مرآة العقول الجزء ٧

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الحديث
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 379

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الحديث
تصنيف: الصفحات: 379
المشاهدات: 16897
تحميل: 8203


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 379 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16897 / تحميل: 8203
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دار الحديث
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

_____________________________________________

بِعَهْدِ اللهِ » لعلّ المراد بالعهد هنا على ظاهر سياق الحديث ما عاهدوا الله عليه ، فخالفوه ، وباليمين الإيمان الّتي يحلفون بها على المستقبل ثمَّ يخالفونها ، ويحتمل شموله لليمين الغموس الكاذبة ، ويحتمل أن يكون العهد شاملا للبيعة وما عاهدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ نقضوه.

وقال الراغب : العهد : حفظ الشيء ومراعاته حإلّا بعد حال وسمّي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا قال عزّ وجلّ : «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً »(١) أي أوفوا لفظ الأمان ، وعهد فلان إلى فلان أي ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه ، قال عزّ وجلّ : «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ »(٢) وعهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا ، وتارة يكون بما أمرنا به بكتابه وبسنة رسله ، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراه ، انتهى.

وأمّا ما ذكره المفسّرون في تلك الآية فقال الطبرسيقدس‌سره : نزلت في جماعة من أحبار اليهود كتموا ما في التوراة من أمر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرئاسة ، وما كان لهم عليّ أتباعهم عن عكرمة ، وقيل : نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض قام ليحلف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلـمّا نزلت الآية نكلّ الأشعث واعترف بالحقّ عن ابن جريج ، وقيل : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته ، عن مجاهد والشعبي.

ثمَّ قال : «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ » أي يستبدلون بأمر الله سبحانه ما يلزمهم الوفاء به ، وقيل : معناه : إن الذين يحصلون بنكث عهد الله ونقضه «وَأَيْمأنّهم » أي وبالأيمان الكاذبة «ثَمَناً قليلاً » أي عوضا نذرا لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب ، ويحصل لهم من العقاب ، وقيل : العهد ما أوجبه الله تعالى على الإنسان من الطاعة والكف عن المعصية ، وقيل : هو ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٤. (٢) سورة طه : ١١٥.

٢٠١

أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »(١) والخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنّة وأنزل بالمدينة «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ

_____________________________________________

والانقياد للحقّ.

«أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ » أي لا نصيب وافرا لهم في نعيم الآخرة «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ » أي بما يسرّهم ، أو لا يكلّمهم أصلاً وتكون المحاسبة بكلام الملائكة استهانة لهم «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ » أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل للغير : انظر إلى ، يريد ارحمني «وَلا يُزَكِّيهِمْ » أي لا يطهّرهم ، وقيل : لا ينزلهم منزلة الأزكياء ، وقيل : لا يطهّرهم من دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة بل يعاقبهم ، وقيل : لا يحكم بأنّهم أزكياء ولا يسمّيهم بذلك بل يحكم بأنّهم كفرة فجرة «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » مؤلم موجع ، انتهى.

وقال البيضاوي : أي يستبدلون بما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات ، وبإيمأنّهم وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمننّ به ولننصرنّه «ثَمَناً قليلاً » مَتاعُ الدُّنْيا «ولا يكلّمهم اللهُ » الظّاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله : «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ » فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلّم معه والالتفات نحوه كما أن من اعتدّ بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه «وَلا يُزَكِّيهِمْ » ولا يثني عليهم ، انتهى.

وظاهر الخبر أنّ ناقض العهد واليمين لا يدخل الجنّة أصلاً ، فيمكن حمله على الاستحلال أو على أنّه لا يدخل الجنّة ابتداءاً وحمله عليّ المشركين والكافرين كما هو ظاهر المفسّرين ينافي سياق الحديث ، ويمكن حمله على أنّهم لا يستحقّون دخول الجنّة ولا يلزم على الله ذلك لعدم الوعد إلّا أن يدخلهم الجنّة بفضله.

« وأنزل بالمدينة » أي في سورة النور وهي مدنية : «الزَّانِي لا يَنْكِحُ » قال في

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧١.

٢٠٢

زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ »(١) فلم يسمِّ الله الزّاني مؤمناً ولا الزّانية

_____________________________________________

مجمع البيان : اختلف في تفسيره على وجوه « أحدها » أن يكون المراد بالنكاح العقد ونزلت الآية على سبب وهو أن رجلاً من المسلمين إستأذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يتزوج أم مهزول وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها ، فنزلت الآية عن ابن عباس وغيره ، والمراد بالآية النهي وإن كان ظاهره الخبر « وثانيها » أن النكاح هيهنا الجماع والمعنى أنّهما اشتركا في الزنا فهي مثله ، فيكون نظير قوله : «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ »(٢) في أنه خرج مخرج الأغلب « وثالثها » أن هذا الحكم كان في كلّ زان وزانية ثمَّ نسخ بقوله : «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ » الآية(٣) عن سعيد بن المسيّب وجماعة « ورابعها » أنّ المراد به العقد وذلك الحكم ثابت فيمن زنى بامرأة فإنه لا يجوز له أن يتزوج بها ، روي ذلك عن جماعة من الصحابة.

وإنّما قرن الله سبحانه بيّن الزاني والمشرك تعظيماً لأمر الزنا وتفخيماً لشأنه ، ولا يجوز أن يكون هذه الآية خبراً لأنا نجد الزاني يتزوج غير زانية ، ولكن المراد هنا الحكم في كلّ زان أو النهي ، سواء كان المراد بالنكاح الوطء أو العقد وحقيقة النكاح في اللغة الوطء.

«وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » أي حرم نكاح الزانيات أو حرّم الزنا على المؤمنين فلا يتزوّج بهنّ ولا يطأهنّ إلّا زان أو مشرك ، انتهى.

ثمَّ المشهور بين الأصحاب كراهة نكاح المشهورات بالزنا ، وذهب الشيخان وجماعة إلى اشتراط التوبة في الحلّ سواء زنى بها من أراد نكاحها أو غيره للآية المتقدّمة وبعض الأخبار ، وأجيب عن الآية تارة بأنّ المراد بالنكاح الوطء ، وأخرى بأنها منسوخة بقوله تعالى : «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ »(٤) وبقوله : «فَانْكِحُوا ما طابَ

__________________

(١) سورة النور : ٤. (٢) سورة النور : ٢٦.

(٣ و ٤) سورة النور : ٣٢.

٢٠٣

_____________________________________________

لَكُمْ »(١) أو قوله : «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ »(٢) وفي الأوّل أنه خلاف الظّاهر ، فإنه إن أريد الوطء لم يظهر للكلام فائدة ظاهرة ، وفي الثاني أنه خلاف الأصل مع أن الظّاهر من طاب : حلّ ، ومن وراء ذلكم ، سائر أصناف النساء ، ولا ينافيه عروض الحرمة لعروض زناء ونحوه.

والظاهر أنّهعليه‌السلام استدلّ بالآية على أن الله تعالى أخرج الزناة والزواني في هذه الآية من عداد المؤمنين حيث قابل بيّن المؤمنين وبينهما ، إذا الظّاهر من سياق الآية أن المراد أنه لا يليق نكاح الزاني إلّا بزانية أو مشركة ، ولا نكاح الزانية إلّا بزان أو مشرك ، وامّا المؤمن فإنه لا يليق به هذا الفعل وهو محرم عليه إمّا بمعناه أو بمعنى الكراهة الشديدة ، أو بمعنى المحرومية كما في قوله سبحانه : «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ »(٣) فظهر أنه لم يسمها بالإيمان لـمّا عرفت من المقابلة مع أنّه جمع بينهما وبيّن المشرك ففيه أيضاً إيماء بعدم إيمانهما.

وهذا وجه حسن خطر بالبال للآية والخبر معاً فإن حمل الآية على وجه آخر لا يستقيم ظاهراً فإنه إذا حمل النكاح على الوطء فالكلام إمّا في قوّة النهي أو الخبر ، فعلى الأوّل المعنى النهي عن أن يطأ الزاني سوى الزانية والمشركة وجواز وطيه لهما ، وفيه ما لا يخفى وكذا العكس ، وعلى الثاني يكون كذباً إن أراد بالوطء غير الزنا أو الأعمّ ، وإن أريد به الزنا كان الكلام خاليا عن الفائدة.

وإذا حمل على العقد فلو كان في قوّة النهي كان مفادها النهي عن أن ينكح الزاني سوى الزانية والمشركة وتجويز نكاحه إيّاهما وتجويز نكاح الزانية بالزاني والمشرك ولم يقل به أحد ، ولو كان خبراً لزم الكذب ، فلا بد من حمل الآية على ما ذكرنا فيتّضح استدلالهعليه‌السلام غاية الوضوح.

ويظهر منه عدم تمام الاستدلال بها على تحريم نكاحهما ، نعم قوله سبحانه

__________________

(١) سورة النساء : ٣. (٢) سورة النساء : ٢٤.

(٣) سورة القصص : ١٢.

٢٠٤

مؤمنة وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : - ليس يمتري فيه أهل العلم أنّه قال لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، فإنّه إذا فعل ذلك

_____________________________________________

«وَحُرِّمَ ذلِكَ » فيه دلالة على التحريم إن لم نحمله على معنى الحرمان ، وحمله على الكراهة الشديدة مع وجود المعارض غير بعيد مع أنّه يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الزنا ، ويكون الجملّة حاليّة أو تعليليّة.

قوله : ليس يمتري ، الامتراء الشّك ، والجملّة إلى قوله : أنه قال ، معترضة ، وضمير « فيه » راجع إلى الرسول ، وقوله : إنّه قال ، بدلّ اشتمال للضمير ، وقوله : لا يزني مفعول قال أولاً والاعتراض لبيان أنّ الخبر معلوم متواتر بيّن الفريقين ، وكان المراد بقوله : حين يزني وحين يسرق ، حين يصير عليهما ولم يتب ، ولا فساد في مفارقه الإيمان بالمعنى الذي ذكرناه ، حيث اشتمل على فعل الفرائض وترك الكبائر عنه ، وبها يستحقّ العذاب في الجملّة لا الخلود في النّار ، ومن لم يقل بذلك أوله بتأويلات بعيدة.

قال في النهاية : في الحديث : لا يزني الزّاني وهو مؤمن ، قيل : معناه النهي وإن كان في صورة الخبر ، والأصل حذف الياء من يزني ، أي لا يزن المؤمن ولا يسرق ولا يشربِّ ، فإن هذه الأفعال لا يليق بالمؤمن ، وقيل : هو وعيد يقصد به الردع كقولهعليه‌السلام : لا إيمان لمن لا أمانة له ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وقيل : معناه لا يزني وهو كامل الإيمان وقيل : معناه أنّ الهوى يغطّي الإيمان فصاحب الهوى لا يرى إلّا هواه ولا ينظر إلى إيمانه الناهي له عن ارتكاب الفاحشة ، فكأنّ الإيمان في تلك الحالة قد انعدم.

وقال ابن عباس : الإيمان نزه فإذا أذنب العبد فارقه ، ومنه الحديث الآخر : إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فوق رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان ، وكلّ هذا محمول على المجاز ونفي الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وإبطاله ، انتهى.

وقيل : أنّه ليس بمؤمن إذا كان مستحلاً ، وقيل : ليس بمؤمن من العقاب وقيل : المقصود نفي المدح ، أي لا يقال له مؤمن بل يقال : زان أو سارق ، وقيل : أنه

٢٠٥

خلع عنه الإيمان كخلع القميص ونزل بالمدينة «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إلّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(١) فبرأه الله

_____________________________________________

لنفي البصيرة ، أي ليس هو ذا بصيرة ، وقال ابن عباس : أي ليس ذا نور وقيل : أي ليس بمستحضر الإيمان ، وقيل : أي ليس هو بعأقلّ لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة والحكم بالمرجوح بخلاف المعقول ، وقيل : المقصود نفي الحياء ، والحياء شعبة من الإيمان أي ليس بمستحيّ من الله سبحانه.

ولا يخفى ما في أكثر هذه الوجوه من البعد والركاكة.

« وأنزل بالمدينة » أي في سورة النور : «الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ » أي يقذفون العفائف من النساء بالزنا «ثمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » أي بأربعة عدول يشهدون أنّهم رأوهن يفعلن ما رموهن به من الزنا «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » خبر الذين بتأويل «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً » خبر ثان ، وتنكير شهادة للعموم ، أي في أمر من الأمور كان أبداً تأكيد للعموم أي ما لم يتب «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » أي هم في أعلى مراتب الفسق حتّى كأنه لا فاسق غيرهم فقد عبّر عنهم باسم الإشارة وعرف الخبر وأتى بضمير الفصل مبالغة في ادعاء حصر الفسق فيهم وقصره عليهم.

قيل : ويمكن أن يكون حإلّا أو اعتراضا يجري مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة «إلّا الَّذِينَ تابُوا » عن القذف وندموا ورجعوا بالتدارك «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ » أي من بعد إقامة الحد ، وقيل : من بعد الرمي «وَأَصْلَحُوا » سرائرهم وأعمالهم فاستقاموا على مقتضى التوبة ، قالوا ومنه الاستسلام للحد والاستحلال من المقذوف والعزم على عدم العود إلى ذلك ، وعلى ترك جميع المناهي على قول.

وفي المجمع : ومن شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه فيما قاله فإن لم يفعل ذلك لم يجز قبول شهادته «فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » علة للاستثناء.

قولهعليه‌السلام : «فَبَرَّأَهُ اللهُ » الظّاهر أنهعليه‌السلام استدلّ على عدم وصفهم بالإيمان

__________________

(١) سورة النور : ٥.

٢٠٦

ما كان مقيماً على الفرية من أن يسمّى بالإيمان قال الله عزّ وجلّ : «أَفَمَنْ كانَ مؤمناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ »(١) وجعله الله منافقا قال الله عزّ وجلّ : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٢) وجعله عزّ وجلّ من أولياء إبليس قال «إلّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ

_____________________________________________

بوصفهم بالفسق لأن في عرف القرآن لازم للكفر ولم يطلق فيه الفاسق إلّا على الكافر كقوله تعالى : «أَفَمَنْ كانَ مؤمناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً » فقابل بيّن الإيمان والفسق ، فدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن ، وقال : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ » فخصّ الفاسق في المنافق فجعله الله منافقاً « وجعله من أولياء إبليس » حيث أطلق الفسق عليهما ، وأيضاً إذا نظرت في الآيات الكريمة وسبرتها لم تر الفاسق أطلق فيها إلّا على الكافر.

قال الراغب : فسق فلان : خرج من حدّ الشرع ، وذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره وهو أعمّ من الكافر ، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيراً ، وأكثر ما يقال لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثمَّ أخل بجميع أحكامه أو ببعضه ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة ، قال عزّ وجلّ : «فَفَسَقَ عَنْ أمر ربّه »(٣) «فَفَسَقُوا فِيها فَحقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ »(٤) «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ »(٥) «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٦) «أَفَمَنْ كانَ مؤمناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ »(٧) وقال : «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٨) وقال تعالى : «وامّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّار »(٩) «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »(١٠) «وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ »(١١) «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(١٢) و «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أنّهم لا يُؤْمِنُونَ »(١٣) انتهى.

__________________

(١) سورة السجدة : ١٨. (٢) سورة التوبة : ٦٧.

(٣) سورة الكهف : ٥٠. (٤) سورة الإسراء : ١٦.

(٥) سورة آل عمران : ١٨. (٦) سورة النور : ٣.

(٧) سورة السجدة : ١٨. (٨) سورة النور : ٥٥.

(٩) سورة السجدة : ٢٠. (١٠) سورة الأنعام : ٤٩.

(١١) سورة الصفّ : ٥. (١٢) سورة التوبة : ٦٧.

(١٣) سورة يونس : ٣٣.

٢٠٧

فَفَسَقَ عَنْ أمر ربّه »(١) وجعله ملعوناً فقال : «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمؤمناًتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ »(٢) وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عزّ وجلّ : «فَأَمَّا

_____________________________________________

« وجعله » أي الر امي «الْمُحْصَناتِ » أي العفائف «الْغافِلاتِ » ممّا قذفن به «الْمؤمناًتِ » بالله ورسوله وما جاء به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » بما طعنوا فيهنّ «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » لعظم ذنوبهم.

«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ » ظرف لـمّا في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب «أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ » يعترفون بها بإنطاق الله إياها بغير اختيارهم أو بظهور آثاره عليها.

قولهعليه‌السلام : وليست تشهد ، يدلّ على أن شهادة الجوارح إنما هي للكفّار كما ذكره جماعة من المفسّرين ، وذكره الشيخ البهائي (ره) في الأربعين.

قولهعليه‌السلام : فيعطى كتابه بيمينه ، أي فيقرأه ، ومن تنطق جوارحه يختم على فيه ، لقوله تعالى : «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ »(٣) أو لأن سياق آيات شهادة الجوارح تدلّ على غاية الغضب ، والآيات النازلة في المؤمنين مشتملّة على نهاية اللطف كقوله سبحانه : «يَوْمَ نَدْعُوا كلّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ »(٤) أي من المدعوين «كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » أي كتاب عمله «فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ » ابتهاجا بما يرون فيه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » أي ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، والفتيل : المفتول ، وسمّي ما يكون في شق النواة فتيلا لكونه على هيئته ، وقيل : هو ما تفتله بيّن أصابعك من خيط أو وسخ ويضربِّ به المثل في الشيء الحقير.

ثمَّ اعلم أن هذا المضمون وقع في مواضع من القرآن المجيد أو لها في بني إسرائيل : «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » إلى آخر ما في الحديث.

__________________

(١) سورة الكهف : ٤٨. (٢) سورة النور : ٢٣ - ٢٤.

(٣) سورة يس : ٦٥. (٤) سورة الإسراء : ٧١.

٢٠٨

مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً »(١) وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في سورة النساء «وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَ

_____________________________________________

وثانيها في الحاقّه «فَأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ » وثالثها في الانشقاق : «فَأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ».

وما في الحديث لا يوافق شيئاً منها وإن كان بالأوّل أنسب ، فكأنّه من تصحيف النساخ أو كان في قراءتهمعليهم‌السلام هكذا ، أو نقل بالمعنى جمعاً بيّن الآيات.

« وسورة النور أنزلت » كان هذا جواب عن اعتراض مقدّر ، وهو أنّه لـمّا أنزل الله في سورة النساء مرتين «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* » ، وهي تدلّ على عدم ترتّب العذاب على غير الشرك ، فيمكن كونّها ناسخة للآيات الدالة على عقوبات أصحاب الكبائر وعدم كونهم من المؤمنين ، فأجابعليه‌السلام بعد التنزل على عدم المخالفة بيّن هذه الآية وتلك الآيات لأن تجويز المغفرة لمن شاء الله لا ينافي استحقاقهم للعذاب والعقاب وخروجهم عن الإيمان بأحدّ معانيه بأن أكثر ما أوردنا من الآيات واستدللنا بها إنما هي في سورة النور وهي نزلت بعد سورة النساء فكيف تكون آية النساء ناسخة لها ، فلو احتاج التوفيق إلى القول بالنسخ لكان الأمر بعكس ما قلتم ، مع أنّه لا قائل بالفصل.

ثمَّ استدلّعليه‌السلام على ذلك بأن الله تعالى قال في سورة النساء : «أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » والسبيل هو الذي ذكره من الحدّ في سورة النور ، ويحتمل أن يكون الغرض إفادة دليل آخر على ما سبق من نزول الأحكام مدرّجاً ونسخ الأشدّ للأضعف لكن الأوّل أظهر.

«وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ » ذهب الأكثر إلى أنّ المراد بالفاحشة الزنا ، وقيل : هي المساحقة «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ » الخطاب للأئمّة

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٤.

٢٠٩

فِي الْبُيُوتِ حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً »(١) والسبيل الذي قال الله عزّ وجلّ : «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزّاني فَاجْلِدُوا كلّ واحدّ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ »(٢) .

_____________________________________________

والحكام بطلب أربعة رجال من المسلمين شهوداً عليهنّ وقيل : الخطاب للأزواج «فَإِنْ شَهِدُوا » أي الأربعة «فَأَمْسِكُوهُنَ » أي فاحبسوهن «فِي الْبُيُوتِ حتّى يَتَوَفَّاهُنَ » أي يدركهنّ «الْمَوْتُ » قيل : أريد به صيانتهن عن مثل فعلهنّ والأكثر على أنّه على وجه الحدّ على الزنا قالوا : كان في بدو الإسلام إن فجرت المرأة وقام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبداً حتّى تموت ، ثمَّ نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين. «أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » أي ببيان الحكم كما مرّ وقيل : بالتوبة أو بالنكاح المغني عن السفاح ، وقالوا : لـمّا نزل قوله تعالى : «الزَّانِيَةُ وَالزّاني فَاجْلِدُوا » قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا عنّي قد جعل الله سبيلا.

«سُورَةٌ » أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة «أَنْزَلْناها » صفة «وَفَرَضْناها » أي فرضنا ما فيها من الأحكام «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » فتتقون الحرام «الزَّانِيَةُ وَالزّاني » قيل : أي فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر «فَاجْلِدُوا » إلى قوله «رَأْفَةٌ » أي رحمه «فِي دِينِ اللهِ » أي في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ » فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله.

ثمَّ اعلم أنّ عدم ذكر الولاية في هذا الخبر مع أنّها الغرض الأصلي منه لنوع من التقيّة لأنهعليه‌السلام ذكره إلزإمّا عليهم حيث أنكروا كون الولاية جزءاً من الإيمان.

__________________

(١) سورة النساء : ١٤.

(٢) سورة النور : ١ - ٢.

٢١٠

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن محمّد بن فضيل ، عن أبي الصباح الكنانيّ ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام من شهد أن لا إله إلّا الله وأن محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مؤمناً قال فأين فرائض الله قال وسمعته يقول كان عليّعليه‌السلام يقول لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام قال وقلت لأبي جعفرعليه‌السلام إن عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلّا الله وأن محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مؤمن قال فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن لأن الملائكة خدام المؤمنين وأن جوار الله للمؤمنين وأن الجنّة للمؤمنين وأن الحور العين للمؤمنين ثمَّ قال فما بال من جحدّ الفرائض كان كافراً ؟.

_____________________________________________

الحديث الثاني : مجهول.

والحاصل أنّ الإيمان الذي هو سبب لرفع الدرجات والتخلص من العقوبات في الدنيا والآخرة ليس محض العقائد وإلّا لم يفرض الله الفرائض ولم يتوعد على المعاصي ، وأيضاً ما وردّ في الآيات والأخبار من كرامة المؤمنين ودرجاتهم ومنازلهم ينافي إجراء الحدود عليهم وإذا لهم وإهانتهم ، فلا بد من خروجهم عن الإيمان حين استحقاقهم تلك العقوبات.

قوله : فما بال من جحد؟ لعلّ المعنى أنه لو كان الإيمان محض التكلّم بالشهادتين أو الاعتقاد بهما كما تزعمون لم يكن جحدّ الفرائض موجبا للكفر مع أنكم توافقوننا في ذلك لورود الأخبار فيه ، فلم لا تقولون بعدم إيمان تاركي الفرائض ومرتكبي الكبائر أيضاً مع ورود الأخبار الكثيرة فيها أيضاً ، وقيل : المراد بجحدّ الفرائض تركها عمدا من غير عذر فإنه يؤذن بالاستخفاف والجحد.

قال الشهيد الثاني رفع الله درجته في بيان حقيقة الكفر : عرفه جماعة بأنّه عدم الإيمان عمّا من شأنه أن يكون مؤمناً سواء كان ذلك العدم بضد أو لا بضد فبالضد كان يعتقد عدم الأصول الّتي بمعرفتها يتحقّق الإيمان أو عدم شيء منها وبغير الضد

٢١١

_____________________________________________

كالخالي من الاعتقادين أي اعتقاد ما به يتحقّق الإيمان واعتقاد عدمه ، وذلك كالشاك أو الخالي بالكليّة كالذي لم يقرع سمعه شيء من الأمور الّتي يتحقّق الإيمان بها.

ويمكن إدخال الشاك في القسم الأوّل إذ الضد يخطر بباله وإلّا لـمّا صار شاكا ، واعترض عليه بأن الكفر قد يتحقّق مع التصديق بالأصول المعتبرة في الإيمان كما إذا ألقى إنسان المصحف في القاذورات عامداً أو وطأه كذلك أو ترك الإقرار باللسان جحدا وحينئذ فينقض حدّ الإيمان منعاً وحدّ الكفر جمعاً.

وأجيب تارة بأنّا لا نسلّم بقاء التصديق لفاعل ذلك ، ولو سلّمنا يجوز أن يكون الشارع جعل وقوع شيء من ذلك علامة وأمارة على تكذيب فاعل ذلك وعدم تصديقه فيحكم بكفره عند صدور ذلك منه ، وهذا كما جعل الإقرار باللسان علامة على الحكم بالإيمان مع أنه قد يكون كافراً في نفس الأمر.

وتارة بأنّه يجوز أن يكون الشارع حكم بكفره ظاهراً عند صدور شيء من ذلك حسما لمادة جرأة المكلفين على انتهاك حرماته وتعدى حدوده ، وإن كان التصديق في نفس الأمر حأصلاً وغاية ما يلزم من ذلك جواز الحكم بكون شخصّ واحدّ مؤمناً وكافراً وهذا لا محذور فيه لأنا نحكم بكفره ظاهراً وإمكان إيمانه باطنا فالموضوع مختلف فلم يتحقّق اجتماع المتقابلين ليكون محإلّا ، ونظير ذلك ما ذكرناه من دلالة الإقرار على الإيمان فيحكم به مع جواز كونه كافراً في نفس الأمر.

وأقول أيضاً : أن النقض المذكور لا يردّ على جامعية تعريف الكفر وذلك لأنه قد بيّن أن العدم المأخوذ فيه أعمّ من أن يكون بالضد أو غيره ، وما ذكر من مواردّ النقض داخل في غير الضد كما لا يخفى ، وحينئذ فجامعيته سالمة لصدقه على المواردّ المذكورة والناقض والمجيب غفلا عن ذلك.

ويمكن الجواب عن مانعية تعريف الإيمان أيضاً بأن نقول من عرف الإيمان بالتصديق المذكور جعل عدم الإتيان بشيء من مواردّ النقض شرطاً في اعتبار ذلك

٢١٢

٣ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن سلام الجعفي قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الإيمان فقال الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى.

_____________________________________________

التصديق شرعاً وتحقّق حقيقة الإيمان.

والحاصل أنا لـمّا وجدنا الشارع حكم بإيمان المصدّق وحكم بكفر من ارتكب شيئاً من الأمور المذكورة مطلقاً علمنا أن ذلك التصديق إنما يعتبر في نظر الشارع إذا كان مجرداً عن ارتكاب شيء من مواردّ النقض وأمثالها الموجبة للكفر ، فكان عدم الأمور المذكورة شرطاً في حصول الإيمان ، ولا ريب أن المشروط عدم عند عدم شرطه وشروط المعرف الّتي يتوقف عليها وجود ماهيته ملحوظة في التعريف وإن لم يصرح بها فيه للعلم باعتبارها عقلاً لـمّا تقرر في بداهة العقول أنه بدون العلة لا يوجب المعلول والشرط من أجزاء العلة كما صرحوا به في بحثها ، والكلّ لا يوجد بدون جزئه.

وهذا الجواب واللذان قبله لم نجدها لغيرنا بل هي من هبات الواهب تعالى وتقدّس ولم نعدم لذلك مثلا وإن لم نكن له أهلا ، انتهى كلامهقدس‌سره .

وأقول : هذه التكلفات إنّما يحتاج إليها إذا جعل الإيمان نفس العقائد ولم يدخل فيها الأعمال ومع القول بدخول الأعمال لا حاجة إليها ، مع أن هذا التحقيق يهدم ما أسسه سابقاً إذ يجري هذه الوجوه في سائر الأعمال والتروك الّتي نفي كونها داخلة في الإيمان وما ذكرهعليه‌السلام في آخر الحديث من الإلزام على المخالفين يومئ إلى هذا التحقيق فتأمله.

الحديث الثالث : مجهول.

ويدلّ على أحدّ المعاني الّتي ذكرنا للإيمان ، وحمله القوم على الإيمان الكامل ، وقال بعض المحقّقين ممّن كان في عصرناقدس‌سره : هذا مجمل القول في الإيمان ويفصله سائر الأخبار بعض التفصيل.

وامّا الضابط الكلي الذي يحيط بحدوده ومراتبه ويعرفه حقّ التعريف فهو أن الإيمان الكامل الخالص المنتهى تمامه هو التسليم لله تعالى والتصديق بما

٢١٣

_____________________________________________

جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لساناً وقلباً على بصيرة مع امتثال جميع الأوأمر والنواهي كما هي ، وذلك إنّما يمكن تحقّقه بعد بلوغ الدّعوة النبوية إليه في جميع الأمور إمّا من لم تصل إليه الدعوة في جميع الأمور أو في بعضها لعدم سماعه أو عدم فهمه فهو ضال أو مستضعف ليس بكافر ولا مؤمن ، وهو أهون النّاس عذاباً بل أكثر هؤلاء لا يرون عذاباً وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «إلّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً »(١) ومن وصلت إليه الدعوة فلم يسلم ولم يصدق ولو ببعضها إمّا لاستكبار وعلو أو لتقليد للأسلاف وتعصبّ لهم أو غير ذلك فهو كافر بحسبه أي بقدر عدم تسليمه وترك تصديقه كفر جحود وعذابه عظيم على حسب جحوده ، وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »(٢) .

ومن وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وظاهره لعصمة ماله أو دمه أو غير ذلك من الأغراض وأنكرها بقلبه وباطنه لعدم اعتقاده بها فهو كافر كفر نفاق وهو أشدهم عذاباً وعذابه أليم بقدر نفاقه.

وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : «وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ » إلى قوله : «إِنَّ اللهَ عَلى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(٣) .

ومن وصلت إليه الدعوة فاعتقدها بقلبه وباطنه لظهور حقيّتها لديه وجحدها أو بعضها بلسانه ولم يعترف بها حسداً وبغياً وعتوّا وعلوّاً أو تقليداً وتعصبّاً أو غير

__________________

(١) سورة النساء : ٩٨.

(٢ و ٣) سورة البقرة : ٧ - ١١.

٢١٤

_____________________________________________

ذلك فهو كافر كفر تهوّد ، وعذابه قريب من عذاب المنافق.

وإليهم الإشارة بقوله عزّ وجلّ : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) وقوله : «فَلـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ »(٢) وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ »(٣) وقوله : «وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بيّن ذلِكَ سَبِيلاً ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا »(٤) وقوله : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ » إلى قوله : «أَشَدِّ الْعَذابِ »(٥) .

ومن وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وقلبه ولكن لا يكون على بصيرة من دينه إمّا لسوء فهمه مع استبداده بالرأي وعدم تابعيّته للإمام أو نائبه المقتفى أثره حقّاً وامّا لتقليد وتعصبّ للآباء والأسلاف المستبدين بآرائهم مع سوء إفهامهم أو غير ذلك فهو كافر كفر ضلالة وعذابه على قدر ضلالته وقدر ما يضل فيه من أمر الدين.

وإليهم الإشارة بقوله عزّ وجلّ : «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الْحقّ »(٦) حيث قالوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله ، وبقوله تعالى : «يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحبّ الْمُعْتَدِينَ »(٧) وبقول نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتخذ النّاس رؤساء جهإلّا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

ومن وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه وقلبه على بصيرة واتباع للإمام أو نائبه الحقّ إلّا أنه لم يمتثل جميع الأوأمر والنواهي بل أتى ببعض دون بعض بعد أن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٦. (٢) سورة البقرة : ٨٩.

(٣) سورة البقرة : ١٥٩. (٤) سورة النساء : ١٥٠.

(٥) سورة البقرة : ٨٥. (٦) سورة النساء ، ١٧١.

(٧) سورة المائدة : ٨٧.

٢١٥

_____________________________________________

اعترف بقبح ما يفعله ولكن لغلبة نفسه وهواه عليه فهو فاسق عاص والفسق لا ينافي أصل الإيمان ، ولكن ينافي كماله ، وقد يطلق عليه الكفر وعدم الإيمان أيضاً إذا ترك كبار الفرائض أو أتى بكبار المعاصي كما في قوله عزّ وجلّ : «وَلِلَّهِ عَلَى النّاس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ »(١) وقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ، وذلك لأن إيمان مثل هذا لا يدفع عنه أصل العذاب ودخول النّار ، وإن دفع عنه الخلود فيها فحيث لا يفيده في جميع الأحوال فكأنّه مفقود.

والتحقيق فيه أن المتروك إن كان أحدّ الأصول الخمسة الّتي بني الإسلام عليها أو المأتي به إحدى الكبائر من المنهيّات خاصة فصاحبه خارج عن أصل الإيمان أيضاً ما لم يتب أو لم يحدث نفسه بتوبة لعدم اجتماع ذلك مع التصديق القلبي فهو كافر كفر استخفاف ، وعليه يحمل ما روي من دخول العمل في أصل الإيمان ، روى ابن أبي شعبة عن الصادقعليه‌السلام في حديث طويل أنه قال : لا يخرج المؤمن من صفة الإيمان إلّا بترك ما استحقّ أن يكون به مؤمناً ، وإنما استوجب واستحقّ اسم الإيمان ومعناه بأداء كبار الفرائض موصولة ، وترك كبار المعاصي واجتنابها وإن ترك صغار الطاعة وارتكب صغار المعاصي فليس بخارج من الإيمان ولا تارك له ما لم يترك شيئاً من كبار الطاعة وارتكاب شيء من كبار المعاصي فما لم يفعل ذلك فهو مؤمن بقول الله : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مدخلاً كَرِيماً »(٢) يعني مغفرة ما دون الكبائر فإن هو ارتكب كبيرة من كبائر المعاصي كان مأخوذا بجميع المعاصي صغارها وكبارها معاقبا عليها معذباً بها.

إلى هنا كلام الصّادقعليه‌السلام .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلّ من جهل أمراً من أمور دينه بالجهل البسيط فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٣١.

٢١٦

_____________________________________________

نقص إيمانه بقدر ذلك الجهل ، وكلّ من أنكر حقّاً واجب التصديق لاستكبار أو هوي أو تقليد أو تعصبّ فله عرق من كفر الجحود ، وكلّ من أظهر بلسانه ما لم يعتقد بباطنه وقلبه لغير غرض ديني كالتقيّة في محلها ونحو ذلك أو عمل عملاً أخرويا لغرض دنيوي فله عرق من النفاق ، وكلّ من كتم حقا بعد عرفانه أو أنكر ما لم يوافق هواه وقبل ما يوافقه فله عرق من التهوّد ، وكلّ من استبد برأيه ولم يتّبع إمام زمانه أو نائبه الحقّ أو من هو أعلم منه في أمر من الأمور الدينية فله عرق من الضّلالة ، وكلّ من أتى حرإمّا أو شبهة أو توانى في طاعة مصرا على ذلك فله عرق من الفسوق ، فإن كان ذلك ترك كبير فريضة أو إتيان كبير معصية فله عرق من كفر الاستخفاف ، ومن أسلم وجهه لله في جميع الأمور من غير غرض وهوى واتبع إمام زمانه أو نائبه الحقّ آتيا بجميع أوأمر الله ونواهيه من غير تواني ولا مداهنة ، فإذا أذنب ذنبا استغفر من قريب وتاب أو زلت قدمه استقام وأناب فهو المؤمن الكامل الممتحنُّ ودينه هو الدين الخالص وهو الشيعيّ حقّاً والخالص صدقا وأولئك أصحاب أمير المؤمنين ، بل هو من أهل البيتعليهم‌السلام إذا كان عالـماً بأمرهم محتملاً لسرّهم كما قالوا : سلمان منا أهل البيت.

٢١٧

( باب )

( في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها )

١ - عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد قال حدثنا أبو عمرو الزبيري ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قلت له أيّها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله قال ما لا يقبل الله شيئاً إلّا به قلت : وما هو ؟ قال - الإيمان بالله الذي لا إله إلّا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظّاً

_____________________________________________

باب في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها

يقال : بثّ الخبر وأبثّه أي نشره.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور لكنه مؤيد بأخبار أخر ، وقد روى النعماني في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ومضامينه دالة على صحته.

قولهعليه‌السلام : الإيمان بالله ، هو مبتدء وأعلى خبره ، ويحتمل أن يكون المراد به جميع العقائد الإيمانيّة اكتفي بذكر أشرفها وأعظمها للزومها لسائرها مع أن كون التوحيد أشرف لا ينافي وجوب البقيّة واشتراطه بها ، والسنا الضوء وبالمد الرفعة ، والحظّ النصيب ، والمراد بالقول التصديق القلبي أو هو مع الإقرار اللساني بالعقائد الإيمانية ، وقيل : هو الذي يعبّر عنه بالكلام النفسي ، وقد يستدلّ بقوله : عمل كله ، على أن التصديق المكلّف به ليس محض العلم إذ هو من قبيل الانفعال ، بل هو فعل قلبيّ.

قال شارح المقاصد : والمذهب أنه غير العلم والمعرفة لأن من الكفّار من كان يعرف الحقّ ولا يصدّق به عناداً واستكباراً ، قال الله تعالى : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

٢١٨

_____________________________________________

الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) وقال : «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحقّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عمّا يَعْمَلُونَ »(٢) وقال تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام لفرعون : «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إلّا ربِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »(٣) فاحتيج إلى الفرّق بيّن العلم بما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معرفته وبيّن التصديق ليصحّ كون الأوّل حأصلاً للمعاندين دون الثاني ، وكون الثاني إيمانا دون الأوّل ، فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب ، وضد المعرفة النكارة والجهالة ، وإليه أشار الغزالي حيث فسّر التصديق بالتسليم ، فإنه لا يكون مع الإنكار والاستكبار بخلاف العلم والمعرفة وفصل بعضهم زيادة التفصيل ، وقال : التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من أخبار المخبر وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدّق ، ولهذا يؤمرّ ويثاب عليه بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنّها ربمّا تحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدّاًر أو حجر ، وحققه بعض المتأخرين زيادة تحقيق فقال : المعتبر في الإيمان هو التصديق الاختياري ، ومعناه نسبة التصديق إلى المتكلّم اختياراً وبهذا القيد يمتاز عن التصديق المنطقي المقابل للتصور ، فإنه قد يخلو عن الاختيار كما إذا ادعى النبيّ النبوة وأظهر المعجزة فوقع في القلب صدقه ضرورة ، من غير أن ينسب إليه اختيارا فإنه لا يقال في اللّغة أنّه صدّقه فلا يكون إيماناً شرعياً ، كيف والتصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريّاً زائداً على العلم لكونه كيفية نفسانية أو انفعالاً وهو حصول المعنى في القلب ، والفعل القلبي ليس كذلك بل هو إيقاع النسبة اختياراً الذي هو كلام النفس ، ويسمّى عقد القلب فالسوفسطائي عالم بوجود النهار وكذا بعض الكفّار بنبوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّهم ليسوا بمصدقين لأنّهم لا يحكمون اختياراً بل ينكرون.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٦. (٢) سورة البقرة : ١٤٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٠٢.

٢١٩

قال : قلت : ألاتخبرني عن الإيمان ، أقولٌ هو وعمل أم قول بلا عمل ؟ فقال : الإيمان

_____________________________________________

وكلام هذا القائل متردّد يميل تارة إلى أنّ التصديق المعتبر في الإيمان نوع من التصديق المنطقي لكونه مقيّداً بالاختيار وكون التصديق العلمي أعمّ لا فرّق بينهما إلّا بلزوم الاختيار وعدمه ، وتارة إلى أنه ليس من جنس العلم أصلاً لكونه فعلا اختيارياً ، وكون العلم كيفية أو انفعالاً ، وعلى هذا الأخير أصر بعض المعتنين بتحقيق الإيمان ، وجزم بأن التسليم الذي فسّر به الغزالي التصديق ليس من جنس العلم ، بل أمر وراءه معناه « گردن دادن وگرويدن وحقّ دانستن مرّ آن را كه حقّ دانسته باشى » ويؤيّده ما ذكره إمام الحرمين أن التصديق على التحقيق كلام النفس لكن لا يثبت كلام النفس إلّا مع العلم.

ونحن نقول : لا شكّ أن التصديق المعتبر في الإيمان هو ما يعبّر فيه في الفارسيّة « بگرويدن وباور كردن وراستگوى داشتن » إذا أضيف إلى الحاكم « وراست داشتن وحقّ داشتن » إذا أضيف إلى الحكم ، ولا يكفي مجردّ العلم والمعرفة الخالي عن هذا المعنى ، ثمَّ أطال الكلام في ذلك وآل تحقيقه إلى أنه ليس شيء وراء العلم والمعرفة.

وقال المحّقق الدواني في شرح العقائد : اعلم أنه لو فسّر التصديق المعتبر في الإيمان بما هو أحدّ قسمّي العلم فلا بد من اعتبار قيد آخر ليخرج الكفر العناديّ ، وقد عبّر عنه بعض المتأخرين بالتسليم والانقياد ، وجعله ركنا من الإيمان ، والأقربِّ أن يفسّر التصديق بالتسليم الباطني والانقياد القلبيّ ويقربِّ منه ما قيل : إن التصديق أن تنسب باختيارك الصّدق إلى أحدّ وهو يحوم حول ذلك وإن لم يصبّ المخبر ، انتهى.

والحقّ أنّ إثبات معنى آخر غير العلم والمعرفة مشكلّ ، وكون بعض أفراده حأصلاً بغير اختيار لا ينافي التكليف به لمن لم يحصل له ذلك وترتّب الثواب على ما حصل بغير الاختيار إمّا تفضّل أو هو عليّ الثبات عليه وإظهاره والعمل بمقتضاه ،

٢٢٠