العقول الجزء ٧

مرآة العقول10%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الحديث
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 378

المقدمة الجزء ١ المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11432 / تحميل: 6840
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: دار الحديث
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

خلع عنه الإيمان كخلع القميص ونزل بالمدينة «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(١) فبرأه الله

______________________________________________________

لنفي البصيرة ، أي ليس هو ذا بصيرة ، وقال ابن عباس : أي ليس ذا نور وقيل : أي ليس بمستحضر الإيمان ، وقيل : أي ليس هو بعاقل لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة والحكم بالمرجوح بخلاف المعقول ، وقيل : المقصود نفي الحياء ، والحياء شعبة من الإيمان أي ليس بمستحي من الله سبحانه.

ولا يخفى ما في أكثر هذه الوجوه من البعد والركاكة.

« وأنزل بالمدينة » أي في سورة النور : «الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ » أي يقذفون العفائف من النساء بالزنا «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » أي بأربعة عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ما رموهن به من الزنا «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » خبر الذين بتأويل «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً » خبر ثان ، وتنكير شهادة للعموم ، أي في أمر من الأمور كانأبدا تأكيد للعموم أي ما لم يتب «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » أي هم في أعلى مراتب الفسق حتى كأنه لا فاسق غيرهم فقد عبر عنهم باسم الإشارة وعرف الخبر وأتى بضمير الفصل مبالغة في ادعاء حصر الفسق فيهم وقصره عليهم.

قيل : ويمكن أن يكون حالا أو اعتراضا يجري مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة «إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا » عن القذف وندموا ورجعوا بالتدارك «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ » أي من بعد إقامة الحد ، وقيل : من بعد الرمي «وَأَصْلَحُوا » سرائرهم وأعمالهم فاستقاموا على مقتضى التوبة ، قالوا ومنه الاستسلام للحد والاستحلال من المقذوف والعزم على عدم العود إلى ذلك ، وعلى ترك جميع المناهي على قول.

وفي المجمع : ومن شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه فيما قاله فإن لم يفعل ذلك لم يجز قبول شهادته «فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » علة للاستثناء.

قوله عليه‌السلام : «فَبَرَّأَهُ اللهُ » الظاهر أنهعليه‌السلام استدل على عدم وصفهم بالإيمان

__________________

(١) سورة النور : ٥.

٢٠١

ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان قال الله عز وجل : «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ »(١) وجعله الله منافقا قال الله عز وجل : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٢) وجعله عز وجل من أولياء إبليس قال «إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ

______________________________________________________

بوصفهم بالفسق لأن في عرف القرآن لازم للكفر ولم يطلق فيه الفاسق إلا على الكافر كقوله تعالى : «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً » فقابل بين الإيمان والفسق ، فدل على أن الفاسق ليس بمؤمن ، وقال : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ » فخص الفاسق في المنافق فجعله الله منافقا« وجعله من أولياء إبليس » حيث أطلق الفسق عليهما ، وأيضا إذا نظرت في الآيات الكريمة وسبرتها لم تر الفاسق أطلق فيها إلا على الكافر.

قال الراغب : فسق فلان : خرج من حد الشرع ، وذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكافر ، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيرا ، وأكثر ما يقال لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة ، قال عز وجل : «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ »(٣) «فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ »(٤) «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ »(٥) «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٦) «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ »(٧) وقال : «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٨) وقال تعالى : «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ »(٩) «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »(١٠) «وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ »(١١) «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(١٢) و «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »(١٣) انتهى.

__________________

(١) سورة السجدة : ١٨. (٢) سورة التوبة : ٦٧.

(٣) سورة الكهف : ٥٠. (٤) سورة الإسراء : ١٦.

(٥) سورة آل عمران : ١٨. (٦) سورة النور : ٣.

(٧) سورة السجدة : ١٨. (٨) سورة النور : ٥٥.

(٩) سورة السجدة : ٢٠. (١٠) سورة الأنعام : ٤٩.

(١١) سورة الصفّ : ٥. (١٢) سورة التوبة : ٦٧.

(١٣) سورة يونس : ٣٣.

٢٠٢

فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ »(١) وجعله ملعونا فقال : «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ »(٢) وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل : «فَأَمَّا

______________________________________________________

« وجعله » أي الرامي «الْمُحْصَناتِ » أي العفائف «الْغافِلاتِ » مما قذفن به «الْمُؤْمِناتِ » بالله ورسوله وما جاء به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » بما طعنوا فيهن «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » لعظم ذنوبهم.

«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ » ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب «أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ » يعترفون بها بإنطاق الله إياها بغير اختيارهم أو بظهور آثاره عليها.

قوله عليه‌السلام : وليست تشهد ، يدل على أن شهادة الجوارح إنما هي للكفار كما ذكره جماعة من المفسرين ، وذكره الشيخ البهائي (ره) في الأربعين.

قوله عليه‌السلام : فيعطى كتابه بيمينه ، أي فيقرأه ، ومن تنطق جوارحه يختم على فيه ، لقوله تعالى : «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ »(٣) أو لأن سياق آيات شهادة الجوارح تدل على غاية الغضب ، والآيات النازلة في المؤمنين مشتملة على نهاية اللطف كقوله سبحانه : «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ »(٤) أي من المدعوين «كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » أي كتاب عمله «فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ » ابتهاجا بما يرون فيه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » أي ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، والفتيل : المفتول ، وسمي ما يكون في شق النواة فتيلا لكونه على هيئته ، وقيل : هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير.

ثم اعلم أن هذا المضمون وقع في مواضع من القرآن المجيد أو لها في بني إسرائيل : «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » إلى آخر ما في الحديث.

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٨.

(٢) سورة النور : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) سورة يس : ٦٥.

(٤) سورة الإسراء : ٧١.

٢٠٣

مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً »(١) وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء «وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَ

______________________________________________________

وثانيها في إلحاقه «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ » وثالثها في الانشقاق : «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ».

وما في الحديث لا يوافق شيئا منها وإن كان بالأول أنسب ، فكأنه من تصحيف النساخ أو كان في قراءتهمعليهم‌السلام هكذا ، أو نقل بالمعنى جمعا بين الآيات.

« وسورة النور أنزلت » كان هذا جواب عن اعتراض مقدر ، وهو أنه لما أنزل الله في سورة النساء مرتين «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* » ، وهي تدل على عدم ترتب العذاب على غير الشرك ، فيمكن كونها ناسخة للآيات الدالة على عقوبات أصحاب الكبائر وعدم كونهم من المؤمنين ، فأجابعليه‌السلام بعد التنزل على عدم المخالفة بين هذه الآية وتلك الآيات لأن تجويز المغفرة لمن شاء الله لا ينافي استحقاقهم للعذاب والعقاب وخروجهم عن الإيمان بأحد معانيه بأن أكثر ما أوردنا من الآيات واستدللنا بها إنما هي في سورة النور وهي نزلت بعد سورة النساء فكيف تكون آية النساء ناسخة لها ، فلو احتاج التوفيق إلى القول بالنسخ لكان الأمر بعكس ما قلتم ، مع أنه لا قائل بالفصل.

ثم استدلعليه‌السلام على ذلك بأن الله تعالى قال في سورة النساء : «أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » والسبيل هو الذي ذكره من الحد في سورة النور ، ويحتمل أن يكون الغرض إفادة دليل آخر على ما سبق من نزول الأحكام مدرجا ونسخ الأشد للأضعف لكن الأول أظهر.

«وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ » ذهب الأكثر إلى أن المراد بالفاحشة الزنا ، وقيل : هي المساحقة «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ » الخطاب للأئمة

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٤.

٢٠٤

فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً »(١) والسبيل الذي قال الله عز وجل : «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ »(٢) .

______________________________________________________

والحكام بطلب أربعة رجال من المسلمين شهودا عليهن وقيل : الخطاب للأزواج «فَإِنْ شَهِدُوا » أي الأربعة «فَأَمْسِكُوهُنَ » أي فاحبسوهن «فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ » أي يدركهن «الْمَوْتُ » قيل : أريد به صيانتهن عن مثل فعلهن والأكثر على أنه على وجه الحد على الزنا قالوا : كان في بدو الإسلام إن فجرت المرأة وقام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتى تموت ، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين. «أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » أي ببيان الحكم كما مر وقيل : بالتوبة أو بالنكاح المغني عن السفاح ، وقالوا : لما نزل قوله تعالى : «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا » قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا عني قد جعل الله سبيلا.

«سُورَةٌ » أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة «أَنْزَلْناها » صفة «وَفَرَضْناها » أي فرضنا ما فيها من الأحكام «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » فتتقون الحرام «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي » قيل : أي فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر «فَاجْلِدُوا » إلى قوله «رَأْفَةٌ » أي رحمه «فِي دِينِ اللهِ » أي في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ » فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله.

ثم اعلم أن عدم ذكر الولاية في هذا الخبر مع أنها الغرض الأصلي منه لنوع من التقية لأنهعليه‌السلام ذكره إلزاما عليهم حيث أنكروا كون الولاية جزءا من الإيمان.

__________________

(١) سورة النساء : ١٤.

(٢) سورة النور : ١ ـ ٢.

٢٠٥

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن فضيل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مؤمنا قال فأين فرائض الله قال وسمعته يقول كان عليعليه‌السلام يقول لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام قال وقلت لأبي جعفرعليه‌السلام إن عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مؤمن قال فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم وما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من المؤمن لأن الملائكة خدام المؤمنين وأن جوار الله للمؤمنين وأن الجنة للمؤمنين وأن الحور العين للمؤمنين ثم قال فما بال من جحد الفرائض كان كافرا.

______________________________________________________

الحديث الثاني : مجهول.

والحاصل أن الإيمان الذي هو سبب لرفع الدرجات والتخلص من العقوبات في الدنيا والآخرة ليس محض العقائد وإلا لم يفرض الله الفرائض ولم يتوعد على المعاصي ، وأيضا ما ورد في الآيات والأخبار من كرامة المؤمنين ودرجاتهم ومنازلهم ينافي إجراء الحدود عليهم وإذا لهم وإهانتهم ، فلا بد من خروجهم عن الإيمان حين استحقاقهم تلك العقوبات.

قوله : فما بال من جحد؟ لعل المعنى أنه لو كان الإيمان محض التكلم بالشهادتين أو الاعتقاد بهما كما تزعمون لم يكن جحد الفرائض موجبا للكفر مع أنكم توافقوننا في ذلك لورود الأخبار فيه ، فلم لا تقولون بعدم إيمان تاركي الفرائض ومرتكبي الكبائر أيضا مع ورود الأخبار الكثيرة فيها أيضا ، وقيل : المراد بجحد الفرائض تركها عمدا من غير عذر فإنه يؤذن بالاستخفاف والجحد.

قال الشهيد الثاني رفع الله درجته في بيان حقيقة الكفر : عرفه جماعة بأنه عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون مؤمنا سواء كان ذلك العدم بضد أو لا بضد فبالضد كان يعتقد عدم الأصول التي بمعرفتها يتحقق الإيمان أو عدم شيء منها وبغير الضد

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كالخالي من الاعتقادين أي اعتقاد ما به يتحقق الإيمان واعتقاد عدمه ، وذلك كالشاك أو الخالي بالكلية كالذي لم يقرع سمعه شيء من الأمور التي يتحقق الإيمان بها.

ويمكن إدخال الشاك في القسم الأول إذ الضد يخطر بباله وإلا لما صار شاكا ، واعترض عليه بأن الكفر قد يتحقق مع التصديق بالأصول المعتبرة في الإيمان كما إذا ألقى إنسان المصحف في القاذورات عامدا أو وطأه كذلك أو ترك الإقرار باللسان جحدا وحينئذ فينقض حد الإيمان منعا وحد الكفر جمعا.

وأجيب تارة بأنا لا نسلم بقاء التصديق لفاعل ذلك ، ولو سلمنا يجوز أن يكون الشارع جعل وقوع شيء من ذلك علامة وأمارة على تكذيب فاعل ذلك وعدم تصديقه فيحكم بكفره عند صدور ذلك منه ، وهذا كما جعل الإقرار باللسان علامة على الحكم بالإيمان مع أنه قد يكون كافرا في نفس الأمر.

وتارة بأنه يجوز أن يكون الشارع حكم بكفره ظاهرا عند صدور شيء من ذلك حسما لمادة جرأة المكلفين على انتهاك حرماته وتعدى حدوده ، وإن كان التصديق في نفس الأمر حاصلا وغاية ما يلزم من ذلك جواز الحكم بكون شخص واحد مؤمنا وكافرا وهذا لا محذور فيه لأنا نحكم بكفره ظاهرا وإمكان إيمانه باطنا فالموضوع مختلف فلم يتحقق اجتماع المتقابلين ليكون محالا ، ونظير ذلك ما ذكرناه من دلالة الإقرار على الإيمان فيحكم به مع جواز كونه كافرا في نفس الأمر.

وأقول أيضا : أن النقض المذكور لا يرد على جامعية تعريف الكفر وذلك لأنه قد بين أن العدم المأخوذ فيه أعم من أن يكون بالضد أو غيره ، وما ذكر من موارد النقض داخل في غير الضد كما لا يخفى ، وحينئذ فجامعيته سالمة لصدقه على الموارد المذكورة والناقض والمجيب غفلا عن ذلك.

ويمكن الجواب عن مانعية تعريف الإيمان أيضا بأن نقول من عرف الإيمان بالتصديق المذكور جعل عدم الإتيان بشيء من موارد النقض شرطا في اعتبار ذلك

٢٠٧

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن سلام الجعفي قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الإيمان فقال الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى.

______________________________________________________

التصديق شرعا وتحقق حقيقة الإيمان.

والحاصل أنا لما وجدنا الشارع حكم بإيمان المصدق وحكم بكفر من ارتكب شيئا من الأمور المذكورة مطلقا علمنا أن ذلك التصديق إنما يعتبر في نظر الشارع إذا كان مجردا عن ارتكاب شيء من موارد النقض وأمثالها الموجبة للكفر ، فكان عدم الأمور المذكورة شرطا في حصول الإيمان ، ولا ريب أن المشروط عدم عند عدم شرطه وشروط المعرف التي يتوقف عليها وجود ماهيته ملحوظة في التعريف وإن لم يصرح بها فيه للعلم باعتبارها عقلا لما تقرر في بداهة العقول أنه بدون العلة لا يوجب المعلول والشرط من أجزاء العلة كما صرحوا به في بحثها ، والكل لا يوجد بدون جزئه.

وهذا الجواب واللذان قبله لم نجدها لغيرنا بل هي من هبات الواهب تعالى وتقدس ولم نعدم لذلك مثلا وإن لم نكن له أهلا ، انتهى كلامهقدس‌سره .

وأقول : هذه التكلفات إنما يحتاج إليها إذا جعل الإيمان نفس العقائد ولم يدخل فيها الأعمال ومع القول بدخول الأعمال لا حاجة إليها ، مع أن هذا التحقيق يهدم ما أسسه سابقا إذ يجري هذه الوجوه في سائر الأعمال والتروك التي نفي كونها داخلة في الإيمان وما ذكرهعليه‌السلام في آخر الحديث من الإلزام على المخالفين يومئ إلى هذا التحقيق فتأمله.

الحديث الثالث : مجهول.

ويدل على أحد المعاني التي ذكرنا للإيمان ، وحمله القوم على الإيمان الكامل ، وقال بعض المحققين ممن كان في عصرناقدس‌سره : هذا مجمل القول في الإيمان ويفصله سائر الأخبار بعض التفصيل.

وأما الضابط الكلي الذي يحيط بحدوده ومراتبه ويعرفه حق التعريف فهو أن الإيمان الكامل الخالص المنتهى تمامه هو التسليم لله تعالى والتصديق بما

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسانا وقلبا على بصيرة مع امتثال جميع الأوامر والنواهي كما هي ، وذلك إنما يمكن تحققه بعد بلوغ الدعوة النبوية إليه في جميع الأمور أما من لم تصل إليه الدعوة في جميع الأمور أو في بعضها لعدم سماعه أو عدم فهمه فهو ضال أو مستضعف ليس بكافر ولا مؤمن ، وهو أهون الناس عذابا بل أكثر هؤلاء لا يرون عذابا وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً »(١) ومن وصلت إليه الدعوة فلم يسلم ولم يصدق ولو ببعضها إما لاستكبار وعلو أو لتقليد للأسلاف وتعصب لهم أو غير ذلك فهو كافر بحسبه أي بقدر عدم تسليمه وترك تصديقه كفر جحود وعذابه عظيم على حسب جحوده ، وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »(٢) .

ومن وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه وظاهره لعصمة ماله أو دمه أو غير ذلك من الأغراض وأنكرها بقلبه وباطنه لعدم اعتقاده بها فهو كافر كفر نفاق وهو أشدهم عذابا وعذابه أليم بقدر نفاقه.

وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ » إلى قوله : «إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(٣) .

ومن وصلت إليه الدعوة فاعتقدها بقلبه وباطنه لظهور حقيتها لديه وجحدها أو بعضها بلسانه ولم يعترف بها حسدا وبغيا وعتوا وعلوا أو تقليدا وتعصبا أو غير

__________________

(١) سورة النساء : ٩٨.

(٢ و ٣) سورة البقرة : ٧ ـ ١١.

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك فهو كافر كفر تهود ، وعذابه قريب من عذاب المنافق.

وإليهم الإشارة بقوله عز وجل : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) وقوله : «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ »(٢) وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ »(٣) وقوله : «وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا »(٤) وقوله : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ » إلى قوله : «أَشَدِّ الْعَذابِ »(٥) .

ومن وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه وقلبه ولكن لا يكون على بصيرة من دينه إما لسوء فهمه مع استبداده بالرأي وعدم تابعيته للإمام أو نائبه المقتفى أثره حقا وإما لتقليد وتعصب للآباء والأسلاف المستبدين بآرائهم مع سوء إفهامهم أو غير ذلك فهو كافر كفر ضلالة وعذابه على قدر ضلالته وقدر ما يضل فيه من أمر الدين.

وإليهم الإشارة بقوله عز وجل : «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ »(٦) حيث قالوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله ، وبقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ »(٧) وبقول نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

ومن وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه وقلبه على بصيرة واتباع للإمام أو نائبه الحق إلا أنه لم يمتثل جميع الأوامر والنواهي بل أتى ببعض دون بعض بعد أن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٨٩.

(٣) سورة البقرة : ١٥٩.

(٤) سورة النساء : ١٥٠.

(٥) سورة البقرة : ٨٥.

(٦) سورة النساء ، ١٧١.

(٧) سورة المائدة : ٨٧.

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

اعترف بقبح ما يفعله ولكن لغلبة نفسه وهواه عليه فهو فاسق عاص والفسق لا ينافي أصل الإيمان ، ولكن ينافي كماله ، وقد يطلق عليه الكفر وعدم الإيمان أيضا إذا ترك كبار الفرائض أو أتى بكبار المعاصي كما في قوله عز وجل : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ »(١) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، وذلك لأن إيمان مثل هذا لا يدفع عنه أصل العذاب ودخول النار ، وإن دفع عنه الخلود فيها فحيث لا يفيده في جميع الأحوال فكأنه مفقود.

والتحقيق فيه أن المتروك إن كان أحد الأصول الخمسة التي بني الإسلام عليها أو المأتي به إحدى الكبائر من المنهيات خاصة فصاحبه خارج عن أصل الإيمان أيضا ما لم يتب أو لم يحدث نفسه بتوبة لعدم اجتماع ذلك مع التصديق القلبي فهو كافر كفر استخفاف ، وعليه يحمل ما روي من دخول العمل في أصل الإيمان ، روى ابن أبي شعبة عن الصادقعليه‌السلام في حديث طويل أنه قال : لا يخرج المؤمن من صفة الإيمان إلا بترك ما استحق أن يكون به مؤمنا ، وإنما استوجب واستحق اسم الإيمان ومعناه بأداء كبار الفرائض موصولة ، وترك كبار المعاصي واجتنابها وإن ترك صغار الطاعة وارتكب صغار المعاصي فليس بخارج من الإيمان ولا تارك له ما لم يترك شيئا من كبار الطاعة وارتكاب شيء من كبار المعاصي فما لم يفعل ذلك فهو مؤمن بقول الله : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً »(٢) يعني مغفرة ما دون الكبائر فإن هو ارتكب كبيرة من كبائر المعاصي كان مأخوذا بجميع المعاصي صغارها وكبارها معاقبا عليها معذبا بها.

إلى هنا كلام الصادقعليه‌السلام .

إذا عرفت هذا فاعلم أن كل من جهل أمرا من أمور دينه بالجهل البسيط فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٣١.

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

نقص إيمانه بقدر ذلك الجهل ، وكل من أنكر حقا واجب التصديق لاستكبار أو هوي أو تقليد أو تعصب فله عرق من كفر الجحود ، وكل من أظهر بلسانه ما لم يعتقد بباطنه وقلبه لغير غرض ديني كالتقية في محلها ونحو ذلك أو عمل عملا أخرويا لغرض دنيوي فله عرق من النفاق ، وكل من كتم حقا بعد عرفانه أو أنكر ما لم يوافق هواه وقبل ما يوافقه فله عرق من التهود ، وكل من استبد برأيه ولم يتبع إمام زمانه أو نائبه الحق أو من هو أعلم منه في أمر من الأمور الدينية فله عرق من الضلالة ، وكل من أتى حراما أو شبهة أو توانى في طاعة مصرا على ذلك فله عرق من الفسوق ، فإن كان ذلك ترك كبير فريضة أو إتيان كبير معصية فله عرق من كفر الاستخفاف ، ومن أسلم وجهه لله في جميع الأمور من غير غرض وهوى واتبع إمام زمانه أو نائبه الحق آتيا بجميع أوامر الله ونواهيه من غير تواني ولا مداهنة ، فإذا أذنب ذنبا استغفر من قريب وتاب أو زلت قدمه استقام وأناب فهو المؤمن الكامل الممتحن ودينه هو الدين الخالص وهو الشيعي حقا والخالص صدقا وأولئك أصحاب أمير المؤمنين ، بل هو من أهل البيتعليهم‌السلام إذا كان عالما بأمرهم محتملا لسرهم كما قالوا : سلمان منا أهل البيت.

٢١٢

باب

في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد قال حدثنا أبو عمرو الزبيري ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قلت له أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله قال ما لا يقبل الله شيئا إلا به قلت وما هو قال ـ الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا

______________________________________________________

باب في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها

يقال : بث الخبر وأبثه أي نشره.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور لكنه مؤيد بأخبار أخر ، وقد روى النعماني في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ومضامينه دالة على صحته.

قوله عليه‌السلام : الإيمان بالله ، هو مبتدأ وأعلى خبره ، ويحتمل أن يكون المراد به جميع العقائد الإيمانية اكتفي بذكر أشرفها وأعظمها للزومها لسائرها مع أن كون التوحيد أشرف لا ينافي وجوب البقية واشتراطه بها ، والسنا الضوء وبالمد الرفعة ، والحظ النصيب ، والمراد بالقول التصديق القلبي أو هو مع الإقرار اللساني بالعقائد الإيمانية ، وقيل : هو الذي يعبر عنه بالكلام النفسي ، وقد يستدل بقوله : عمل كله ، على أن التصديق المكلف به ليس محض العلم إذ هو من قبيل الانفعال ، بل هو فعل قلبي.

قال شارح المقاصد : والمذهب أنه غير العلم والمعرفة لأن من الكفار من كان يعرف الحق ولا يصدق به عنادا واستكبارا ، قال الله تعالى : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) وقال : «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ »(٢) وقال تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام لفرعون : «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »(٣) فاحتيج إلى الفرق بين العلم بما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معرفته وبين التصديق ليصح كون الأول حاصلا للمعاندين دون الثاني ، وكون الثاني إيمانا دون الأول ، فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب ، وضد المعرفة النكارة والجهالة ، وإليه أشار الغزالي حيث فسر التصديق بالتسليم ، فإنه لا يكون مع الإنكار والاستكبار بخلاف العلم والمعرفة وفصل بعضهم زيادة التفصيل ، وقال : التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من أخبار المخبر وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق ، ولهذا يؤمر ويثاب عليه بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر ، وحققه بعض المتأخرين زيادة تحقيق فقال : المعتبر في الإيمان هو التصديق الاختياري ، ومعناه نسبة التصديق إلى المتكلم اختيارا وبهذا القيد يمتاز عن التصديق المنطقي المقابل للتصور ، فإنه قد يخلو عن الاختيار كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة فوقع في القلب صدقه ضرورة ، من غير أن ينسب إليه اختيارا فإنه لا يقال في اللغة أنه صدقه فلا يكون إيمانا شرعيا ، كيف والتصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا زائدا على العلم لكونه كيفية نفسانية أو انفعالا وهو حصول المعنى في القلب ، والفعل القلبي ليس كذلك بل هو إيقاع النسبة اختيارا الذي هو كلام النفس ، ويسمى عقد القلب فالسوفسطائي عالم بوجود النهار وكذا بعض الكفار بنبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنهم ليسوا بمصدقين لأنهم لا يحكمون اختيارا بل ينكرون.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٦.

(٢) سورة البقرة : ١٤٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٠٢.

٢١٤

قال قلت ألا تخبرني عن الإيمان أقول هو وعمل أم قول بلا عمل فقال الإيمان

______________________________________________________

وكلام هذا القائل متردد يميل تارة إلى أن التصديق المعتبر في الإيمان نوع من التصديق المنطقي لكونه مقيدا بالاختيار وكون التصديق العلمي أعم لا فرق بينهما إلا بلزوم الاختيار وعدمه ، وتارة إلى أنه ليس من جنس العلم أصلا لكونه فعلا اختياريا ، وكون العلم كيفية أو انفعالا ، وعلى هذا الأخير أصر بعض المعتنين بتحقيق الإيمان ، وجزم بأن التسليم الذي فسر به الغزالي التصديق ليس من جنس العلم ، بل أمر وراءه معناه « گردن دادن وگرويدن وحق دانستن مر آن را كه حق دانسته باشى » ويؤيده ما ذكره إمام الحرمين أن التصديق على التحقيق كلام النفس لكن لا يثبت كلام النفس إلا مع العلم.

ونحن نقول : لا شك أن التصديق المعتبر في الإيمان هو ما يعبر فيه في الفارسية « بگرويدن وباور كردن وراستگوى داشتن » إذا أضيف إلى الحاكم « وراست داشتن وحق داشتن » إذا أضيف إلى الحكم ، ولا يكفي مجرد العلم والمعرفة الخالي عن هذا المعنى ، ثم أطال الكلام في ذلك وآل تحقيقه إلى أنه ليس شيء وراء العلم والمعرفة.

وقال المحقق الدواني في شرح العقائد : اعلم أنه لو فسر التصديق المعتبر في الإيمان بما هو أحد قسمي العلم فلا بد من اعتبار قيد آخر ليخرج الكفر العنادي ، وقد عبر عنه بعض المتأخرين بالتسليم والانقياد ، وجعله ركنا من الإيمان ، والأقرب أن يفسر التصديق بالتسليم الباطني والانقياد القلبي ويقرب منه ما قيل : إن التصديق أن تنسب باختيارك الصدق إلى أحد وهو يحوم حول ذلك وإن لم يصب المخبر ، انتهى.

والحق أن إثبات معنى آخر غير العلم والمعرفة مشكل ، وكون بعض أفراده حاصلا بغير اختيار لا ينافي التكليف به لمن لم يحصل له ذلك وترتب الثواب على ما حصل بغير الاختيار إما تفضل أو هو علي الثبات عليه وإظهاره والعمل بمقتضاه ،

٢١٥

عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه واضح نوره ثابتة حجته يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه قال قلت صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه قال الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل فمنه التام المنتهى تمامه

______________________________________________________

والكلام النفسي الذي ذكروه ليس وراء التصور والتصديق شيئا ، نعم المعنى الذي نفهمه هيهنا زائدا على العلم هو العزم على إظهار ما اعتقده أو على عدم إنكاره ظاهرا بغير ضرورة تدعو إليه ، ويمكن عده من لوازم الإيمان أو شرائطه كما يومئ إليه بعض الآيات والأخبار ، والعلم لو سلم أنه من قبيل الانفعال فعده عملا على سبيل التوسع باعتبار أسبابه ومباديه.

قوله عليه‌السلام : بفرض ، الباء للسببية وضميرا« نوره » و« حجته » راجعان إلى الفرض ، وضمير« له » إلى العامل ، وقيل : إلى كونه عملا ، وقيل : إلى الله ، والأول أظهر ، ومن أرجع ضمير« به » إلى الفرض وضمير « له » إلى كونه عملا لو عكس كان أنسب ، وقوله : واضح ، وثابتة ، نعتان للفرض ، وضميريدعوه ، المستتر راجع إلى الكتاب ، والبارز إلى العامل ، وقيل : الظاهر أن يشهد ، ويدعوه حال عن فرض ، وأن ضمير له وإليه راجع إلى الله ، وضمير « به » والبارز في يدعوه للفرض ، والمراد بدعاء الكتاب ذلك الفرض إليه سبحانه نسبته إليه ، وبيانه أنه منه ، ويحتمل أن يكون حالا عن الإيمان وأن يكون ضمير له ويدعوه راجعا إليه وضمير به وإليه للعمل ، أي يشهد الكتاب للإيمان بأنه عمل ، ويدعو الكتاب للإيمان إلى أنه عمل ، انتهى.

ولا يخفى بعدهما ، وفي تفسير العياشي : يشهد له بها الكتاب ، ويدعو إليه فضمير بها راجع إلى الحجة.

« للإيمان حالات » كأنه إشارة إلى الحالات الثلاث الآتية أي التام والناقص : والراجح والدرجات مراتب الرجحان فإنها كثيرة بحسب الكمية والكيفية ، والطبقات مراتب النقصان ، والمنازل ما يلزم تلك الدرجات والطبقات من القرب إليه

٢١٦

ومنه الناقص البين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه قلت إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد قال نعم قلت كيف ذلك قال لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها فليس من جوارحه جارحة

______________________________________________________

سبحانه والبعد عنه ، والمثوبات المترتبة عليها.

وقيل : إشارة إلى أن للإيمان مراتب متكثرة وهي حالات الإنسان باعتبار قيامها به ، ودرجات باعتبار ترقيه من بعضها إلى بعض ، وطبقات باعتبار تفاوت مراتبها في نفسها ، وكون بعضها فوق بعض ، ومنازل باعتبار أن الإنسان ينزل فيها ويأوي إليها فمنهالتام وهو إيمان الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام لاشتماله على جميع أجزاء الإيمان من فعل الفرائض وترك الكبائر وإن تفاوتت بانضمام سائر المكملات من المستحبات وترك المكروهات زيادة ونقصانا ، أو المراد بالتام المنتهى تمامه درجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائهعليهم‌السلام ، ومنه الناقص البيننقصانه وهو أقل مراتب الإيمان الذي بعده الكفر ، ومنهالراجح وفيه أفراد غير متناهية باعتبار التفاوت في الكمية والكيفية.

ثم أنه يحتمل الكلام وجهين : أحدهما : أن يكون الإيمان المشتمل على فعل الفرائض وترك الكبائر حاصلا في الجميع لعدم صدق الإيمان بدون ذلك ، ويكون الدرجات والمنازل باعتبار تلك الأعمال ونقصها وانضمام فعل سائر الواجبات وترك سائر المحرمات وفعل المندوبات وترك المكروهات ، بل المباحات والاتصاف بالأخلاق السنية والملكات العلية.

وثانيهما : أن يكون القدر المشترك حصول الإيمان في الجملة والكامل ما يكون مشتملا على جميع الأجزاء وهو الإيمان حقيقة والناقص التام ما لم يكن فيه سوى العقائد الحقة والدرجات المتوسطة تختلف باعتبار كثرة أجزاء الإيمان وقلتها فالمؤمن حقيقة هو الفرد الأول ، وإطلاقه على البواقي على التوسع لانتفاع الكل بانتفاء أحد الأجزاء ولكل منهما شواهد لفظا ومعنى فتأمل ، فلما عسر فهمه على السائل لألفته بمصطلحات المتكلمين أعاد السؤال لمزيد التوضيح.

٢١٧

إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره و

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : به يعقل ويفقه ويفهم ، قيل : العقل العلم بالقضايا الضرورية ، والفقه ترتيبها لإنتاج القضايا النظرية ، والفهم العلم بالنتيجة.

أقول : ويحتمل أن يكون العقل معرفة الأصول العقلية ، والفقه العلم بالأحكام الشرعية ، والفهم معرفة سائر الأمور المتعلقة بالمعاش وغيره ، والمراد بالقلب النفس الناطقة سميت به لتعلقها أو لا بالروح الحيواني المنبعث منه أو القلب الصنوبري من حيث تعلق النفس به ، وقيل : محل الإدراك هذا الشكل الصنوبري ، عملا بظواهر الآيات والأخبار وسيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله.

قال الراغب في المفردات : قال بعض الحكماء حيث ما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم ، نحو : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ »(١) وحيث ما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوي من الشهوة والهوى والغضب ونحوها ، وقوله : «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي »(٢) فسؤال لإصلاح قواه ، وكذا قوله : «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ »(٣) إشارة إلى اشتفائهم ، وقوله : «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ »(٤) أي العقول التي هي مندرجة بين سائر القوي وليست بمهتدية والله أعلم بذلك.

وقال : قلب الإنسان قيل : سمي به لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وسائر ذلك ، فقوله : «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ »(٥) أي الأرواح «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ »(٦) أي علم وفهم ، وكذلك «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ »(٧) وقوله : «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ »(٨)

__________________

(١ و ٦) سورة ق : ٣٧.

(٢) سورة طه : ٢٥.

(٣) سورة التوبة : ١٤.

(٤) سورة الحجّ : ٤٦.

(٥) سورة الأحزاب : ١٠.

(٧) سورة الأنعام : ٢٥.

(٨) سورة التوبة : ٨٧.

٢١٨

منها عيناه اللتان يبصر بهما وأذناه اللتان يسمع بهما ويداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله ولسانه الذي ينطق به ورأسه الذي فيه وجهه فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تبارك اسمه ينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها.

ففرض على القلب غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه فأما ما فرض

______________________________________________________

وقوله : «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ »(١) أي تثبت به شجاعتكم ويزول خوفكم ، وعلى عكسه «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ »(٢) وقوله : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ »(٣) وقوله : «وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى »(٤) أي متفرقة وقوله : «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ »(٥) .

وقيل : العقل ، وقيل : الروح ، فأما العقل فلا يصح عليه ذلك ومجازه مجاز قولهم : تجري من تحتها الأنهار ، والأنهار لا تجري وإنما يجري الماء الذي فيه ، انتهى.

والورود حضور الماء للشرب ، والصدر والصدور الانصراف عنه ، وهذا مثل في أنها لا تفعل شيئا إلا بأمره كما يقال في الفارسية : لا يشرب الماء إلا بأمره وإذنه.

والبطش تناول الشيء بصولة وقوة ، والباه في بعض النسخ بدون الهمزة وفي بعضها بها ، قال الجوهري :الباه مثل الجاه لغة في الباءة وهو الجماع« ينطق به » الجملة نعت للفرض وضمير به في الموضعين للفرض ، وضميرلها وعليها للجارحة ، واللام للانتفاع ، وعلى للإضرار وإرجاع ضمير« به » إلى الإيمان كما قيل يقتضي خلو الجملة عن العائد وإرجاع ضمير « لها » هنا إلى الجارحة يؤيد إرجاع ضمير « له » سابقا إلى العامل.

__________________

(١) سورة الأنفال : ١٠.

(٢) سورة الحشر : ٢.

(٣) سورة الفتح : ٤.

(٤) سورة الحشر : ١٤.

(٥) سورة الحجّ : ٤٦.

٢١٩

على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتخذ «صاحِبَةً وَلا وَلَداً » وأن محمدا عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب فذلك

______________________________________________________

قوله : فالإقرار ، أي الإقرار القلبي لأن الكلام في فعل القلب وإن احتمل أن يكون المراد الإقرار اللساني لأنه إخبار عن القلب ، لكن ذكره بعد ذلك في عمل اللسان ربما يأبى عن ذلك وإن احتمل توجيهه ، والمعطوفات عليه على الأول عطف تفسير له وكأنها إشارة إلى مراتب اليقين والإيمان القلبي ، فإن أقل مراتبه الإذعان القلبي ولو عن تقليد أو دليل خطابي ، والمعرفة ما كان عن برهان قطعي والعقد هو العزم على الإقرار اللساني وما يتبعه ويلزمه من العمل بالأركان ، والرضا هو عدم إنكار قضاء الله وأوامره ونواهيه ، وأن لا يثقل عليه شيء من ذلك المخالفة لهوى نفسه ، والتسليم هو الانقياد التام للرسول فيما يأتي به لا سيما ما ذكر في أمر أوصيائه وما يحكم به بينهم ، كما قال تعالى : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(١) فظهر أن الإقرار بالولاية أيضا داخل في ذلك بل جميع ما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقوله بأن لا إله إلا الله ، متعلق بالإقرار لأن ما ذكر بعده تفسير ومكمل له ، والصاحبة الزوجة ، والإقرار عطف على الإقرار ، والمراد الإقرار بسائر أنبياء الله وكتبه ، والمستتر في« جاء » راجع إلى الموصول ، وما قيل : إن قوله بأن لا إله إلا الله « إلخ » متعلق بالإقرار والمعرفة والعقد ، وقوله والإقرار بما جاء من عند الله ، معطوف على أن لا إله فيكون الأولان بيانا للأخيرين والأخير بيانا للأول ، فلا يخفى ما فيه من أنواع الفساد.

وقال المحدث الأسترآبادي : المعرفة جاء في كلامهم لمعان : أحدها ، التصور مطلقا وهو المراد من قولهم على الله التعريف والبيان أي ذكر المدعى والتنبيه عليها

__________________

(١) سورة النساء : ٦٥.

٢٢٠

ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو قول الله عز وجل : «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً »(١) وقال «أَلا بِذِكْرِ اللهِ

______________________________________________________

إذ لا يجب خلق الإذعان كما يفهم من باب الشك وغير ذلك من الأبواب « وثانيها » الإذعان القلبي وهو المراد من قولهم أقروا بالشهادتين ولم يدخل معرفة أن محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلوبهم « وثالثها » عقد القضية الإجمالية مثل نعم وبلى ، وهذا العقد ليس من باب التصور ولا من باب التصديق « ورابعها » العلم الشامل للتصور والتصديق ، وهو المراد من قولهم العلم والجهل من صنع الله في القلوب ، انتهى.

وفيه ما فيه

والآية الأولى من سورة النحل «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ » قيل : بدل من الذين لا يؤمنون ، وما بينهما اعتراض ، أو من أولئك أو من الكاذبون ، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله : فعليهم غضب ، ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوفة الجواب «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ » على الافتراء أو كلمة الكفر استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان ، كذا ذكره البيضاوي ، والظاهر أنه منقطع «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » لم يتغير عقيدته «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » أي اعتقده وطاب به نفسا «فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » وقد ورد في أخبار كثيرة من طرق الخاصة والعامة أنها نزلت في عمار بن ياسر حيث أكرهه وأبويه ياسرا وسمية كفار مكة على الارتداد فأبى أبواه فقتلوهما وهما أول قتيلين في الإسلام وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال : كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه وقال : ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

وعن الصادقعليه‌السلام فأنزل الله فيه : «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ » الآية فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سورة النحل : ١٠٦.

٢٢١

تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ »(١) وقال الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم(٢) وقال «إِنْ

______________________________________________________

عندها : يا عمار إن عادوا فعد ، فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا.

وبالجملة الآية تدل على أن بعض أجزاء الإيمان متعلق بالقلب وإن استدل القوم بها على أن الإيمان ليس إلا التصديق القلبي.

والآية الثانية «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ » قيل : أي أنسا به واعتمادا عليه ورجاء منه أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات «أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » أي تسكن إليه.

وقال في المجمع : معناه الذين اعترفوا بتوحيد الله على جميع صفاته ونبوة نبيه وقبول ما جاء به من عند الله وتسكن قلوبهم بذكر الله وتأنس إليه ، والذكر حضور المعنى للنفس وقد يسمى العلم ذكرا والقول الذي فيه المعنى الحاضر للنفس أيضا يسمى ذكرا «أَلا بِذِكْرِ اللهِ » إلخ ، هذا حث للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد الله به من النعيم والثواب ، انتهى.

وكان استدلالهعليه‌السلام بالآية مبني على أن المراد بذكر الله العقائد الإيمانية والدلائل المفضية إليها إذ بها تطمئن القلب من الشك والاضطراب ، ويؤيده قوله في الآية السابقة : «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ».

قوله سبحانه : «إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ » قال الطبرسي (ره) : أي تظهروها وتعلنوها من الطاعة والمعصية أو العقائد «أَوْ تُخْفُوهُ » أي تكتموه «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » أي يعلم الله ذلك فيجازيكم عليه ، وقيل : معناه إن تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك ويجازيكم به عن ابن عباس وجماعة ، وقيل : إنها عامة في الأحكام التي تقدم ذكرها في السورة ، خوفهم الله تعالى من العمل بخلافها وقال قوم : إن هذه

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٨.

(٢) سورة المائدة : ٤١ والآية هكذا «قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ »

٢٢٢

تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ »(١) فذلك

______________________________________________________

الآية منسوخة بقوله : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها »(٢) ورووا في ذلك خبرا ضعيفا ، وهذا لا يصح لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فكيف ينسخ وإنما المراد بالآية ما يتأوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا ، وأما ما لا يدخل في التكليف من الوساوس والهواجس مما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر فخارج عنه لدلالة العقل ، ولقولهعليه‌السلام : ويعفى لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها وعلى هذا تجوز أن تكون الآية الثانية بينت الأولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجه المراد ، والظن أن ما يخطر بالبال ويتحدث به النفس مما لا يتعلق بالتكليف فإن الله يؤاخذ به والأمر بخلاف ذلك.

«فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ » منهم رحمة وتفضلا «وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » منهم ممن استحق العقاب عدلا «وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » من المغفرة والعذاب ، عن ابن عباس ، ولفظ الآية عام في جميع الأشياء ، والقول فيما يخطر بالبال من المعاصي إن الله سبحانه لا يؤاخذ به ، وإنما يؤاخذ بما يعزم الإنسان ويعقد قلبه عليه مع إمكان التحفظ عنه فيصير من أفعال القلب فيجازيه كما يجازيه على أفعال الجوارح ، وإنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية لأنه لم يباشرها ، وهذا بخلاف العزم على الطاعة فإن العازم على فعل الطاعة يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة كما جاء في الأخبار أن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها ، وهذا من لطائف ما أنعم الله علي عباده ، انتهى.

والظاهر من الأخبار الكثيرة التي يأتي بعضها في هذا الكتاب عدم مؤاخذة هذه الأمة على الخواطر والعزم على المعاصي ، فيمكن تخصيص هذه الآية بالعقائد كما هو ظاهر هذه الرواية وإن أمكن أن تكون نية المعصية والعزم عليها معصية يغفرها الله للمؤمنين ، فالمراد بقوله : «لِمَنْ يَشاءُ » المؤمنون ويؤيده ما ذكره المحقق

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة : ٢٨٤ ، ٢٨٦.

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الطوسي وغيره أن إرادة القبيح قبيحة فتأمل.

ويظهر من بعض الأخبار أن هذه الآية منسوخة وقد خففها الله عن هذه الأمة كما روى الديلمي في إرشاد القلوب بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائهعليهما‌السلام في خبر طويل في معراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثم عرج به حتى انتهى إلى ساق العرش وناجاه بما ذكره الله عز وجل في كتابه ، قال تعالى : «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » وكانت هذه الآية قد عرضت على سائر الأمم من لدن آدم إلى أن بعث محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبوا جميعا أن يقبلوها من ثقلها ، وقبلها محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فلما رأى الله عز وجل منه ومن أمته القبول خفف عنه ثقلها ، فقال الله عز وجل : «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ »(١) ثم إن الله عز وجل تكرم على محمد ، وأشفق على أمته من تشديد الآية التي قبلها هو وأمته فأجاب عن نفسه وأمته فقال : «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » فقال الله عز وجل لهم المغفرة والجنة إذا فعلوا ذلك ، فقال النبي : «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ » يعني المرجع في الآخرة فأجابه قد فعلت ذلك بتائبي أمتك قد أوجبت لهم المغفرة ، ثم قال الله تعالى : أما إذا قبلتها أنت وأمتك وقد كانت عرضت من قبل على الأنبياء والأمم فلم يقبلوها فحق على أن أرفعها عن أمتك فقال الله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ » من خير «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » من شر ثم ألهم الله عز وجل نبيه أن قال : «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا » فقال الله سبحانه أعطيتك لكرامتك ، إلى آخر الخبر.

وأما المخالفون فهم اختلفوا في ذلك ، قال الرازي في تفسير هذه الآية : يروى عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٥.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عوف ومعاذ وناس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وإنه لذنب؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل «سَمِعْنا وَعَصَيْنا* » فقولوا «سَمِعْنا وَأَطَعْنا » فقالوا : سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا فأنزل الله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » فنسخت هذه الآية فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعلموا أو تكلموا به.

واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله : «إِنْ تُبْدُوا » يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من رفعها ، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، والعلماء أجابوا عنه من وجوه :

الأول : أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك بل يكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن نفسه ، فالقسم الأول يكون مؤاخذا به ، والثاني لا يكون مؤاخذا به ، ألا ترى إلى قوله تعالى : «لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ »(١) وقال في آخر هذه السورة «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » وقال : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ »(٢) هذا هو الجواب المعتمد.

الوجه الثاني : أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو ، وقوله : «وَإِنْ تُبْدُوا » إلخ ، فالمراد منه أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا أو على سبيل الخفية ، وأما ما يوجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو ، وهذا الجواب ضعيف لأن أكثر المؤاخذات إنما يكون

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٥.

(٢) سورة النور : ١٩.

٢٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بأفعال القلوب ، ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه أيضا ، وأفعال الجوارح إذا خلت من أعمال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي ، فثبت ضعف هذا الجواب.

والوجه الثالث : أنه تعالى يؤاخذ بها ، ومؤاخذتها من الغموم في الدنيا ، وروي ذلك خبرا عن عائشة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الوجه الرابع : أنه تعالى قال : «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » ولم يقل يؤاخذكم به الله ، وقد ذكرنا في معنى كونه حسيبا ومحاسبا وجوها ، منها : كونه عالما بها ، فرجع المعنى إلى كونه تعالى عالما بالضمائر والسرائر وروى عن ابن عباس أنه تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمؤمن يخبره ويعفو عنه ، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.

الوجه الخامس : أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » فيكون الغفران نصيبا لمن كان كارها لورود تلك الخواطر ، والعذاب لمن كان مصرا عليها مستحسنا لها.

الوجه السادس : قال بعضهم : المراد بهذه الآية كتمان الشهادة وهو ضعيف وإن كان واردا عقيبه.

الوجه السابع : ما مر أنها منسوخة بقوله : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » وهذا أيضا ضعيف بوجوه « أحدها » أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها ، وذلك باطل لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ، ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة.

الثاني : أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر ، وقد بينا أنها لا تدل على ذلك.

٢٢٦

ما فرض الله عز وجل على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الإيمان وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به قال الله تبارك وتعالى : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً »(١) وقال : «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ

______________________________________________________

الثالث : أن نسخ الخبر لا يجوز وإنما يجوز نسخ الأوامر والنواهي ، واختلفوا في أن الخبر هل ينسخ أم لا ، انتهى.

وقال أبو المعين النسفي : قال أهل السنة والجماعة : العبد مؤاخذ بما عقد بقلبه نحو الزنا واللواطة وغير ذلك ، أما إذا خطر بباله ولم يقصد فلا يؤاخذ به ، وقال بعضهم لا يؤاخذ في الصورتين جميعا ، وحجتهم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عفي عن أمتي ما خطر ببالهم ما لم يتكلموا ويفعلوا ، وحجتنا قوله تعالى : «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ » الآية ، فثبت أنه مؤاخذ بقصده ، وما ذكرتم من الحديث فمحمول على ما خطر بباله ولم يقصد ، أما إذا قصد فلا ، انتهى.

« وهو رأس الإيمان » كان التشبيه بالرأس باعتبار أن بانتفائه ينتفي الإيمان رأسا كما أن بانتفاء الرأس لا تبقى الحياة ، ويفسد جميع البدن.

قوله عليه‌السلام : القول ، أي ما يجب التكلم به من الأقوال كإظهار الحق والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والقراءة والأذكار في الصلاة وأمثالها ، فيكونقوله : والتعبير تخصيصا بعد التعميم لمزيد الاهتمام.

«وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » قال البيضاوي : أي قوله حسنا وسماه حسنا للمبالغة ، وقرأ حمزة ويعقوب والكسائي حسنا بفتحتين ، انتهى.

أقول : في بعض الأخبار عن الصادقعليه‌السلام أنه قال : يعني قولوا محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي رواية أخرى عنهعليه‌السلام : نزلت في اليهود ثم نسخت بقوله : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ »(٢) الآية ، وفي بعض الروايات أنه حسن المعاشرة والقول الجميل ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٣.

(٢) سورة التوبة : ٢٩.

٢٢٧

وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »(١) فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه والإصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل فقال في ذلك «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ

______________________________________________________

وفي بعضها أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان التعميم أولى فيناسب التعميم في القول أولا ويؤيده أن في تفسير النعماني هكذا : وأما ما فرضه على اللسان فقوله عز وجل في معنى التفسير لما عقد به القلب وأقر به أو جحده «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ » الآية ، وقوله سبحانه «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » ، وقوله سبحانه : «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا »(٢) فأمر سبحانه بقول الحق ونهى عن قول الباطل.

ثم إن الآية الثانية ليست في المصاحف هكذا ، ففي سورة البقرة «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ »(٣) وفي سورة العنكبوت : «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »(٤) فالظاهر أن التغيير من النساخ أو نقل الآيتان بالمعنى ، وفي النعماني موافق للأولى ولعله كان في الخبر الآيتان فأسقطوا عجز الأولى وصدر الثانية.

والتنزه الاجتناب« وأن يعرض » عطف على « أن يتنزه » والإصغاء عطف على الموصول في قوله : عما لا يحل.

«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ » هذه الآية في سورة النساء ، وفي تفسير علي بن إبراهيم إنآيات الله هم الأئمةعليهم‌السلام ، وروى العياشي في تفسيرها : إذا سمعت

__________________

(١ و ٤) سورة العنكبوت : ٤٦.

(٢) سورة النساء : ١٧١.

(٣) الآية : ١٣٦.

٢٢٨

حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ »(١) ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان فقال «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ »(٢) وقال «فَبَشِّرْ عِبادِ

______________________________________________________

الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده ، قال الراغب : والخوض الشروع في الماء والمرور فيه ، يستعار في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه ، وتتمة الآية «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً » والاستثناء في سورة الأنعام حيث قال : «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ »(٣) الآية ويحتمل أن يكون قوله تعالى : «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ » إشارة إلى ما نزل في سورة الأنعام ، فهذه الآية كالتفسير لتلك الآية فذكرهعليه‌السلام آية النساء لبيان أن الخوض في الآيات المذكور في الأنعام هو الكفر والاستهزاء بها ، وإلا كان المناسب ذكر الآية المتصلة بالاستثناء فتفطن.

وروى العياشي عن الباقرعليه‌السلام في هذه الآية قال : الكلام في الله والجدال في القرآن قال منه القصاص «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ » أي النهي «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى » أي بعد أن تذكره «مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » أي معهم ، فوضع الظاهر موضعه تنبيها على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام ، وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام ، أو يغتاب فيه مسلم إن الله تعالى يقول في كتابه : «وَإِذا رَأَيْتَ » الآية.

ثم إن الخطاب في الآية إما خطاب عام أو الخطاب ظاهرا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به الأمة ، لأن النسيان لا يجوز عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيما إذا كان من الشيطان ، فإن من جوز السهو والنسيان عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالصدوق (ره) إنما جوز الإسهاء من

__________________

(١) سورة النساء : ١٣٩.

(٢ و ٣) سورة الأنعام : ٦٨.

٢٢٩

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ »(١) وقال عز وجل «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ »(٢) وقال «وَإِذا سَمِعُوا

______________________________________________________

الله تعالى للمصلحة لا من الشيطان.

«فَبَشِّرْ عِبادِ » الإضافة للتشريف ، وأحسن القول ما فيه رضا الله أو أشد رضاه ، وما هو أشق على النفس ، وهذه كلمة جامعة يندرج فيها القول في أصول الدين وفروعه والإصلاح بين الناس والتميز بين الحق والباطل ، وإيثار الأفضل فالأفضل ، وفي رواية هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمع لا يزيد فيه ولا ينقص منه.

«أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ » لدينه «وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ » أي العقول السليمة عن منازعة الهوى والوهم والعادات و « عبادي » في النسخ بإثبات الياء موافقا لرواية أبي عمرو برواية موسى حيث قرأ في الوصل بفتح الياء وفي الوقف بإسكانها ، وقرأ الباقون بإسقاط الياء والاكتفاء بالكسرة.

«الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ » قيل : أي خائفون من الله متذللون له يلزمون أبصارهم مساجدهم وفي تفسير علي بن إبراهيم غضك بصرك في صلاتك وإقبالك عليها ، وسيأتي تفسيره في كتاب الصلاة إنشاء الله.

«وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ » قيل : اللغو ما لا يعنيهم من قول أو فعل ، وفي تفسير علي بن إبراهيم يعني عن الغناء والملاهي ، وفي إرشاد المفيد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام كل قول ليس فيه ذكر فهو لغو ، وفي المجمع عن الصادقعليه‌السلام قال : أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله ، قال : وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي ، وفي الاعتقادات عنهعليه‌السلام أنه سئل عن القصاص أيحل الاستماع لهم ،

__________________

(١) سورة الزمر : ١٨.

(٢) سورة السجدة : ٢.

٢٣٠

اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ »(١) وقال «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً »(٢) فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه وأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان فقال تبارك وتعالى : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ »(٣) فنهاهم أن ينظروا

______________________________________________________

فقال : لا ، والحاصل أن اللغو كل ما لا خير فيه من الكلام والأصوات ، ويكفي في الاستشهاد كون بعض أفراده حراما مثل الغناء والدف والصنج والطنبور والأكاذيب وغيرها.

وقال في سورة القصص : «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ »(١) قال علي بن إبراهيم : اللغو الكذب واللهو والغناء ، وقال في الفرقان : «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً »(٢) أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، وفي أخبار كثيرة تفسير اللغو في هذه الآية بالغناء والملاهي.

قوله : من الإيمان ، « من » تبعيضية« وأن لا يصغي » عطف بيان لهذا ، وقيل : من الإيمان مبتدأ وأن لا يصغي خبره ، وفيه ما فيه.

«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا » الخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويغضوا مجزوم بتقدير اللام ، أي ليغضوا فالمقصود تبليغهم أمر ربهم أو حكاية لمضمون أمرهعليه‌السلام أو منصوب بتقدير أن أي أمرهم أن يغيضوا فإن « قل لهم » في معنى مرهم ، وقيل : أنه جواب الأمر أي قل لهم غضوا يغضوا ، واعترض بأنه حينئذ ينبغي الفاء أي فيغضوا وفيه : أنه سهل ليكن محذوفا وأبعد منه ما يقال : إن التقدير : قل لهم غضوا فإنك إن تقل لهم يغضوا وأصل الغض النقصان والخفض كما في قوله : «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة وأباه سيبويه وقيل : إنه للتبعيض ، ولعله الوجه ،

__________________

(١) سورة القصص : ٥٥.

(٢) سورة الفرقان : ٧٢.

(٣) سورة النور : ٣٠.

٢٣١

إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أن ينظر إليه وقال «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ »(١) من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها وقال كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنها من النظر ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى فقال «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

______________________________________________________

وليس المراد نقص المبصرات وتبعيضها ولا الأبصار بل النظر بها وهو المراد مما قيل : المراد غض البصر وخفضه مما يحرم النظر إليه والاقتصار به على ما يحل ، وكذاقوله : «وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » أي إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فلما كان المستثنى هنا كالشاذ النادر مع كونه معروفا معلوما بخلافه في غض الأبصار أطلق الحفظ هنا وقيد الغض بحرف التبعيض ، وفي الكشاف ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإبداء وهذه الرواية وغيرها تدل على أن المراد بحفظ الفرج هنا ستره عن أن ينظر إليه أحد وكذا ظاهر الرواية تخصيص غض البصر بترك النظر إلى العورة.

قوله عليه‌السلام : ثم نظم ، أقول : وفي تفسير النعماني : ثم نظم تعالى ما فرض على السمع والبصر والفرج في آية واحدة فقال :وما كنتم ، وهو أظهر ، وما هنا يحتاج إلى تكلف في إدخال اللسان والقلب ، فقيل : المرادبالاستتار ترك ذكر الأعمال القبيحة في المجالس« وأن يشهد » بتقدير من أن يشهد متعلقا بالاستتار بتضمين معنى الخوف ، فقوله تستترون إشارة إلى فرض القلب واللسان معا ، ويحتمل أن يكون المراد بالآية الأخرى الجنس أي الآيتين ، والفؤاد داخل في الآية الثانية وكذا اللسان لأن قوله : «لا تَقْفُ » عبارة عن عدم متابعة غير المعلوم بعدم التصديق به بالقلب وعدم إظهار العلم به باللسان.

«وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ » " قبل هذه الآية في حم التنزيل : " «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما

__________________

(١) سورة النور : ٣١.

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » قال الطبرسي (ره) : أي شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدعاء إلى الحق « فأعرضوا عنه » ولم يقبلوه وأبصارهم بما رأوه من الآيات الدالة على وحدانية الله فلم يؤمنوا وسائر جلودهم بما باشروه من المعاصي والأعمال القبيحة ، وقيل في شهادة الجوارح قولان : أحدهما : أن الله تعالى يبنيها بنية الحي ويلجئها إلى الاعتراف والشهادة بما فعله أصحابها ، والآخر : أن الله تعالى تفعل الشهادة فيها وإنما أضاف الشهادة إليها مجازا ، وقيل : في ذلك أيضا وجه ثالث وهو أنه يظهر فيه أماراته الدالة على كون أصحابها مستحقين للنار فسمي ذلك شهادة مجازا كما يقال : عيناك تشهدان لسهرك ، وقيل : إن المراد بالجلود هنا الفروج على طريق الكناية عن ابن عباس والمفسرين ثم قال : «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ » أي من أن يشهد عليكم سمعكم ، معناه وما كنتم تستخفون أي لم يكن مهيئا لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنكم كنتم بما تعملون ، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة ، وقيل : معناه وما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن تشهد عليكم جوارحكم بها لأنكم ما كنتم تظنون ذلك ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون لجهلكم بالله تعالى ، فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذلك.

وروي عن ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تساروا فقالوا : أترى إن الله تعالى يسمع تسارنا.

ويجوز أن يكون المعنى أنكم عملتم عمل من ظن أن عمله يخفى على الله كما يقال أهلكت نفسي أي عملت عمل من أهلك النفس ، وقيل : إن الكفار كانوا يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا لكنه يعلم ما نظهر عن ابن عباس.

«وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ » ذلكم مبتدأ ، وظنكم خبره ، وأرديكم خبر ثان ، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم ، ويكون المعنى وظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي

٢٣٣

سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ »(١) يعني بالجلود الفروج والأفخاذ وقال «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً »(٢) فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عز وجل وهو عملهما وهو من الإيمان وفرض الله على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله

______________________________________________________

وأدى بكم إلى الكفر «فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ » أي فظللتم من جملة من خسرت تجارته ، لأنكم خسرتم الجنة وخضتم في النار ، انتهى.

فإن قيل : هذه الآيات في السور المكية وكذاقوله : «وَلا تَقْفُ »إلخ ، كما مر في الخبر السابق فكيف صار أعمال الجوارح فيها جزءا من الإيمان ، وكيف يوعد عليها.

قلت : لعل الوعيد فيها باعتبار كفرهم وشركهم لأنها تدل على أنهم إنما فعلوا ذلك كفر بالله واستهانة بأمره وظنهم أنه سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون فالوعيد على شركهم وإتيانهم بتلك الأعمال من جهة الاستخفاف والاستحلال وقفوا ما ليس لهم به علم كان في أصول الدين مع أنه قد مر أنه ليس فيها وعيد بالنار وكون جميع آيات حم مكية لم يثبت لعدم الاعتماد على قول المفسرين من العامة ، ويحتمل أن يكون الغرض هنا محض كون الأعمال متعلقة بالجوارح وأن لها مدخلا في الإيمان وإن كان مدخليتها في كماله ، والمقصود في الخبر السابق كان أمرا آخر ، وكذا الكلام في قوله : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً » فإنها أيضا مكية.

قوله : إلى ما حرم الله ، مثل القتل والضرب والنهب والسرقة وكتابة الجور والكذب والظلم ومس الأجانب ونحوها« وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم » إذ إيصال الصدقة إلى الفقراء والخير إلى الأقرباء والضرب والبطش والقتال في الجهاد والطهور للصلاة من فروض اليد ، وقيل : يفهم منه وجوب استعمال اليد في غسل الوجه ، وهو إما لأنه الفرد الغالب أو لأنه فرد الواجب التخييري.

__________________

(١) سورة فصّلت : ٢٢.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

٢٣٤

عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلاة فقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ »(١) وقال «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها »(٢) فهذا ما فرض الله على اليدين لأن الضرب من علاجهما وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله وفرض عليهما المشي إلى ما

______________________________________________________

وأقول : يمكن أن يكون غسل الوجه داخلا فيما سيأتي من قوله : وقال فيما فرض الله.

«فَضَرْبَ الرِّقابِ » ضرب الرقاب عبارة عن القتل بضرب العنق ، وأصله فاضربوا الرقاب ضربا ، حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ، وأضيف إلى المفعول والإثخان إكثار القتل أو الجراح بحيث لا يقدر على النهوض ، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به وشده كناية عن الأسر ، و «مَنًّا » و «فِداءً » مفعول مطلق لفعل محذوف أي فإما تمنون منا ، وإما تفدون فداءا ، وأوزار الحرب أثقالها وآلاتها كالسيف والسنان وغيرهما ، وهو كناية عن انقضاء أمرها.

والمروي ومذهب الأصحاب أن الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعين قتله إما بضرب عنقه أو بقطع يده ورجله من خلاف وتركه حتى ينزف ويموت ، وإن أخذ بعد انقضاء الحرب تخير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق ، ولا يجوز القتل.

والاسترقاق علم من السنة ، والعلاج : المزاولة ،« أن لا يمشي » بصيغة المجهول ، والباء في« بهما » للآلة ، والظرف نائب الفاعل وقوله عليه‌السلام : فقال ، لعله ليس لتفسير ما تقدم والاستدلال عليه ، بل لبيان نوع آخر من تكليف الرجلين وهو نوع المشي ، وما ذكر سابقا كان غاية المشي ، وفي رواية النعماني : أما ما فرضه الله

__________________

(١) سورة المائدة : ٧.

(٢) سورة محمد (ص) : ٤.

٢٣٥

يرضي الله عز وجل فقال «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً »(١) وقال «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ »(٢) وقال فيما شهدت الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا

______________________________________________________

على الرجلين فالسعي بهما في ما يرضيه ، واجتناب السعي فيما يسخطه ، وذلك قوله سبحانه : «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ »(٣) وقوله سبحانه : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً »(٤) وقوله : «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » وفرض الله عليهما القيام في الصلاة فقال : «وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ »(٥) ثم أخبر أن الرجلين من الجوارح التي تشهد يوم القيامة حين تستنطق بقوله سبحانه : «الْيَوْمَ نَخْتِمُ » الآية.

وقال البيضاوي : «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ » توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » وأنقص منه واقصر «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ » أوحشها «لَصَوْتُ الْحَمِيرِ » والحمار مثل في الذم سيما نهاقه(٦) . ولذلك يكنى عنه فيقال : طويل الأذنين وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة ، وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكر دون الآحاد ، أو لأنه مصدر.

وقال في قوله سبحانه : «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ » بأن نمنعها عن كلامهم «وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ »إلخ ، بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها أو بإنطاق الله إياها ، وفي الحديث أنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتكلمهم أيديهم وأرجلهم ، انتهى.

__________________

(١) سورة لقمان : ١٨.

(٢) سورة لقمان : ١٩.

(٣) سورة الجمعة : ٩.

(٤) سورة الإسراء : ٣٧.

(٥) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٦) نهاق الحمار : صوته.

٢٣٦

أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ »(١) فهذا أيضا مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الإيمان وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(٢) فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين

______________________________________________________

وقيل : هذا لا ينافي ما روي أن الناس في هذا اليوم يحتجون لأنفسهم ، ويسعى كل منهم في فكاك رقبته كما قال سبحانه : «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها » والله يلقن من يشاء حجته كما في دعاء الوضوء : اللهم لقني حجتي يوم ألقاك ، لأن الختم مخصوص بالكفار كما قاله بعض المفسرين ، أو أن الختم يكون بعد الاحتجاج والمجادلة كما في الرواية السابقة ، وبالجملة الختم يقع في مقام والمجادلة في مقام آخر.

قوله : فهذا أيضا ، كأنه إشارة إلى ما تشهد به الجوارح ، فمن فيقوله « مما » تبعيضية ، أو إلى التكليم والشهادة فمن تعليلية ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى جميع ما تقدم ، وقال البيضاوي في قوله تعالى : «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا » أي في صلاتكم أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونهما أول الإسلام ، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانهما ، أو اخضعوا لله وخروا له سجدا واعبدوا ربكم بسائر ما تعبدكم به «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ » وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق «ولَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجعون الفلاح غير متيقنين له ، واثقين علي أعمالكم.

وأقول : « لعل » من الله موجبة ، وهذه فريضةجامعة أي ما ذكر في هذه الآية من الركوع والسجود والعبادة وفعل الخير ، ومدخلية الأعضاء المذكورة في تلك الأعمال في الجملة ظاهرة.

__________________

(١) سورة يس : ٦٥.

(٢) سورة الحجّ : ٧٧.

٢٣٧

وقال في موضع آخر «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً »(١) وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما صرف نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

«وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ » ظاهر أنهعليه‌السلام فسر المساجد بالأعضاء السبعة التي تسجد عليها ، أي خلقت لأن يعبد الله بها فلا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها ، وهذا التفسير هو المشهور بين المفسرين والمذكور في صحيحة حماد والمروي عن أبي جعفر الثانيعليه‌السلام حين سأله المعتصم عنها ، وبه قال ابن جبير والزجاج والفراء فلا عبرة بقول من قال : أن المراد بها المساجد المعروفة ، ولا بقول من قال : هي بقاع الأرض كلها ، ولا بقول من قال : هي المسجد الحرام ، والجمع باعتبار أنه قبلة لجميع المساجد ، ولا بقول من قال : هي السجدات جمع مسجد بالفتح مصدرا أي السجودات لله فلا تفعل لغيره.

وقال في الفقيه : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه : يا بني لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كل ما تعلم ، فإن الله تعالى قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحج بها عليك يوم القيامة ويسألك عنها ، وساق الحديث إلى أن قال : ثم استعبدها بطاعته فقال عز وجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا » إلى قوله : «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » فهذه فريضة جامعة واجبة على الجوارح ، وقال عز وجل : «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ » إلخ ، يعني بالمساجد الوجه واليدين والركبتين والإبهامين ، الحديث بطوله.

قوله : وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها ، أي بالجوارح وكان مفعول القول محذوف أي ما قال ، أو« من الطهور » مفعوله بزيادة من ، أو بتقدير شيئا أو كثيرا أو المراد قال ذلك أي آية المساجد فيما فرض الله على هذه الجوارح من الطهور والصلاة ، لأن الطهور أيضا يتعلق بالمساجد.

وعلى التقاديرقوله : وذلك ، إشارة إلى كون الآيات السابقة دليلا على كون

__________________

(١) سورة الجنّ ، ١٨.

٢٣٨

إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ »(١) فسمى الصلاة إيمانا فمن لقي الله عز وجل حافظا لجوارحه

______________________________________________________

الإيمان مبثوثا على الجوارح لأنها إنما دلت على أن الله تعالى فرض أعمالا متعلقة بتلك الجوارح ، ولم تدل على أنها إيمان فاستدلعليه‌السلام على ذلك بأن الله تعالى سمي الصلاة المتعلقة بجميع الجوارح إيمانا فتم به الاستدلال بالآيات المذكورة على المطلوب.

والظاهر أن في العبارة سقطا أو تحريفا أو اختصارا مخلا من الرواة أو من المصنف إذ في تفسير النعماني وأما ما افترضه على الرأس فهو أن يمسح من مقدمه بالماء في وقت الطهور للصلاة بقوله : «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ » وهو من الإيمان وفرض على الوجه الغسل بالماء عند الطهور ، فقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ »(٢) وفرض عليه السجود وعلى اليدين والركبتين والرجلين الركوع وهو من الإيمان ، وقال فيما فرض الله على هذه الجوارح من الطهور والصلاة وسماه في كتابه إيمانا حين تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، فقال المسلمون : يا رسول الله صارت صلاتنا إلى بيت المقدس وطهورنا ضياعا؟ فأنزل الله : «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها » إلى قوله «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » فسمي الصلاة والطهور إيمانا ، انتهى.

ويحتمل أن يكون مفعول القول : «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » ، أو مبهما يفسره ذلك ، حذف لدلالة التعليل عليه وقوله : وذلك ، تعليل للقول أي النزول ، وقوله : فأنزل الله ، ليس جواب لما لعدم جواز دخول الفاء عليه بل الجواب محذوف ، بتقدير أنزل وجه الحكمة في الصرف فأنزل.

قوله : فمن لقي الله ، عند الموت أو في القيامة أو الأعم« حافظا لجوارحه »

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢) سورة المائدة : ٦.

٢٣٩

موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله عز وجل مستكملا لإيمانه وهو من أهل الجنة ومن خان في شيء منها أو تعدى ما أمر الله عز وجل فيها لقي الله عز وجل ناقص الإيمان قلت قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته فقال قول الله

______________________________________________________

عن المحرمات« موفيا كل جارحة » التوفية إعطاء الحق وافيا تاما ويمكن أن يقرأ كل بالرفع وبالنصب« مستكملا لإيمانه » أي مكملا له ، في القاموس : أكمله واستكمله وكمله أتمه وجمله« ومن خان في شيء منها » أي من الجوارح بفعل المنهياتأو تعدى ما أمر الله عز وجل في الجوارح ، ويحتمل أن يكون الخيانة أعم من ترك المأمورات وفعل المنهيات ، والتعدي بإيقاع الفرائض على وجه البدعة ومخالفا لما أمر الله ، وفي النعماني : ومن كان مضيعا لشيء مما فرضه الله تعالى في هذه الجوارح وتعدى ما أمر الله به وارتكب ما نهاه عنه لقي الله ناقص الإيمان.

وأقول : حكمعليه‌السلام في الأول بدخول الجنة أي من غير عقاب ، وفي الثاني لم يحكم بدخول النار ولا بعدم دخول الجنة لأنه يدخل الجنة ولو بعد حين ، وليس دخوله النار مجزوما به لاحتمال عفو الله تعالى وغفرانه.

قوله : فمن أين جاءت زيادته ، يفهم منه أن السائل فهم من الزيادة كون ما يشترط في الإيمان متحققا وزاد عليه ، لا أنه يكون الزائد بالنسبة إلى الناقص ، وإلا فلم يحتج إلى السؤال لأن كل نقص إذا سلب كان زائدا بالنسبة إليه ، فالأفراد ثلاثة : تام الإيمان وهو الذي اعتقد العقائد الحقة كلها ، وعمل بالفرائض واجتنب الكبائر وإن أتى بشيء منها تاب بعده ولم يصر على الصغائر ، وناقص الإيمان وهو الذي أتى مع العقائد الحقة بشيء من الكبائر ولم يتب منها أو ترك شيئا من الفرائض ولم يتداركها أو أصر على الصغائر ، وزائد الإيمان وهو الذي زاد في العقائد على ما يجب كما وكيفا كما سيأتي ، وفي الأعمال بإيتاء سائر الواجبات والمستحبات وترك الصغائر والمكروهات ، وكلما زادت العقائد والأعمال كما وكيفا زاد الإيمان

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378